أحكام القرآن - ج ٢

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦

أيضا ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن العباس المؤدب قال حدثنا عفان بن مسلم قال حدثنا عبد الوارث عن محمد بن حجادة عن ابن بريدة عن أبيه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول من أنظر معسرا فله صدقة ومن أنظر معسرا فله بكل يوم صدقة فقلت يا رسول الله سمعتك تقول من أنظر معسرا فله صدقة ثم سمعتك تقول له بكل يوم صدقة قال من أنظر معسرا قبل أن يحل الدين فله صدقة ومن أنظره إذا حل الدين فله بكل يوم صدقة وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا محمد بن على بن عبد الملك بن السراج قال حدثنا إبراهيم ابن عبد الله الهروي قال حدثنا عيسى بن يونس قال حدثنا سعيد بن حجنة الأسدى قال حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت أنه سمع أبا اليسر يقول قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أنظر معسرا أو وضع له أظله الله يوم لا ظل إلا ظله فقوله في الحديث الأول من أنظر معسرا فله بكل يوم صدقة يوجب أن لا يكون منظرا بنفس الإعسار دون إنظار الطالب إياه لأنه لو كان منظرا بغير إنظاره لما صح القول بأن من أنظر معسرا فله بكل يوم صدقة إذ غير جائز أن يستحق الثواب إلا على فعله فأما من قد صار منظرا بغير فعله فإنه يستحيل أن يستحق الثواب بالإنظار وحديث أبى اليسر يدل على ذلك أيضا من وجهين أحدهما ما أخبر عنه من استحقاق الثواب بإنظاره والثاني أنه جعل الإنظار بمنزلة الحط ومعلوم أن الحط لا يقع إلا بفعله فكذلك الإنظار وهذا كله يدل على أن قوله تعالى (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) ينصرف على أحد وجهين إما أن يكون وقوع الإنظار هو تخليته من الحبس وترك عقوبته إذ كان غير مستحق لها لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما جعل مطل الغنى ظلما فإذا ثبت إعساره فهو غير ظالم بترك القضاء فأمر الله بإنظاره من الحبس فلا يوجب ذلك ترك لزومه أو أن يكون المراد الندب والإرشاد إلى إنظاره بترك لزومه ومطالبته فلا يكون منظرا إلا بنظرة الطالب بدلالة الأخبار التي أوردناها* فإن قال* قائل اللزوم بمنزلة الحبس لا فرق بينهما لأنه في الحالين ممنوع من التصرف* قيل له ليس كذلك لأن اللزوم لا يمنعه التصرف فإنما معناه أن يكون معه من قبل الطالب من يراعى أمره في كسبه وما يستفيده فيترك له مقدار القوت ويأخذ الباقي قضاء من دينه وليس في ذلك إيجاب حبس ولا عقوبة وروى مروان بن معاوية قال حدثنا أبو مالك الأشجعى عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الله يقول لعبد

٢٠١

من عباده ما عملت قال ما عملت لك كثير عمل أرجوك به من صلاة ولا صوم غير أنك كنت أعطيتنى فضلا من مال فكنت أخالط الناس فأيسر على الموسر وأنظر المعسر فقال الله عز وجل نحن أحق بذلك منك تجاوزا عن عبدى فغفر له فقال ابن مسعود هكذا سمعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهذا الحديث أيضا يدل على مثل ما دلت عليه الأخبار المتقدمة من أن الإنظار لا يقع بنفس الإعسار لأنه جمع بين إنظار المعسر والتيسير على الموسر وذلك كله مندوب إليه غير واجب* واحتج من حال بينه وبين لزومه إذا أعسر وجعله منظرا بنفس الإعسار بما رواه الليث بن سعد عن بكير عن عياض بن عبد الله عن أبى سعيد الخدري أن رجلا أصيب على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال صلّى الله عليه وسلّم تصدقوا عليه فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خذوا ما وجدتم ليس لكم إلا ذلك فاحتج القائل بما وصفنا بقوله صلّى الله عليه وسلّم ليس لكم إلا ذلك وإن ذلك يقتضى نفى اللزوم* فيقال له معلوم أنه لم يرد سقوط ديونهم لأنه لا خلاف أنه متى وجد كان الغرماء أحق بما فضل عن قوته وإذا لم ينف بذلك بقاء حقوقهم في ذمته فكذلك لا يمنع بقاء لزومهم له ليستوفوا ديونهم مما يكسبه فاضلا عن قوته وهذا هو معنى اللزوم لأنا لا نختلف في ثبوت حقوقهم فيما يكسبه في المستقبل فقد اقتضى ذلك ثبوت حق اللزوم لهم ولم ينتف ذلك بقوله صلّى الله عليه وسلّم ليس لكم إلا ذلك كما لم ينتف بقاء حقوقهم فيما يستفيده وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في الأخبار التي ذكرنا من إنظار المعسر وما ذكر من ترغيب الطالب في إنظاره يدل على جواز التأجيل في الديون الحالة الواجبة عن الغصوب والبيوع وزعم الشافعى أنه إذا كان حالا في الأصل لا يصح التأجيل به وذلك خلاف الآثار التي قدمنا لأنها قد اقتضت جواز تأجيله وبين ذلك حديث ابن بريدة فيمن أجل قبل أن يحل أو بعد ما حل وقد تقدم سنده* وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا أبو الأحوص عن سعيد بن مسروق عن الشعبي عن سمعان عن سمرة بن جندب قال خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال هاهنا أحد من بنى فلان فلم يجبه أحد ثم قال هاهنا أحد من بنى فلان فلم يجبه أحد ثم قال هاهنا أحد من بنى فلان فقام رجل فقال أنا يا رسول الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما منعك أن تجيبني في المرتين الأوليين إنى لم أنوه بكم إلا خيرا إن صاحبكم مأسور بدينه فلقد رأيته أدى عنه حتى

٢٠٢

ما أحد يطالبه بشيء وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثني سليمان بن داود المهري النهدي قال حدثنا وهب قال حدثني سعيد بن أبى أيوب أنه سمع أبا عبد الله القرشي يقول سمعت أبا بردة بن أبى موسى الأشعرى يقول عن أبيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه عبد بعد الكبائر التي نهاه الله عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء وفي هذين الحديثين دليل على أن المطالبة واللزوم لا يسقطان عن المعسر كما لم تسقط عنه المطالبة بالموت وإن لم يدع له وفاء* فإن قيل لا يخلوا هذا الرجل المدين إذا مات مفلسا من أن يكون مفرطا في قضاء دينه أو غير مفرط فإن كان مفرطا فإنما هو مطالب عند الله بتفريطه كسائر الذنوب التي لم يتب منها وإن كان غير مفرط فالله تعالى لا يؤاخذه به لأن الله لا يؤاخذ أحدا إلا بذنبه* قيل له إنما ذلك فيمن فرط في في قضاء دينه ثم لم يتب من تفريطه حتى مات مفلسا فيكون مؤاخذا به وهذا حكم المعسر بدين الآدمي لأنا لا نعلم توبته من تفريطه فواجب أن يكون مطالبا به في الدنيا كما كان مؤاخذا به عند الله تعالى* فإن قيل فينبغي أن تفرقوا بين المفرط في قضاء دينه المصبر على تفريطه وبين من لم يفرط أصلا أو فرط ثم تاب من تفريطه فتوجبون له لزوم من فرط ولم يتب ولا تجعلون له ذلك فيمن لم يفرط أو فرط ثم تاب* قيل له لو وقفنا على حقيقة توبته من تفريطه أو علمنا أنه لم يكن مفرطا في قضائه لخالفنا بين حكمه وحكم من ظهر تفريطه في باب اللزوم كما اختلف حكمهما عند الله تعالى ولكنا لا نعلم أنه غير مفرط في الحقيقة لجواز أن يكون له مال مخبوء وقد أظهر الإعسار وكذلك المظهر لتوبته من تفريطه مع ظهور عسرته جائز أن يكون موسرا بأداء دينه ولا تكون لما أظهره حقيقة وإذا كان كذلك فحكم اللزوم والمطالبة قائم عليه كما تثبت عليه المطالبة لله تعالى بعد موته وحديث أبى قتادة أيضا يدل على ذلك وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن الزهري عن أبى سلمة عن جابر قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يصلى على رجل مات وعليه دين فأتى بميت فقال أعليه دين فقالوا نعم ديناران فقال صلوا على صاحبكم فقال أبو قتادة الأنصارى هما على يا رسول الله قال فصل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما فتح الله على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فمن ترك دينا فعلى قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته فلو لم تكن

٢٠٣

المطالبة قائمة عليه إذا مات مفلسا كان لا يترك الصلاة عليه إذا مات مفلسا لأنه كان يكون بمنزلة من لا دين عليه وفي هذا دليل على أن الإعسار لا يسقط عنه اللزوم والمطالبة وقد روى إسماعيل بن المهاجر عن عبد الملك بن عمير قال كان على بن أبى طالب إذا أتاه رجل بغريمه قال هات بينة على مال أحبسه فإن قال فإنى إذا ألزمه قال وما منعك من لزومه وأما قول الزهري والليث بن سعد في إجازتهما الحد واستيفاء الدين من أجرته فخلاف الآية والآثار المروية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أما الآية فقوله تعالى (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) ولم يقل فليؤاجر بما عليه وسائر الأخبار المروية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس في شيء منها إجارته وإنما فيها أو تركه وحديث أبى سعيد الخدري ليس لكم إلا ذلك حين لم يجدوا له غير ما أخذوا.

قوله عز وجل (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يعنى والله أعلم أن التصدق بالدين الذي على المعسر خير من إنظاره به وهذا يدل على أن الصدقة أفضل من القرض لأن القرض إنما هو دفع المال وتأخير استرجاعه وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال قرض مرتين كصدقة مرة وروى علقمة عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال السلف يجرى مجرى شطر الصدقة وروى عن عبد الله بن مسعود من قوله وعن ابن عباس مثله وعن إبراهيم وقتادة في قوله (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) قالا برأس المال* ولما سمى الله الإبراء من الدين صدقة اقتضى ظاهره جوازه عن الزكاة لأنه سمى الزكاة صدقة وهي على ذي عسرة فلو خلينا والظاهر كان واجبا جوازه عن سائر أمواله التي فيها الزكاة من عين ودين وغيره إلا أن أصحابنا قالوا إنما سقط زكاة المبرأ منه دون غيره لأن الدين إنما إنما هو حق ليس بعين والحقوق لا تجرى مجرى الزكاة مثل سكنى الدار وخدمة العبد ونحوها وتسميته إياه بالصدقة لا توجب جوازه عن الزكاة في سائر الأحوال ألا ترى أن الله تعالى قد سمى البراءة من القصاص صدقة في قوله تعالى (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ـ إلى قوله ـ (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) والمراد به العفو عن القصاص ولا نعلم خلافا بين أهل العلم أن العفو عن القصاص غير مجزئ في الكفارة وقال تعالى حاكيا عن أخوة يوسف (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) وهم لم يسألوه أن يتصدق عليهم بماله وإنما سألوه أن يبيعهم ولا يمنعهم الكيل لأنهم كانوا منعوا بديا ألا ترى أنهم

٢٠٤

قالوا فأوف لنا الكيل وهو ما اشتروه ببضاعتهم فإذا كان وقوع اسم الصدقة عليه لم يوجب جوازه عن الزكاة لم يكن إطلاق اسم الصدقة على الدين علة لجوازه عن الزكاة والله تعالى أعلم.

باب عقود المداينات

قال الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) قال أبو بكر ذهب قوم إلى أن الكتاب والإشهاد على الديون الآجلة قد كانا واجبين بقوله تعالى (فَاكْتُبُوهُ) ـ إلى قوله ـ (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) ثم نسخ الوجوب بقوله تعالى (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) روى ذلك عن أبى سعيد الخدري والشعبي والحسن وقال آخرون هي محكمة لم ينسخ منها شيء وروى عاصم الأحول وداود ابن أبى هند عن عكرمة قال قال ابن عباس لا والله إن آية الدين محكمة وما فيها نسخ* وقد روى شعبة عن فراس عن الشعبي عن أبى بردة عن أبى موسى قال ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ورجل أعطى ماله سفيها وقد قال الله تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) ورجل له على رجل دين ولم يشهد عليه به* قال أبو بكر وقد روى هذا الحديث مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وروى جويبر عن الضحاك إن ذهب حقه لم يؤجر وإن دعا عليه لم يجب لأنه ترك حق الله وأمره وقال سعيد بن جبير (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) يعنى وأشهدوا على حقوقكم إذا كان فيها أجل أو لم يكن فيها أجل فأشهد على حقك على كل حال وقال ابن جريج سئل عطاء أيشهد الرجل على أن بايع بنصف درهم قال نعم هو تأويل قوله تعالى (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) وروى مغيرة عن إبراهيم قال يشهد لو على دستجة بقل وقد روى عن الحسن والشعبي إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد لقوله تعالى (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) وروى ليث عن مجاهد أن ابن عمر كان إذا باع أشهد ولم يكتب وهذا يدل على أنه رآه ندبا لأنه لو كان واجبا لكانت الكتابة مع الإشهاد لأنهما مأمور بهما في الآية* قال أبو بكر لا يخلو قوله تعالى (فَاكْتُبُوهُ) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) وقوله تعالى (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) من أن يكون موجبا للكتابة والإشهاد على الديون الآجلة في حال نزولها وكان هذا حكما مستقرا ثابتا إلى أن ورد نسخ إيجابه بقوله تعالى (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ)

٢٠٥

وأن يكون نزول الجميع معا فإن كان كذلك فغير جائز أن يكون المراد بالكتابة والإشهاد الإيجاب لامتناع ورود الناسخ والمنسوخ معا في شيء واحد إذ غير جائز نسخ الحكم قبل استقراره ولما لم يثبت عندنا تاريخ نزول هذين الحكمين من قوله تعالى (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) وقوله تعالى (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) وجب الحكم بورودهما معا فلم يرد الأمر بالكتاب والإشهاد إلا مقرونا بقوله تعالى (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) فثبت بذلك أن الأمر بالكتابة والإشهاد ندب غير واجب وما روى عن ابن عباس من أن آية الدين محكمة لم ينسخ منها شيء لا دلالة فيه على أنه رأى الإشهاد واجبا لأنه جائز أن يريد أن الجميع ورد معا فكان في نسق التلاوة ما أوجب أن يكون الإشهاد ندبا وهو قوله تعالى (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) وما روى عن ابن عمر إنه كان يشهد وعن إبراهيم وعطاء أنه يشهد على القليل كله عندنا أنهم رأوه ندبا لا إيجابا وما روى عن أبى موسى ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم أحدهم من له على رجل دين ولم يشهد فلا دلالة على أنه رآه واجبا ألا ترى أنه ذكر معه من له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ولا خلاف أنه ليس بواجب على من له امرأة سيئة الخلق أن يطلقها وإنما هذا القول منه على أن فاعل ذلك تارك للاحتياط والتوصل إلى ما جعل الله تعالى له فيه المخرج والخلاص ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الأمر بالكتابة والاشهاد والرهن المذكور جميعه في هذه الآية ندب وإرشاد إلى ما لنا فيه الحظ والصلاح والاحتياط للدين والدنيا وإن شيئا منه غير واجب وقد نقلت الأمة خلف عن سلف عقود المداينات والأشرية والبياعات في أمصارهم من غير إشهاد مع علم فقهائهم بذلك من غير نكير منهم عليهم ولو كان الإشهاد واجبا لما تركوا النكير على تاركه مع علمهم به وفي ذلك دليل على أنهم رأوه ندبا وذلك منقول من عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى يومنا هذا ولو كانت الصحابة والتابعون تشهد على بياعاتها وأشريتها لورد النقل به متواترا مستفيضا ولا نكرت على فاعله ترك الإشهاد فلما لم ينقل عنهم الإشهاد بالنقل المستفيض ولا إظهار النكير على تاركه من العامة ثبت بذلك أن الكتاب والإشهاد في الديون والبياعات غير واجبين وقوله تعالى (فَاكْتُبُوهُ) مخاطبة لمن جرى ذكره في أول الآية وهو (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) فإنما أمر بذلك للمتداينين* فإن قيل ما وجه قوله تعالى (بِدَيْنٍ) والتداين لا يكون إلا بدين* قيل له

٢٠٦

لأن قوله تعالى (تَدايَنْتُمْ) لفظ مشترك يحتمل أن يكون من الدين الذي هو الجزاء كقوله تعالى (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يعنى يوم الجزاء فيكون بمعنى تجازيتم فأزال الاشتراك عن اللفظ بقوله تعالى (بِدَيْنٍ) وقصره على المعاملة بالدين وجائز أن يكون على جهة التأكيد وتمكين المعنى في النفس* وقوله تعالى (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ينتظم سائر عقود المداينات التي يصح فيها الآجال ولا دلالة فيه على جواز التأجيل في سائر الديون لأن الآية ليس فيها بيان جواز التأجيل في سائر الديون وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا كان دينا مؤجلا ثم يحتاج أن يعلم بدلالة أخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه ألا ترى أنها لم تقتض جواز دخول الأجل على الدين بالدين حتى يكونا جميعا مؤجلين وهو بمنزلة قوله من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم لا دلالة فيه على جواز السلم في سائر المكيلات والموزونات بالآجال المعلومة وإنما ينبغي أن يثبت جوازه في المكيل والموزون المعلوم الجنس والنوع والصفة بدلالة أخرى وإذا ثبت أنه مما يجوز السلم فيه احتجنا بعد ذلك إلى أن نسلم فيه إلى أجل معلوم وكما تدل الآية على جواز عقود المداينات ولم يصح الاستدلال بعمومهما في إجازة سائر عقود المداينات لأن الآية إنما فيها الأمر بالإشهاد إذا صحت المداينة كذلك لا تدل على جواز شرط الأجل في سائر الديون وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا صح الدين والتأجيل فيه وقد احتج بعضهم في جواز التأجيل في القرض بهذه الآية إذ لا تفرق بين القرض وسائر عقود المداينات وقد علمنا أن القرض مما شمله الاسم وليس ذلك عندنا كما ذكر لأنه لا دلالة فيها على جواز كل دين ولا على جواز التأجيل في جميعها وإنما فيها الأمر بالإشهاد على دين قد ثبت فيه التأجيل لاستحالة أن يكون المراد به الإشهاد على ما لم يثبت من الديون ولا من الآجال فوجب أن يكون مراده إذا تداينتم بدين قد ثبت فيه التأجيل فاكتبوه فالمستدل به على جواز تأجيل القرض مغفل في استدلاله ومما يدل على أن القرض لم يدخل فيه أن قوله تعالى (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) قد اقتضى عقد المداينة وليس القرض بعقد مداينة إذا لا يصير دينا بالعقد دون القبض فوجب أن يكون القرض خارجا منه قال أبو بكر وقوله تعالى (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) قد اشتمل على كل دين ثابت مؤجل سواء كان بدله عينا أو دينا فمن اشترى دارا أو عبدا بألف درهم إلى أجل كان

٢٠٧

مأمورا بالكتاب والإشهاد بمقتضى الآية وقد دلت الآية على أنها مقصورة في دين مؤجل في أحد البدلين لا فيهما جميعا لأنه تعالى قال (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ولم يقل بدينين فإنما أثبت الأجل في أحد البدلين فغير جائز وجود الأجل في البدلين جميعا وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الدين بالدين وأما إذا كانا دينين بالعقد فهذا جائز في السلم وفي الصرف إلا أن ذلك مقصورا على المجلس ولا يمتنع أن يكون السلم مرادا بالآية لأن التأجيل في أحد البدلين وهو السلم وقد أمر الله تعالى بالإشهاد على عقد مداينة موجب لدين مؤجل وقد روى قتادة عن أبى حسان عن ابن عباس قال أشهد أن السلم المؤجل في كتاب الله وأنزل فيه أطول آية في كتاب الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) فأخبر ابن عباس أن السلم المؤجل مما انطوى تحت عموم الآية وعلى هذا كل دين ثابت مؤجل فهو مراد بالآية سواء كان من إبدال المنافع أو الأعيان نحو الأجرة المؤجلة في عقود الإجارات والمهر إذا كان مؤجلا وكذلك الخلع والصلح من دم العمد والكتابة المؤجلة لأن هذه ديون مؤجلة ثابتة بعقد مداينة وقد بينا أن الآية إنما اقتضت هذا الحكم في أحد البدلين إذا كان مؤجلا لا فيهما لأنه قال (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ) فكل عقد انتظمته الآية فهو العقد الذي ثبت به دين مؤجل ولم تفرق بين أن يكون ذلك الدين بدلا من منافع أو أعيان فوجب أن يكون جميع المندوب إليه من الكتاب والإشهاد مرادا بها هذه العقود كلها وأن ما يكون ما ذكر من عدد الشهود وأوصاف الشهادة معتبرا في سائرها إذ ليس في اللفظ تخصيص شيء منه دون غيره فيوجب ذلك جواز شهادة الرجل والمرأتين في النكاح إذا كان المهر دينا مؤجلا وفي الخلع والإجارة والصلح من دم العمد وسائر ما كان هذا وصفه وغير جائز الاقتصار بهذه الأحكام على بعض الديون المؤجلة دون بعض مع شمول الآية لجميعها* وقوله تعالى (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) يعنى معلوما وقد روى ذلك عن جماعة من السلف وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم وقوله تعالى (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) فيه أمر لمن تولى كتابة الوثائق بين الناس أن يكتبها بالعدل بينهم والكتاب وإن لم يكن حتما فإن سبيله إذا كتب أن يكتب على حد العدل والاحتياط والتوثق من الأمور التي من أجلها يكتب الكتاب بأن يكون شرطا صحيحا جائزا على ما توجبه الشريعة

٢٠٨

وتقتضيه وعليه التحرز من العبارات المحتملة للمعاني وتجنب الألفاظ المشتركة وتحرى تحقيق المعاني بألفاظ مبينة خارجة عن حد الشركة والاحتمال والتحرز من خلاف الفقهاء ما أمكن حتى يحصل للمداينين معنى الوثيقة والاحتياط المأمور بهما في الآية ولذلك قال تعالى عقيب الأمر بالكتاب (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ) يعنى والله أعلم ما بينه من أحكام العقود الصحيحة والمداينات الثابتة الجائزة لكي يحصل لكل واحد من المتداينين ما قصد من تصحيح عقد المداينة ولأن الكاتب بذلك إذا كان جاهلا بالحكم لا يأمن أن يكتب ما يفسد عليهما ما قصداه ويبطل ما تعاقداه والكتاب وإن لم يكن حتما وكان ندبا وإرشادا إلى الأحوط فإنه متى كتب فواجب أن يكون على هذه الشريطة كما قال عز وجل (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) فانتظم ذلك صلاة الفرض والنفل غير واجب عليه ولكنه متى قصد فعلها وهو محدث فعليه أن لا يفعلها إلا بشرائطها من الطهارة وسائر أركانها وكما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم والسلم ليس بواجب ولكنه متى أراد أن يسلم فعليه استيفاء الشرائط فكذلك كتاب الدين والإشهاد ليس بواجبين ولكنه متى كتب فعلى الكاتب أن يكتبه على الوجه الذي أمره الله تعالى به وأن يستوفى فيه شروط صحته ليحصل المعنى المقصود بكتابته وقد اختلف السلف في لزوم الكاتب الكتابة فروى عن الشعبي أنه قال هو واجب على الكفاية كالجهاد ونحوه وقال السدى واجب على الكاتب في حال فراغه وقال عطاء ومجاهد هو واجب وقال الضحاك نسختها (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) قال أبو بكر قد بينا أن الكتاب غير واجب في الأصل على المتداينين فكيف يكون واجبا على الأجنبى الذي لا حكم له في هذا العقد ولا سبب له فيه وعسى أن يكون من رآه واجبا إلى أن الأصل واجب فكذلك على من يحسن الكتابة أن يقوم بها لمن يجب ذلك عليه والأصل وإن لم يكن واجبا عندنا فإن المتداينين متى قصدا إلى ما ندبهما إليه من الاستيثاق بالكتاب ولم يكونا عالمين بذلك فإن فرض على من علم ذلك أن يبينه لهما وليس عليه أن يكتبه ولكن يبينه حتى يكتباه أو يكتبه لهما أجير أو متبرع بإملاء من يعلمه كما لو أراد إنسان أن يصوم صوما تطوعا أو يصلى صلاة تعرف أحكامهما كان على العالم بذلك إذا سئل أن يبينه لسائله وإن لم تكن هذه الصلاة والصوم فرضا لأن على العلماء بيان النوفل

«١٤ ـ أحكام في»

٢٠٩

والمندوب إليه إذا سألوا عنها كما أن عليهم بيان الفروض وقد كان على النبي صلّى الله عليه وسلّم بيان النوافل والمندوب إليه كما أن عليه بيان الفروض قال الله تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وقال تعالى (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) وفيما أنزل الله على نبيه أحكام النوافل فكان عليه بيانها لأمته كبيان الفروض وقد نقلت الأمة عن نبيها صلّى الله عليه وسلّم بيان المندوب إليه كما نقلت عنه بيان الفروض وإذا كان كذلك فعلى من علم علما من فرض أو نفل ثم سئل عنه أن يبينه لسائله وقال الله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار فعلى هذا الوجه يلزم من عرف الوثائق والشروط بيانها لسائلها على حسب ما يلزمه بيان سائر علوم الدين والشريعة وهذا فرض لازم للناس على الكفاية إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين فأما أن يلزمه أن يتولى الكتابة بيده فهذا ما لا أعلم أحدا يقوله اللهم إلا أن لا يوجد من يكتبه فغير ممتنع أن يقول قائل عليه كتبه ولو كان كتب الكتاب فرضا على الكاتب لما كان الاستيجار يجوز عليه لأن الاستيجار على فعل الفروض باطل لا يصح فلما لم يختلف الفقهاء في جواز أخذ الأجرة على كتب كتاب الوثيقة دل ذلك على أن كتبه ليس بفرض لا على الكفاية ولا على التعيين قوله تعالى (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ) نهى للكاتب أن يكتب على خلاف العدل الذي أمر الله به وهذا النهى على الوجوب إذا كان المراد به كتبه على خلاف ما توجبه أحكام الشرع كما تقول لا تصل النفل على غير طهارة ولا غير مستور العورة ليس ذلك أمرا بالصلاة النافلة ولا نهيا عن فعلها مطلقا وإنما هو نهى عن فعلها على غير شرائطها المشروطة لها وكذلك قوله تعالى (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ) هو نهى عن كتبه على خلاف الجائز منه إذ ليست الكتابة في الأصل واجبة عليه ألا ترى أن قول القائل لا تاب أن تصلى النافلة بطهارة وستر العورة ليس فيه إيجاب منه للنافلة فكذلك ما وصفنا وقوله تعالى (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) فيه إثبات إقرار الذي عليه الحق وإجازة ما أقر به وإلزامه إياه لأنه لولا جواز إقراره إذا أقر ولم يكن إملاء الذي عليه الحق بأولى من إملاء غيره من الناس فقد تضمن ذلك جواز إقرار كل مقر بحق عليه وقوله عز وجل (وَلْيَتَّقِ اللهَ

٢١٠

رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) يدل على أن كل من أقر بشيء لغيره فالقول قوله فيه لأن البخس هو النقص فلما وعظه الله تعالى في ترك البخس دل ذلك على أنه إذا بخس كان قوله مقبولا وهو نظير قوله تعالى (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) لما وعظهن في الكتمان دل على أن المرجع فيه إلى قولهن وكقوله تعالى (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) قد دل ذلك أنهم متى كتموها كان القول قولهم فيها وكذلك وعظه الذي عليه الحق في ترك البخس دليل على أن المرجع إلى قوله فيما عليه وقد ورد الأثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بمثل ما دل عليه الكتاب وهو قوله البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه فجعل القول من ادعى عليه دون المدعى وأوجب عليه اليمين وهو معنى قوله تعالى (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) في إيجاب الرجوع إلى قوله* واحتج بعضهم بهذه الآية على أن القول قول المطلوب في الأجل لأن الله رد الإملاء إليه ووعظه في البخس بقوله تعالى (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) في صدقه في مبلغ المال فيقال إنما وعظه في البخس وهو النقصان ويستحيل وعظ المطلوب في بخس الأجل ونقصانه وهو لو أسقط الأجل كله بعد ثبوته لبطل كما لا يوعظ الطالب في نقصان ماله إذ لو أبرأه من جميعه لصحت براءته فلما كان ذلك كذلك علمنا أن المراد بالبخس في مقدار الديون لا في الأجل فليس إذا في الآية دليل على أن القول قول المطلوب في الأجل* فإن قيل إثبات الأجل في المال يوجب نقصانه فلما كان القول قول المطلوب في نقصان المال ومقداره وجب أن يكون القول قوله في الأجل لما فيه من بخس المال ونقصانه إذ قد تضمنت الآية تصديقه في بخسه والبخس تارة يكون بنقصان المقدار وتارة بنقصان الصفة من أجل رداءة في المقر به* قيل له لما قال تعالى (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) اقتضى ذلك النهى عن بخس الحق نفسه فكان تقديره ولا يبخس من الدين شيئا ومدعى الأجل غير باخس من الدين ولا ناقص له إذ كان بخس الدين هو نقصان مقداره وليس الأجل هو الدين ولا بعضه وإذا كان كذلك فلا دلالة في الآية على تصديقه على دعوى الأجل ويدلك على أن الأجل ليس من الدين إن الدين قد يحل ويبطل الأجل ويكون هو ذلك الدين وقد يسقط الأجل ويعجل الدين فيكون الذي عجل هو الدين الذي كان مؤجلا وإذا كان ذلك كذلك ثم قال تعالى (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) يعنى من الدين شيئا لم يتناول ذلك

٢١١

الأجل ولم يدل عليه ومن جهة أخرى أن الأجل إنما يوجب نقصا فيه من طريق الحكم لأن المقبوض بعد الأجل وقبله إذا كان على صفة واحدة فقد علمت أنه لا تأثير له في نقصان المقبوض وإنما يقال أنه نقص فيه من طريق الحكم على المجاز لا على الحقيقة وقد تناولت الآية البخس الذي هو حقيقة وهو نقصان المقدار ونقصانه في نفسه من ردائة أو غبن أو غيرها نحو إقراره بالدرهم السود والحنطة الردية فإن ذلك كله بخس من جهة الحقيقة لاختلاف صفات المقبوض عنه فلم يجز أن يتناول بعض الأجل الذي ليس بحقيقة فيه بل هو مجاز لأن اللفظ متى أريد به الحقيقة انتفى دخول المجاز فيه* وفي هذه الآية دلالة على أن القول قول الطالب في الأجل لأنه ابتدأ الخطاب بقوله تعالى (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) ـ إلى قوله ـ (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) اقتضى ذلك الاشهاد على المتداينين جميعا إذا كان المال مؤجلا فلو كان القول قول المطلوب في الأجل لما احتيج إلى الإشهاد به على الطالب وفي وجوب الإشهاد على الطالب بالتأجيل دلالة على أن القول قوله وأن المطلوب غير مصدق عليه إذ لو كان مصدقا فيه لما بقي للإشهاد على الطالب موضع ولا معنى* فإن قال قائل إنما حكم الإشهاد مقصور على* المطلوب دون الطالب* قيل له هذا خلاف مقتضى الآية لأنه قال (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ثم عطف عليه قوله تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) فخاطب المتداينين جميعا وأمرهما بالاستشهاد فلو جاز لقائل أن يقول إن المطلوب مخصوص به لجاز الآخر أن يقول هو مقصور على الطالب دون المطلوب فلما لم يصح ذلك وجب بظاهر الآية أن يكون الإشهاد عليهما جميعا وأن يكونا مندوبين إليه وإذا ثبت ذلك لم يكن للإشهاد على الطالب بالدين المؤجل حكم لأنه مقبول القول في نفيه دل ذلك على أن المرجع إلى قوله في الأجل وإنما جعل الله الإملاء إلى المطلوب إذا أحسن ذلك وإن كان لو أملى غيره وأقر المطلوب به جاز لأنه أثبت في الإقرار وأذكر للشهود متى أرادوا أن يتذكروا الشهادة وكان الإملاء سببا للاستذكار كما أمر باستشهاد امرأتين لتذكر إحداهما الأخرى والله تعالى أعلم.

باب الحجر على السفيه

قال الله تعالى (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ

٢١٢

فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) قد احتج كل فريق من موجبى الحجر على السفيه ومن مبطليه بهذه الآية فاحتج مثبتوا الحجر للسفيه بقوله تعالى (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) فأجاز لولى السفيه الإملاء عنه واحتج مبطلو الحجر بما في مضمون الآية من جواز مداينة السفيه بقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) إلى قوله تعالى (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً) فأجاز مداينة السفيه وحكم بصحة إقراره في مداينته وإنما خالف بينه وبين غيره في إملاء الكتاب لقصور فهمه عن استيفاء ماله وعليه مما يقتضيه شرط الوثيقة وقالوا إن قوله تعالى (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) إنما المراد به ولى الدين وقد روى ذلك عن جماعة من السلف قالوا وغير جائز أن يكون المراد ولى السفيه على معنى الحجر عليه وإقراره بالدين عليه لأن إقرار ولى المحجور عليه غير جائز عليه عند أحد فعلمنا أن المراد ولى الدين فأمر بإملاء الكتاب حتى يقر به المطلوب الذي عليه الدين* قال أبو بكر اختلف السلف في السفيه المراد بالآية فقال قائلون منهم هو الصبى وروى ذلك عن الحسن في قوله تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) قال الصبى والمرأة وقال مجاهد النساء وقال الشعبي لا تعطى الجارية ما لها وإن قرأت القرآن والتوراة وهذا محمول على التي لا تقوم بحفظ المال لأنه لا خلاف أنها إذا كانت ضابطة لأمرها حافظة لمالها دفع إليها إذا كانت بالغا قد دخل بها زوجها وقد روى عن عمر أنه قال لا تجوز لامرأة مملكة عطية حتى تحيل في بيت زوجها حولا أو تلد بطنا وروى عن الحسن مثله وقال أبو الشعثاء لا تجوز لامرأة عطية حتى تلد أو يؤنس رشدها وعن إبراهيم مثله وهذا كله محمول على أنه لم يؤنس رشدها لأنه لا خلاف أن هذا ليس بحد في استحقاق دفع المال إليها لأنها لو أحالت حولا في بيت زوجها وولدت بطونا وهي غير مؤنسة للرشد ولا ضابطة لأمرها لم يدفع إليها مالها فعلمنا أنهم إنما أرادوا ذلك فيمن لم يؤنس رشدها* وقد ذكر الله تعالى السفه في مواضع منها ما أراد به السفه في الدين وهو الجهل به في قوله تعالى (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) وقوله تعالى (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) فهذا هو السفه في الدين وهو الجهل والخفة وقال تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) فمن الناس من تأوله على أموالهم كما قال تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) يعنى لا يقتل بعضكم بعضا وقال تعالى (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) والمعنى

٢١٣

ليقتل بعضكم بعضا وهذا الذي ذكره هذا القائل عدول عن حقيقة اللفظ وظاهره بغير دلالة لأن قوله تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) يشتمل على فريقين من الناس كل واحد منهما مميز في اللفظ من الآخر وأحد الفريقين هم المخاطبون بقوله تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) والفريق الآخر السفهاء المذكورون معهم فلما قال تعالى (أَمْوالَكُمُ) وجب أن ينصرف ذلك إلى أموال المخاطبين دون السفهاء وغير جائز أن يكون المراد السفهاء لأن السفهاء لم يتوجه الخطاب إليهم بشيء وإنما توجه إلى العقلاء المخاطبين وليس ذلك كقوله تعالى (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) وقوله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) لأن القاتلين والمقتولين قد انتظمهم خطاب واحد لم يتميز أحد الفريقين من الآخر في حكم المخاطبة فلذلك جاز أن يكون المراد فليقتل بعضكم بعضا* وقد قيل إن أصل السفه الخفة ومن ذلك قول الشاعر :

شين كما اهتزت رماح تسفهت

أعاليها مر الرياح النواسم

يعنى استخفتها الرياح وقال آخر.

نخاف أن تسفه أحلامنا

فنحمل الدهر مع الحامل

أى تخف أحلامنا ويسمى الجاهل سفيها لأنه خفيف العقل ناقصه فمعنى الجهل شامل لجميع من أطلق اسم السفيه والسفيه في أمر الدين هو الجاهل فيه والسفيه في المال هو الجاهل لحفظه وتدبيره والنساء والصبيان أطلق عليهم اسم السفهاء لجهلهم ونقصان تمييزهم والسفيه في رأيه الجاهل فيه والبذي اللسان يسمى سفيها لأنه لا يكاد يتفق إلا في جهال الناس ومن كان خفيف العقل منهم وإذا كان اسم السفيه ينتظم هذه الوجوه رجعنا إلى مقتضى لفظ الآية في قوله تعالى (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) فاحتمل أن يريد به الجهل بإملاء الشرط وإن كان عاقلا مميزا غير مبذر ولا مفسد وأجاز لولى الحق أن يمليه حتى يقر به السفيه الذي عليه الحق ويكون ذلك أولى بمعنى الآية لأن الذي عليه الحق هو المذكور في أول الآية بالمداينة ولو كان محجورا عليه لما جازت مداينته ومن جهة أخرى أن ولى المحجور عليه لا يجوز إقراره عليه بالدين وإنما يجوز على قول من يرى الحجر أن يتصرف عليه القاضي ببيع أو شرى فأما وليه فلا نعلم أحدا يجيز تصرف أوليائه عليه ولا إقرارهم وفي ذلك دليل على أنه لم يرد ولى السفيه وإنما أراد ولى الدين

٢١٤

وقد روى ذلك عن الربيع ابن أنس وقاله الفراء أيضا* وأما قوله (أَوْ ضَعِيفاً) فقد قيل فيه الضعيف في عقله أو الصبى المأذون له لأن ابتداء الآية قد اقتضى أن يكون الذي عليه الحق جائز المداينة والتصرف فأجاز تصرف هؤلاء كلهم فلما بلغ إلى حال إملاء الكتاب والإشهاد ذكر من لا يكمل لذلك إما لجهل بالشروط أو لضعف عقل لا يحسن معه الإملاء وإن لم يوجب نقصان عقله حجرا عليه وإما لصغر أو لخوف وكبر سن لأن قوله تعالى (أَوْ ضَعِيفاً) محتمل للأمرين جميعا وينتظمهما وذكر معهما من لا يستطيع أن يمل هو إما لمرض أو كبر سن انفلت لسانه عن الإملاء أو لخرس ذلك كله محتمل وجائز أن تكون هذه الوجوه مرادة لله تعالى لاحتمال اللفظ لها وليس في شيء منها دلالة على أن السفيه يستحق الحجر وأيضا فلو كان بعض من يلحقه اسم السفيه يستحق الحجر لم يصح الاستدلال بهذه الآية في إثبات الحجر وذلك لأنه قد ثبت أن السفيه لفظ مشترك ينطوى تحته معان مختلفة منها ما ذكرنا من السفه في الدين وذلك لا يستحق به الحجر لأن الكفار والمنافقين سفهاء وهم غير مستحقين للحجر في أموالهم ومنها السفه الذي هو البذاء والتسرع إلى سوء اللفظ* وقد يكون السفيه بهذا الضرب من السفه مصلحا لماله غير مفسده ولا مبذره وقال تعالى (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) قال أبو عبيدة يريد أهلكها وأوبقها* وروى عن عبد الله بن عمر حين قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم إنى أحب أن يكون رأسى دهينا وقميصي غسيلا وشراك نعلى جديدا أفمن الكبر هو يا رسول الله قال لا إنما الكبر من سفه الحق وغمص الناس وهذا يشبه أن يريد من جهل الحق لأن الجهل يسمى سفها والله تعالى أعلم.

ذكر اختلاف فقهاء الأمصار في الحجر على السفيه

كان أبو حنيفة رضى الله عنه لا يرى الحجر على الحر البالغ العاقل لا لسفه ولا لتبذير ولا لدين وإفلاس وإن حجر عليه القاضي ثم أقر بدين أو تصرف في ماله ببيع أو هبة أو غيرهما جاز تصرفه وإن لم يؤنس منه رشد فكان فاسدا ويحال بينه وبين ماله ومع ذلك إن أقر به لإنسان أو باعه جاز ما صنع من ذلك وإنما يمنع من ماله ما لم يبلغ خمسة وعشرين سنة فإذا بلغها دفع إليه ماله وإن لم يؤنس منه رشد وقول عبيد الله بن الحسن في الحجر كقول أبى حنيفة وروى شعبة عن مغيرة عن إبراهيم قال لا يحجر على حر وروى ابن

٢١٥

عون عن محمد بن سيرين قال لا يحجر على حر إنما يحجر على العبد وعن الحسن البصري مثل ذلك وقال أبو يوسف إذا كان سفيها حجرت عليه وإذا فلسته وحبسته حجرت عليه ولم أجز بيعه ولا شراءه ولا إقراره بدين إلا ببينة تشهد به عليه أنه كان قبل الحجر وذكر الطحاوي عن ابن أبى عمران عن ابن سماعة عن محمد في الحجر بمثل قول أبى يوسف فيه ويزيد عليه أنه إذا صار في الحال التي يستحق معها الحجر صار محجورا عليه حجر القاضي عليه مع ذلك أو لم يحجر وكان أبو يوسف يقول لا يكون محجورا عليه بحدوث هذه الأحوال فيه حتى يحجر القاضي عليه فيكون بذلك محجورا عليه وقال محمد إذا بلغ ولم يؤنس منه رشد لم يدفع إليه ماله ولم يجز بيعه ولا هبته وكان بمنزلة من لم يبلغ فما باع أو اشترى نظر الحاكم فيه فإن رأى إجازته أجازه وهو ما لم يؤنس منه رشد بمنزلة الصبى الذي لم يبلغ إلا أنه يجوز لوصي الأب أن يشترى ويبيع على الذي لم يبلغ ولا يجوز أن يبيع ويشترى على الذي بلغ إلا بأمر الحاكم وذكر ابن عبد الحكم وابن القاسم عن مالك قال ومن أراد الحجر على موليه فليحجر عليه عند السلطان حتى يوقفه للناس ويسمع منه في مجلسه ويشهد على ذلك ويرد بعد ذلك ما بويع وما أدان به السفيه فلا يلحقه ذلك إذا صلحت حاله وهو مخالف للعبد وإن مات المولى عليه وقد أدان فلا يقضى عنه وهو في موته بمنزلته في حياته إلا أن يوصى بذلك في ثلاثة فيكون ذلك له وإذا بلغ الولد فله أن يخرج عن أبيه وإن كان أبوه شيخا ضعيفا إلا أن يكون الإبن مولى عليه أو سفيها أو ضعيفا في عقله فلا يكون له ذلك وقال الفريابي عن الثوري في قوله تعالى (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) قال العقل والحفظ لماله وكان يقوله إذا اجتمع فيه خصلتان إذا بلغ الحلم وكان حافظا لماله لا يخدع عنه وحكى المزني عن الشافعى في مختصره قال وإنما أمر الله بدفع أموال اليتامى بأمرين لم يدفع إلا بهما وهما البلوغ والرشد والرشد الصلاح في الدين بكون الشهادة جائزة مع إصلاح المال والمرأة إذا أونس منها الرشد دفع إليها مالها تزوجت أو لم تتزوج كالغلام نكح أو لم ينكح لأن الله تعالى سوى بينهما ولم يذكر تزويجا وإذا حجر عليه الإمام في سفهه وإفساده ماله أشهد على ذلك فمن بايعه بعد الحجر فهو المتلف لماله ومتى أطلق عنه الحجر ثم عاد إلى حال الحجر حجر عليه ومتى رجع إلى حال الإطلاق

٢١٦

أطلق عنه* قال أبو بكر قد بينا ما احتج به كل فريق من مبطلى الحجر ومن مثبتيه من دلالة آية الدين وقد بينا أن الأظهر من دلالتها بطلان الحجر وجواز التصرف واحتج مثبتوا الحجر بما روى هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن جعفر أتى الزبير فقال إنى ابتعت بيعا ثم أن عليا يريد أن يحجر على فقال الزبير فإنى شريكك في البيع فأتى على عثمان فسأله أن يحجر على عبد الله بن جعفر فقال الزبير أنا شريكه في هذا البيع فقال عثمان كيف أحجر على رجل شريكه الزبير قالوا فهذا يدل على أنهم جميعا وقد رأوا الحجر جائزا ومشاركة الزبير ليدفع الحجر عنه وكان ذلك بمحضر من الصحابة من غير خلاف ظهر من غيرهم عليهم* قال أبو بكر لا دلالة في ذلك على أن الزبير رأى الحجر وإنما يدل ذلك على تسويغه لعثمان الحجر وليس فيه ما يدل على موافقته إياه فيه وذلك لأن هذا حكم سائر المسائل المختلف فيها من مسائل الاجتهاد وأيضا فإن الحجر على وجهين أحدهما الحجر في منع التصرف والإقرار والآخر في المنع من المال وجائز أن يكون الحجر الذي رآه عثمان وعلى هو المنع من ماله لأنه جائز أن يكون سن عبد الله بن جعفر في ذلك الوقت خمسا وعشرين سنة وأبو حنيفة يرى أن لا يدفع إليه ماله قبل بلوغ هذه السن إذا لم يؤنس منه رشد وهذا عبد الله بن جعفر هو من الصحابة وقد أبى الحجر فكيف يدعى فيه اتفاق الصحابة ويحتجون أيضا بما روى الزهري عن عروة عن عائشة أنه بلغها أن ابن الزبير بلغه أنها باعت بعض رباعها فقال لتنتهين وإلا حجرت عليها فبلغها ذلك فقالت لله على أن لا أكلمه أبدا قالوا فهذا يدل على أن ابن الزبير وعائشة قد رأيا الحجر إلا أنها أنكرت عليه أن تكون هي من أهل الحجر فلو لا ذلك لبينت أن الحجر لا يجوز ولردت عليه قوله* قال أبو بكر قد ظهر النكير منها في الحجر وهذا يدل على أنها لم تر الحجر جائزا لو لا ذلك لما أنكرته إن كان ذلك شيئا يسوغ فيه الاجتهاد وما ظهر منها من النكير يدل على أنها كانت لا تسوغ الاجتهاد في جواز الحجر* فإن قيل إنما لم تسوغ الاجتهاد في الحجر عليها فأما في الحجر مطلقا فلا ولو كانت لا تسوغ الاجتهاد في جواز الحجر لقالت إن الحجر غير جائز فتكتفى بذلك في إنكارها الحجر عليها* قيل له قد أنكرت الحجر على الإطلاق بقولها لله على أن لا أكلمه أبدا ودعواك أنها أنكرت الحجر عليها خاصة دون إنكارها لأصل الحجر لا دلالة معها ومما يدل على بطلان الحجر ماحدثنا به

٢١٧

محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رجلا ذكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه يخدع في البيع فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا بايعت فقل لا خلابة فكان الرجل إذا بايع يقول لا خلابة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عبد الله الأرزى وإبراهيم بن خالد أبو ثور الكلبي قالا حدثنا عبد الوهاب قال محمد عبد الوهاب بن عطاء قال أخبرنى سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك أن رجلا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يبتاع وفي عقدته ضعف فأتى به أهله نبي الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا يا نبي الله أحجر على فلان فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف فدعاه النبي صلّى الله عليه وسلّم فنهاه عن البيع فقال يا نبي الله إنى لا أصبر عن البيع فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن كنت غير تارك البيع فقال ها وها ولا خلابة فذكر في الحديث الأول أنه كان يخدع في البيع فلم يمنع من التصرف ولم يحجر عليه ولو كان الحجر واجبا لما تركه النبي صلّى الله عليه وسلّم والبيع وهو مستحق المنع منه* فإن قال قائل فقد قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا بايعت فقل لا خلابة فإنما أجاز له البيع على شريطة* استيفاء البدل من غير مغابنة* قيل له فليرض القائلون بالحجر منا على ما رضيه النبي صلّى الله عليه وسلّم لهذا السفيه الذي كان يخدع في البيع وليس أحد من الفقهاء يشترط ذلك على السفهاء لا من القائلين بالحجر ولا من نفاته لأن من يرى الحجر يقول يحجر عليه الحاكم ويمنعه من التصرف ولا يرون إطلاق التصرف له مع التقدمة إليه بأن يقول عند البيع لا خلابة ومبطلو الحجر يجيزون تصرفه على سائر الأحوال فقد ثبت بدلالة هذا الخبر بطلان الحجر على السفيه بعد أن يكون عاقلا وأيضا فإن جازت الثقة به في ضبط هذا الشرط وذكره عند سائر المبايعات فقد تجوز الثقة به في ضبط عقود المبايعات ونفى المغابنات عنها واللفظ الذي في هذا الخبر من قوله إذا بايعت فقل لا خلابة يستقيم على مذهب محمد فإنه يقول إن السفيه إذا بلغ فرفع أمره إلى الحاكم أجاز من عقوده ما لم تكن فيه مغابنة وضرر فأما سائر من يرى الحجر فإنه لا يعتبر ذلك قال أبو بكر ويجوز أن يقال إن مذهب محمد أيضا مخالف للأثر لأن محمدا لا يجيز بيع المحجور عليه إلا أن يرفع إلى القاضي فيجيزه فجعله بيعا موقوفا كبيع أجنبى لو باع عليه بغير أمره والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يجعل بيع الرجل الذي قال له إذا بايعت فقل لا خلابة موقوفا بل جعله جائزا نافذا إذا قال لا خلابة فصار مذهب مثبتى الحجر مخالفا لهذا الأثر وأما حديث أنس فإنه يحتج به الفريقان جميعا فأما مثبتو

٢١٨

الحجر فإنهم يحتجون بأن أهله أتو النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا يا نبي الله احجر على فلان فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف فلم ينكره عليهم بل نهاه عن البيع ولما قال لا أصبر عن البيع قال إذا بايعت فقل لا خلابة فأطلق له البيع على شريطة نفى التغابن فيه وأما مبطلوه فإنهم يستدلون بأنه لما قال إنى لا أصبر عن البيع أطلق له النبي صلّى الله عليه وسلّم التصرف وقال له إذا بعت فقل لا خلابة فلو كان الحجر واجبا لما كان قوله لا أصبر عن البيع مزيلا للحجر عنه لأن أحدا من موجبى الحجر لا يرفع الحجر عنه لفقد صبره عن البيع وكما أن الصبى والمجنون المستحقين للحجر عند الجميع لو قالا لا نصبر عن البيع لم يكن هذا القول منهما مزيلا للحجر عنهما ولما قيل لهما إذا بايعتما فقولا لا خلابة وفي إطلاق النبي صلّى الله عليه وسلّم له التصرف على الشريطة التي ذكرها دلالة على أن الحجر غير واجب وأن نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم له بديا عن البيع وقوله فقل لا خلابة على وجه النظر له والاحتياط لماله كما تقول لمن يريد التجارة في البحر أو في طريق مخوف لا تغرر بمالك واحفظه وما جرى مجرى ذلك وليس هذا بحجر وإنما هو مشورة وحسن نظر ومما يدل على بطلان الحجر أنهم لا يختلفون أن السفيه يجوز إقراره بما يوجب الحد والقصاص وذلك مما تسقطه الشبهة فوجب أن يكون إقراره بحقوق الآدميين التي لا تسقطها الشبهة أولى* فإن قال قائل المريض جائز الإقرار بما يوجب الحد والقصاص ولا يجوز إقراره ولا هبته إذا كان عليه دين يحيط بماله فليس جواز الإقرار بالحد والقصاص أصلا للإقرار بالمال والتصرف فيه* قيل له إن إقرار المريض عندنا بجميع ذلك جائز وإنما نبطله إذا اتصل بمرضه الموت لأن تصرفه مراعى معتبر بالموت فإذا مات صار تصرفه واقعا في حق الغير الذي هو أولى منه به وهم الغرماء والورثة فأما تصرفه في الحال فهو جائز ما لم يطرأ الموت ألا ترى أنا لا نفسخ هبته ولا نوجب السعاية على من أعتقه من عبيده حتى يحدث الموت فإقراره بالحد والقصاص والمال غير متفرقين في حال الحياة.

ومما يحتج به مثبتو الحجر قوله (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) وقوله تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) الآية فإذا كان التبذير مذموما منهيا عنه وجب على الإمام المنع منه وذلك بأن يحجر عليه ويمنعه التصرف في ماله وكذلك نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن إضاعة المال يقتضى منعه عن إضاعته بالحجر عليه وهذا لا دلالة فيه على الحجر لأنا نقول إن التبذير محظور

٢١٩

وينهى فاعله عنه وليس في النهى عن التبذير ما يوجب الحجر لأنه إنما ينبغي أن يمنعه التبذير فأما أن يمنعه من التصرف في ماله ويبطل بياعاته وإقراره وسائر وجوه تصرفه فإن هذا الموضع هو الذي فيه الخلاف بيننا وبين خصومنا وليس في الآية ما يوجب المنع من شيء منه وذلك لأن الإقرار نفسه ليس من التبذير في شيء لأنه لو كان مبذرا لوجب منع سائر المقرين من إقرارهم وكذلك البيع بالمحاباة لا تبذير فيه لأنه لو كان مبذرا لوجب أن ينهى عنه سائر الناس وكذلك الهبة والصدقة وإذا كان كذلك فالذي تقتضيه الآية النهى عن التبذير وذم فاعله فكيف يجوز الاستدلال بها على الحجر في العقود التي لا تبذير فيها وقد يصح الاستدلال لمحمد لأنه يجيز من عقوده ما لا محاباة فيه ولا إتلاف لماله إلا أن الذي في الآية إنما هو ذم المبذرين والنهى عن التبذير ومن ينفى الحجر يقول إن التبذير مذموم منهى عن فعله فأما الحجر ومنع التصرف فليس في الآية إيجابه ألا ترى أن الإنسان منهى عن التغرير بماله في البحر وفي الطريق المخوفة ولا يمنعه الحاكم منه على وجه الحجر عليه ولو أن إنسانا ترك نخله وشجره وزرعه لا يسقيها وترك عقاره ودوره لا يعمرها لم يكن للإمام أن يجبره على الإنفاق عليها لئلا يتلف ماله كذلك لا يحجر عليه في عقوده التي يخاف فيها توى ماله وكذلك نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن إضاعة المال لا دلالة فيه على الحجر كما بيناه في التبذير* ومما يدل على بطلان الحجر وجواز تصرف المحجور عليه أن العاقل البالغ إذا ظهر منه سفه وتبذير فإن الفقهاء الذي تقدم ذكر أقاويلهم من موجبى الحجر ما خلا محمد بن الحسن يقول إذا حجر عليه القاضي بطل من عقوده وإقراره ما كان بعد الحجر وإذا كان جائز التصرف قبل حجر القاضي فمعنى الحجر حينئذ أنى قد أبطلت ما يعقده أو ما يقربه في المستقبل وهذا لا يصح لأن فيه فسخ عقد لم يوجد بعد بمنزلة من قال لرجل كل بيع بعتنيه وعقد عاقدتنيه فقد فسخته أو كل خيار بشريطة لي في البيع فقد أبطلته أو نقول امراة كل أمر تجعله إلى في المستقبل فقد أبطلته فهذا باطل لا يجوز فسخ العقود الموجودة في المستقبل* ومما يلزم أبا يوسف ومحمد في هذا أنهما يجيزان تزويجه بعد الحجر بمهر المثل وفي ذلك إبطال الحجر لأنه إن كان الحجر واجبا لئلا يتلف ماله فإنه قد يصل إلى إتلافه بالتزويج وذلك بأن يتزوج امرأة بمقدار مهر مثلها ثم يطلقها قبل الدخول فيلزمه نصف المهر ثم لا يزال يفعل ذلك حتى يتلف ماله فليس

٢٢٠