أحكام القرآن - ج ٢

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦

البال وسوء الحال وإن كانت بزتهم وثيابهم وظاهر هيئتهم حسنة جميلة وجائز أن يكون الله تعالى قد جعل لنبيه علما يستدل به إذا رآهم عليه على فقرهم وإن كنا لا نعرف ذلك مهم إلا بظهور المسألة منهم أو بما يظهر من بذاذة هيئتهم* وهذا يدل على أن لما يظهر ذلك عليه وقد اعتبر أصحابنا ذلك في الميت في دار الإسلام أو في دار الحرب إذا لم يعرف أمره قبل ذلك في إسلام أو كفر أنه ينظر إلى سيماه فإن كانت عليه سيما أهل الكفر من شد زنار أو عدم ختان وترك الشعر على حسب ما يفعله رهبان النصارى حكم له بحكم الكفار ولم يدفن في مقابر المسلمين ولم يصل عليه وإن كان عليه سيما أهل الإسلام حكم له بحكم المسلمين في الصلاة والدفن وإن لم يظهر عليه شيء من ذلك فإن كان في مصر من الأمصار التي للمسلمين فهو مسلم وإن كان في دار الحرب فمحكوم له بحكم الكفر فجعلوا اعتبار سيماه بنفسه أولى منه بموضعه الموجود فيه فإذا عدمنا السيما حكمنا له بحكم أهل الموضع وكذلك اعتبروا في اللقيط ونظيره أيضا قوله تعالى (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فاعتبر العلامة ومن نحوه قوله تعالى (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) وأخوة يوسف عليه السّلام لطخوا قميصه بدم وجعلوه علامة لصدقهم قال الله تعالى (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) وقوله تعالى (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) يعنى والله أعلم إلحاحا وإدامة للمسألة لأن إلحاف المسألة هو الاستقصاء فيها وإدامتها وهذا يدل على كراهة الإلحاف في المسألة* فإن قيل فإنما قال الله عز وجل (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) فنفى عنهم الإلحاف* في المسألة ولم ينف عنهم المسألة رأسا* قيل له في فحوى الآية ومضمون المخاطبة ما يدل على نفى المسألة رأسا وهو قوله تعالى (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) فلو كانوا أظهروا المسألة وإن لم تكن إلحافا لما حسبهم أغنياء وكذلك قوله تعالى (مِنَ التَّعَفُّفِ) لأن التعفف هو القناعة وترك المسألة فدل ذلك على وصفهم بترك المسألة أصلا ويدل على أن التعفف هو ترك المسألة قول النبي صلّى الله عليه وسلّم من استغنى أغناه الله ومن استعف أعفه الله وإذا ثبت بما ذكرنا من دلالة الآي أن ثياب الكسوة لا تمنع الزكاة وإن كانت سرية وجب أن يكون كذلك حكم المسكن والأثاث والفرس والخادم لعموم الحاجة إليه فإذا كانت الحاجة إلى هذه الأشياء حاجة ماسة فهو غير غنى بها لأن الغنى هو ما فضل

١٨١

عن مقدار الحاجة* واختلف الفقهاء في مقدار ما يصير به غنيا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر إذا فضل عن مسكنه وكسوته وأثاثه وخادمه وفرسه ما يساوى مائتي درهم لم تحل له الزكاة وإن كان أقل من مائتي درهم حلت له الزكاة وقال مالك في رواية ابن القاسم يعطى من الزكاة من له أربعون درهما وروى غيره عن مالك أنه لا يعطى من له أربعون درهما وقال الثوري والحسن بن صالح لا يأخذ الزكاة من له خمسون درهما وقال عبد الله بن الحسن من لا يكون عنده ما يقوته أو يكفيه سنة فإنه يعطى من الصدقة وقال الشافعى يعطى الرجل على قدر حاجته حتى يخرجه ذلك من حد الفقر إلى الغنى كان ذلك تجب فيه الزكاة أو لا تجب ولا أجد في ذلك حدا ذكره المزني والربيع وحكى عنه أنها لا تحل للقوى المكتسب وإن كان فقيرا* والدليل على صحة ما ذكرنا من اعتبار مائتي درهم فاضلا عما يحتاج إليه ما روى عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن رجل من مزينة أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب وهو يقول من استغنى أغناه الله ومن استعفف أعفه الله ومن سأل الناس وله عدل خمس أواق سأل إلحافا فدل ذكره لهذا المقدار أنه هو الذي يخرج به من حد الفقر إلى الغنى ويوجب تحريم المسألة ويدل عليه أيضا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها على فقرائكم ثم قال في مائتي درهم خمسة دراهم وليس فيما دونها شيء فجعل حد الغنى مائتي درهم فوجب اعتبارها دون غيرها ودل أيضا على أن الذي لا يملك هذا القدر يعطى من الزكاة لأنه صلّى الله عليه وسلّم جعل الناس صنفين أغنياء وفقراء فجعل الغنى من ملك هذا المقدار وأمر بأخذ الزكاة منه وجعل الفقير الذي يرد عليه هو الذي لا يملك هذا القدر وقد روى أبو كبشة السلولي عن سهل بن الحنظلية قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول من سأل الناس عن ظهر غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم قلت يا رسول الله ما ظهر غناه قال أن يعلم أن عند أهله ما يغديهم ويعشيهم وقد روى زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بنى أسد قال أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وسمعته يقول لرجل من سأل منكم وعنده أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا والأوقية يومئذ أربعون درهما وروى محمد بن عبد الرحمن بن زيد عن أبيه عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يسأل عبد مسألة وله ما يغنيه إلا جاءت شيئا أو كدوحا أو خدوشا في وجهه يوم القيامة قيل يا رسول الله وما غناه قال خمسون درهما أو حسابها من الذهب وهذه واردة في

١٨٢

كراهة المسألة ولا دلالة فيها على تحريم الصدقة عليه وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يستحب ترك المسألة لمن يملك ما يغديه ويعشيه إذ كان هناك من فقراء المسلمين وأهل الصفة من لا يقدر على غداء ولا عشاء فاختار النبي صلّى الله عليه وسلّم لمن يملك هذا القدر الاقتصار على ما يملكه والتعفف بترك المسألة ليصل ذلك إلى من هو أحوج منه إليه لا على وجه التحريم ولما اتفق الجميع على أن سبيل استباحة الصدقة ليست سبيل الضرورة إلى الميتة إذ كانت الميتة لا تحل إلا عند الخوف على النفس والصدقة تحل بإجماع المسلمين لمن احتاج ولم يخف الموت إذا لم يكن عنده شيء فوجب أن يكون المبيح لها الفقر وأيضا لما كانت هذه الأخبار مختلفا في استعمال حكمها وهي في أنفسها مختلفة واتفق الجميع على استعمال الخبر الذي روينا في مائتي درهم وتحريم الصدقة معها وجب أن يكون ثابت الحكم وما عداه إما أن يكون على وجه الكراهة للمسألة أو منسوخة بخبرنا إن كان المراد بها تحريم الصدقة.

باب الربا

قال الله تعالى (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ ـ إلى قوله ـ وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) قال أبو بكر أصل الربا في اللغة هو الزيادة ومنه الرابية لزيادتها على ما حواليها من الأرض ومنه الربوة من الأرض وهي المرتفعة ومنه قولهم أربى فلان على فلان في القول أو الفعل إذا زاد عليه وهو في الشرع يقع على معان لم يكن الإسم موضوعا لها في اللغة ويدل عليه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سمى النساء ربا في حديث أسامة بن زيد فقال إنما الربا في النسيئة وقال عمر بن الخطاب إن من الربا أبوابا لا تخفى منها السلم في السن يعنى الحيوان وقال عمر أيضا إن آية الربا من آخر ما نزل من القرآن وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قبض قبل أن يبينه لنا فدعوا الربا والريبة فثبت بذلك أن الربا قد صار اسما شرعيا لأنه لو كان باقيا على حكمه في أصل اللغة لما خفى على عمر لأنه كان عالما بأسماء اللغة لأنه من أهلها ويدل عليه أن العرب لم تكن تعرف بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة نساء ربا وهو ربا في الشرع وإذا كان ذلك على ما وصفنا صار بمنزلة سائر الأسماء المجملة المفتقرة إلى البيان وهي الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع لمعان لم يكن الاسم موضوعا لها في اللغة نحو الصلاة والصوم والزكاة فهو مفتقر إلى البيان ولا يصح الاستدلال بعمومه في تحريم شيء من العقود إلا فيما قامت دلالته أنه مسمى في الشرع

١٨٣

بذلك وقد بين النبي صلّى الله عليه وسلّم كثيرا من مراد الله بالآية نصا وتوفيقا ومنه ما بينه دليلا فلم يخل مراد الله من أن يكون معلوما عند أهل العلم بالتوقيف والاستدلال والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض والدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به ولم يكونوا يعرفون البيع بالنقد وإذا كان متفاضلا من جنس واحد هذا كان المتعارف المشهور بينهم ولذلك قال الله تعالى (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) فأخبر أن تلك الزيادة المشروطة إنما كانت ربا في المال العين لأنه لا عوض لها من جهة المقرض وقال تعالى (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) إخبارا عن الحال التي خرج عليها الكلام من شرط الزيادة أضعافا مضاعفة فأبطل الله تعالى الربا الذي كانوا يتعاملون به وأبطل ضروبا أخر من البياعات وسماها ربا فانتظم قوله تعالى (وَحَرَّمَ الرِّبا) تحريم جميعها لشمول الاسم عليها من طريق الشرع ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذي ذكرنا من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل مع شرط الزيادة* واسم الربا في الشرع يعتوره معان أحدها الربا الذي كان عليه أهل الجاهلية والثاني التفاضل في الجنس الواحد من المكيل والموزون على قول أصحابنا ومالك ابن أنس يعتبر مع الجنس أن يكون مقتاتا مدخرا والشافعى يعتبر الأكل مع الجنس فصار الجنس معتبرا عند الجميع فيما يتعلق به من تحريم التفاضل عند انضمام غيره إليه على ما قدمنا والثالث النساء وهو على ضروب منها في الجنس الواحد من كل شيء لا يجوز بيع بعضه ببعض نساء سواء كان من المكيل أو من الموزون أو من غيره فلا يجوز عندنا بيع ثوب مروى بثوب مروى نساء لوجود الجنس ومنها وجود المعنى المضموم إليه الجنس في شرط تحريم التفاضل وهو الكيل والوزن في غير الأثمان التي هي الدراهم والدنانير فلو باع حنطة بجص نساء لم يجز لوجود الكيل ولو باع حديدا بصفر نساء لم يجز لوجود الوزن والله تعالى الموفق.

ومن أبواب الربا الشرعي السلم في الحيوان

قال عمر رضى الله عنه إن من الربا أبوابا لا تخفى منها السلم في السن ولم تكن العرب تعرف ذلك ربا فعلم أنه قال ذلك توقيفا فجملة ما اشتمل عليه اسم الربا في الشرع النساء والتفاضل على شرائط قد تقرر معرفتها عند الفقهاء* والدليل على ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم

١٨٤

الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا وذكر التمر والملح والذهب والفضة * فسمى الفضل في الجنس الواحد من المكيل والموزون ربا وقال صلّى الله عليه وسلّم في حديث أسامة بن زيد الذي رواه عنه عبد الرحمن بن عباس إنما الربا في النسيئة وفي بعض الألفاظ لا ربا إلا في النسيئة فثبت أن اسم الربا في الشرع يقع على التفاضل تارة وعلى النساء أخرى وقد كان ابن عباس يقول لا ربا إلا في النسيئة ويجوز بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلا ويذهب فيه إلى حديث أسامة بن زيد ثم لما تواتر عنده الخبر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بتحريم التفاضل في الأصناف الستة رجع عن قوله قال جابر بن زيد رجع ابن عباس عن قوله في الصرف وعن قوله في المتعة وإنما معنى حديث أسامة النساء في الجنسين كما روى في حديث عبادة بن الصامت وغيره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد وذكر الأصناف الستة ثم قال بيعوا الحنطة بالشعير كيف شئتم يدا بيد وفي بعض الأخبار وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد فمنع النساء في الجنسين من المكيل والموزون وأباح التفاضل فحديث أسامة بن زيد محمول على هذا ومن الربا المراد بالآية شرى ما يباع بأقل من ثمنه قبل نقد الثمن والدليل على أن ذلك ربا حديث يونس بن إسحاق عن أبيه عن أبى العالية قال كنت عند عائشة فقالت لها امرأة إنى بعت زيد بن أرقم جارية إلى عطائه بثمان مائة درهم وأنه أراد أن يبيعها فاشتريتها منه بستمائة فقالت بئسما شريت وبئسما اشتريت أبلغى زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن لم يتب فقالت يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي فقالت (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) فدلت تلاوتها الآية الربا عند قولها أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي إن ذلك كان عندها من الربا وهذه التسمية طريقها التوقيف* وقد روى ابن المبارك عن حكم بن زريق عن سعيد بن المسيب قال سألته عن رجل إلى باع طعاما من رجل أجل فأراد الذي اشترى الطعام أن يبيعه بنقد من الذي باعه منه فقال هو ربا ومعلوم أنه أراد شراءه بأقل من الثمن الأول إذ لا خلاف أن شراءه بمثله أو أكثر منه جائز فسمى سعيد بن المسيب ذلك ربا* وقد روى النهى عن ذلك عن ابن عباس والقاسم بن محمد ومجاهد وإبراهيم والشعبي وقال الحسن وابن سيرين في آخرين إن باعه بنقد جاز أن يشتريه فإن كان باعه بنسيئة لم

١٨٥

يشتره بأقل منه إلا بعد أن يحل الأجل وروى عن ابن عمر أنه إذا باعه ثم اشتراه بأقل من ثمنه جاز ولم يذكر فيه قبض الثمن وجائز أن يكون مراده إذا قبض الثمن* فدل قول عائشة وسعيد بن المسيب أن ذلك ربا فعلمنا أنهما لم يسمياه ربا إلا توقيفا إذ لا يعرف ذلك اسما له من طريق اللغة فلا يسمى به إلا من طريق الشرع وأسماء الشرع توقيف من النبي صلّى الله عليه وسلّم والله أعلم بالصواب.

ومن أبواب الربا الدين بالدين

وقد روى موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه نهى عن الكالئ بالكالئ وفي بعض الألفاظ عن الدين بالدين وهما سواء وقال في حديث أسامة بن زيد إنما الربا في النسيئة إلا أنه في العقد عن الدين بالدين وأنه معفو عنه بمقدار المجلس لأنه جائز له أن يسلم دراهم في كر حنطة وهما دين بدين إلا أنهما إذا افترقا قبل قبض الدراهم بطل العقد وكذلك بيع الدراهم بالدنانير جائز وهما دينان وإن افترقا قبل التقابض بطل.

ومن أبواب الربا الذي تضمنت الآية تحريمه

الرجل يكون عليه ألف درهم دين مؤجل فيصالحه منه على خمس مائة حالة فلا يجوز وقد روى سفيان عن حميد عن ميسرة قال سألت ابن عمر يكون لي على الرجل الدين إلى أجل فأقول عجل لي وأضع عنك فقال هو ربا وروى عن زيد بن ثابت أيضا النهى عن ذلك وهو قول سعيد بن جبير والشعبي والحكم وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء وقال ابن عباس وإبراهيم النخعي لا بأس بذلك والذي يدل على بطلان ذلك شيئان أحدهما تسمية ابن عمر إياه ربا وقد بينا أن أسماء الشرع توقيف والثاني أنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة فكانت الزيادة بدلا من الأجل فأبطله الله تعالى وحرمه وقال (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) وقال تعالى (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) حظر أن يؤخذ للأجل عوض فإذا كانت عليه ألف درهم مؤجلة فوضع عنه على أن يعجله فإنما جعل الحط بحذاء الأجل فكان هذا هو معنى الربا الذي نص الله تعالى على تحريمه ولا خلاف أنه لو كان عليه ألف درهم حالة فقال له أجلنى وأزيدك فيها مائة درهم لا يجوز لأن المائة

١٨٦

عوض من الأجل كذلك الحط في معنى الزيادة إذ جعله عوضا من الأجل وهذا هو الأصل في امتناع جواز أخذ الأبدال عن الآجال ولذلك قال أبو حنيفة فيمن دفع إلى خياط ثوبا فقال إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم أن الشرط الثاني باطل فإن خاطه غدا فله أجر مثله لأنه جعل الحط بحذاء الأجل والعمل في الوقتين على صفة واحدة فلم يجزه لأنه بمنزلة بيع الأجل على النحو الذي بيناه* ومن أجاز من السلف إذا قال عجل لي وأضع عنك فجائز أن يكون أجازوه إذا لم يجعله شرطا فيه وذلك بأن يضع عنه بغير شرط ويعجب الآخر الباقي بغير شرط* وقد ذكرنا الدلالة على أن التفاضل قد يكون ربا على حسب ما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الأصناف الستة وإن النساء قد يكون ربا في البيع بقوله صلّى الله عليه وسلّم وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد وقوله إنما الربا في النسيئة وإن السلم في الحيوان قد يكون ربا بقوله إنما الربا في النسيئة وقوله إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد وتسمية عمر إياه ربا وشرى ما بيع بأقل من ثمنه قبل نقد الثمن لما بينا وشرط التعجيل مع الحط* وقد اتفق الفقهاء على تحريم التفاضل في الأصناف الستة التي ورد بها الأثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من جهات كثيرة وهو عندنا في حيز التواتر لكثرة رواته واتفاق الفقهاء على استعماله واتفقوا أيضا في أن مضمون هذا النص معنى به تعلق الحكم يجب اعتباره في غيره واختلفوا فيه بعد اتفاقهم على اعتبار الجنس على الوجوه التي ذكرنا فيما سلف من هذا الباب وإن حكم تحريم التفاضل غير مقصور على الأصناف الستة* وقد قال قوم هم شذوذ عندنا لا يعدون خلافا أن حكم تحريم* التفاضل مقصور على الأصناف التي ورد فيها التوقيف دون تحريم غيرها* ولما ذهب إليه أصحابنا في اعتبار الكيل والوزن دلائل من الأثر والنظر وقد ذكرناها في مواضع ومما يدل عليه من فحوى الخبر قوله الذهب بالذهب مثلا بمثل وزنا بوزن والحنطة بالحنطة مثلا بمثل كيلا بكيل فأوجب استيفاء المماثلة بالوزن في الموزون وبالكيل في المكيل فدل ذلك على أن الاعتبار في التحريم الكيل والوزن مضموما إلى الجنس* ومما يحتج به المخالف من الآية على الاعتبار الأكل قوله عز وجل (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) وقوله تعالى (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) فأطلق اسم الربا على المأكول قالوا فهذا عموم في إثبات الربا في المأكول* وهذا عندنا لا يدل

١٨٧

على ما قالوا من وجوه أحدها ما قدمنا من إجمال لفظ الربا في الشرع وافتقاره إلى البيان فلا يصح الاحتجاج بعمومه وإنما يحتاج إلى أن يثبت بدلالة أخرى أنه ربا حتى يحرمه بالآية ولا يأكله والثاني أن أكثر ما فيه إثبات الربا في مأكول وليس فيه أن جميع المأكولات فيها ربا ونحن قد أثبتنا الربا في كثير من المأكولات وإذا فعلنا ذلك فقد قضينا عهدة الآية ولما ثبت بما قدمنا من التوقيف والاتفاق على تحريم بيع ألف بألف ومائة كما بطل بيع ألف بألف إلى أجل فجرى الأجل المشروط مجرى النقصان في المال وكان بمنزلة بيع ألف بألف ومائة وجب أن لا يصح الأجل في القرض كما لا يجوز قرض ألف بألف ومائة إذ كان نقصان الأجل كنقصان الوزن وكان الربا تارة من جهة نقصان الوزن وتارة من جهة نقصان الأجل وجب أن يكون القرض كذلك* فإن قال قائل ليس القرض في ذلك كالبيع لأنه يجوز له مفارقته في القرض قبل قبض البدل ولا يجوز مثله في بيع ألف بألف* قيل له إنما يكون الأجل نقصانا إذا كان مشروطا فأما إذا لم يكن مشروطا فإن ترك القبض لا يوجب نقصا في أحد المالين وإنما بطل البيع لمعنى آخر غير نقصان أحدهما عن الآخر ألا ترى أنه لا يختلف الصنفان والصنف الواحد في وجوب التقابض في المجلس أعنى الذهب بالفضة مع جواز التفاضل فيهما فعلمنا أن الموجب لقبضهما ليس من جهة أن ترك القبض موجب للنقصان في غير المقبوض ألا ترى أن رجلا لو باع من رجل عبدا بألف درهم ولم يقبض ثمنه سنين جاز للمشتري بيعه مرابحة على ألف حالة ولو كان باعه بألف إلى شهر ثم حل الأجل لم يكن للمشتري بيعه مرابحة على ألف حالة حتى يبين أنه اشتراه بثمن مؤجل فدل ذلك على أن الأجل المشروط في العقد يوجب نقصا في الثمن ويكون بمنزلة نقصان الوزن في الحكم فإذا كان كذلك فالتشبيه بين القرض والبيع من الوجه الذي ذكرنا صحيح لا يعترض عليه هذا السؤال ويدل على بطلان التأجيل فيه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما الربا في النسيئة ولم يفرق بين البيع والقرض فهو على الجميع ويدل عليه أن القرض لما كان تبرعا لا يصح إلا مقبوضا أشبه الهبة فلا يصح فيه التأجيل كما لا يصح في الهبة وقد أبطل النبي صلّى الله عليه وسلّم التأجيل فيها بقوله من أعمر عمرى فهي له ولورثته من بعده فأبطل التأجيل المشروط في الملك وأيضا فإن قرض الدراهم عاريتها وعاريتها قرضها لأنها تمليك المنافع إذ لا يصل إليها إلا باستهلاك عينها ولذلك قال أصحابنا إذا

١٨٨

أعاره دراهم فإن ذلك قرض ولذلك لم يجيزوا استيجار الدراهم لأنها قرض فكأنه استقرض دراهم على أن يرد عليه أكثر منها فلما لم يصح الأجل في العارية لم يصح في القرض ومما يدل على أن قرض الدراهم عارية حديث إبراهيم الهجري عن أبى الأحوص عن عبد الله قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تدرون أى الصدقة خير قالوا الله ورسوله أعلم قال خير الصدقة المنحة أن تمنح أخاك الدراهم أو ظهر الدابة أو لبن الشاة والمنحة هي العارية فجعل قرض الدراهم عاريتها ألا ترى إلى قوله في حديث آخر والمنحة مردودة فلما لم يصح التأجيل في العارية لم يصح في القرض وأجاز الشافعى التأجيل في القرض وبالله التوفيق ومنه الإعانة.

باب البيع

قوله عز وجل (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) عموم في إباحة سائر البياعات لأن لفظ البيع موضوع لمعنى معقول في اللغة وهو تمليك المال بمال بإيجاب وقبول عن تراض منهما وهذا هو حقيقة البيع في مفهوم اللسان ثم منه جائز ومنه فاسد إلا أن ذلك غير مانع من اعتبار عموم اللفظ متى اختلفنا في جواز بيع أو فساده ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه الآية وإن كان مخرجها مخرج العموم فقد أريد به الخصوص لأنهم متفقون على حظر كثير من البياعات نحو بيع ما لم يقبض وبيع ما ليس عند الإنسان وبيع الغرر والمجاهيل وعقد البيع على المحرمات من الأشياء وقد كان لفظ الآية يوجب جواز هذه البياعات وإنما خصت منها بدلائل إلا أن تخصيصها غير مانع اعتبار عموم لفظ الآية فيما لم تقم الدلالة على تخصيصه وجائز أن يستدل بعمومه على جواز البيع الموقوف لقوله تعالى (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) والبيع اسم للإيجاب والقبول وليست حقيقته وقوع الملك به للعاقد ألا ترى أن البيع المعقود على شرط خيار المتبايعين لم يوجب ملكا وهو بيع والوكيلان يتعاقدان البيع ولا يملكان* وقوله تعالى (وَحَرَّمَ الرِّبا) حكمه ما قدمناه من الإجمال والوقف على ورود البيان فمن الربا ما هو بيع ومنه ما ليس ببيع وهو ربا أهل الجاهلية وهو القرض المشروط فيه الأجل وزيادة مال على المستقرض* وفي سياق الآية ما أوجب تخصيص ما هو ربا من البياعات من عموم قوله تعالى (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) وظن الشافعى أن لفظ الربا لما كان مجملا أنه يوجب إجمال لفظ البيع وليس كذلك عندنا لأن ما لا يسمى ربا من البياعات فحكم

١٨٩

العموم جار فيه وإنما يجب الوقوف فيما شككنا أنه ربا أو ليس بربا فأما ما تيقنا أنه ليس بربا فغير جائز الاعتراض عليه بآية تحريم الربا وقد بينا ذلك في أصول الفقه* وأما قوله* تعالى (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) حكاية عن المعتقدين لإباحته من الكفار* فزعموا أنه لا فرق بين الزيادة المأخوذة على وجه الربا وبين سائر الأرباح المكتسبة بضروب البياعات وجهلوا ما وضع الله أمر الشريعة عليه من مصالح الدين والدنيا فذمهم الله على جهلهم وأخبر عن حالهم يوم القيامة وما يحل بهم من عقابه قوله تعالى (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) يحتج به في جواز بيع ما لم يره المشترى ويحتج فيمن اشترى حنطة بحنطة بعينها متساوية أنه لا يبطل بالافتراق قبل القبض وذلك لأنه معلوم من ورود اللفظ لزوم أحكام البيع وحقوقه من القبض والتصرف والملك وما جرى مجرى ذلك فاقتضى ذلك بقاء هذه الأحكام مع ترك التقابض وهو كقوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) المراد تحريم الاستمتاع بهن ويحتج أيضا لذلك بقوله تعالى (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) من وجهين أحدهما ما اقتضاه من إباحة الأكل قبل الافتراق وبعده من غير قبض والآخر إباحة أكله لمشتريه قبل قبض الآخر بعد الفرقة* وأما قوله تعالى (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) فالمعنى فيه أن من انزجر بعد النهى فله ما سلف من المقبوض قبل نزول تحريم الربا ولم يرد به ما لم يقبض لأنه قد ذكر في نسق التلاوة حظر ما لم يقبض منه وإبطاله بقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فأبطل الله من الربا ما لم يكن مقبوضا وإن كان معقودا قبل نزول التحريم ولم يتعقب بالفسخ ما كان منه مقبوضا بقوله تعالى (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ) وقد روى ذلك عن السدى وغيره من المفسرين وقال تعالى (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فأبطل منه ما بقي مما لم يقبض ولم يبطل المقبوض ثم قال تعالى (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) وهو تأكيد لإبطال ما لم يقبض منه وأخذ رأس المال الذي لا ربا فيه ولا زيادة وروى عن ابن عمر وجابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في خطبته يوم حجة الوداع بمكة وقال جابر بعرفات إن كل ربا في الجاهلية فهو موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب فكان فعله صلّى الله عليه وسلّم مواطئا لمعنى الآية في إبطال الله تعالى من الربا ما لم يكن مقبوضا وإمضائه ما كان

١٩٠

مقبوضا وفيما روى في خطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم ضروب من الأحكام أحدها أن كل ما طرأ على عقد البيع قبل القبض مما يوجب تحريمه فهو كالموجود في حال وقوعه وما طرأ بعد القبض مما يوجب تحريم ذلك العقد لم يوجب فسخه وذلك نحو النصرانيين إذا تبايعا عبدا بخمر فالبيع جائز عندنا وإن أسلم أحدهما قبل قبض الخمر بطل العقد وكذلك لو اشترى رجل مسلم صيدا ثم أحرم البائع أو المشترى بطل البيع لأنه قد طرأ عليه ما يوجب تحريم العقد قبل القبض كما أبطل الله تعالى من الربا ما لم يقبض لأنه طرأ عليه ما يوجب تحريمه قبل القبض وإن كانت الخمر مقبوضة ثم أسلما أو أحرما لم يبطل البيع كما لم يبطل الله الربا المقبوض حين أنزل التحريم فهذا جائز في نظائره من المسائل ولا يلزم عليه أن يقتل العبد المبيع قبل القبض ولا يبطل البيع وللمشتري اتباع الجاني من قبل أنه لم يطرأ على العقد ما يوجب تحريم العقد لأن العقد باق على هيئته التي كان عليها والقيمة قائمة مقام المبيع وإنما يعتبر المبيع وللمشتري الخيار فحسب* وفيها دلالة على أن هلاك المبيع في يد البائع وسقوط القبض فيه يوجب بطلان العقد وهو قول أصحابنا والشافعى وقال مالك لا يبطل والثمن لازم للمشتري إذا لم يمنعه ودلالة الآية ظاهرة على أن قبض المبيع من تمام البيع وأن سقوط القبض يوجب بطلان العقد وذلك لأن الله تعالى لما أسقط قبض الربا أبطل العقد الذي عقداه وأمر بالاقتصار على رأس المال فدل ذلك على أن قبض المبيع من شرائط صحة العقد وأنه متى طرأ على العقد ما يسقطه أوجب ذلك بطلانه* وفيها الدلالة على أن العقود الواقعة في دار الحرب إذا ظهر عليها الإمام لا يعترض عليها بالفسخ وإن كانت معقودة على فساد لأنه معلوم أنه قد كان بين نزول الآية وبين خطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة ووضعه الربا الذي لم يكن مقبوضا عقود من عقود الربا بمكة قبل الفتح ولم يتعقبها بالفسخ ولم يميز ما كان منها قبل نزول الآية مما كان منها بعد نزولها فدل ذلك على أن العقود الواقعة في دار الحرب بينهم وبين المسلمين إذا ظهر عليها الإمام لا يفسخ منها ما كان مقبوضا وقوله تعالى (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ) يدل على ذلك أيضا لأنه قد جعل له ما كان مقبوضا منه قبل الإسلام وقد قيل إن معنى قوله تعالى (فَلَهُ ما سَلَفَ) من ذنوبه على معنى أن الله يغفرها له وليس هذا كذلك لأن الله تعالى قد قال (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) يعنى فيما يستحقه من عقاب أو ثواب

١٩١

فلم يعلمنا حكمه في الآخرة ومن جهة أخرى أنه لو كان هذا مرادا لم ينتف به ما ذكرنا فيكون على الأمرين جميعا لاحتماله لهما فيغفر الله ذنوبه ويكون له المقبوض من ذلك قبل إسلامه وذلك يدل على أن بياعات أهل الحرب كلها ماضية إذا أسلموا بعد التقابض فيها لقوله تعالى (فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) قوله عز وجل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) قال أبو بكر يحتمل ذلك معنيين أحدهما إن لم تقبلوا أمر الله تعالى ولم تنقادوا له والثاني إن لم تذروا ما بقي من الربا بعد نزول الأمر بتركه فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن اعتقدوا تحريمه وقد روى عن ابن عباس وقتادة والربيع بن أنس فيمن أربى أن الإمام يستتيبه فإن تاب وإلا قتله وهذا محمول على أن يفعله مستحلا له لأنه لا خلاف بين أهل العلم أنه ليس بكافر إذا اعتقد تحريمه* وقوله تعالى (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) لا يوجب إكفارهم لأن ذلك قد يطلق على ما دون الكفر من المعاصي قال زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر رأى معاذا يبكى فقال ما يبكيك فقال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول اليسير من الرياء شرك ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة فأطلق اسم المحاربة عليه وإن لم يكفر وروى أسباط عن السدى عن صبيح مولى أم سلمة عن زيد بن أرقم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعلى وفاطمة والحسن والحسين رضى الله عنهم أنا حرب لمن حاربتم سلم لمن سالمتم وقال تعالى (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) والفقهاء متفقون على أن ذلك حكم جار في أهل الملة وأن هذه السمة تلحقهم بإظهارهم قطع الطريق وقد دل على أنه جائز إطلاق اسم المحاربة لله ورسوله على من عظمت معصيته وفعلها مجاهرا بها وإن كانت دون الكفر وقوله تعالى (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) أخبار منه بعظم معصية وأنه يستحق بها المحاربة عليها وإن لم يكن كافرا وكان ممتنعا على الإمام فإن لم يكن ممتنعا عاقبة الإمام بمقدار ما يستحقه من التعزير والردع وكذلك ينبغي أن يكون حكم سائر المعاصي التي أوعد الله عليها العقاب إذا أصر الإنسان عليها وجاهر بها وإن كان ممتنعا حورب عليها هو ومتبعوه وقوتلوا حتى ينتهوا وإن كانوا غير ممتنعين عاقبهم الإمام بمقدار ما يرى من العقوبة وكذلك حكم من يأخذ أموال الناس من المتسلطين الظلمة وآخذي الضرائب واجب على كل المسلمين قتالهم وقتلهم إذا كانوا

١٩٢

ممتنعين وهؤلاء أعظم جرما من آكلى الربا لانتهاكهم حرمة النهى وحرمة المسلمين جميعا وآكل الربا إنما انتهك حرمة الله تعالى في أخذ الربا ولم ينتهك لمن يعطيه ذلك حرمة لأنه أعطاه بطيبة نفسه وآخذو الضرائب في معنى قطاع الطريق المنتهكين لحرمة نهى الله تعالى وحرمة المسلمين إذ كانوا يأخذونه جبرا وقهرا لا على تأويل ولا شبهة فجائز لمن علم من المسلمين إصرار هؤلاء على ما هم عليه من أخذ أموال الناس على وجه الضريبة أن يقتلهم كيف أمكنه قتلهم وكذلك أتباعهم وأعوانهم الذين بهم يقومون على أخذ الأموال وقد كان أبو بكر رضى الله عنه قاتل مانعي الزكاة لموافقة من الصحابة إياه على شيئين أحدهما الكفر والآخر منع الزكاة وذلك لأنهم امتنعوا من قبول فرض الزكاة ومن أدائها فانتظموا به معنيين أحدهما الامتناع من قبول أمر الله تعالى وذلك كفر والآخر الامتناع من أداء الصدقات المفروضة في أموالهم إلى الإمام فكان قتاله إياهم للأمرين جميعا ولذلك قال لو منعونى عقالا وفي بعض الأخبار عناقا مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقاتلتهم عليه فإنما قلنا أنهم كانوا كفارا ممتنعين من قبول فرض الزكاة لأن الصحابة سموهم أهل الردة وهذه السمة لازمة لهم إلى يومنا هذا وكانوا سبوا نساءهم وذراريهم ولو لم يكونوا مرتدين لما سار فيهم هذه السيرة وذلك شيء لم يختلف فيه الصدر الأول ولا من بعدهم من المسلمين أعنى في أن القوم الذين قاتلهم أبو بكر كانوا أهل الردة فالمقيم على أكل الربا إن كان مستحلا له فهو كافر وإن كان ممتنعا بجماعة تعضده سار فيهم الإمام بسيرته في أهل الردة إن كانوا قبل ذلك من جملة أهل الملة وإن اعترفوا بتحريمه وفعلوه غير مستحلين له قاتلهم الإمام إن كانوا ممتنعين حتى يتوبوا وإن لم يكونوا ممتنعين ردعهم عن ذلك بالضرب والحبس حتى ينتهوا* وقد روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى أهل نجران وكانوا ذمة نصارى إما أن تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله روى أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثني أيوب الدمشقي قال حدثني سعدان بن يحيى عن عبد الله ابن أبى حميد عن أبى مليح الهذلي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صالح أهل نجران فكتب كتابا في آخره على أن لا تأكلوا الربا فمن أكل الربا فذمتي منه بريئة فقوله تعالى (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) عقيب قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) هو عائد عليهما جميعا من رد الأمر على حاله ومن الإقامة على أكل الربا مع قبول الأمر

«١٣ ـ أحكام في»

١٩٣

فمن رد الأمر قوتل على الردة ومن قبل الأمر وفعله محرما له قوتل على تركه إن كان ممتنعا ولا يكون مرتدا وإن لم يكن ممتنعا عزر بالحبس والضرب على ما يرى الإمام* وقوله تعالى (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) إعلام بأنهم إن لم يفعلوا ما أمروا به في هذه الآية فهم محاربون الله ورسوله وذلك إخبار منه بمقدار عظم الجرم وأنهم يستحقون به هذه السمة وهي أن يسموا محاربين الله ورسوله وهذه السمة يعتورها معنيان أحدهما الكفر إذا كان مستحلا والآخر الإقامة على أكل الربا مع اعتقاد التحريم على ما بينا ومن الناس من يحمله على أنه إعلام منه بأن الله تعالى يأمر رسوله والمؤمنين بمحاربتهم ويكون إيذانا لهم بالحرب حتى لا يؤتوا على غرة قبل العلم بها كقوله تعالى (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) فإذا حمل على هذا الوجه كان الخطاب بذلك متوجها إليهم إذا كانوا ذوى منعة وإذا حملناه على الوجه الأول دخل كل واحد من فاعلى ذلك في الخطاب وتناوله الحكم المذكور فيه فهو أولى* قوله تعالى (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) فيه تأويلان أحدهما وإن كان ذو عسرة غريما لكم فنظرة إلى ميسرة والثاني على أن المكتفية باسمها على معنى وإن وقع ذو عسرة أو إن وجد ذو عسرة كقول الشاعر :

فدى لبنى شيبان رحلي ونافتى

إذا كان يوم ذو كواكب أشهب

معناه إذا وجد يوم كذلك* وقد اختلف في معنى قوله (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) فروى عن ابن عباس وشريح وإبراهيم أنه في الربا خاصة وكان شريح يحبس المعسر في غيره من الديون وروى عن إبراهيم والحسن والربيع بن خيثم والضحاك أنه في سائر الديون وروى عن ابن عباس رواية أخرى مثل ذلك وقال آخرون إن الذي في الآية إنظار المعسر في الربا وسائر الديون في حكمه قياسا عليه* قال أبو بكر لما كان قوله تعالى (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) محتملا أن يكون شاملا لسائر الديون على ما بينا من وجه الاحتمال ولتأويل من تأوله من السلف على ذلك إذ غير جائز أن يكونوا تأولوه على ما لا احتمال فيه وجب حمله على العموم وأن لا يقتصر به على الربا إلا بدلالة لما فيه من تخصيص لفظ العموم من غير دلالة* فإن قيل لما كان قوله تعالى (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) غير مكتف بنفسه في إفادة الحكم وكان متضمنا لما

١٩٤

قبله وجب أن يكون حكمه مقصورا عليه قيل هو كلام مكتف بنفسه لما في فحواه من الدلالة على معناه وذلك لأن ذكر الإعسار والإنظار قد دل على دين تجب المطالبة به والإنظار لا يكون إلا في حق قد ثبت وجوبه وصحت المطالبة به إما عاجلا وإما آجلا فإذا كان في مضمون اللفظ دلالة على دين يتعلق به في حكم الإنظار إذا كان ذو عسرة كان اللفظ مكتفيا بنفسه ووجب اعتباره على عمومه ولم يجب الاقتصار به على الربا دون غيره* وزعم بعض الناس ممن نصر هذا القول الذي ذكرناه أن هذا لا يجوز أن يكون في الربا لأن الله تعالى قد أبطله فكيف يكون منظرا به قال فالواجب أن تكون الآية عامة في سائر الديون وهذا الحجاج ليس بشيء لأن الله تعالى إنما أبطل الربا وهو الزيادة المشروطة ولم يبطل رأس المال لأنه قال (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) والربا هو الزيادة ثم قال (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) ثم عقب ذلك بقوله (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) يعنى سائر الديون ورأس المال أحدها وإبطال ما بقي من الربا لم يبطل رأس المال بل هو دين عليه يجب أداؤه* فإن قيل إذا كان الإنظار مأمورا به في رأس المال فهو وسائر الديون عليه سواء قيل له إنما كلامنا فيما شمله العموم من حكم الآية فإن كان ذلك في رأس مال الربا فلم يتناول غيره من طريق النص وإنما يتناوله من جهة العموم للمعنى فيحتاج حينئذ إلى دلالة من غيره في إثبات حكمه ورده إلى المذكور في الآية بمعنى يجمعهما وليس الكلام بينك وبين الخصم من جهة القياس وإنما اختلفتما في عموم الآية وخصوصها والكلام في القياس ورد غير المذكور إلى المذكور مسألة أخرى.

وقوله تعالى (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) قد اقتضى ثبوت المطالبة لصاحب الدين على الدين وجواز أخذ رأس مال نفسه منه بغير رضاه لأنه تعالى جعل اقتضاؤه ومطالبته من غير شرط رضى المطلوب وهذا يوجب أن من له على غيره دين فطالبه به فله أخذه منه شاء أم أبى وبهذا المعنى ورد الأثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين قالت له هند إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي فقال خذي من مال أبى سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف فأباح لها أخذ ما استحقته على أبى سفيان من النفقة من غير رضى أبى سفيان وفي الآية دلالة على أن الغريم متى امتنع من أداء الدين مع الإمكان كان ظالما ودلالتها على ذلك من وجهين أحدهما قوله تعالى (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) فجعل له المطالبة

١٩٥

برأس المال وقد تضمن ذلك أمر الذي عليه الدين بقضائه وترك الامتناع من أدائه فإنه متى امتنع منه كان له ظالما ولاسم الظلم مستحقا وإذا كان كذلك استحق العقوبة وهي الحبس* والوجه الآخر من الدلالة عليه قوله تعالى في نسق التلاوة (لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) يعنى والله أعلم لا تظلمون بأخذ الزيادة ولا تظلمون بالنقصان من رأس المال فدل ذلك على أنه متى امتنع من أداء جميع رأس المال إليه كان ظالما له مستحقا للعقوبة* واتفق الجميع على أنه لا يستحق العقوبة بالضرب فوجب أن يكون حبسا لاتفاق الجميع* على أن ما عداه من العقوبات ساقط عنه في أحكام الدنيا* وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مثل ما دلت عليه الآية وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن محمد النفيلى قال حدثنا عبد الله بن المبارك عن وبر بن أبى دليلة عن محمد بن ميمون عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لي الواجد يحل عرضه وعقوبته قال ابن المبارك يحل عرضه يغلظ له وعقوبته يحبس وروى ابن عمر وجابر وأبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال مطل الغنى ظلم وإذا أحيل أحدكم على ملئ فليحتل فجعل مطل الغنى ظلما والظالم لا محالة مستحق العقوبة وهي الحبس لاتفاقهم على أنه لم يرد غيره وحدثنا محمد ابن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا معاذ بن أسد قال أخبرنا النضر بن شميل قال أخبرنا هرماس بن حبيب رجل من أهل البادية عن أبيه عن جده قال أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم بغريم لي فقال لي الزمه ثم قال يا أخا بنى تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك وهذا يدل على أن له حبس الغريم لأن الأسير يحبس فلما سماه أسيرا له دل على أن له حبسه وكذلك قوله لي الواجد يحل عرضه وعقوبته والمراد بالعقوبة هنا الحبس لأن أحدا لا يوجب غيره* واختلف الفقهاء في الحال التي توجب الحبس فقال أصحابنا إذا ثبت عليه شيء من الديون من أى وجه ثبت فإنه يحبس شهرين أو ثلاثة ثم يسئل عنه فإن كان موسرا تركه في الحبس أبدا حتى يقضيه وإن كان معسرا أخلى سبيله وذكر ابن رستم عن محمد عن أبى حنيفة أن المطلوب إذا قال إنى معسر وأقام البينة على ذلك أو قال فسل عنى فلا يسأل عنه أحدا وحبسه شهرين أو ثلاثة ثم يسأل عنه إلا أن يكون معروفا بالعسر فلا يحبسه وذكر الطحاوي عن أحمد بن أبى عمران قال كان متأخرو أصحابنا منهم محمد بن شجاع يقولون إن كل دين كان أصله من مال وقع في يدي المدين كأثمان البياعات والعروض ونحوها فإنه

١٩٦

يحبسه به وما لم يكن أصله من مال وقع في يده مثل المهر والجعل من الخلع والصلح من دم العمد والكفالة لم يحبسه به حتى يثبت وجوده وملاؤه وقال ابن أبى ليلى يحبسه في الديون إذا أخبر أن عنده مالا وقال مالك لا يحبس الحر ولا العبد في الدين ولا يستبرأ أمره فإن اتهم أنه قد خبأ مالا حبسه وإن لم يجد له شيئا لم يحبسه وخلاه وقال الحسن بن حي إذا كان موسرا حبس وإن كان معسرا لم يحبس وقال الشافعى إذا ثبت عليه دين بيع ما ظهر ودفع ولم يحبس فإن لم يظهر حبس وبيع ما قدر عليه من ماله فإن ذكر عسره وقبلت منه البينة بقوله تعالى (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) وأحلفه مع ذلك بالله ومنع غرماءه من لزومه قال أبو بكر إنما قال أصحابنا إنه يحبسه في أول ما ثبت عند القاضي دينه لما دللنا عليه من الآية والأثر على كونه ظالما في الامتناع من قضاء ما ثبت عليه وإنه مستحق للعقوبة متى امتنع من أداء ما وجب عليه فالواجب بقاء العقوبة عليه حتى يثبت زوالها عنه بالإعسار* فإن قيل إنما يكون ظالما إذا امتنع من أدائه مع الإمكان لأن الله تعالى لا يذمه على ما لم يقدره عليه ولم يمكنه منه ولذلك شرط النبي صلّى الله عليه وسلّم الوجود في استحقاق العقوبة بقوله لي الواجد يحل عرضه وعقوبته إذا كان شرط استحقاق العقوبة وجود المال الذي يمكنه أداؤه منه فغير جائز حبسه وعقوبته إلا بعد أن يثبت أنه واجد ممتنع من أداء ما وجب عليه وليس ثبوت الدين عليه علما لإمكان أدائه على الدوام إذ جائز أن يحدث الإعسار بعد ثبوت الدين* قيل له أما الديون التي حصلت إبدالها في يده فقد علمنا يساره بأدائها يقينا ولم نعلم إعساره بها فوجب كونه باقيا على حكم اليسار والوجود حتى يثبت الإعسار وأما ما كان لزمه منها من غير بدل حصل في يده يمكنه أداؤه منه فإن دخوله في العقد الذي ألزمه ذلك اعتراف منه بلزوم أدائه وتوجه المطالبة عليه بقضائه ودعواه الإعسار به بمنزلة دعوى التأجيل للموسر فهو غير مصدق عليه ولذلك سوى أصحابنا بين الديون التي قد علم حصول إبدالها في يده وبين ما لم تحصل في يده إذ كان دخوله في العقد الموجب عليه ذلك الدين اعترافا منه بلزوم الأداء وثبوت حق المطالبة للمطالب وذلك لأن كل متعاقدين دخلا في عقد فدخولهما فيه اعتراف منهما بلزوم موجب العقد من الحقوق وغير مصدق بعد العقد واحد منهما على نفى موجبه ومن أجل ذلك قلنا إن ذلك يقتضى اعترافا منهما بصحته إذ كان ذلك

١٩٧

مضمنا للزوم حقوقه وفي تصديقه على فساده نفى ما لزمه بظاهر العقد ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن مدعى الفساد منهما بعد وقوع العقد بينهما وصحته في الظاهر غير مصدق عليه وإن القول قول مدعى الصحة منهما وفي ذلك دليل على صحة ما ذكرنا من أن من ألزم نفسه دينا بعقد عقده على نفسه أنه يلزمه أداؤه ومحكوم عليه بأنه موسر به وغير مصدق على الإعسار المسقط عنه المطالبة كما لا يصدق على التأجيل بعد ثبوته عليه حالا وإنما قال أصحابنا أنه يحبسه في أول ما يرفعه إلى القاضي إذا طلب ذلك الطالب ولا يسئل عنه من قبل أنه توجهت عليه المطالبة بأدائه ومحكوم له باليسار في قضائه فالواجب أن يستبرئ أمره بديا إذ جائز أن يكون له مال قد خبأه لا يقف عليه غيره فلا يوقف بذلك على إعساره فينبغي له أن يحبسه استظهارا لما عسى أن يكون عنده إذ كان في الأغلب أنه إن كان عنده شيء آخر أضجره الحبس وألجأه إلى إخراجه فإذا حبسه هذه المدة فقد استظهر في الغالب فحينئذ يسئل عنه لأنه جائز أن يكون هناك من يعلم يساره سرا فإذا ثبت عنده إعساره خلاه من الحبس وقد روى عن شريح أنه كان يحبس المعسر في غير الربا من الديون فقال له معسر قد حبسه قال الله تعالى (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) ـ فقال شريح ـ (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) والله لا يأمرنا بشيء ثم يعذبنا عليه وقد قدمنا ذكر مذهب شريح في تأويل الآية وإن قوله تعالى (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) مقصور على الربا دون غيره وإن غيره من الديون لا يختلف في الحبس فيها الموسر والمعسر ويشتبه أن يكون ذهب في ذلك إلى أنه لا سبيل لنا إلى معرفة الإعسار على الحقيقة إذ جائز أن يظهر الإعسار وحقيقة أمره اليسار فاقتصر بحكم الإنظار على رأس مال الربا الذي نزل به القرآن وحمل ما عداه على موجب عقد المدينة من لزوم القضاء وتوجه المطالبة عليه بالأداء وقد بينا وجه فساد هذا القول بما قد دللنا عليه من مقتضى عموم اللفظ لسائر الديون ومع ذلك فلو كان نص التنزيل واردا في الربا دون غيره لكان سائر الديون بمنزلته قياسا عليه إذ لا فرق في حال اليسار بينهما في صحة لزوم المطالبة بهما ووجوب أدائهما فوجب أن لا يختلفا في حال الأداء في سقوط الحبس فيها دونه فأما قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) واحتجاج شريح به في حبس المطلوب فإن الآية إنما هي في الأعيان الموجودة في يده لغيره فعليه أداؤه وأما الديون

١٩٨

المضمونة في ذمته فإنما المطالبة بها معلقة بإمكان أدائها فمن كان معسرا فإن الله لم يكلفه إلا ما في إمكانه قال الله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) فإذا لم يكن مكلفا لأدائها لم يجز أن يحبس بها* فإن قيل إن الدين من الأمانات لقوله تعالى (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) وإنما يريد به الدين المذكور في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) قيل له إن كان الدين مرادا بقوله تعالى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) فإن الأمر بذلك توجه إليه على شريطة الإمكان لما وصفنا من أن الله تعالى لا يكلف أحدا ما لا يقدر عليه ولا يتسع لفعله وهو محكوم له من ظاهر إعساره أنه غير قادر على أدائه ولم يكن شريح ولا أحد من السلف يخفى عليهم إن الله لا يكلف أحدا ما لا يقدر عليه بل كانوا عالمين بذلك ولكنه ذهب عندي والله أعلم إلى أنه لم يتقين وجود ذلك ويجوز أن يكون قادرا على أدائه مع ظهور إعساره فلذلك حبسه.

واختلفوا أهل العلم في الحاكم إذا ثبت عنده إعساره وأطلقه من الحبس هل يحول بين الطالب وبين لزومه فقال أصحابنا للطالب أن يلزمه وذكر ابن رستم عن محمد قال والملزوم في الدين لا يمنع من دخول منزله للغذاء والغائط والبول فإن أعطاه الذي يلزمه الغذاء وموضع الخلاء فله أن يمنعه من إتيان منزله وقال غيرهم منهم مالك والشافعى ليس له أن يلزمه وقال الليث بن سعد يؤاجر الحر المعسر فيقضى دينه من أجرته ولا نعلم أحدا قال بمثل قوله إلا الزهري فإن الليث بن سعد روى عن الزهري قال يؤاجر المعسر بما عليه من الدين حتى يقضى عنه والذي يدل على أن ظهور الإعسار لا يسقط عنه اللزوم والمطالبة والاقتضاء حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اشترى من أعرابى بعيرا إلى أجل فلما حل الأجل جاءه يتقاضاه فقال جئتنا وما عندنا شيء ولكن أقم حتى تأتى الصدقة فجعل الأعرابى يقول وا غدراه فهم به عمر فقال صلّى الله عليه وسلّم دعه فإن لصاحب الحق مقالا فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم إنه ليس عنده شيء ولم يمنعه الاقتضاء وقال إن لصاحب الحق مقالا فدل ذلك على أن الإعسار بالدين غير مانع اقتضاءه ولزومه به وقوله أقم حتى تأتى الصدقة يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما اشترى البعير للصدقة لا لنفسه لأنه لو كان اشتراه لنفسه لم يكن ليقضيه من إبل الصدقة لأنه لم يكن تحل له الصدقة فهذا يدل على أن

١٩٩

من اشترى لغيره يلزمه ثمن ما اشترى وإن حقوق العقد متعلقة به دون المشترى له لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يمنعه اقتضاءه ومطالبته به وهو في معنى الحديث الذي رواه أبو رافع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم استسلف بكرا ثم قضاه من إبل الصدقة لأن السلف كان دينا على مال الصدقة* وروى في خبر آخر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لصاحب الحق اليد واللسان رواه محمد بن الحسن وقال في اليد اللزوم وفي اللسان الاقتضاء وحدثنا من لا اتهم في الرواية قال أخبرنا محمد ابن إسحاق قال حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا إبراهيم بن حمزة قال حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن أبى عمر عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا لزم غريما له بعشرة دنانير فقال له والله ما عندي شيء أقضيكه اليوم قال والله لا أفارقك حتى تقضيني أو تأتينى بحميل يتحمل عنك قال والله ما عندي قضاء ولا أجد من يحتمل عنى قال فجاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله إن هذا لزمني فاستنظرته شهرا واحدا فأبى حتى أقضيه وآتيه بحميل فقلت والله ما أجد حميلا ولا عندي قضاء اليوم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل تنظره شهرا واحدا قال لا قال أنا أحمل بها فتحمل بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذهب الرجل فأتاه بقدر ما وعده فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أين أصبت هذا الذهب قال من معدن قال اذهب فلا حاجة لنا فيها ليس فيها خير فقضى عنه رسول الله وفي هذا الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يمنعه من لزومه مع حلفه بالله ما عنده قضاء* وحدثنا من لا أتهم في الرواية قال حدثنا عبد الله بن على بن الجارود قال حدثنا إبراهيم بن أبى بكر بن أبى شيبة قال حدثنا ابن أبى عبيدة قال حدثنا أبى عن الأعمش عن أبى صالح عن أبى سعيد الخدري قال جاء أعرابى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يتقاضاه تمرا كان عليه وشدد عليه الأعرابى حتى قال له احرج عليك إلا قضيتنى فانتهره الصحابة فقالوا له ويحك أتدري من تكلم فقال لهم إنى طالب حق فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم هلا مع صاحب الحق كنتم ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها إن كان عندك تمر فاقرضينا حتى يأتينا تمر فنقضيك فقالت نعم بأبى أنت وأمى يا رسول الله فأقرضته فقضى الأعرابى وأطعمه فقال أوفيتنا أوفى الله لك فقال أولئك خيار الناس أنها لا قدست أمة لا يؤخذ الضعيف منها حقه غير متعتع فلم يكن عند النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يقضيه ولم ينكر على الأعرابى مطالبته واقتضاءه بذلك بل أنكر على الصحابة انتهارهم إياه وقال هلا مع صاحب الحق كنتم وهذا يوجب أن لا يكون منظرا بنفس الإعسار دون أن ينظره الطالب ويدل عليه

٢٠٠