أحكام القرآن - ج ٢

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦

أقبل على القوم فسألهم فقالوا صدق وبعض هذا الكلام كان عمدا وبعضه كان لغير إصلاح الصلاة فدل على أنها كانت في حال إباحة الكلام وجملة الأمر في ذلك إن كان في حال إباحة الكلام بديا قبل حظره فلا حجة للمخالف فيه وإن كان بعد حظر الكلام فليس يمتنع أن يكون أبيح بعد الحظر ثم حظر فكان آخر أمره الحظر ونسخ به ما في حديث أبى هريرة وقد بينا أن قوله التسبيح للرجال والتصفيق للنساء كان بعد حديث أبى هريرة إذ لو كان متقدما لأنكر عليه ترك المأمور به من التسبيح ولكان القوم لا يخالفونه إلى الكلام مع علمهم بحظر الكلام والأمر بالتسبيح وفي ذلك دليل على أن الأمر بالتسبيح ناسخ لحظر الكلام متأخر عنه فوجب أن يكون ما في حديث أبى هريرة مختلفا في استعماله فوجب أن تقضى عليه الأخبار الواردة في الحظر لأن من أصلنا أنه متى ورد خبران أحدهما خاص والآخر عام واتفقوا على استعمال العام واختلفوا في استعمال الخاص كان الخبر المتفق على استعماله قاضيا على المختلف فيه فإن قيل قد فرقتم بين حدث الساهي والعامد فهلا فرقتم بين سهو الكلام وعمده* قيل له هذا سؤال فارغ لا يستحق الجواب إلا أن يتبين وجه الدلالة في إحدى المسألتين على الأخرى ومع ذلك فإنه لا فرق عندنا بين حدث الساهي والعامد في إفساد الصلاة بعد أن يكون من فعله وإنما الفرق بين ما كان من فعله أو سبقه من غير فعله فأما لو سهى فحك قرحة وخرج منها دم أو تقيأ فسدت صلاته وإن كان ساهيا* فإن قيل فقد فرقتم بين سلام الساهي والعامد وهو كلام في* الصلاة فكذلك سائر الكلام فيها* قيل له إنما السلام ضرب من الذكر مسنون به الخروج من الصلاة فإذا قصد إليه عامدا فسدت به الصلاة كما يخرج به منها في آخر وإذا كان ساهيا فهو ذكر من الأذكار لا يخرج به من الصلاة وإنما كان ذكر لأنه سلام على الملائكة وعلى حضرة من المصلين وهو لو قال السلام على ملائكة الله وجبريل وميكال أو على نبي الله لا تفسد صلاته فلما كان ضربا من الأذكار لم يخرج به من الصلاة إلا أن يكون عامدا له ويدل على هذا أنه موجود مثله في الصلاة لا يفسدها وهو قوله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وإذا كان مثله قد يوجد في الصلاة ذكرا مسنونا لم يكن مفسدا لها إذا وقع منه ناسيا لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس وما أبيح في الصلاة من الكلام فليس بداخل فيه

«١١ أحكام ني»

١٦١

فلا تفسد به الصلاة ولم يتناوله الخبر وإنما أفسدنا به الصلاة إذا تعمد لا من حيث كان من كلام الناس المحظور في الصلاة ولكن من جهة أنه مسنون للخروج من الصلاة فإذا عمد له فقد قصد الوجه المسنون له فقطع صلاته وأيضا لما كان من شرط الصلاة الشرعية ترك الكلام فيها ومتى تعمد الكلام لم تكن صلاة عند الجميع إذا لم يقصد به إلى إصلاحها وجب أن يكون وجود الكلام فيها مخرجا لها من أن تكون صلاة شرعية كالطهارة لما كانت من شرطها لم يختلف حكمها في ترك الطهارة سهوا أو عمدا وكذلك ترك القراءة والركوع والسجود وسائر فروضها لا يختلف حكم السهو والعمد فيها لأن الصلاة لما كانت اسما شرعيا وكان صحة هذا الاسم لها متعلقة بشرائطه متى عدمت زال الاسم وكان من شروطها ترك الكلام وجب أن يكون وجوده فيها يسلبها اسم الصلاة الشرعية ولم يكن فاعلا للصلاة فلم نجزه فإن ألزمونا على ذلك الصيام وما شرط فيه من ترك الأكل وتعلق الاسم الشرعي به ثم اختلف فيه حكم السهو والعمد فإنا نقول إن القياس فيهما سواء ولذلك قال أصحابنا لو لا الأثر لوجب أن لا يختلف فيه حكم الأكل سهوا أو عمدا وإذا سلموا القياس فقد استمرت العلة وصحت* قوله عز وجل (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) الآية ذكر الله تعالى في أول الخطاب الأمر بالصلاة والمحافظة عليها وذلك يدل على لزوم استيفاء فروضها والقيام بحدودها لاقتضاء ذكر المحافظة لها وأكد الصلاة الوسطى بإفرادها بالذكر لما بينا فيما سلف من فائدة ذكر التأكيد لها ثم عطف عليه قوله تعالى (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فاشتمل ذلك على لزوم السكوت والخشوع فيها وترك المشي والعمل فيها وذلك في حال الأمن والطمأنينة ثم عطف عليه حال الخوف وأمر بفعلها على الأحوال كلها ولم يرخص في تركها لأجل الخوف فقال تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) قوله فرجالا جمع راجل لأنك تقول راجل ورجال كتاجر وتجار وصاحب وصحاب وقائم وقيام وأمر بفعلها في حال الخوف راجلا ولم يعذب في تركها كما أمر المريض بفعلها على الحال التي يمكنه فعلها من قيام وقعود وعلى جنب وأمره بفعل الصلاة راكبا في حال الخوف إباحة لفعلها بالإيماء لأن الراكب إنما يصلى بالإيماء لا يفعل فيها قياما ولا ركوعا ولا سجودا وقد روى عن ابن عمر في صلاة الخوف قال فإن كان خوفا أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها قال نافع

١٦٢

لا أرى ابن عمر وقال ذلك إلا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمذكور في هذه الآية إنما هو الخوف دون القتال فإذا خاف وقد حصره العدو جاز له فعلها كذلك ولما أباح له فعلها راكبا لأجل الخوف لم يفرق بين مستقبل القبلة من الركبان وبين من ترك استقبالها تضمنت الدلالة على جواز فعلها من غير استقبالها لأن الله تعالى أمر بفعلها على كل حال ولم يفرق بين من أمكنه استقبالها وبين من لم يمكنه فدل على أن من لا يمكنه استقبالها فجائز له فعلها على الحال التي يقدر عليها ويدل من جهة أخرى على ذلك وهو أن القيام والركوع والسجود من فروض الصلاة وقد أباح تركها حين أمره بفعلها راكبا فترك القبلة أحرى بالجواز إذا كان فعل الركوع والسجود آكد من القبلة فإذا جاز الركوع والسجود فترك القبلة أحرى بالجواز فإن قيل على ما ذكرناه من أن الله لم يبح ترك الصلاة في حال الخوف وأمر بها على الحال التي يمكن فعلها قد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم ترك أربع صلوات يوم الخندق حتى كان هوى الليل ثم قضاهن على الترتيب وفي ذلك دليل على جواز ترك الصلاة في حال الخوف قيل له إن الذي اقتضته هذه الآية الأمر بالصلاة في حال الخوف بعد تقديم تأكيد فروضها لأنه عطف على قوله تعالى (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) ثم زادها تأكيدا بقوله تعالى (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمر فيها بالدوام على الخشوع والسكون والقيام وحظر فيها التنقل من حال إلا إلى حال هي الصلاة من الركوع والسجود ولو اقتصر على ذلك لكان جائزا أن يظن ظان أن شرط جواز الصلاة فعلها على هذه الأوصاف فبين حكم هذه الصلوات المكتوبات في حال الخوف فقال تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) فأمر بفعلها في هذه الحال ولم يعذر أحدا من المكلفين في تركها ولم يذكر حال القتال إذ ليس جميع أحوال الخوف هي أحوال القتال لأن حضور العدو يوجب الخوف وإن لم يكن قتال قائم فإنما أمر بفعلها في هذه الحال ولم يذكر حال القتال والنبي صلّى الله عليه وسلّم إنما لم يصل يوم الخندق لأنه كان مشغولا بالقتال والاشتغال بالقتال يمنع الصلاة ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى وكذلك يقول أصحابنا أن الاشتغال بالقتال يفسدها* فإن قيل ما أنكرت من أن يكون* النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما لم يصل يوم الخندق لأنه لم يكن نزلت صلاة الخوف* قيل له قد ذكر محمد بن إسحاق والواقديّ جميعا أن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق وقد صلى النبي

١٦٣

صلّى الله عليه وسلّم فيها صلاة الخوف فدل ذلك على أن ترك النبي صلّى الله عليه وسلّم صلاة الخوف إنما كان للقتال لأنه يمنع صحتها وينافيها* ويستدل بهذه الآية من يقول إن الخائف تجوز له الصلاة وهو ماش وإن كان طالبا لقوله تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) وليس هذا كذلك لأنه ليس في الآية ذكر المشي ومع ذلك فالطالب غير خائف لأنه إن انصرف لم يخف والله سبحانه إنما أباح ذلك للخائف وإذا كان مطلوبا فجائز له أن يصلى راكبا وماشيا إذا خاف* وأما قوله (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) لما ذكر الله تعالى حال الخوف وأمر بالصلاة على الوجه الممكن من راجل وراكب ثم عطف عليه حال الأمن بقوله تعالى (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ) دل ذلك على أن المراد ما تقدم بيانه في حال الخوف وهو الصلاة فاقتضى ذلك إيجاب الذكر في الصلاة وهو نظير قوله تعالى (فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً) ونظيره أيضا قوله تعالى (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) وقوله تعالى (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) فتضمنت هذه المخاطبة من عند قوله تعالى (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) الأمر بفعل الصلاة واستيفاء فروضها وشروطها وحفظ حدودها وقوله تعالى (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) تضمن إيجاب القيام فيها ولما كان القنوت اسما يقع على الطاعة اقتضى أن يكون جميع أفعال الصلاة طاعة وأن لا يتخللها غيرها لأن القنوت هو الدوام على الشيء فأفاد ذلك النهى عن الكلام فيها وعن المشي وعن الاضطجاع وعن الأكل والشرب وكل فعل ليس بطاعة لما تضمنوا للفظ من الأمر بالدوام على الطاعات التي هي من أفعال الصلاة والنهى عن قطعها بالاشتغال بغيرها لما فيه من ترك القنوت الذي هو الدوام عليها واقتضى أيضا الدوام على الخشوع والسكون لأن اللفظ ينطوى عليه ويقتضيه فانتظم هذا اللفظ مع قلة حروفه جميع أفعال الصلاة وأذكارها ومفروضها ومسنونها واقتضى النهى عن كل فعل ليس بطاعة فيها والله الموفق والمعين.

باب الفرار من الطاعون

قال الله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) قال ابن عباس كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون فماتوا فمر عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم الله* وروى عن الحسن أيضا أنهم

١٦٤

فروا من الطاعون وقال عكرمة فروا من القتال وهذا يدل على أن الله تعالى كره فرارهم من الطاعون* وهو نظير قوله تعالى (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) وقوله تعالى (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) وقوله تعالى (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) وقوله تعالى (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) وإذا كانت الآجال موقتة محصورة لا يقع فيها تقديم ولا تأخير عما قدرها الله عليه فالفرار من الطاعون عدول عن مقتضى ذلك وكذلك الطيرة والزجر والإيمان بالنجوم كل ذلك فرارا من قدر الله عز وجل الذي لا محيص لأحد عنه* وقد روى عن عمرو بن جابر الحضرمي عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف والصابر فيه كالصابر في الزحف * روى يحيى بن أبى كثير عن سعيد بن المسيب عن سعد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لا عدوى ولا طيرة وإن تكن الطيرة في شيء فهي في الفرس والمرأة والدار وإذا سمعتم بالطاعون بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليه وإذا كان وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا عنه وروى عن أسامة بن زيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مثله في الطاعون وروى الزهري عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن الحارث ابن عبد الله بن نوفل عن ابن عباس أن عمر خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه التجار فقالوا الأرض سقيمة فاستشار المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه فعزم على الرجوع فقال له أبو عبيدة أفرارا من قدر الله فقال له عمر لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة نفر من قدر الله إلى قدر الله أرأيت لو كان لك إبل فهبطت بها واديا له عدوتان أحدهما خصيبة والأخرى جديبة ألست إن رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجديبة رعيتها بقدر الله فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال عندي من هذا علم سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه فحمد الله عمر وانصرف ففي هذه الأخبار النهى عن الخروج عن الطاعون فرارا منه والنهى عن الهبوط عليه أيضا فإن قال قائل إذا كانت الآجال مقدرة محصورة لا تتقدم ولا تتأخر عن وقتها فما وجه نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن دخول أرض بها الطاعون وهو قد منع الخروج منها بديا لأجله ولا فرق بين دخولها وبين البقاء فيها قيل له إنما وجه النهى أنه إذا دخلها وبها الطاعون فجائز أن تدركه منيته وأجله بها فيقول قائل لو لم يدخلها ما مات فإنما نهاه

١٦٥

عن دخولها لئلا يقال هذا وهو كقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) فكره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يدخلها فعسى يموت فيها بأجله فيقول قوم من الجهال لو لم يدخلها لم يمت* وقد أصاب بعض الشعراء في هذا المعنى حين قال.

يقولون لي لو كان بالرمل لم تمت

بثينة والأنباء يكذب قيلها

ولو أننى استودعتها الشمس لاهتدت

إليها المنايا عينها ودليلها

وعلى هذا المعنى الذي قدمنا ما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يوردن ذو عاهة على مصح مع قوله لا عدوى ولا طيرة لئلا يقال إذا أصاب الصحيح عاهة بعد إيراد ذي عاهة عليه إنما أعداه ما ورد عليه وقيل له يا رسول الله إن النقبة تكون بمشفر البعير فتجرب لها الإبل فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فما أعدى الأول وقد روى هشام بن عروة عن أبيه أن الزبير استفتح مصرا فقيل له إن هنا طاعونا فدخلها وقال ما جئنا إلا للطعن والطاعون وقد روى أن أبا بكر لما جهز الجيوش إلى الشام شيعهم ودعا لهم وقال اللهم أفهم بالطعن والطاعون* فاختلف أهل العلم في معنى ذلك فقال قائلون لما رآهم على حال الاستقامة والبصائر الصحيحة والحرص على جهاد الكفار خشي عليهم الفتنة وكانت بلاد الشام بلاد الطاعون مشهور ذلك بها أحب أن يكون موتهم على الحال التي خرجوا عليها قبل أن يفتتنوا بالدنيا وزهرتها وقال آخرون قد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم قال فناء أمتى بالطعن والطاعون يعنى عظم الصحابة وأخبر أن الله سيفتح البلاد بمن هذه صفته فرجا أبو بكر أن يكون هؤلاء الذين ذكرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبر عن حالهم ولذلك لم يجب أبو عبيدة الخروج من الشام وقال معاذ لما وقع الطاعون بالشام وهو بها قال اللهم اقسم لنا حظا منه ولما طعن في كفه أخذ يقبلها ويقول ما يسرني بها كذا وكذا وقال لئن كنت صغيرا فرب صغير يبارك الله فيه أو كلمة نحوها يتمنى الطاعون ليكون من أهل الصفة التي وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم بها أمته الذين يفتح الله بهم البلاد ويظهر بهم الإسلام وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول من أنكر عذاب القبر وزعم أنه من القول بالتناسخ لأن الله أخبر أنه أمات هؤلاء القوم ثم أحياهم فكذلك يحييهم في القبر ويعذبهم إذا استحقوا ذلك وقوله تعالى (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَ

١٦٦

اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) هو أمر بالقتال في سبيل الله وهو مجمل إذ ليس فيه بيان السبيل المأمور بالقتال فيه وقد بينه في مواضع غيره وسنذكره إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى وقوله تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) إنما هو تأكيدا لاستحقاق الثواب به إذ لا يكون قرضا إلا والعوض مستحق به وجهلت اليهود ذلك أو تجاهلت لما نزلت هذه الآية فقالوا إن الله يستقرض منا فنحن أغنياء وهو فقير إلينا فأنزل الله تعالى (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) وعرف المسلمون معناه ووثقوا بثواب الله ووعده وبادروا إلى الصدقات فروى أنه لما نزلت هذه الآية جاء أبو الدحداح إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله ألا ترى ربنا يستقرض منا مما أعطانا لأنفسنا وإن لي أرضين إحداهما بالعالية والأخرى بالسافلة وإنى قد جعلت خيرهما صدقة.

وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) الآية يدل على أن الإمامة ليست وراثة لإنكار الله تعالى عليهم ما أنكروه من التمليك عليهم من ليس من أهل النبوة ولا الملك وبين أن ذلك مستحق بالعلم والقوة لا بالنسب ودل ذلك أيضا على أنه لا حظ للنسب مع العلم وفضائل النفس وأنها مقدمة عليه لأن الله أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه وقوته وإن كانوا أشرف منه نسبا وذكره للجسم هاهنا عبارة عن فضل قوته لأن في العادة من كان أعظم جسما فهو أكثر قوة ولم يرد بذلك عظم الجسم بلا قوة لأن ذلك لا حظ له في القتال بل هو وبال على صاحبه إذا لم يكن ذا قوة فاضلة قوله عز وجل (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ) يدل على أن الشرب من النهر إنما هو الكرع فيه ووضع الشفة عليه لأنه قد كان حظر الشرب وحظر الطعم منه إلا لمن اغترف غرفة بيده وهذا يدل على صحة قول أبى حنيفة فيمن قال إن شربت من الفرات فعبدي حر أنه على أن يكرع فيه وإن اغترف منه أو شرب بإناء لم يحنث لأن الله قد كان حظر عليهم الشرب من النهر وحظر مع ذلك أن يطعم منه واستثنى من الطعم الاغتراف فحظر الشرب باق على ما كان عليه فدل على أن الاغتراف ليس بشرب منه* قوله تعالى (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) روى عن الضحاك والسدى وسليمان بن موسى إنه منسوخ بقوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) وقوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) وروى عن الحسن وقتادة أنها خاصة في أهل

١٦٧

الكتاب الذين يقرون على الجزية دون مشركي العرب لأنهم لا يقرون على الجزية ولا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف وقيل إنها نزلت في بعض أبناء الأنصار كانوا يهودا فأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام وروى ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقيل فيه أى لا تقولوا لمن أسلم بعد حرب أنه أسلم مكرها لأنه إذا رضى وصح إسلامه فليس بمكره* قال أبو بكر (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) أمر في صورة الخبر وجائز نزول ذلك قبل الأمر بقتال المشركين فكان في سائر الكفار كقوله تعالى (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) وكقوله تعالى (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) وقوله تعالى (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وقوله تعالى (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) فكان القتال محظورا في أول الإسلام إلى أن قامت عليهم الحجة بصحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما عاندوه بعد البيان أمر المسلمون بقتالهم فنسخ ذلك عن مشركي العرب بقوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وسائر الآي الموجبة لقتال أهل الشرك وبقي حكمه على أهل الكتاب إذا أذعنوا بأداء الجزية ودخلوا في حكم أهل الإسلام وفي ذمتهم ويدل على ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقبل من المشركى العرب إلا الإسلام أو السيف وجائز أن يكون حكم هذه الآية ثابتا في الحال على أهل الكفر لأنه ما من مشرك إلا وهو لو تهود أو تنصر لم يجبر على الإسلام وأقررناه على دينه بالجزية وإذا كان ذلك حكما ثابتا في سائر من انتحل دين أهل الكتاب ففيه دلالة على بطلان قول الشافعى حين قال من تهود من المجوس أو النصارى أجبرته على الرجوع إلى دينه أو إلى الإسلام والآية دالة على بطلان هذا القول لأن فيها الأمر بأن لا نكره أحدا على الدين وذلك عموم يمكن استعماله في جميع الكفار على الوجه الذي ذكرنا* فإن قال قائل فمشركوا العرب الذين أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقتالهم وأن لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف قد كانوا مكرهين على الدين ومعلوم أن من دخل في الدين مكرها فليس بمسلم فما وجه إكراههم عليه* قيل له إنما أكرهوا على إظهار الإسلام لا على اعتقاده لأن الاعتقاد لا يصح منا الإكراه عليه ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله فأخبر صلّى الله عليه وسلّم أن القتال إنما كان على إظهار الإسلام وأما الاعتقادات فكانت موكولة إلى الله تعالى ولم يقتصر بهم النبي صلّى الله عليه وسلّم على القتال

١٦٨

دون أن أقام عليهم الحجة والبرهان في صحة نبوته فكانت الدلائل منصوبة للاعتقاد وإظهار الإسلام معا لأن تلك الدلائل من حيث ألزمتهم اعتقاد الإسلام فقد اقتضت منه الإظهار والقتال لإظهار الإسلام* وكان في ذلك أعظم المصالح منها أنه إذا أظهر الإسلام وإن كان غير معتقد له فإن مجالسته للمسلمين وسماعه القرآن ومشاهدته لدلائل الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع ترادفها عليه تدعوه إلى الإسلام وتوضح عنده فساد اعتقاده ومنها أن يعلم الله أن في نسلهم من يوقن ويعتقد التوحيد فلم يجز أن يقتلوا مع العلم بأنه سيكون في أولادهم من يعتقد الإيمان* وقال أصحابنا فيمن أكره من أهل الذمة على الإيمان أنه يكون مسلما في الظاهر ولا يترك والرجوع إلى دينه إلا أنه لا يقتل إن رجع إلى دينه ويجبر على الإسلام من غير قتل لأن الإكراه لا يزيل عنه حكم الإسلام إذا أسلم وإن كان دخوله فيه مكرها دالا على أنه غير معتقد له لما وصفنا من إسلام من أسلم من المشركين بقتال النبي صلّى الله عليه وسلّم وقوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم إظهار الإسلام عند القتال إسلاما في الحكم فكذلك المكره على الإسلام من أهل الذمة واجب أن يكون مسلما في الحكم ولكنهم لم يقتلوا للشبهة ولا نعلم خلافا أن أسيرا من أهل الحرب لو قدم ليقتل فأسلم أنه يكون مسلما ولم يكن إسلامه خوفا من القتل مزيلا عنه حكم الإسلام فكذلك الذمي* فإن قال قائل قوله تعالى (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) يحظر إكراه الذمي على الإسلام وإذا كان الإكراه على هذا الوجه محظورا وجب أن لا يكون مسلما في الحكم وأن لا يتعلق عليه حكمه ولا يكون حكم الذمي في هذا حكم الحربي لأن الحربي يجوز أن يكره على الإسلام لإبائه الدخول في الذمة ومن دخل في الذمة لم يجز إكراهه على الإسلام* قيل له إذا ثبت أن الإسلام لا يختلف حكمه في الإكراه والطوع لمن يجوز إجباره عليه أشبه في هذا الوجه العتق والطلاق وسائر ما لا يختلف فيه حكم جده وهزله ثم لا يختلف بعد ذلك أن يكون الإكراه مأمورا به أو مباحا كما لا يختلف حكم العتق والطلاق في ذلك لأن رجلا لو أكره رجلا على طلاق أو عتاق ثبت حكمهما عليه وإن كان المكره ظالما في إكراهه منهيا عنه وكونه منهيا عنه لا يبطل حكم العتق والطلاق عندنا كذلك ما وصفنا من أمر الإكراه على الإسلام.

قوله عز وجل (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) الآية قال أبو بكر

١٦٩

إن إيتاء الله الملك للكافر إنما هو من جهة كثرة المال واتساع الحال وهذا جائز أن ينعم الله على الكافرين به في الدنيا ولا يختلف حكم الكافر والمؤمن في ذلك ألا ترى إلى قوله تعالى (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) فهذا الضرب من الملك جائز أن يؤتيه الله الكافر وأما الملك الذي هو تمليك الأمر والنهى وتدبير أمور الناس فإن هذا لا يجوز أن يعطيه الله أهل الكفر والضلال لأن أوامر الله تعالى وزواجره إنما هي استصلاح للخلق فغير جائز استصلاحهم بمن هو على الفساد مجانب للصلاح ولأنه لا يجوز أن يأتمن أهل الكفر والضلال على أوامره ونواهيه وأمور دينه كما قال تعالى في آية أخرى (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وكانت محاجة الملك الكافر لإبراهيم عليه السّلام وهو النمروذ بن كنعان أنه دعاه إلى اتباعه وحاجه بأنه ملك يقدر على الضر والنفع فقال إبراهيم عليه السّلام فإن ربي الذي يحيى ويميت وأنت لا تقدر على ذلك فعدل عن موضع احتجاج إبراهيم عليه السّلام إلى معارضته بالإشراك في العبارة دون حقيقة المعنى لأن إبراهيم عليه السّلام حاجه بأن أعلمه أن ربه هو الذي يخلق الحياة والموت على سبيل الاختراع فجاء الكافر برجلين فقتل أحدهما وقال قد أمته وخلى الآخر وقال قد أحييته على سبيل مجاز الكلام لا على الحقيقة لأنه كان عالما بأنه غير قادر على اختراع الحياة والموت* فلما قرر عليه الحاجة وعجز الكافر عن معارضته بأكثر مما أورد زاده حجاجا لا يمكنه مع معارضته ولا إيراد شبهة يموه بها على الحاضرين وقد كان الكافر عالما بأن ما ذكره ليس بمعارضة لكنه أراد التمويه على أغمار أصحابه كما قال فرعون حين آمنت السحرة عند إلقاء موسى عليه السّلام العصا وتلقفها جميع ما لقوا من الحبال والعصى وعلموا أن ذلك ليس بسحر وأنه من فعل الله فأراد فرعون التمويه عليهم فقال إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها يعنى تواطأتم عليه مع موسى قبل هذا الوقت حتى إذا اجتمعتم أظهرتم العجز عن معارضته والإيمان به وكان ذلك مما موه به على أصحابه وكذلك الكافر الذي حاج إبراهيم عليه السّلام ولم يدعه إبراهيم عليه السّلام وما رام حتى أتاه بما لم يمكنه دفعه بحال ولا معارضة فقال فإن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فانقطع وبهت ولم يمكنه أن يلجأ إلى معارضة أو شبهة وفي حجاج إبراهيم عليه السّلام بهذا اللطف دليل وأوضح برهان لمن عرف معناه وذلك أن القوم الذين

١٧٠

بعث فيهم إبراهيم عليه السّلام كانوا صابئين عبدة أوثان على أسماء الكواكب السبعة وقد حكى الله عنهم في غير هذا الموضع أنهم كانوا يعبدون الأوثان ولم يكونوا يقرون بالله تعالى وكانوا يزعمون حوادث العالم كلها في حركات الكواكب السبعة وأعظمها عندهم الشمس ويسمونها وسائر الكواكب آلهة والشمس عندهم هو الإله الأعظم الذي ليس فوقه إله وكانوا لا يعترفون بالباري جل وعز وهم لا يختلفون وسائر من يعرف مسير الكواكب أن لها ولسائر الكواكب حركتين متضادتين إحداهما من المغرب إلى المشرق وهي حركتها التي تختص بها لنفسها والأخرى تحريك الفلك لها من المشرق إلى المغرب وبهذه الحركة تدور علينا كل يوم وليلة دورة وهذا أمر مقرر عند من يعرف مسيرها فقال له إبراهيم عليه السّلام إنك تعترف أن الشمس التي تعبدها وتسميها إلها لها حركة قسر ليس هي حركة نفسها بل هي بتحريك غيرها لها يحركها من المشرق إلى المغرب والذي أدعوك إلى عبادته هو فاعل هذه الحركة في الشمس ولو كانت إلها لما كانت مقسورة ولا مجبرة فلم يمكنه عند ذلك دفع هذا الحجاج بشبهة ولا معارضة إلا قوله (حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) وهاتان الحركتان المتضادتان للشمس ولسائر الكواكب لا توجدان لها في حال واحدة لاستحالة وجود ذلك في جسم واحد في وقت واحد ولكنها لا بد من أن تتخلل إحداهما سكون فتوجد الحركة الأخرى في وقت لا توجد فيه الأولى* قال أبو بكر فإن قيل كيف ساغ لإبراهيم عليه السّلام الانتقال عن الحجاج الأول إلى غيره قيل له لم ينتقل عنه بل كان ثابتا عليه وإنما أردفه بحجاج آخر كما أقام الله الدلائل على توحيده من عدة وجوه وكل ما في السموات والأرض دلائل عليه وأيد نبيه صلّى الله عليه وسلّم بضروب من المعجزات كل واحدة منها لو انفردت لكانت كافية مغنية وقد حاجهم إبراهيم عليه السّلام بغير ذلك من الحجاج في قوله تعالى (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) روى في التفسير أنه أراد تقرير قومه على صحة استدلاله وبطلان قولهم فقال (هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) وكان ذلك في ليلة يجتمعون فيها في هياكلهم وعند أصنامهم عيدا لهم فقررهم ليلا على أمر الكواكب عند ظهوره وأفوله وحركته وانتقاله وأنه لا يجوز أن يكون مثله إلها لما ظهرت فيه من آيات الحدث ثم كذلك في القمر ثم لما أصبح قررهم على مثله في

١٧١

الشمس حتى قامت الحجة عليهم ثم كسر أصنامهم وكان من أمره ما حكاه الله عنه* وهذه الآية تدل على صحة المحاجة في الدين واستعمال حجج العقول والاستدلال بدلائل الله تعالى على توحيده وصفاته الحسنى وتدل على أن المحجوج المنقطع يلزمه اتباع الحجة وترك ما هو عليه من المذهب الذي لا حجة له فيه وتدل على بطلان قول من لا يرى الحجاج في إثبات الدين لأنه لو كان كذلك لما حاجه إبراهيم عليه السّلام وتدل على أن المحجوج عليه أن ينظر فيما ألزم من الحجاج فإذا لم يجد منه مخرجا صار إلى ما يلزمه وتدل على أن الحق سبيله أن لا يقبل بحجته إذ لا فرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل وإلا فلو لا الحجة التي بان بها الحق من الباطل لكانت الدعوى موجودة في الجميع فكان لا فرق بينه وبين الباطل وتدل على أن الله تعالى لا يشبهه شيء وأن طريق معرفته ما نصب من الدلائل على توحيده لأن أنبياء الله عليهم السّلام إنما حاجوا الكفار بمثل ذلك ولم يصفوا الله تعالى بصفة توجب التشبيه وإنما وصفوه بأفعاله واستدلوا بها عليه قوله عز وجل (قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) قول هذا القائل لم يكن كذبا وقد أماته الله مائة عام لأنه أخبر عما عنده فكأنه قال عندي إنى لبثت يوما أو بعض يوم ونظيره أيضا ما حكاه الله تعالى عن أصحاب الكهف قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم وقد كانوا لبثوا ثلاثمائة وتسع سنين ولم يكونوا كاذبين فيما أخبروا عما عندهم كأنهم قالوا عندنا في ظنوننا إنما لبثنا يوما أو بعض يوم ونظيره قول النبي صلّى الله عليه وسلّم حين صلى ركعتين وسلم في إحدى صلاة العشاء فقال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت فقال لم تقصر ولم أنس وكان صلّى الله عليه وسلّم صادقا لأنه أخبر عما عنده في ظنه وكان عنده أنه قد أتمها فهذا كلام سائغ جائز غير ملوم عليه قائله إذا أخبر عن اعتقاده وظنه لا عن حقيقة مخبره ولذلك عفا الله عن الحالف بلغو اليمين وهو فيما روى قول الرجل لمن سأله هل كان كذا وكذا فيقول على ما عنده لا والله أو يقول بلى والله وإن اتفق مخبره خلافه لأنه إنما أخبر عن عقيدته وضميره والله الموفق.

باب الامتنان بالصدقة

قال الله تعالى (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً) الآية وقال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ

١٧٢

مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) وقال تعالى (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) وقال تعالى (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أخبر الله تعالى في هذه الآيات أن الصدقات إذا لم تكن خالصة لله عارية من من وأذى فليست بصدقة لأن إبطالها هو إحباط هو إحباط ثوابها فيكون فيها بمنزلة من لم يتصدق وكذلك سائر ما يكون سبيله وقوعه على وجه القربة إلى الله تعالى فغير جائز أن يشوبه رياء ولا وجه غير القربة فإن ذلك يبطله كما قال تعالى (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) وقال تعالى (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ) فما لم يخلص لله تعالى من القرب فغير مثاب عليه فاعله ونظيره أيضا قوله تعالى (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) ومن أجل ذلك قال أصحابنا لا يجوز الاستيجار على الحج وفعل الصلاة وتعليم القرآن وسائر الأفعال التي شرطها أن تفعل على وجه القربة لأن أخذ الأجر عليها يخرجها عن أن تكون قربة لدلائل هذه الآيات ونظائرها وروى عمرو عن الحسن في قوله تعالى (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) قال هو المتصدق يمن بها فنهاه الله عن ذلك وقال ليحمد الله إذ هداه للصدقة وعن الحسن في قوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) قال يتثبتون أين يضعون أموالهم وعن الشعبي قال تصديقا ويقينا من أنفسهم وقال قتادة ثقة من أنفسهم والمن في الصدقة أن يقول المتصدق قد أحسنت إلى فلان ونعشته وأغنيته فذلك ينغصها على المتصدق بها عليه والأذى قوله أنت أبدا فقير وقد بليت بك وأراخنى الله منك ونظيره من القول الذي فيه تعبير له بالفقر فقال تعالى (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) يعنى والله أعلم ردا جميلا ومغفرة قيل فيها ستر الخلة على السائر وقيل العفو عمن ظلمه خير من صدقة يتبعها أذى لأنه يستحق المأثم بالمن والأذى ورد السائل بقول جميل فيه السلامة من المعصية فأخبر الله تعالى أن ترك الصدقة برد جميل خير من صدقة يتبعها أذى وامتنان وهو نظير قوله تعالى (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) والله تعالى الموفق.

١٧٣

باب المكاسبة

قال الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) فيه إباحة المكاسب وأخبار أن فيها طيبا والمكاسب وجهان أحدهما إبدال الأموال وأرباحها والثاني إبدال المنافع وقد نص الله تعالى على إباحتها في مواضع من كتابه نحو قوله تعالى (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) وقوله تعالى (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) وقال تعالى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) يعنى والله أعلم من يتجر ويكرى ويحتج مع ذلك وقال تعالى في إبدال المنافع (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) وقال شعيب عليه السّلام (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم من استأجر أجيرا فليعلمه أجره وقال صلّى الله عليه وسلّم لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه وقد روى الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه وقد روى عن جماعة من السلف في قوله تعالى (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) أنه من التجارات منهم الحسن ومجاهد* وعموم هذه الآية يوجب الصدقة في سائر الأموال لأن قوله تعالى (ما كَسَبْتُمْ) ينتظمها وإن كان غير مكتف بنفسه في المقدار الواجب فيها فهو عموم في أصناف الأموال مجمل في المقدار الواجب فيها فهو مفتقر إلى البيان ولما ورد البيان من النبي صلّى الله عليه وسلّم بذكر مقادير الواجبات فيها صح الاحتجاج بعمومها في كل مال اختلفنا في إيجاب الحق فيه نحو أموال التجارة ويحتج بظاهر الآية على من ينفى إيجاب الزكاة في العروض ويحتج فيه أيضا في إيجاب صدقة الخيل وفي كل ما اختلف فيه من الأموال وذلك لأن قوله تعالى (أَنْفِقُوا) المراد به الصدقة والدليل عليه قوله تعالى (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) يعنى تتصدقون ولم يختلف السلف والخلف في أن المراد به الصدقة ومن أهل العلم من قال إن هذا في صدقة التطوع لأن الفرض إذا أخرج عنه الرديء كان الفضل باقيا في ذمته حتى يؤدى وهذا عندنا يوجب صرف اللفظ عن الوجوب إلى النفل من وجوه أحدها أن قوله (أَنْفِقُوا) أمر والأمر عندنا على الوجوب حتى تقوم دلالة الندب وقوله (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) لا دلالة فيه على أنه ندب إذ لا يختص

١٧٤

النهى عن إخراج الردى بالنفل دون الفرض وأن يجب عليه إخراج فضل ما بين الردى إلى الجيد لأنه لا ذكر له في الآية وإنما يعلم ذلك بدلالة أخرى فلا يعترض ذلك على مقتضى الآية في إيجاب الصدقة ومع ذلك لو دلت الدلالة من الآية على أنه ليس عليه إخراج غير الردى الذي أخرجه لم يوجب ذلك صرف حكم الآية عن الإيجاب إلى الندب لأنه جائز أن يبتدئ الخطاب بالإيجاب ثم يعطف عليه بحكم مخصوص في بعض ما اقتضاه عمومه ولا يوجب ذلك الاقتصار بحكم ابتداء الخطاب على الخصوص وصرفه عن العموم ولذلك نظائر كثيرة قد بيناها في مواضع وقوله تعالى (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) عموم في إيجابه الحق في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره في سائر الأصناف الخارجة منها ويحتج به لأبى حنيفة رضى الله عنه في إيجابه العشر في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره في سائر الأصناف الخارجة منها مما تقصد الأرض بزراعتها ومما يدل من فحوى الآية على أن المراد بها الصدقات الواجبة قوله تعالى في نسق التلاوة (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) وهذا إنما هو في الديون إذا اقتضاها صاحبها لا يتسامح بالردى عن الجيد إلا على إغماض وتساهل فدل ذلك على أن المراد الصدقة الواجبة والله أعلم إذا ردها إلى الإغماض في اقتضاء الدين ولو كان تطوعا لم يكن فيها إغماض إذ له أن يتصدق بالقليل والكثير وله أن لا يتصدق وفي ذلك دليل على أن المراد الصدقة الواجبة* وأما قوله تعالى (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) روى الزهري عن أبى أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن نوعين من التمر الجعرور ولون الحبيق قال وكان ناس يخرجون شر ثمارهم في الصدقة فنزلت (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) وروى عن البراء بن عازب مثل ذلك قال في قوله تعالى (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) لو أن أحدكم أهدى إليه مثل ما أعطى لما أخذه إلا على إغماض وحياء وقال عبيدة إنما ذلك في الزكاة والدرهم الزائف أحب إلى من الثمرة وعن ابن معقل في هذه الآية قال ليس في أموالهم خبيث ولكنه الدرهم القسي والزيف ولستم بآخذيه قال لو كان لك على رجل حق لم تأخذ الدرهم القسي والزيف ولم تأخذ من الثمر إلا الجيد إلا أن تغمضوا فيه تجوزوا فيه وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم نحو هذا وهو ما كتبه في كتاب الصدقة وقال فيه ولا تؤخذ هرمة ولا ذات عوار رواه الزهري عن سالم عن أبيه* وقد قيل عن ابن عباس في قوله

١٧٥

تعالى (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) إلا أن تحطوا من الثمن وعن الحسن وقتادة مثله وقال البراء ابن عازب إلا أن تتساهلوا فيه وقيل لستم بآخذيه إلا بوكس فكيف تعطونه في الصدقة هذه الوجوه كلها محتملة وجائز أن يكون جميعها مراد الله تعالى بأنهم لا يقبلونه في الهدية إلا بإغماض ولا يقبضونه من الجيد إلا بتساهل ومسامحة ولا يبيعون بمثله إلا بحبط ووكس وقد اختلف أصحابنا فيمن أدى من المكيل والموزون دون الواجب في الصفة فأدى عن الجيد رديا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف لا يجب عليه أداء الفضل وقال محمد عليه أن يؤدى الفضل الذي بينهما وقالوا جميعا في الغنم والبقر وجميع الصدقات مما لا يكال ولا يوزن أن عليه أداء الفضل فيجوز أن يحتج لمحمد بهذه الآية وقوله تعالى (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) والمراد به الردى منه وقوله تعالى (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) ولصاحب الحق أن لا يغمض فيه ولا يتساهل ويطالب بحقه من الجودة فهذا يدل على أن عليه أداء الفضل حتى لا يقع فيه إغماض لأن الحق في ذلك لله تعالى وقد نفى الإغماض في الصدقة بنهيه عن عطاء الردى فيها وأما أبو حنيفة وأبو يوسف فإنهما قالا كل ما لا يجوز التفاضل فيه فإن الجيد والردى حكمهما سواء في حظر التفاضل بينهما وإن قيمته من جنسه لا يكون إلا بمثله ألا ترى أنه لو اقتضى دينا على أنه جيد فأنفقه ثم علم أنه كان رديا أنه لا يرجع على الغريم بشيء وأن ما بينهما من الفضل لا يغرمه وإنما يقول أبو يوسف فيه أنه يغرم مثل ما قبض من الغريم ويرجع بدينه وغير ممكن مثله في الصدقة لأن الفقير لا يغرم شيئا فلو غرمه لم تكن له مطالبة المتصدق برد الجيد عليه فلذلك لم يلزمه إعطاء الفضل وإنما نهى الله تعالى المتصدق عن قصد الردى بالإخراج وقد وجب إخراج الجيد فإنهم يقولون إنه منهى عنه ولكن لما كان حكم ما أعطى حكم الجيد فيما وصفنا أجزأ عنه وأما ما يجوز فيه التفاضل فإنه مأمور بإخراج الفضل فيه لأنه جائز أن تكون قيمته من جنسه أكثر منه ويباع بعضه ببعض متفاضلا وأما محمد فإنه لم يجز إخراج الردى من الجيد إلا بمقدار قيمته منه فأوجب عليه إخراج الفضل إذ ليس بين العبد وبين سيده ربا* وفي هذه الآية دلالة على جواز اقتضاء الردى عن الجيد في سائر الديون لأن الله تعالى أجاز الإغماض في الديون بقوله تعالى (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) ولم يفرق بين شيء منه فدل ذلك على معان منها جواز اقتضاء الزيوف التي أقلها غش وأكثرها

١٧٦

فضة عن الجياد في رأس مال السلم وثمن الصرف اللذين لا يجوز أن يأخذ عنهما غيرهما ودل على أن حكم الردى في ذلك حكم الجيد وهذا يدل أيضا على جواز بيع الفضة الجيدة بالردية وزنا بوزن لأن ما جاز اقتضاء بعضه عن بعض جاز بيعه به ويدل على أن قول النبي صلّى الله عليه وسلّم الذهب بالذهب مثلا بمثل إنما أراد المماثلة في الوزن لا في الصفة وكذلك سائر ما ذكره معه ويدل على جواز اقتضاء الجيد عن الردى برضا الغريم كما جاز اقتضاء الردى عن الجيد إذ لم يكن لاختلافهما في الصفة حكم وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم خيركم أحسنكم قضاء قال جابر بن عبد الله قضانى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وزادني وروى عن ابن عمر والحسن وسعيد بن المسيب وإبراهيم والشعبي قالوا لا بأس إذا أقرضه دراهم سودا أن يقبضه بيضا إذا لم يشرط ذلك عليه وروى سليمان التيمي عن أبى عثمان النهدي عن ابن مسعود أنه كان يكره إذا أقرض دراهم أن يأخذ خيرا منها وهذا ليس فيه دلالة على أنه كرهه إذا رضى المستقرض وإنما لا يجوز له أن يأخذ خيرا منها إذا لم يرض صاحبه قوله تعالى (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) قد قيل إن الفحشاء تقع على وجوه والمراد بها في هذا الموضع البخل والعرب تسمى البخيل فاحشا والبخل فحشا قال الشاعر :

أرى الموت يعتام الكرام ويصطف

عقيلة مال الفاحش المتشدد

يعنى مال البخيل وفي هذه الآية ذم البخيل والبخل* وقوله عز وجل (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ الآية روى عن ابن عباس أنه قال هذا في صدقة التطوع فأما في الفريضة فإظهارها أفضل لئلا تلحقه تهمة وعن الحسن ويزيد بن أبى حبيب وقتادة الإخفاء في جميع الصدقات أفضل وقد مدح الله تعالى على إظهار الصدقة كما مدح على اخفائها في قوله تعالى (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وجائز أن يكون قوله تعالى (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) في صدقة التطوع على ما روى عن ابن عباس وجائز أن يكون في جميع الصدقات الموكول أداؤها إلى أربابها من نفل أو فرض دون ما كان منها أخذه إلى الإمام إلا أن عموم اللفظ يقتضى جميعها لأن الألف واللام هنا للجنس فهي شاملة لجميعها* وهذا يدل على أن جميع الصدقات مصروفة إلى الفقراء وأنها إنما تستحق بالفقر لا غير وأن ما ذكر الله تعالى من أصناف من تصرف إليهم الصدقة في قوله تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ إنما

«١٢ ـ أحكام في»

١٧٧

يستحق منهم من يأخذها صدقة بالفقر دون غيره وإنما ذكر الأصناف لما يعمهم من أسباب الفقر دون من لا يأخذها صدقة من المؤلفة قلوبهم والعاملين عليها فإنهم لا يأخذونها صدقة وإنما تحصل في يد الإمام صدقة للفقراء ثم يصرف إلى المؤلفة قلوبهم والعاملين ما يعطون على أنه ليس بصدقة لكن عوضا من العمل ولدفع أذيتهم عن أهل الإسلام أو ليستمالوا به إلى الإيمان* ومن المخالفين من يحتج بذلك في جواز إعطاء جميع الصدقات للفقراء دون الإمام وأنهم إذا أعطوا الفقراء صدقة المواشي سقط حق الإمام في الأخذ لقوله تعالى (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وذلك عام في سائرها لأن الصدقة هاهنا اسم للجنس* وليس في هذا عندنا دلالة على ما ذكروا لأن أكثر ما فيه أنه خير للمعطى فليس فيه سقوط حق الإمام في الأخذ وليس كونها خيرا له نافيا لثبوت حق الإمام في الأخذ إذ لا يمتنع أن يكون خيرا لهم ويأخذها الإمام فيتضاعف الخير بأخذها ثانيا وقد قدمنا قول من يقول إن هذا في صدقة التطوع* ومن أهل العلم من يقول إن الإجماع قد حصل على أن إظهار صدقة الفرض أولى من إخفائها كما قالوا في الصلوات المفروضة ولذلك أمروا بالاجتماع عليها في الجماعات بأذان وإقامة وليصلوها ظاهرين فكذلك سائر الفروض لئلا يقيم نفسه مقام تهمة في ترك أداء الزكاة وفعل الصلاة قالوا فهذا يوجب أن يكون قوله تعالى (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) في التطوع خاصة لأن ستر الطاعات النوافل أفضل من إظهارها لأنه أبعد من الرياء وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال سبعة يظلهم الله في ظل عرشه أحدهم رجل تصدق بصدقة لم تعلم شماله ما تصدقت به يمينه وهذا إنما هو في التطوع دون الفرض ويدل على أن المراد صدقة التطوع أنه لا خلاف أن العامل إذا جاء قبل أن تؤدى صدقة المواشي فطالبه بأدائها أن الفرض عليه أداؤها إليه فصار إظهار أدائها في هذه الحال فرضا وفي ذلك دليل على أن المراد بقوله تعالى (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) صدقة التطوع والله تعالى أعلم بالصواب.

باب إعطاء المشرك من الصدقة

قال الله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) قال أبو بكر ما تقدم في هذا الخطاب وما جاء في نسقه يدل على أن قوله تعالى

١٧٨

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) إنما معناه في الصدقة عليهم لأنه ابتدأ الخطاب بقوله تعالى (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) ثم عطف عليه قوله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) ثم عقب ذلك بقوله تعالى (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) فدل ما تقدم من الخطاب في ذلك وتأخر عنه من ذكر الصدقة أن المراد إباحة الصدقة عليهم وإن لم يكونوا على دين الإسلام وقد روى ذلك عن جماعة من السلف روى عن جعفر بن أبى المغيرة عن سعيد بن جبير قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تصدقوا إلا على أهل دينكم فأنزل الله (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) فقال صلّى الله عليه وسلّم تصدقوا على أهل الأديان وروى الحجاج عن سالم المكي عن ابن الحنفية قال كره الناس أن يتصدقوا على المشركين فأنزل الله (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) فتصدق الناس عليهم من غير الفريضة* قال أبو بكر لا ندري هذا من كلام من هو أعنى قوله فتصدق الناس عليهم من غير الفريضة وجائز أن يريد به من غير الزكاة وصدقات المواشي دون كفارات الأيمان ونحوها وأيضا قوله فتصدق الناس عليهم من غير الفريضة لا يوجب تخصيص الآية لأن فعلهم لا يقتضى الوجوب ومع ذلك فهم مخيرون بين أن يتصدقوا عليهم وبين أن لا يتصدقوا وروى الأعمش عن جعفر بن أياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان ناس لهم أنساب وقرابة من قريظة والنضير فكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم ويريدونهم على الإسلام فنزلت (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) إلى آخر الآية وروى هشام بن عروة عن أبيه عن أمه أسماء قالت أتتني أمى في عهد قريش راغبة وهي مشركة فسألت النبي صلّى الله عليه وسلّم أصلها قال نعم * قال أبو بكر ونظير هذه الآية في دلالتها على ما دلت عليه قوله تعالى (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) فروى عن الحسن قال هم الأسراء من أهل الشرك وروى عن سعيد بن جبير وعطاء قال هم أهل القبلة وغيرهم* قال أبو بكر الأول أظهر لأن الأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا ونظيرها أيضا قوله تعالى (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) إلى آخر القصة فأباح برهم وإن كانوا مشركين إذا لم يكونوا أهل حرب لنا والصدقات من البر فاقتضى جواز دفع الصدقات إليهم وظواهر هذه الآي توجب جواز دفع سائرها إليهم إلا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد خص منها الزكوات وصدقات المواشي وكل ما كان أخذه من الصدقات إلى الإمام بقوله أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم وقال لمعاذ أعلمهم

١٧٩

إن الله فرض عليهم حقا في أموالهم يؤخذ من أغنيائهم ويرد على فقرائهم فكانت الصدقات التي أخذها إلى الإمام مخصوصة من هذه الجملة فلذلك قال أبو حنيفة كل صدقة ليس أخذها إلى الإمام فجائز إعطاؤها أهل الذمة وما كان أخذها إلى الإمام لا يعطى أهل الذمة فيجيز إعطاء الكفارات والنذور وصدقة الفطر أهل الذمة* فإن قيل فزكاة* المال ليس أخذها إلى الإمام ولا يجوز أن تعطى أهل الذمة* قيل أخذها في الأصل إلى الإمام وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يأخذها وكذلك أبو بكر وعمر فلما كان عثمان قال للناس إن هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده ثم ليزك بقية ماله فجعل أرباب الأموال وكلاء له في أدائها ولم يسقط في ذلك حق الإمام في أخذها وقال أبو يوسف كل صدقة واجبة فغير جائز دفعها إلى الكفار قياسا على الزكاة* قوله تعالى (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) الآية يعنى والله أعلم النفقة المذكورة بديا والمراد بها الصدقة وروى عن مجاهد والسدى المراد فقراء المهاجرين* وقوله تعالى (أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) قيل إنهم منعوا أنفسهم التصرف في التجارة خوف العدو من الكفار روى ذلك عن قتادة لأن الإحصار منع النفس عن التصرف لمرض أو حاجة أو مخافة فإذا منعه العدو قيل أحصره* وقوله تعالى (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) يعنى والله أعلم الجاهل بحالهم وهذا يدل على أن ظاهر هيئتهم وبزتهم يشبه حال الأغنياء ولو لا ذلك لما ظنهم الجاهل أغنياء لأن ما يظهر من دلالة الفقر شيئان أحدهما بذاذة الهيئة ورئاثة الحال والآخر المسألة على أنه فقير فليس يكاد يحسبهم الجاهل أغنياء إلا لما يظهر له من حسن البزة الدالة على الغنى في الظاهر* وفي هذه الآية دلالة على أن من له ثياب الكسوة ذات قيمة كثيرة لا تمنعه إعطاء الزكاة لأن الله تعالى قد أمرنا بإعطاء الزكاة من ظاهر حاله مشبه لأحوال الأغنياء ويدل على أن الصحيح الجسم جائز أن يعطى من الزكاة لأن الله تعالى أمر بإعطاء هؤلاء القوم وكانوا من المهاجرين الذين كانوا يقاتلون مع النبي صلّى الله عليه وسلّم المشركين ولم يكونوا مرضى ولا عميانا* وقوله عز وجل (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) فإن السيما العلامة قال مجاهد المراد به هنا التخشع وقال السدى والربيع بن أنس هو علامة الفقر وقال الله تعالى (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) يعنى علامتهم فجائز أن تكون العلامة المذكورة في قوله تعالى (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) ما يظهر في وجه الإنسان من كسوف

١٨٠