أحكام القرآن - ج ٢

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦

إذا في هذا الحجر احتراز من إتلاف المال* وأما اشتراط الشافعى في إيناس الرشد واستحقاق دفع المال جواز الشهادة فإنه قول لم يسبقه إليه أحد ويجب على هذا أن لا يجيز إقرارات الفساق عند الحكام على أنفسهم وأن لا يجيز بيوعهم ولا أشريتهم وينبغي للشهود أن لا يشهدوا على بيع من لم تثبت عدالته وأن لا يقبل القاضي من مدع دعواه حتى تثبت عدالته ولا يقبل عليه دعوى المدعى عليه حتى يصح عنده جواز شهادته إذ لا يجوز عنده إقرار من ليس على صفة العدالة وجواز الشهادة ولا عقوده وهو محجور عليه وهذا خلاف الإجماع ولم يزل الناس منذ عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى يومنا هذا يتخاصمون في الحقوق فلم يقل النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا أحد من السلف لا أقبل دعاويكم ولا أسأل أحدا عن دعوى غيره إلا بعد ثبوت عدالته وقد قال الحضرمي الذي خاصم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه رجل فاجر بحضرته ولم يبطل النبي صلّى الله عليه وسلّم خصومته ولا سأل عن حاله وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هناد قال حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال الحضرمي يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض كانت لأبى فقال الكندي هي أرضى في يدي أزرعها ليس له فيها حق فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم للحضرمى ألك بينة قال لا قال فلك يمينه فقال يا رسول الله إنه فاجر ليس يبالى ما حلف ليس يتورع من شيء فقال ليس لك منه إلا ذلك فلو كان الفجور يوجب الحجر لسأل صلّى الله عليه وسلّم عن حاله أو لأبطل خصومته لإقرار الخصم بأنه محجور عليه غير جائز الخصومة ولا خلاف بين الفقهاء أن المسلمين والكفار سواء في جواز التصرف في الأملاك ونفاذ العقود والإقرارات والكفر أعظم الفسوق وهو غير موجب للحجر فكيف يوجبه الفسق الذي هو دونه وهذا ما لا خلاف فيه بين الفقهاء إن المسلمين والكفار سواء في جواز التصرف والأملاك ونفاذ العقود.

باب الشهود

قوله عز وجل (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) قال أبو بكر لما كان ابتداء الخطاب للمؤمنين في قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ) ثم عطف عليه قوله تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) دل ذلك على معنيين أحدهما أن يكون فة الشهود لأن الخطاب توجه إليهم بصفة الإيمان ولما قال في نسق الخطاب (مِنْ رِجالِكُمْ)

٢٢١

كان كقوله من رجال المؤمنين فاقتضى ذاك كون الإيمان شرطا في الشهادة على المسلمين والمعنى الآخر الحرية وذلك لما في فحوى الخطاب من الدلالة من وجهين أحدهما قوله تعالى (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) وذلك في الأحرار دون العبيد والدليل عليه أن العبد لا يملك عقود المداينات وإذا أقر بشيء لم يجز إقراره إلا بإذن مولاه والخطاب إنما توجه إلى من يملك ذلك على الإطلاق من غير إذن الغير فدل ذلك على أن من شرط هذه الشهادة الحرية والمعنى الآخر من دلالة الخطاب قوله تعالى (مِنْ رِجالِكُمْ) فظاهر هذا اللفظ يقتضى الأحرار كقوله تعالى (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) يعنى الأحرار ألا ترى أنه عطف عليه قوله تعالى (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) فلم يدخل العبيد في قوله تعالى (مِنْكُمْ) وفي ذلك دليل على أن من شرط هذه الشهادة الإسلام والحرية جميعا وأن شهادة العبد غير جائزة لأن أوامر الله تعالى على الوجوب وقد أمر باستشهاد الأحرار فلا يجوز غيرهم* وقد روى عن مجاهد في قوله تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا * شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) قال الأحرار* فإن قيل إن ما ذكرت إنما يدل على أن العبد غير* داخل في الآية ولا دلالة فيها على بطلان شهادته* قيل له لما ثبت بفحوى خطاب الآية أن المراد بها الأحرار كان قوله تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) أمرا مقتضيا للإيجاب وكان بمنزلة قوله تعالى واستشهدوا رجلين من الأحرار فغير جائز لأحد إسقاط شرط الحرية لأنه لو جاز ذلك لجاز إسقاط العدد وفي ذلك دليل على أن الآية قد تضمنت بطلان شهادة العبيد واختلف أهل العلم في شهادة العبيد فروى قتادة عن الحسن عن على قال شهادة الصبى على الصبى والعبد على العبد جائزة وحدثنا عبد الرحمن بن سيما قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثني أبى قال حدثنا عبد الرحمن بن همام قال سمعت قتادة يحدث أن عليا رضى الله عنه كان (١) يستثبت الصبيان في الشهادة وهذا يوهن الحديث الأول وروى حفص بن غياث عن المختار بن فلفل عن أنس قال ما أعلم أحدا رد شهادة العبد وقال عثمان البتى تجوز شهادة العبد لغير سيده وذكر أن ابن شبرمة كان يراها جائزة يأثر ذلك عن شريح وكان ابن أبى ليلى لا يقبل شهادة العبيد وظهرت الخوارج على الكوفة

__________________

(١) قوله (يستثبت الصبيان) أى يسألهم ويستعلم منهم فليس المراد استشهادهم ولذلك قال المصنف وهذا يوهن الحديث الأول.

٢٢٢

وهو يتولى القضاء بها فأمروه بقبول شهادة العبيد وبأشياء ذكروها له من آرائهم كان على خلافها فأجابهم إلى امتثالها فأقروه على القضاء فلما كان في الليل ركب راحلته ولحق بمكة ولما جاءت الدولة الهاشمية ردوه إلى ما كان عليه من القضاء على أهل الكوفة وقال الزهري عن سعيد بن المسيب قال قضى عثمان بن عفان أن شهادة المملوك جائزة بعد العتق إذا لم تكن ردت قبل ذلك وروى شعبة عن المغيرة قال كان إبراهيم يجيز شهادة المملوك في الشيء التافه وروى شعبة أيضا عن يونس عن الحسن مثله وروى عن الحسن أنها لا تجوز وروى عن حفص عن حجاج عن عطاء عن ابن عباس قال لا تجوز شهادة العبد وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن شبرمة في إحدى الروايتين ومالك والحسن بن صالح والشافعى لا تقبل شهادة العبيد في شيء* قال أبو بكر وقد قدمنا ذكر الدلالة من الآية على أن الشهادة المذكورة فيها مخصوصة بالأحرار دون العبيد ومما يدل من الآية على نفى شهادة العبد قوله تعالى (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) فقال بعضهم إذا دعى فليشهد وقال بعضهم إذا كان قد أشهد وقال بعضهم هو واجب في الحالين والعبد ممنوع من الإجابة لحق المولى وخدمته وهو لا يملك الإجابة فدل أنه غير مأمور بالشهادة ألا ترى أنه ليس له أن يشتغل عن خدمة مولاه بقراءة الكتاب وإملائه والشهادة ولما لم يدخل في خطاب الحج والجمعة لحق المولى فكذلك الشهادة إذ كانت الشهادة غير متعينة على الشهداء وإنما هي فرض كفاية وفرض الجمعة والحج يتعين على كل أحد في نفسه فلما لم يلزمه فرض الحج والجمعة مع الإمكان لحق المولى فهو أولى أن لا يكون من أهل الشهادة لحق المولى* ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) وقال أيضا (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) ـ إلى قوله تعالى ـ (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) فجعل الحاكم شاهد لله كما جعل سائر الشهود شهداء لله بقوله تعالى (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) فلما لم يجز أن يكون العبد حاكما لم يجز أن يكون شاهدا إذ كان كل واحد من الحاكم والشاهد به ينفذ الحكم ويثبت* ومما يدل على بطلان شهادة العبد قوله تعالى (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) وذلك لأنه معلوم أنه لم يرد به نفى القدرة لأن الرق والحرية لا تختلف بهما القدرة فدل على أن مراده نفى حكم أقواله وعقوده وتصرفه وملكه ألا ترى أنه جعل ذلك مثل للأصنام التي كانت تعبدها العرب على وجه المبالغة

٢٢٣

في نفى الملك والتصرف وبطلان أحكام أقواله فيما يتعلق بحقوق العباد* وقد روى عن ابن عباس أنه استدل بهذه الآية على أن العبد لا يملك الطلاق ولو لا احتمال اللفظ لذلك لما تأوله ابن عباس عليه فدل ذلك على أن شهادة العبد كلا شهادة كعقده وإقراره وسائر تصرفاته التي هي من جهة القول فلما كانت شهادة العبد قوله وجب أن ينتفى وجوب حكمه بظاهر الآية ومما يدل على بطلان شهادة العبيد أن الشهادة فرض على الكفاية كالجهاد فلما لم يكن العبد من أهل الخطاب بالجهاد ولو حصره وقاتل لم يسهم له وجب أن لا يكون من أهل الخطاب بالشهادة ومتى شهد لم تقبل شهادته ولم يكن له حكم الشهود كما لم يثبت له حكم وإن شهد القتال في استحقاق السهم ويدل عليه أنه لو كان من أهل الشهادة لوجب أن لو شهد بها فحكم بشهادته ثم رجع عنها أنه يلزمه غرم ما شهد به لأن ذلك من حكم الشهادة كما أن نفاذ الحكم بها إذا أنفذها الحاكم من حكمها فلما لم يجز أن يلزمه الغرم بالرجوع علمنا أنه ليس من أهلها وإن الحكم بشهادته غير جائز وأيضا فإنا وجدنا ميراث الأنثى على النصف من ميراث الذكر وجعلت شهادة امرأتين بشهادة رجل فكانت شهادة المرأة نصف شهادة الرجل وميراثها نصف ميراثه فوجب أن يكون العبد من حيث لم يكن من أهل الميراث رأسا أن لا يكون من أهل الشهادة لأنا وجدنا لنقصان الميراث تأثيرا في نقصان الشهادة فوجب أن يكون نفى الميراث موجبا لنفى الشهادة وما روى عن على بن أبى طالب في جواز شهادة العبد فإنه لا يصح من طريق النقل ولو صح كان مخصوصا في العبد إذا شهد على العبد ولا نعلم خلافا بين الفقهاء أن العبد والحر سواء فيما تجوز الشهادة فيه فإن قيل لما كان خبر العبد مقبولا إذا رواه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن رقه مانعا من قبول خبره كذلك لا يمنع من قبول شهادته قيل له ليس الخبر أصلا للشهادة فلا يجوز اعتبارها به ألا ترى أن خبر الواحد مقبول في الأحكام ولا تجوز شهادة الواحد فيها وأنه يقبل فيه فلان عن فلان ولا يقبل في الشهادة إلا على جهة الشهادة على الشهادة وأنه يجوز قبول خبره إذا قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا تجوز شهادة الشاهد إلا أن يأتى بلفظ الشهادة والسماع والمعاينة لما يشهد به فإن الرجل والمرأة متساويان في الأخبار مختلفان في الشهادة لأن شهادة امرأتين بشهادة رجل وخبر الرجل والمرأة سواء فلا يجوز الاستدلال بقبول خبر العبد على قبول شهادته* قال أبو بكر قال محمد بن الحسن لو أن

٢٢٤

حاكما حكم بشهادة عبد ثم رفع إلى أبطلت حكمه لأن ذلك مما أجمع الفقهاء على بطلانه وقد اختلف الفقهاء في شهادة الصبيان فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر لا تجوز شهادة الصبيان في شيء وهو قول ابن شبرمة والثوري والشافعى وقال ابن أبى ليلى تجوز شهادة بعضهم على بعض وقال مالك تجوز شهادة الصبيان فيما بينهم في الجراح ولا تجوز على غيرهم وإنما تجوز بينهم في الجراح وحدها قبل أن يتفرقوا ويجيئوا ويعلموا فإن افترقوا فلا شهادة لهم إلا أن يكونوا قد أشهدوا على شهادتهم قبل أن يتفرقوا وإنما تجوز شهادة الأحرار الذكور منهم ولا تجوز شهادة الجواري من الصبيان والأحرار قال أبو بكر روى عن ابن عباس وعثمان وابن الزبير إبطال شهادة الصبيان وروى عن على إبطال شهادة بعضهم على بعض وعن عطاء مثله وروى عبد الله بن حبيب بن أبى ثابت قال قيل للشعبى إن إياس بن معاوية لا يرى بشهادة الصبيان بأسا فقال الشعبي حدثني مسروق إنه كان عند على كرم الله وجهه إذا جاءه خمسة غلمة فقالوا كنا ستة نتغاط في الماء فغرق منا غلام فشهد الثلاثة على الإثنين أنهما غرقاه وشهد الاثنان أن الثلاثة غرقوه فجعل على الإثنين ثلاثة أخماس الدية وعلى الثلاثة خمسي الدية إلا أن عبد الله بن حبيب غير مقبول الحديث عند أهل العلم ومع ذلك فإن معنى الحديث مستحيل لا يصدق مثله عن على رضى الله عنه لأن أولياء الغريق إن ادعوا على أحد الفريقين فقد أكذبوهم في شهادتهم على غيرهم وإن ادعوا عليهم كلهم فهم يكذبون الفريقين جميعا فهذا غير ثابت عن على كرم الله وجهه ومما يدل على بطلان شهادة الصبيان قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وذلك خطاب للرجال البالغين لأن الصبيان لا يملكون عقود المداينات وكذلك قوله تعالى (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) لم يدخل فيه الصبى لأن إقراره لا يجوز وكذلك قوله (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) لا يصح أن يكون خطابا للصبي لأنه ليس من أهل التكليف فيلحقه الوعيد ثم قوله (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) وليس الصبيان من رجالنا ولما كان ابتداء الخطاب بذكر البالغين كان قوله (مِنْ رِجالِكُمْ) عائدا عليهم ثم قوله (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) يمنع أيضا جواز شهادة الصبى وكذلك قوله (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) هو نهى وللصبي أن يأبى من إقامة الشهادة وليس للمدعى إحضاره لها ثم قوله (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ

«١٥ ـ أحكام في»

٢٢٥

قَلْبُهُ) غير جائز أن يكون خطابا للصغار فلا يلحقهم المأثم بكتمانها ولما لم يجز أن يلحقه ضمان بالرجوع دل على أنه ليس من أهل الشهادة لأن كل من صحت شهادته لزمه الضمان عند الرجوع وأما إجازة شهادتهم في الجراح خاصة وقبل أن يتفرقوا ويجيئوا فإنه تحكم بلا دلالة وتفرقة بين من لا فرق فيه في أثر ولا نظر لأن في الأصول أن كل من جازت شهادته في الجراح فهي جائزة في غيرها وأما اعتبار حالهم قبل أن يتفرقوا ويجيئوا فإنه لا معنى له لأنه جائز أن يكون هؤلاء الشهود هم الجناة ويكون الذي حملهم على الشهادة الخوف من أن يؤخذوا به وهذا معلوم من عادة الصبيان إذا كان منهم جناية أحالته بها على غيره خوفا من أن يؤخذ بها وأيضا لما شرط الله في الشهادة العدالة وأوعد شاهد الزور ما أوعده به ومنع من قبول شهادة الفساق ومن لا يزع عن الكذب احتياطا لأمر الشهادة فكيف تجوز شهادته من هو غير مأخوذ بكذبه وليس له حاجز يحجزه عن الكذب ولا حياء يردعه ولا مروءة تمنعه وقد يضرب الناس المثل بكذب الصبيان فيقولون هذا أكذب من صبي فكيف يجوز قبول شهادة من هذا حاله فإن كان إنما اعتبر حالهم قبل تفرقهم وقبل أن يعلمهم غيرهم لأنه لا يعتمد الكذب دون تلقين غيره فليس ذلك كما ظن لأنهم يتعمدون الكذب من غير مانع يمنعهم وهم يعرفون الكذب كما يعرفون الصدق إذا كانوا قد بلغوا الحد الذي يقومون بمعنى الشهادة والعبارة عما شهدوا وقد يتعمدون الكذب لأسباب عارضة منها خوفهم من أن تنسب إليهم الجناية أو قصدا للمشهود عليه بالمكروه ومعان غير ذلك معلومة من أحوالهم فليس لأحد أن يحكم لهم بصدق الشهادة قبل أن يتفرقوا كما لا يحكم لهم بذلك بعد التفرق وعلى أنه لو كان كذلك وكان العلم حاصلا بأنهم لا يكذبون ولا يتعمدون لشهادة الزور فينبغي أن تقبل شهادة الإناث كما تقبل شهادة الذكور وتقبل شهادة الواحد كما تقبل شهادة الجماعة فإذا اعتبر العدد في ذلك وما يجب اعتباره في الشهادة من اختصاصها في الجراح بالذكور دون الإناث فواجب أن يستوفى لها سائر شروطها من البلوغ والعدالة ومن حيث أجازوا شهادة بعضهم على بعض فواجب أجازتها على الرجال لأن شهادة بعضهم على بعض ليست بآكد منها على الرجال إذ هم في حكم المسلمين عند قائل هذا القول والله الموفق واختلف في شهادة الأعمى فقال أبو حنيفة ومحمد لا تجوز شهادة الأعمى بحال وروى نحوه عن على بن أبى طالب رضى الله

٢٢٦

عنه وروى عمرو بن عبيد عن الحسن قال لا تجوز شهادة الأعمى بحال وروى عن أشعث مثله إلا أنه قال إلا أن تكون في شيء رآه قبل أن يذهب بصره وروى ابن لهيعة عن أبى طعمة عن سعيد بن جبير قال لا تجوز شهادة الأعمى وحدثنا عبد الرحمن بن سيما قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثني أبى قال حدثني حجاج بن جبير بن حازم عن قتادة قال شهد أعمى عند إياس بن معاوية على شهادة فقال له إياس لا نرد شهادتك إلا أن لا تكون عدلا ولكنك أعمى لا تبصر قال فلم يقبلها وقال أبو يوسف وابن أبى ليلى والشافعى إذا علمه قبل العمى جازت وما علمه في حال العمى لم تجز وقال شريح والشعبي شهادة الأعمى جائزة وقال مالك والليث بن سعد شهادة الأعمى جائزة وإن علمه في حال العمى إذا عرف الصوت في الطلاق والإقرار ونحوه وإن شهد على زنا أو حد القذف لم تقبل شهادته والدليل على بطلان شهادة الأعمى ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا عبد الله بن محمد ابن ميمون البلخي الحافظ قال حدثنا يحيى بن موسى يعرف (١) بخت قال حدثنا محمد بن سليمان بن مسمول قال حدثنا عبد الله بن سلمة بن وهرام عن أبيه عن طاوس عن ابن عباس قال سئل صلّى الله عليه وسلّم عن الشهادة فقال ترى هذه الشمس فاشهد وإلا فدع فجعل من شرط صحة الشهادة معاينة الشاهد لما شهد به والأعمى لا يعاين المشهود عليه فلا تجوز شهادته ومن جهة أخرى أن الأعمى يشهد بالاستدلال فلا تصح شهادته ألا ترى أن الصوت قد يشبه الصوت وإن المتكلم قد يحاكى صوت غيره ونغمته حتى لا يغادر منها شيئا ولا يشك سامعه إذا كان بينه وبينه حجاب أنه المحكي صوته فغير جائز قبول شهادته على الصوت إذ لا يرجع منه إلى يقين وإنما يبنى أمره على غالب الظن* وأيضا فإن الشاهد مأخوذ عليه بأن يأتى بلفظ الشهادة ولو عبر بلفظ غير لفظ الشهادة بأن يقول أعلم أو أتيقن لم تقبل شهادته فعلمت أنها حين كانت مخصوصة بهذا اللفظ وهذا اللفظ يقتضى مشاهدة المشهود به ومعاينته فلم تجز شهادة من خرج من هذا الحد وشهد عن غير معاينة* فإن قال قائل يجوز للأعمى إقدامه على وطء امرأته إذا عرف صوتها فعلمنا أنه يقين ليس بشك إذ غير جائز لأحد الإقدام على الوطء بالشك قيل له يجوز له الإقدام على وطء امرأته بغالب الظن بأن زفت إليه امرأة وقيل له هذه امرأتك وهو لا يعرفها يحل له وطؤها

__________________

(١) قوله «خت» بفتح الخاء المعجمة وتشديد التاء المثناة علم على يحيى بن موسى أحد أشياخ البخاري.

٢٢٧

وكذلك جائز له قبول هدية جارية بقول الرسول ويجوز له الإقدام على وطئها ولو أخبره مخبر عن زيد بإقرار أو بيع أو قذف لما جاز له إقامة الشهادة على المخبر عنه لأن سبيل الشهادة اليقين والمشاهدة وسائر الأشياء التي ذكرت يجوز فيها استعمال غالب الظن وقبول قول الواحد فليس ذلك إذا أصلا للشهادة* وأما إذا استشهد وهو بصير ثم عمى فإنما لم نقبله من قبل أنا قد علمنا أن حال تحمل الشهادة أضعف من حال الأداء والدليل عليه أنه غير جائز أن يتحمل الشهادة وهو كافر أو عبد أو صبي ثم يؤديها وهو حر مسلم بالغ تقبل شهادته ولو أداها وهو صبي أو عبد أو كافر لم تجز فعلمنا أن حال الأداء أولى بالتأكيد من حال التحمل فإذا لم يصح تحمل الأعمى للشهادة وكان العمى مانعا من صحة التحمل وجب أن يمنع صحة الأداء وأيضا لو استشهده وبينه وبينه حائل لما صحت شهادته وكذلك لو أداها وبينهما حائل لم تجز شهادته والعمى حائل بينه وبين المشهود عليه فوجب أن لا تجوز وفرق أبو يوسف بينهما بأن قال يصح أن يتحمل الشهادة بمعاينته ثم يشهد عليه وهو غائب أو ميت فلا يمنع ذلك جوازها فكذلك عمى الشاهد بمنزلة موت المشهود عليه أو غيبته فلا يمنع قبول شهادته* والجواب عن ذلك من وجهين أحدهما أنه إنما يجب اعتبار الشاهد في نفسه فإن كان من أهل الشهادة قبلناها وإن لم يكن من أهل الشهادة لم نقبلها والأعمى قد خرج من أن يكون من أهل الشهادة بعماه فلا اعتبار بغيره وأما الغائب والميت فإن شهادة الشاهد عليهما صحيحة إذ لم يعترض فيه ما يخرجه من أن يكون من أهل الشهادة وغيبة المشهود عليه وموته لا تؤثر في شهادة الشاهد فلذلك جازت شهادته والوجه الآخر أنا لا نجيز الشهادة على الميت والغائب إلا أن يحضر عنه خصم فتقع الشهادة عليه فيقوم حضوره مقام حضور الغائب والميت والأعمى في معنى من يشهد على غير خصم حاضر فلا تصح شهادته فإن احتجوا بقوله تعالى (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) وقوله تعالى (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) والأعمى قد يكون مرضيا وهو من رجالنا الأحرار فظاهر ذلك يقتضى قبول شهادته* قيل له ظاهر الآية يدل على أن الأعمى غير مقبول الشهادة لأنه قال (وَاسْتَشْهِدُوا) والأعمى لا يصح استشهاده لأن الاستشهاد هو إحضار المشهود عليه ومعاينته إياه وهو غير معاين ولا مشاهد لمن يحضره لأن العمى حائل بينه وبين ذلك كحائط لو كان بينهما فيمنعه ذلك من مشاهدته ولما كانت الشهادة إنما هي مأخوذة

٢٢٨

من مشاهدة المشهود عليه ومعاينته على الحال التي تقتضي الشهادة إثبات الحق عليه وكان ذلك معدوما في الأعمى وجب أن تبطل شهادته فهذه الآية لأن تكون دليلا على بطلان شهادته أولى من أن تدل على إجازتها وقال زفر لا تجوز شهادة الأعمى إذا شهد بها قبل العمى أو بعده إلا في النسب أن يشهد أن فلانا ابن فلان قال أبو بكر يشبه أن يكون ذهب في ذلك إلى أن النسب قد تصح الشهادة عليه بالخبر المستفيض وإن لم يشاهده الشاهد فلذلك جائز إذا تواتر عند الأعمى الخبر بأن فلانا ابن فلان أن يشهد به عند الحاكم وتكون شهادته مقبولة ويستدل على صحة ذلك بأن الأعمى والبصير سواء فيما ثبت حكمه عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم من طريق التواتر وإن لم يشاهد المخبرين من طريق المعاينة وإنما يسمع أخبارهم فكذلك جائز أن يثبت عنده علم صحة النسب من طريق التواتر وإن لم يشاهد المخبرين فتجوز إقامة الشهادة به وتكون شهادته مقبولة فيه إذ ليس شرط هذه الشهادة معاينة المشهود به واختلف في شهادة البدوي على القروي فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والليث والأوزاعى والشافعى هي جائزة إذا كان عدلا وروى نحوه عن الزهري وروى ابن وهب عن مالك قال لا تجوز شهادة بدوي على قروي إلا في الجراح وقال ابن القاسم عنه لا تجوز شهادة بدوي على قروي في الحضر إلا في وصية القروي في السفر أو في بيع فتجوز إذا كانوا عدولا قال أبو بكر جميع ما ذكرنا من دلائل الآية على قبول شهادة الأحرار البالغين يوجب التسوية بين شهادة القروي والبدوي لأن الخطاب توجه إليهم بذكر الإيمان بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) وهؤلاء من جملة المؤمنين ثم قال تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) يعنى من رجال المؤمنين الأحرار وهذه صفة هؤلاء ثم قال (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) وإذا كانوا عدولا فهم مرضيون وقال في آية أخرى في شأن الرجعة والفراق (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) وهذه الصفة شاملة للجميع إذا كانوا عدولا وفي تخصيص القروي بها دون البدوي ترك العموم بغير دلالة ولم يختلفوا أنهم مرادون بقوله (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) وبقوله (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) لأنهم يجيزون شهادة البدوي على بدوي مثله على شرط الآية وإذا كانوا مرادين بالآية فقد اقتضت جواز شهادتهم على القروي من حيث اقتضت جواز شهادة بعضهم على بعض ومن حيث اقتضت جواز شهادة القروي على البدوي

٢٢٩

فإن احتجوا بما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا حسين بن إسحاق التستري قال حدثنا حرملة بن يحيى قال حدثنا ابن وهب قال حدثنا نافع بن يزيد بن الهادي عن محمد بن عمرو عن عطاء بن يسار عن أبى هريرة أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية فإن مثل هذا الخبر لا يجوز الاعتراض به على ظاهر القرآن مع أنه ليس فيه ذكر الفرق بين الجراح وبين غيرها ولا بين أن يكون القروي في السفر أو في الحضر فقد خالف المحتج به ما اقتضاه عمومه وقد روى سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال شهد أعرابى عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رؤية الهلال فأمر بلالا ينادى في الناس فليصوموا غدا فقبل شهادته وأمر الناس بالصيام وجائز أن يكون حديث أبى هريرة في أعرابى شهد شهادة عند النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلم النبي صلّى الله عليه وسلّم خلافها مما يبطل شهادته فأخبر به فنقله الراوي من غير ذكر السبب وجائز أن يكون قاله في الوقت الذي كان الشرك والنفاق غالبين على الأعراب كما قال عز وجل (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) فإنما منع قبول شهادة من هذه صفته من الأعراب وقد وصف الله قوما آخرين من الأعراب بعد هذه الصفة ومدحهم بقوله (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) الآية فمن كانت هذه صفته فهو مرضى عند الله وعند المسلمين مقبول الشهادة* ولا يخلوا البدوي من أن يكون غير مقبول الشهادة على القروي إما لطعن في دينه أو جهل منه بأحكام الشهادات وما يجوز أداؤها منها مما لا يجوز فإن كان لطعن في دينه فإن هذا غير مختلف في بطلان شهادته ولا يختلف فيه حكم البدوي والقروي وإن كان لجهل منه بأحكام الشهادات فواجب أن لا تقبل شهادته على بدوي مثله وأن لا تقبل شهادته في الجراح ولا على القروي في السفر كما لا تقبل شهادة القروي إذا كان بهذه الصفة ويلزمه أن يقبل شهادة البدوي إذا كان عدلا عالما بأحكام الشهادة على القروي وعلى غيره لزوال المعنى الذي من أجله امتنع من قبول شهادته وأن لا يجعل لزوم سمة البدو إياه والنسبة إليه علة لرد شهادته كما لا تجعل نسبة القروي إلى القرية علة لجواز شهادته إذا كان مجانبا للصفات المشروطة لجواز الشهادة* قوله عز وجل (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) قال أبو بكر أوجب بديا استشهاد شهيدين وهما الشاهدان لأن الشهيد والشاهد واحد كما أن

٢٣٠

عليم وعالم واحد وقادر وقدير واحد ثم عطف عليه قوله (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ) يعنى إن لم يكن الشهيدان رجلين (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) فلا يخلو قوله (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ) من أن يريد به فإن لم يوجد رجلان فرجل وامرأتان كقوله (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً) وكقوله (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) ثم قال (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ) ـ إلى قوله تعالى ـ (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) وما جرى مجرى ذلك في الأبدال التي أقيمت مقام أصل الفرض عند عدمه أو أن يكون مراده فإن لم يكن الشهيدان رجلين فالشهيدان رجل وامرأتان فأفادنا إثبات هذا الاسم للرجل والمرأتين حتى يعتبر عمومه في جواز شهادتهما مع الرجل في سائر الحقوق إلا ما قام دليله فلما اتفق المسلمون على جواز شهادة رجل وامرأتين مقام رجلين عند عدم الرجلين فثبت الوجه الثاني وهو أنه أراد تسمية الرجل والمرأتين شهدين فيكون ذلك اسما شرعيا يجب اعتباره فيما أمرنا فيه باستشهاد شهيدين إلا موضعا قام الدليل عليه فيصح الاستدلال بعمومه في

قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لا نكاح إلا بولي وشاهدين وإثبات النكاح والحكم بشهادة رجل وامرأتين إذ قد لحقهم اسم شهدين وقد أجاز النبي صلّى الله عليه وسلّم النكاح بشهادة شاهدين* وقد اختلف أهل العلم في شهادة النساء مع الرجال في غير الأموال فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وعثمان البتى لا تقبل شهادة النساء مع الرجال إلا في الحدود ولا في القصاص وتقبل فيما سوى ذلك من سائر الحقوق وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا يحيى بن عبادة قال حدثنا شعبة عن الحجاج بن أرطاة عن عطاء بن أبى رباح أن عمر أجاز شهادة رجل وامرأتين في نكاح وروى جرير بن حازم عن الزبير بن الخريت عن أبى لبيد أن عمر أجاز شهادة النساء في طلاق وروى إسرائيل عن عبد الأعلى عن محمد بن الحنفية عن على رضى الله عنه قال تجوز شهادة النساء في العقد وروى حجاج عن عطاء أن ابن عمر كان يجيز شهادة النساء مع الرجل في النكاح وروى عن عطاء إنه كان يجيز شهادة النساء في الطلاق وروى عن عون عن الشعبي عن شريح أنه أجاز شهادة رجل وامرأتين في عتق وهو قول الشعبي في الطلاق وروى عن الحسن والضحاك قالا لا تجوز شهادتهن إلا في الدين والولد وقال مالك لا تجوز شهادة النساء مع الرجال في الحدود والقصاص ولا في الطلاق ولا في النكاح ولا في الأنساب ولا في

٢٣١

الولاء ولا الإحصان وتجوز في الوكالة والوصية إذا لم يكن فيها عتق وقال الثوري تجوز شهادتهن في كل شيء إلا الحدود وروى عنه أنها لا تجوز في القصاص أيضا وقال الحسن ابن حي لا تجوز شهادتهن في الحدود وقال الأوزاعى لا تجوز شهادة رجل وامرأتين في نكاح وقال الليث تجوز شهادة النساء في الوصية والعتق ولا تجوز في النكاح ولا الطلاق ولا الحدود ولا قتل العمد الذي يقاد منه وقال الشافعى لا تجوز شهادة النساء مع الرجال في غير الأموال ولا يجوز في الوصية إلا الرجل وتجوز في الوصية بالمال* قال أبو بكر ظاهر هذه الآية يقتضى جواز شهادتهن مع الرجل في سائر عقود المداينات وهي كل عقد واقع على دين سواء كان بدله مالا أو بضعا أو منافع أو دم عمد لأنه عقد فيه دين إذ المعلوم أنه ليس مراد الآية في قوله تعالى (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أن يكون المعقود عليهما من البدلين دينين لامتناع جواز ذلك إلى أجل مسمى فثبت أن المراد وجود دين عن بدل أى دين كان فاقتضى ذلك جواز شهادة النساء مع الرجل على عقد نكاح فيه مهر مؤجل إذا كان ذلك عقد مداينة وكذلك الصلح من دم العمد والخلع على مال والإجارات فمن ادعى خروج شيء من هذه العقود من ظاهر الآية لم يسلم له ذلك إلا بدلالة إذ كان العموم مقتضيا لجوازها في الجميع* ويدل على جواز شهادة النساء في غير الأموال ما حدثنا عبد الباقي ابن قانع قال حدثنا أحمد بن القاسم الجوهري قال حدثنا محمد بن إبراهيم أخو أبى معمر قال حدثنا محمد بن الحسن بن أبى يزيد عن الأعمش عن أبى وائل عن حذيفة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أجاز شهادة القابلة والولادة ليست بمال وأجاز شهادتها عليها فدل ذلك على أن شهادة النساء ليست مخصوصة بالأموال ولا خلاف في جواز شهادة النساء على الولادة وإنما الاختلاف في العدد وأيضا لما ثبت أن اسم الشهيدين واقع في الشرع على الرجل والمرأتين وقد ثبت أن اسم البينة يتناول الشهيدين وجب بعموم قوله البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه القضاء بشهادة الرجل والمرأتين في كل دعوى إذ قد شملهم اسم البينة ألا ترى أنها بينة في الأموال فلما وقع عليها الاسم وجب بحق العموم قبولها لكل مدع إلا أن تقوم الدلالة على تخصيص شيء منه وإنما خصصنا الحدود والقصاص لما روى الزهري قال مضت السنة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والخليفتين من بعده أن لا تجوز شهادة النساء في الحدود ولا في القصاص وأيضا لما اتفق الجميع على

٢٣٢

قبول شهادتهن مع الرجل في الديون وجب قبولها في كل حق لا تسقطه الشبهة إذا كان الدين حقا لا يسقط بالشبهة ومما يدل على جوازها في غير الأموال من الآية إن الله تعالى قد أجازها في الأجل بقوله (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) ثم قال (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) فأجاز شهادتها مع الرجل على الأجل وليس بمال كما أجازها في المال* فإن قيل الأجل لا يجب إلا في المال* قيل له هذا خطأ لأن الأجل قد يجب في الكفالة بالنفس وفي منافع الأحرار التي ليست بمال وقد يؤجله الحاكم في إقامة البينة على الدم وعلى دعوى العفو منه بمقدار ما يمكن التقدم إليه فقولك إن الأجل لا يجب إلا في المال خطأ ومع ذلك فالبضع لا يستحق إلا بمال ولا يقع النكاح إلا بمال فينبغي أن تجيز فيه شهادة النساء قوله تعالى (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) قال أبو بكر لما كانت معرفة ديانات الناس وأماناتهم وعدالتهم إنما هي من طريق الظاهر دون الحقيقة إذا لا يعلم ضمائرهم ولا خبايا أمورهم غير الله تعالى ثم قال الله تعالى فيما أمرنا باعتباره من أمر الشهود (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) دل ذلك على أن أمر تعديل الشهود موكولا إلى اجتهاد رأينا وما يغلب في ظنوننا من عدالتهم وصلاح طرائقهم وجائز أن يغلب في ظن بعض الناس عدالة شاهد وأمانته فيكون عنده رضى ويغلب في ظن غيره أنه ليس يرضى فقوله (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) مبنى على غالب الظن وأكثر الرأى والذي بنى عليه أمر الشهادة أشياء ثلاثة أحدها العدالة والآخر نفى التهمة وإن كان عدلا والثالث التيقظ والحفظ وقلة الغفلة أما العدالة فأصلها الإيمان واجتناب الكبائر ومراعاة حقوق الله عز وجل في الواجبات والمسنونات وصدق اللهجة والأمانة وأن لا يكون محدودا في قذف وأما نفى التهمة فأن لا يكون المشهود له والدا ولا ولدا أو زوجا وزوجة وأن لا يكون قد شهد بهذه الشهادة فردت لتهمة فشهادة هؤلاء غير مقبولة لمن ذكرنا وإن كانوا عدولا مرضيين وأما التيقظ والحفظ وقلة الغفلة فأن لا يكون غفولا غير مجرب للأمور فإن مثله ربما لقن الشيء فتقلنه وربما جوز عليه التزوير فشهد به قال ابن رستم عن محمد ابن الحسن في رجل أعجمى صوام قوام مغفل يخشى عليه أن يلقن فيأخذ به قال هذا أشر من الفاسق في شهادته وحدثنا عبد الرحمن بن سيما المحبر قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثني أبى قال حدثنا أسود بن عامر قال حدثنا ابن هلال عن أشعث الحدانى قال قال

٢٣٣

رجل للحسن يا أبا سعيد إن أياسا رد شهادتي فقام معه إليه فقال يا ملكعان لم رددت شهادته أوما بلغك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال من استقبل قبلتنا وأكل من ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فقال أيها الشيخ أما سمعت الله يقول (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) وإن صاحبك هذا ليس برضاه وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الوهاب قال حدثنا السرى بن عاصم بإسناد ذكره أنه شهد عند أياس بن معاوية رجل من أصحاب الحسن فرد شهادته فبلغ الحسن وقال قوموا بنا إليه قال فجاء إلى إياس فقال يا لكع ترد شهادة رجل مسلم فقال نعم قال الله تعالى (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) وليس هو ممن أرضى قال فسكت الحسن فقال خصم الشيخ فمن شرط الرضا للشهادة أن يكون الشاهد متيقظا حافظا لما يسمعه متقنا لما يؤديه وقد ذكر بشر بن الوليد عن أبى يوسف في صفة العدل أشياء منها أنه قال من سلم من الفواحش التي تجب فيها الحدود وما يشبه ما تجب فيه من العظائم وكان يؤدى الفرائض وأخلاق البر فيه أكثر من المعاصي الصغار قبلنا شهادته لأنه لا يسلم عبد من ذنب وإن كانت ذنوبه أكثر من أخلاق البر رددنا شهادته ولا تقبل شهادة من يلعب بالشطرنج يقامر عليها ولا من يلعب بالحمام ويطيرها وكذلك من يكثر الحلف بالكذب لا تجوز شهادته قال وإذا ترك الرجل الصلوات الخمس في الجماعة استخفافا بذلك أو مجانة أو فسقا فلا تجوز شهادته وإن تركها على تأويل وكان عدلا فيما سوى ذلك قبلت شهادته قال وإن داوم على ترك ركعتي الفجر لم تقبل شهادته وإن كان معروفا بالكذب الفاحش لم أقبل شهادته وإن كان لا يعرف بذلك وربما ابتلى بشيء منه والخير فيه أكثر من الشر قبلت شهادته ليس يسلم أحد من الذنوب قال وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وابن أبى ليلى شهادة أهل الأهواء جائزة إذا كانوا عدولا إلا صنفا من الرافضة يقال لهم الخطابية فإنه بلغني أن بعضهم يصدق بعضا فيما يدعى إذا حلف له ويشهد بعضهم لبعض فلذلك أبطلت شهادتهم وقال أبو يوسف أيما رجل أظهر شتيمة أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم لم أقبل شهادته لأن رجلا لو كان شتاما للناس والجيران لم أقبل شهادته فأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أعظم حرمة وقال أبو يوسف ألا ترى أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد اختلفوا واقتتلوا وشهادة الفريقين جائزة لأنهم اقتتلوا على تأويل فكذلك أهل الأهواء من المتأولين قال أبو يوسف ومن سألت عنه فقالوا إنا نتهمه بشتم أصحاب

٢٣٤

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنى لا أقبل هذا حتى يقولوا سمعناه يشتم قال فإن قالوا نتهمه بالفسق والفجور ونظن ذلك به ولم نره فإنى أقبل ذلك ولا أجيز شهادته والفرق بينهما إن الذين قالوا نتهمه بالشتم قد أثبتوا له الصلاح وقالوا نتهمه بالشتم فلا يقبل هذا إلا بسماع والذين قالوا نتهمه بالفسق والفجور ونظن ذلك به ولم نره فإنى أقبل ذلك ولا أجيز شهادته اثبتوا له صلاحا وعدالة وذكر ابن رستم عن محمد أنه قال لا أقبل شهادة الخوارج إذ كانوا قد خرجوا يقاتلون المسلمين وإن شهدوا قال قلت ولم لا تجيز شهادتهم وأنت تجيز شهادة الحرورية قال لأنهم لا يستحلون أموالنا ما لم يخرجوا فإذا خرجوا استحلوا أموالنا فتجوز شهادتهم ما لم يخرجوا وحدثنا أبو بكر مكرم بن أحمد قال حدثنا أحمد بن عطية الكوفي قال سمعت محمد بن سماعة يقول سمعت أبا يوسف يقول سمعت أبا حنيفة يقول لا يجب على الحاكم أن يقبل شهادة بخيل فإن البخيل يحمله شدة بخله على التقصي فيأخذ فوق حقه مخافة الغبن ومن كان كذلك لم يكن عدلا سمعت حماد بن أبى سليمان يقول سمعت إبراهيم يقول قال على بن أبى طالب رضى الله عنه أيها الناس كونوا وسطا لا تكونوا بخلاء ولا سفلة فإن البخيل والسفلة الذين إن كان عليهم حق لم يؤدوه وإن كان لهم حق استقصوه قال وقال ما من طباع المؤمن التقصي ما استقصى كريم قط قال الله تعالى (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) وحدثنا مكرم بن أحمد قال حدثنا أحمد بن محمد بن المغلس قال سمعت الحماني يقول سمعت ابن المبارك يقول سمعت أبا حنيفة يقول من كان معه بخيل لم تجز شهادته يحمله البخل على التقصي فمن شدة تقصيه يخاف الغبن فيأخذ فوق حقه مخافة الغبن فلا يكون هذا عدلا وقد روى نظير ذلك عن أياس بن معاوية ذكر ابن لهيعة عن أبى الأسود محمد بن عبد الرحمن قال قلت لأياس بن معاوية أخبرت أنك لا تجيز شهادة الأشراف بالعراق ولا البخلاء ولا التجار الذين يركبون البحر قال أجل أما الذين يركبون إلى الهند حتى يغرروا بدينهم ويكثروا عدوهم من أجل طمع الدنيا فعرفت أن هؤلاء لو أعطى أحدهما درهمين في شهادة لم يتحرج بعد تغريره بدينه وأما الذين يتجرون في قرى فارس فإنهم يطعمونهم الربا وهم يعلمون فأبيت أن أجيز شهادة آكل الربا وأما الأشراف فإن الشريف بالعراق إذا نابت أحدا منهم نائبة أتى إلى سيد قومه فيشهد له ويشفع فكنت أرسلت إلى عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر أن لا يأتينى

٢٣٥

بشهادة* وقد روى عن السلف رد شهادة قوم ظهر منهم أمور لا يقطع فيها بفسق فاعليها إلا أنها تدل على سخف أو مجون فرأوا رد شهادة أمثالهم منه ما حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثنا محمود بن خداش قال حدثنا زيد بن الحباب قال أخبرنى داود بن حاتم البصري أن بلال بن أبى بردة وكان على البصرة كان لا يجيز شهادة من يأكل الطين وينتف لحيته* وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا حماد بن محمد قال حدثنا شريح قال حدثنا يحيى بن سليمان عن ابن جريج أن رجلا كان من أهل مكة شهد عند عمر بن عبد العزيز وكان ينتف عنفقته ويحفى لحيته وحول شاربيه فقال ما اسمك قال فلان قال بل اسمك ناتف ورد شهادته* وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا عبد الله بن أحمد ابن سعد قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا عبد الرحمن بن محمد عن الجعد بن ذكوان قال دعا رجل شاهدا له عند شريح اسمه ربيعة فقال يا ربيعة يا ربيعة فلم يجب فقال يا ربيعة الكويفر فأجاب فقال له قم وقال لصاحبه هات غيره* وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثني أبى قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال حدثنا سعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال الأقلف لا تجوز شهادته* وروى حماد بن أبى سلمة عن أبى المهزم عن أبى هريرة لا تجوز شهادة أصحاب الحمر يعنى النخاسين وروى عن شريح أنه كان لا يجيز شهادة صاحب حمام ولا حمام وروى مسعر أن رجلا شهد عند شريح وهو ضيق كم القبا فرد شهادته وقال كيف يتوضأ وهو على هذه الحال وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا جرير بن حازم عن الأعمش عن تميم بن سلمة قال شهد رجل عند شريح فقال أشهد بشهادة الله فقال شهدت بشهادة الله لا أجيز لك اليوم شهادة* قال أبو بكر لما رآه تكلف من ذلك ما ليس عليه لم يره أهلا لقبول شهادته فهذه الأمور التي ذكرناها عن هؤلاء السلف من رد الشهادة من أجلها غير مقطوع فيها بفسق فاعليها ولا سقوط العدالة وإنما دلهم ظاهرها على سخف من هذه حاله فردوا شهادتهم من أجلها لأن كلا منهم تجرى موافقة ظاهر قوله تعالى (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) على حسب ما أداه إليه اجتهاده فمن غلب في ظنه سخف من الشاهد أو مجونه أو استهانته بأمر الدين أسقط شهادته* قال محمد في كتاب آداب القاضي من ظهرت منه مجانة لم أقبل شهادته قال ولا تجوز شهادة المخنث

٢٣٦

ولا شهادة من يلعب بالحمام يطيرها وقد حكى عن سفيان بن عيينة أن رجلا شهد عند ابن أبى ليلى فرد شهادته قال فقلت لابن أبى ليلى مثل فلان وحاله كذا وحال ابنه كذا ترد شهادته فقال أين يذهب بك إنه فقير فكان عنده أن الفقر يمنع الشهادة إذ لا يؤمن به أن يحمله الفقر على الرغبة في المال وأقام شهادة بما لا تجوز* وقال مالك بن أنس لا تجوز شهادة السؤال في الشيء الكثير وتجوز في الشيء التافه إذا كانوا عدولا فشرط مالك مع الفقر المسألة ولم يقبلها في الشيء الكثير للتهمة وقبلها في اليسير لزوال التهمة* وقال المزني والربيع عن الشافعى إذا كان الأغلب على الرجل والأظهر من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته وإذا كان الأغلب من حاله المعصية وعدم المروءة ردت شهادته وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن الشافعى إذا كان أكثر أمره الطاعة ولم يقدم على كبيرة فهو عدل فأما شرط المروءة فإن أراد به التصاون والصمت والحسن وحفظ الحرمة وتجنب السخف والمجون فهو مصيب وإن أراد به نظافة الثوب وفراهة المركوب وجودة الآلة والشارة الحسنة فقد أبعد وقال غير الحق لأن هذه الأمور ليست من شرائط الشهادة عند أحد من المسلمين.

قال أبو بكر جميع ما قدمنا من ذكر أقاويل السلف وفقهاء الأمصار واعتبار كل واحد منهم في الشهادة ما حكينا عنه يدل على أن كلا منهم بنى قبول أمر الشهادة على ما غلب في اجتهاده واستولى على رأيه أنه ممن يرضى ويؤتمن عليها وقد اختلفوا في حكم من لم تظهر منه ريبة هل يسأل عنه الحاكم إذا شهد فروى عن عمر بن الخطاب في كتابه الذي كتبه إلى أبو موسى في القضاء والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو قرابة وقال منصور قلت لإبراهيم وما العدل في المسلمين قال من لم تظهر منه ريبة وعن الحسن البصري والشعبي مثله وذكر معمر عن أبيه قال لما ولى الحسن القضاء كان يجيز شهادة المسلمين إلا أن يكون الخصم يجرح الشاهد وذكر هشيم قال سمعت ابن شبرمة يقول ثلاث لم يعمل بهن أحد قبلي ولن يتركهن أحد بعدي المسألة عن الشهود وإثبات حجج الخصمين وتحلية الشهود في المسألة وقال أبو حنيفة لا أسأل عن الشهود إلا أن يطعن فيهم الخصم المشهود عليه فإن طعن فيهم سألت عنهم في السر والعلانية وزكيتهم في العلانية إلا شهود الحدود والقصاص فإنى أسأل عنهم في

٢٣٧

السر وأزكيهم في العلانية وقال محمد يسأل عنهم وإن لم يطعن فيهم* وروى يوسف بن موسى القطان عن على بن عاصم عن ابن شبرمة قال أول من سأل في السر أنا كان الرجل يأتى القوم إذا قيل له هات من يزكيك فيقول قومي يزكوننى فيستحى القوم فيزكونه فلما رأيت ذلك سألت في السر فإذا صحت شهادته قلت هات من يزكيك في العلانية وقال أبو يوسف ومحمد يسأل عنهم في السر والعلانية ويزكيهم في العلانية وإن لم يطعن فيهم الخصم وقال مالك بن أنس لا يقضى بشهادة الشهود حتى يسئل عنهم في السر وقال الليث أدركت الناس ولا تلتمس من الشاهدين تزكية وإنما كان الوالي يقول للخصم إن كان عندك من يجرح شهادتهم فأت به وإلا أجزنا شهادته عليك وقال الشافعى يسأل عنهم في السر فإذا عدل سأل عن تعديله علانية ليعلم أن المعدل هو هذا لا يوافق اسم اسما ولا نسب نسبا قال أبو بكر ومن قال من السلف بتعديل من ظهر إسلامه فإنما بنى ذلك على ما كانت عليه أحوال الناس من ظهور العدالة في العامة وقلة الفساق فيهم ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد شهد بالخير والصلاح للقرن الأول والثاني والثالث* حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثني أبى قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدى قال حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثلاث أو أربع ثم يجيء قوم سبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته قال وكان أصحابنا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صبيان وإنما حمل السلف ومن قال من فقهاء الأمصار مما وصفنا أمر المسلمين في عصرهم على العدالة وجواز الشهادة لظهور العدالة فيهم وإن كان فيهم صاحب ريبة وفسق كان يظهر النكير عليه ويتبين أمره وأبو حنيفة كان في القرن الثالث الذين شهد لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالخير والصلاح فتكلم على ما كانت الحال عليه وأما لو شهد أحوال الناس بعد لقال بقول الآخرين في المسألة عن الشهود ولما حكم لأحد منهم بالعدالة إلا بعد المسألة* وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال للأعرابى الذي شهد على رؤية الهلال أتشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله قال نعم فأمر الناس بالصيام بخبره ولم يسأل عن عدالته بعد ظهور إسلامه لما وصفنا فثبت بما وصفنا أن أمر التعديل وتزكية الشهود وكونهم مرضيين مبنى على اجتهاد الرأى وغالب الظن لاستحالة إحاطة علومنا بغيب أمور الناس وقد حذرنا الله الاغترار بظاهر حال الإنسان والركون

٢٣٨

إلى قوله مما يدعيه لنفسه من الصلاح والأمانة* فقال (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي * الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية ثم أخبر عن مغيب أمره وحقيقة حاله* فقال (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها) الآية فأعلمنا ذلك من حال بعض من يعجب ظاهر قوله وقال أيضا في صفة قوم آخرين (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) الآية فحذر نبيه صلّى الله عليه وسلّم الاغترار بظاهر حال الإنسان وأمرنا بالاقتداء به فقال (وَاتَّبِعُوهُ) وقال (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) فغير جائز إذا كان الأمر على ما وصفنا الركون إلى ظاهر أمر الإنسان دون التثبت في شهادته والبحث عن أمره حتى إذا غلب في ظنه عدالته قبلها وقد وصف الله تعالى الشهود المقبولين بصفتين إحداهما العدالة في قوله تعالى (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) وقوله (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) والأخرى أن يكونوا مرضيين لقوله (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) والمرضيون لا بد أن تكون من صفتهم العدالة وقد يكون عدلا غير مرضى في الشهادة وهو أن يكون غمرا مغفلا يجوز عليه التذوير والتمويه فقوله (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) فقد انتظم الأمرين من العدالة والتيقظ وذكاء الفهم وشدة الحفظ وقد أطلق الله ذكر الشهادة في الزنا غير مقيد بذكر العدالة وهي من شرطها العدالة والرضى جميعا وذلك لقوله عز وجل (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) وذلك عموم في إيجاب التثبت في سائر أخبار الفساق والشهادة خبر فوجب التثبت فيها إذا كان الشاهد فاسقا فلما نص الله على التثبت في خبر الفاسق وأوجب علينا قبول شهادة العدول المرضيين وكان الفسق قد يعلم من جهة اليقين والعدالة لا تعلم من جهة اليقين دون ظاهر الحال علمنا أنها مبنية على غالب الظن وما يظهر من صلاح الشاهد وصدق لهجته وأمانته وهذا وإن كان مبنيا على أكثر الظن فهو ضرب من العلم كما قال تعالى في المهاجرات (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) وهذا هو علم الظاهر دون الحقيقة فكذلك الحكم بعدالة الشاهد طريقه العلم الظاهر دون المغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى وهذا أصل كبير في الدلالة على صحة القول باجتهاد الرأى في أحكام الحوادث إذ كانت الشهادات من معالم أمور الدين والدنيا وقد عقد بها مصالح الخلق في وثائقهم وإثبات حقوقهم وأملاكهم وإثبات الأنساب والدماء والفروج وهي مبنية على غالب الظن وأكثر الرأى إذ لا يمكن أحدا من الناس إمضاء حكم بشهادة شهود من طريق حقيقة العلم بصحة المشهود به وهو يدل

٢٣٩

على بطلان القول بإمام معصوم في كل زمان واحتجاج من يحتج فيه بأن أمور الدين كلها ينبغي أن تكون مبنية على ما يوجب العلم الحقيقي دون غالب الظن وأكثر الرأى وأنه متى لم يكن إمام بهذه الصفة لم يؤمن الخطأ فيها لأن الرأى يخطئ ويصيب لأنه لو كان كما زعموا لوجب أن لا تقبل شهادة الشهود إلا أن يكونوا معصومين مأمونا عليهم الخطأ والزلل فلما أمر الله تعالى بقبول شهادة الشهود إذا كانوا مرضيين في ظاهر أحوالهم دون العلم بحقيقة مغيب أمورهم مع جواز الكذب والغلط عليهم ثبت بطلان الأصل الذي بنوا عليه أمر النص فإن قالوا الإمام يعلم صدق الشهود من كذبهم قيل لهم فواجب أن لا يسمع شهادة الشهود غير الإمام وأن لا يكون للإمام قاض ولا أمين إلا أن يكون بمنزلته في العصمة وفي العلم بمغيب أمر الشهود ويجب أن لا يكون أحد من أعوان الإمام إلا معصوما مأمون الزلل والخطأ لما يتعلق به من أحكام الدين فلما جاز أن يكون للإمام حكام وشهود وأعوان بغير هذه الصفة ثبت بذلك جواز كثير من أمور الدين مبنيا على اجتهاد الرأى وغالب الظن وفيما ذكرناه مما تعبدنا الله به في هذه الآية من اعتبار أحوال الشهود بما يغلب في الظن من عدالتهم وصلاحهم دلالة على بطلان قول نفاة القياس والاجتهاد في الأحكام التي لا نصوص فيها ولا إجماع لأن الدماء والفروج والأموال والأنساب من الأمور التي قد عقد بهما مصالح الدين والدنيا وقد أمر الله فيها بقبول شهادة الشهود الذين لا نعلم مغيب أمورهم وإنما نحكم بشهاداتهم بغالب الظن وظاهر أحوالهم مع تجويز الكذب والخطأ والزلل والسهو عليهم فثبت بذلك تجويز الاجتهاد واستعمال غلبة الرأى فيما لا نص فيه من أحكام الحوادث ولا اتفاق وفيه الدلالة على جواز قبول الأخبار المقصرة عن إيجاب العلم بمخبراتها من أمور الديانات عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأن شهادة الشهود غير موجبة للعلم بصحة المشهود به وقد أمرنا بالحكم بها مع تجويز أن يكون الأمر في المغيب بخلافه فبطل بذلك قول من قال أنه غير جائز قبول خبر من لا يوجب العلم بخبره في أمور الدين وقد دل أيضا على بطلان قول من يستدل على رد أخبار الآحاد بأنا لو قبلناها لكنا قد جعلنا منزلة المخبر أعلى من منزلة النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ لم يجب في الأصل قبول خبر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا بعد ظهور المعجزات الدالة على صدقه لأن الله تعالى قد أمرنا بقبول شهادة الشهود الذين ظاهرهم العدالة وإن لم يكن معها علم معجزة يدل على صدقهم* وأما ما ذكرنا من اعتبار

٢٤٠