أحكام القرآن - ج ٢

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦

وعلى المقتر على قدر ماله وإنما قال تعالى (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) وللمقتر قدر يعتبر به وهو ثبوته في ذمته حتى يجد فيسلمه كما قال الله تعالى (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) فأوجبها عليه بالمعروف ولو كان معسرا لا يقدر على شيء لم يخرج عن حكم الآية لأن له ذمة تثبت فيها النفقة بالمعروف حتى إذا وجدها أعطاها كذلك المقتر في حكم المتعة وكسائر الحقوق التي تثبت في الذمة وتكون الذمة كالأعيان ألا ترى أن شراء المعسر بمال في ذمته جائز وقامت الذمة مقام العين في باب ثبوت البدل فيها فكذلك ذمة الزوج المقتر ذمة صحيحة يصح إثبات المتعة فيها كما تثبت فيها النفقات وسائر الديون قال أبو بكر في هذه الآية دلالة على جواز النكاح بغير تسمية مهر لأن الله تعالى حكم بصحة الطلاق فيه مع عدم التسمية والطلاق لا يقع إلا في نكاح صحيح وقد تضمنت الدلالة على أن شرطه أن لا صداق لها لا يفسد النكاح لأنها لما لم يفرق بين من سكت عن التسمية وبين من شرط أن لا صداق فهي على الأمرين جميعا وزعم مالك أنه إذا شرط أن لا مهر لها فالنكاح فاسد فإن دخل بها صح النكاح ولها مهر مثلها وقد قضت الآية بجواز النكاح وشرطه أن لا مهر لها ليس بأكثر من ترك التسمية فإذا كان عدم التسمية لا يقدح في العقد فكذلك شرطه أن لا مهر لها وإنما قال أصحابنا أنها غير واجبة للمدخول بها لأنا قد بينا أن المتعة بدل من البضع وغير جائز أن تستحق بدلين فلما كانت مستحقة بعد الدخول المسمى أو مهر المثل لم يجز أن تستحق معه المتعة ولا خلاف أيضا بين الفقهاء الأمصار أن المطلقة قبل الدخول لا تستحقها على وجه الوجوب إذا وجب لها نصف المهر فدل ذلك من وجهين على ما ذكرنا أحدهما أنها لم تستحقه مع وجوب بعض المهر فأن لا تستحقه مع وجوب جميعه أولى والثاني أن المعنى فيه أنها قد استحقت شيئا من المهر وذلك موجود في المدخول بها* فإن قيل لما وجبت المتعة حين لم يجب شيء من المهر وجب أن يكون وجوبها عند استحقاق المهر أولى قيل فينبغي أن تستحقها إذا وجب نصف المهر لوجوبها عند عدم شيء منه وأيضا فإنما استحقها عند فقد شيء من المهر لعلة أن البضع لا يخلو من بدل قيل الطلاق وبعده فلما لم يجب المهر وجبت المتعة ولما استحقت بدلا آخر لم يجز أن تستحقها فإن قيل قال الله تعالى (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) وذلك عام في سائرهن إلا ما خصه الدليل قيل له هو كذلك إلا أن المتاع اسم لجميع ما ينتفع به قال الله تعالى

١٤١

(وَفاكِهَةً وَأَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) وقال تعالى (مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) وقال تعالى (إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) وقال الأفوه الأودي :

إنما نعمة قوم متعة

وحياة المرء ثوب مستعار

فالمتعة والمتاع اسم يقع على جميع ما ينتفع به ونحن فمتى أوجبنا للمطلقات شيئا مما ينفع به من مهر أو نفقة فقد قضينا عهدة الآية فمتعة التي لم يدخل بها نصف المهر المسمى والتي لم يسم لها على قدر حال الرجل والمرأة وللمدخول بها تارة المسمى وتارة المثل إذا لم يكن مسمى وذلك كله متعة وليس بواجب إذا أوجبنا لها ضربا من المتعة أن توجب لها سائر ضروبها لأن قوله تعالى (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ) إنما يقتضى أدنى ما يقع عليه الاسم فإن قيل قوله تعالى (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ) يقتضى إيجابه بالطلاق ولا يقع على ما استحقته قبله من المهر قيل له ليس كذلك لأنه جائز أن تقول وللمطلقات المهور التي كانت واجبة لهن قبل الطلاق فليس في ذكر وجوبه بعد الطلاق ما ينفى وجوبه قبله إذ لو كان كذلك لما جاز ذكر وجوبه في الحالين مع ذكر الطلاق فيكون فائدة وجوبه بعد الطلاق إعلامنا أن مع الطلاق يجب المتاع إذ كان جائزا أن يظن ظان أن الطلاق يسقط ما وجب فأبان عن إيجابه بعده كهو قبله وأيضا إن كان المراد متاعا وجب بالطلاق فهو على ثلاثة أنحاء إما نفقة العدة للمدخول بها أو المتعة أو نصف المسمى لغير المدخول بها وذلك متعلق بالطلاق لأن النفقة تسمى متاعا على ما بينا كما قال تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) فسمى النفقة والسكنى الواجبتين لها متاعا ومما يدل على أن المتعة غير واجبة مع المهر اتفاق الجميع على أنه ليس لها المطالبة بها قبل الطلاق فلو كانت المتعة تجب مع المهر بعد الطلاق لوجبت قبل الطلاق إذ كانت بدلا من البضع وليست بدلا من الطلاق فكان يكون حكمها حكم المهر وفي ذلك دليل على امتناع وجوب المتعة والمهر فإن قيل فأنتم توجبونها بعد الطلاق لمن لم يسم لها ولم يدخل بها ولا توجبونها قبله ولم يكن انتفاء وجوبها قبل الطلاق دليلا على انتفاء وجوبها بعده وكذلك قلنا في المدخول بها* قيل له إن المتعة بعض مهر المثل إذ قام مقام بعضه وقد كانت المطالبة لها واجبة بالمهر قبل الطلاق فلذلك صحت ببعضه بعده وأنت فلست تجعل المتعة بعض المهر فلم يخل إيجابها من أن تكون بدلا من البضع أو من الطلاق فإن كانت بدلا من البضع مع

١٤٢

مهر المثل فواجب أن تستحقها قبل الطلاق وإن لم تكن بدلا من البضع استحال وجوبها عن الطلاق في حال حصول البضع لها والله تعالى أعلم.

ذكر تقدير المتعة الواجبة

قال الله تعالى (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ) وإثبات المقدار على اعتبار حاله في الإعسار واليسار طريقه الاجتهاد وغالب الظن ويختلف ذلك في الأزمان أيضا لأن الله تعالى شرط في مقدارها شيئين أحدهما اعتبارها بيسار الرجل وإعساره والثاني أن يكون بالمعروف مع ذلك فوجب اعتبار المعنيين في ذلك وإذا كان كذلك وكان المعروف منهما موقوفا على عادات الناس فيها والعادات قد تختلف وتتغير وجب بذلك مراعاة العادات في الأزمان وذلك أصل في جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث إذ كان ذلك حكما مؤديا إلى اجتهاد رأينا وقد ذكرنا أن شيخنا أبا الحسن رحمه الله يقول يجب مع ذلك اعتبار حال المرأة وذكر ذلك أيضا على بن موسى القمي في كتابه واحتج بأن الله تعالى علق الحكم في تقدير المتعة بشيئين حال الرجل بيساره وإعساره وأن يكون مع ذلك بالمعروف قال فلو اعتبرنا حال الرجل وحده عاريا من اعتبار حال المرأة لوجب أن يكون لو تزوج امرأتين أحدهما شريفة والأخرى دنية مولاة ثم طلقهما قبل الدخول ولم يسم لهما أن تكونا متساويتين في المتعة فتجب لهذه الدنية كما تجب لهذه الشريفة وهذا منكر في عادات الناس وأخلاقهم غير معروف قال ويفسد من وجه آخر قول من اعتبر حال الرجل وحده دونها وهو أنه لو كان رجلا موسرا عظيم الشأن فيتزوج امرأة دنية مهر مثلها دينار أنه لو دخل بها وجب لها مهر مثلها إذ لم يسم لها شيئا دينار واحد ولو طلقها قبل الدخول لزمته المتعة على قدر حاله وقد يكون ذلك أضعاف مهر مثلها فتستحق قبل الدخول بعد الطلاق أكثر مما تستحقه بعد الدخول وهذا خلف من القول لأن الله تعالى قد أوجب للمطلقة قبل الدخول نصف ما أوجبه لها بعد الدخول فإذا كان القول باعتبار حال دونها يؤدى إلى مخالفة معنى الكتاب ودلالته وإلى خلاف المعروف في العادات سقط ووجب اعتبار حالها معه ويفسد أيضا من وجه آخر وهو أنه لو تزوج رجلان موسران أختين فدخل أحدهما بامرأته كان لها مهر مثلها ألف درهم إذ لم يسم لها مهرا وطلق الآخر امرأته قبل الدخول من غير تسمية أن تكون المتعة لها على قدر

١٤٣

حال الرجل وجائز أن يكون ذلك ضعاف مهر أختها فيكون ما تأخذه المدخول بها أقل مما تأخذه المطلقة وقيمة البضعين واحدة وهما متساويتان في المهر فيكون الدخول مدخلا عليها ضررا ونقصانا في البدن وهذا منكر غير معروف فهذه الوجوه كلها تدل على اعتبار حال المرأة معه وقال أصحابنا أنه إذا طلقها قبل الدخول ولم يسم لها وكانت متعتها أكثر من نصف مهر مثلها أنها لا تجاوز بها نصف مهر مثلها فيكون لها الأقل من نصف مهر مثلها ومن المتعة لأن الله تعالى لم يجعل المسمى لها أكثر من نصف التسمية مع الطلاق قبل الدخول فغير جائز أن يعطيها عند عدم التسمية أكثر من النصف مهر المثل ولما كان المسمى مع ذلك أكثر من مهر المثل فلم تستحق بعد الطلاق أكثر من النصف ففي مهر المثل أولى ولم يقدر أصحابنا لها مقدارا معلوما لا يتجاوز به ولا يقصر عنه وقالوا هي على قدر المعتاد المتعارف في كل وقت وقد ذكر عنهم ثلاثة أثواب درع وخمار وإزار والإزار هو الذي تستتر به بين الناس عند الخروج وقد ذكر عن السلف في مقدارها أقاويل مختلفة على حسب ما غلب في رأى كل واحد منهم فروى إسماعيل بن أمية عن عكرمة عن ابن عباس قال أعلى المتعة الخادم ثم دون ذلك النفقة ثم دون ذلك الكسوة وروى أياس بن معاوية عن أبى مجلز قال قلت لابن عمر أخبرنى على قدري فأنى موسر أكسو كذا أكسو كذا فحسبت ذلك فوجدته قيمته ثلاثين درهما وروى عمرو عن الحسن قال ليس في المتعة شيء بوقت على قدر الميسرة وكان حماد يقول يمتعها بنصف مهر مثلها وقال عطاء أوسع المتعة درع وخمار وملحفة وقال الشعبي كسوتها في بيتها درع وخمار وملحفة وجلبابة وروى يونس عن الحسن قال كان منهم من يمتع بالخادم والنفقة ومنهم من يمتع بالكسوة والنفقة ومن كان دون ذلك فثلاثة أثواب درع وخمار وملحفة ومن كان دون ذلك متع بثوب واحد وروى عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب قال أفضل المتعة خمارا وأوضعها ثوب وروى الحجاج عن أبى إسحاق أنه سأل عبد الله بن مغفل عنها فقال لها المتعة على قدر ماله وهذه المقادير كلها صدرت عن اجتهاد آرائهم ولم ينكر بعضهم على بعض ما صار إليه من مخالفته فيه فدل على أنها عندهم موضوعة على ما يؤديه إليه اجتهاده وهي بمنزلة تقويم المتلفات وأروش الجنايات التي ليس لها مقادير معلومة في النصوص قوله عز وجل (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ

١٤٤

ما فَرَضْتُمْ) قيل إن أصل الفرض الحز في القداح علامة لها تميز بينها والفرضة العلامة في قسم الماء على خشب أو جص أو حجارة يعرف بها كل ذي حق نصيبه من الشرب وقد سمى الشط الذي ترفأ فيه السفن فرضة لحصول الأثر فيه بالنزول إلى السفن والصعود منها ثم صار اسم الفرض في الشرع واقعا على المقدار وعلى ما كان في أعلى راتب الإيجاب من الواجبات وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) معناه أنزل وأوجب عليك أحكامه وتبليغه وقوله تعالى عند ذكر المواريث (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) ينتظم الأمرين من معنى الإيجاب لمقادير الأنصباء التي بينها لذوي الميراث وقوله تعالى (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) المراد بالفرض هاهنا تقدير المهر وتسميته في العقد ومنه فرائض الإبل وهي المقادير الواجبة فيها على اعتبار أعدادها وأسنانها فسمى التقدير فرضا تشبيها له بالحز الواقع في القداح التي تتميز به من غيرها وكذلك سبيل ما كان مقدار من الأشياء فقد حصل التمييز به بينه وبين غيره والدليل على أن المراد بقوله تعالى (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) تسمية المقدار في العقد أنه قدم ذكر المطلقة التي لم يسم لها بقوله تعالى (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) ثم عقبه بذكر من فرض لها وطلقت بعد الدخول فلما كان الأول على نفى التسمية كان الثاني على إثباتها فأوجب الله لها نصف المفروض بنص التنزيل* وقد اختلف فيمن سمى لها بعد العقد ثم طلقت قبل الدخول فقال أبو حنيفة لها مهر مثلها وهو قول محمد وكان أبو يوسف يقول لها نصف الفرض ثم رجع إلى قولهما وقال مالك والشافعى لها نصف الفرض والدليل على أن لها مهر مثلها أن موجب هذا العقد مهر المثل وقد اقتضى وجوب مهر المثل بالعقد وجوب المتعة بالطلاق قبل الدخول فلما تراضيا على تسمية لم ينتف موجب العقد من المتعة والدليل على ذلك أن هذا الفرض لم يكن مسمى في العقد كما لم يكن مهر المثل مسمى فيه وإن كان واجبا به فلما كان ورود الطلاق قبل الدخول مسقطا لمهر المثل بعد وجوبه إذ لم يكن مسمى في العقد وجب أن يكون كذلك حكم المفروض بعده إذ لم يكن مسمى فيه* فإن قيل مهر المثل لم يوجبه العقد وإنما وجب بالدخول* قيل له هذا غلط لأنه غير جائز استباحة البضع بغير بدل والدليل على ذلك أنه لو شرط في العقد أنه لا مهر لها لوجب لها المهر فلما كان المهر بدلا من استباحة البضع ولم يجز نفيه بالشرط وجب أن يكون

«١٠ ـ أحكام نى»

١٤٥

من حيث استباح البضع أن يلزمه المهر ويدل على ذلك أن الدخول بعد صحة العقد إنما هو تصرف فيما قد ملكه وتصرف الإنسان في ملكه لا يلزمه بدلا ألا ترى أن تصرف المشترى في السلعة لا يوجب عليه بدلا بالتصرف فدل ذلك على استحقاقهما لمهر المثل بالعقد ويدل على ذلك أيضا اتفاق الجميع على أن لها أن تمنع نفسها بمهر المثل ولو لم تكن قد استحقته بالعقد كيف كان يجوز لها أن تمنع نفسها بما لم يجب بعد ويدل على ذلك أيضا أن لها المطالبة به ولو خاصمته إلى القاضي لقضى به لها والقاضي لا يبتدئ إيجاب مهر لم تستحقه كما يبتدئ إيجاب سائر الديون إذا لم تكن مستحقة وذلك كله دليل على أن التي لم يفرض لها مهر قد استحقت مهر المثل بالعقد وملكته على الزوج حسب ملكها للمسمى لو كانت في العقد تسمية* فإن قيل لو كان مهر المثل واجبا بالعقد لما سقط كله بالطلاق قبل الدخول كما لا* يسقط جميع المسمى* قيل له لم يسقط كله لأن المتعة بعضه على ما قدمنا وهي بإزاء نصف* المسمى لمن طلقت قبل الدخول* وزعم إسماعيل بن إسحاق أن المهر لا يجب بالعقد وإن استباح الزوج البضع قال لأن الزوج بإزاء الزوجة كالثمن بإزاء المبيع فإن كان كما قال فواجب أن لا يلزمه المهر بالدخول لأن الوطء كان مستحقا لها على الزوج كما استحق هو التسليم عليها إذ ما استباحه كل واحد منهما بإزاء ما استباحه الآخر فمن أين صار الزوج مخصوصا بإيجاب المهر إذا دخل بها وينبغي أن لا يكون لها أن تحبس نفسها بالمهر إذا لم تستحق ذلك بالعقد وواجب أيضا أن لا تصح تسمية المهر لأنه قد صح من جهته بما عقد عليه كما صح من جهتها فلا يلزمه المهر كما لا يلزمها له شيء وواجب على هذا أن لا يقوم البضع عليها بالدخول وبالوطء بالشبهة وأن لا يصح أخذ البدل منها لسقوط حقه عن بعضها وهذا كله مع ما عقلت الأمة من أن الزوج يجب عليه المهر بدلا من استباحة البضع يدل على سقوط قول هذا القائل وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث سهل ابن سعد الساعدي حين قال للرجل الذي خطب إليه المرأة التي وهبت نفسها منه قد ملكتها بما معك من القرآن يدل على أن الزوج في معنى الملك لبضعها ومن الدليل على أن الفرض الواقع بعد العقد يسقطه الطلاق قبل الدخول أن الفرض إنما أقيم مقام مهر المثل لأنه غير جائز إيجابه مع مهر المثل ولما كان كذلك وجب أن يسقطه الطلاق قبل الدخول كما يسقط مهر المثل ومن جهة أخرى أن الفرض إنما ألحق بالعقد ولم يكن موجودا فيه فمن حيث بطل العقد بطل

١٤٦

ما ألحق به* فإن قيل فالمسمى في العقد ثبوته كان بالعقد ولا يبطل ببطلانه* قيل له قد كان أبو الحسن رحمه الله يقول إن المسمى قد بطل وإنما يجب نصف المهر حسب وجوب المتعة وكذلك قال إبراهيم النخعي هذا متعتها* ومن الناس من يحتج بهذه الآية في أن المهر قد يكون أقل من عشرة دراهم لأن الله تعالى قال (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) فإذا سمى درهمين في العقد وجب بقضية الآية أن لا تستحق بعد الطلاق أكثر من درهم* وهذا لا يدل عندنا على ما قالوا وذلك لأن تسمية الدرهمين عندنا تسمية العشرة لأن العشرة لا تتبعض في العقد وتسمية لبعضها تسمية لجميعها كما أن الطلاق لما لم يتبعض كان إيقاعه لنصف تطليقة إيقاعا لجميعها والذي قد فرض أقل من عشرة قد فرض العشرة عندنا فيجب نصفها بعد الطلاق وأيضا فإن الذي اقتضته الآية وجوب نصف المفروض ونحن نوجب نصف المفروض ثم نوجب الزيادة إلى تمام خمسة دراهم بدلالة أخرى والله أعلم.

ذكر اختلاف أهل العلم في الطلاق بعد الخلوة

قال أبو بكر تنازع أهل العلم في معنى قوله تعالى (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) واختلفوا في المسيس المراد بالآية فروى عن على وابن عمر وزيد بن ثابت إذا أغلق بابا وأرخى سترا ثم طلقها فلها جميع المهر وروى سفيان الثوري عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال لها الصداق كاملا وهو قول على بن الحسين وإبراهيم في آخرين من التابعين وروى فراس عن الشعبي عن ابن مسعود قال لها نصف الصداق وإن قعد بين رجليها والشعبي عن ابن مسعود مرسل وروى عن شريح مثل قول ابن مسعود وروى سفيان الثوري عن عمر عن عطاء عن ابن عباس إذا فرض الرجل قبل أن يمس فليس لها إلا المتاع فمن الناس من ظن أن قوله في هذا كقول عبد الله ابن مسعود وليس كذلك لأن قوله فرض يعنى أنه لم يسم لها مهرا وقوله قبل أن يمس يريد قبل الخلوة لأنه قد تأوله على الخلوة في حديث طاوس عنه فأوجب لها المتعة قبل الخلوة* واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر الخلوة الصحيحة تمنع سقوط شيء من المهر بعد الطلاق وطئ أو لم يطأ وهي أن لا يكون أحدهما محرما أو مريضا أو لم تكن حائضا أو صائمة في رمضان أو رتقاء فإنه إن كان

١٤٧

كذلك ثم طلقها وجب لها نصف المهر إذا لم يطأها والعدة واجبة في هذه الوجوه كلها إن طلقها فعليها العدة وقال سفيان الثوري لها المهر كاملا إذا خلا بها ولم يدخل بها إذا جاء ذلك من قبله وإن كانت رتقاء فلها نصف المهر وقال مالك إذا خلا بها وقبلها وكشفها إن كان ذلك قريبا فلا أرى لها إلا نصف المهر وإن تطاول ذلك فلها المهر إلا أن تضع له ما شاءت وقال الأوزاعى إذا تزوج امرأة فدخل بها عند أهلها قبلها ولمسها ثم طلقها ولم يجامعها أو أرخى عليها سترا أو أغلق بابا فقد تم الصداق وقال الحسن بن صالح إذا خلا بها فلها نصف المهر إذ لم يدخل بها وإن ادعت الدخول بعد الخلوة فالقول قولها بعد الخلوة وقال الليث إذا أرخى عليها سترا فقد وجب الصداق وقال الشافعى إذا خلا بها ولم يجامعها حتى طلق فلها نصف المهر ولا عدة عليها قال أبو بكر مما يحتج به في ذلك من طريق الكتاب قوله تعالى (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) فأوجب إيفاء الجميع فلا يجوز إسقاط شيء منه إلا بدليل ويدل عليه قوله تعالى (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) فيه وجهان من الدلالة على ما ذكرنا أحدهما قوله تعالى (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) والثاني (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) وقال الفراء الإفضاء الخلوة دخل بها أو لم يدخل وهو حجة في اللغة وقد أخبر أن الإفضاء اسم للخلوة فمنع الله تعالى أن يأخذ منه شيئا بعد الخلوة وقد دل على أن المراد هو الخلوة الصحيحة التي لا تكون ممنوعا فيها من الاستمتاع لأن الإفضاء مأخوذ من الفضاء من الأرض وهو الموضع الذي لا بناء فيه ولا حاجز يمنع من إدراك ما فيه فأفاد بذلك استحقاق المهر بالخلوة على وصف وهي التي لا حائل بينها ولا مانع من التسليم والاستمتاع إذ كان لفظ الإفضاء يقتضيه ويدل عليه أيضا قوله تعالى (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وقوله تعالى (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) يعنى مهورهن وظاهره يقتضى وجوب الإيتاء في جميع الأحوال إلا ما قام دليله قال أبو بكر ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن شاذان قال أخبرنا معلى بن منصور قال حدثنا ابن لهيعة قال حدثنا أبو الأسود عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق دخل بها أو لم

١٤٨

يدخل وهو عندنا اتفاق الصدر الأول لأن حديث فراس عن الشعبي عن عبد الله بن مسعود لا يثبته كثير من الناس من طريق فراس وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا هوذة بن خليفة قال حدثنا عوف عن زرارة بن أوفى قال قضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه من أغلق بابا وأرخى سترا فقد وجب المهر ووجبت العدة فأخبر أنه قضاء الخلفاء الراشدين وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وعضوا عليها بالنواجذ * ومن طريق النظر أن المعقود عليه من جهتها لا يخلو إما أن يكون الوطء أو التسليم فلما اتفق الجميع على جواز نكاح المجبوب مع عدم الوطء دل ذلك على أن صحة العقد غير متعلقة بالوطء إذ لو كان كذلك لوجب أن لا يصح العقد عند عدم الوطء ألا ترى أنه لما تعلقت صحته بصحة التسليم كان من لا يصح منها التسليم من ذوات المحارم لم يصح عليها العقد وإذا كانت صحة العقد متعلقة بصحة التسليم من جهتها فواجب أن تستحق كمال المهر بعد صحة التسليم بحصول ما تعلقت به صحة العقد له وأيضا فإن المستحق من قبلها هو التسليم ووقوع الوطء إنما هو من قبل الزوج فعجزه وامتناعه لا يمنع من صحة استحقاق المهر ولذلك قال عمر رضى الله عنه في المخلو بها لها المهر كاملا ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم وأيضا لو استأجر دار أو خلى بينهما وبينه استحق الأجر لوجود التسليم كذلك الخلوة في النكاح وإنما قالوا إنها إذا كانت محرمة أو حائضا أو مريضة إن ذلك لا تستحق به كمال المهر من قبل أن هناك تسليم آخر صحيحا تستحق به كمال المهر إذ ليس ذلك تسليما صحيحا ولما لم يوجد التسليم المستحق بعقد النكاح لم تستحق كمال المهر* واحتج من أبى ذلك بظاهر قوله تعالى (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) وقال تعالى في آية أخرى (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) فعلق استحقاق كمال المهر ووجوب العدة بوجود المسيس وهو الوطء إذ كان معلوما أنه لم يرد به وجود المس باليد* والجواب عن ذلك أن قوله تعالى (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) قد اختلف الصحابة فيه على ما وصفنا فتأوله على وعمر وابن عباس وزيد وابن عمر على الخلوة فليس يخلو هؤلاء من أن يكونوا تأولوها من طريق اللغة أو من جهة أنه اسم له في الشرع إذ غير جائز تأويل اللفظ على ما ليس باسم له في الشرع ولا في اللغة فإن كان ذلك عندهم

١٤٩

اسما له من طريق اللغة فهم حجة فيها لأنهم أعلم باللغة ممن جاء بعدهم وإن كان من طريق الشرع فأسماء الشرع لا تؤخذ إلا توقيفا وإذا صار ذلك اسما لها صار تقدير الآية وإن طلقتموهن من قبل الخلوة فنصف ما فرضتم وأيضا لما اتفقوا على أنه لم يرد به حقيقة المس باليد وتأوله بعضهم على الجماع وبعضهم على الخلوة ومتى كان اسما للجماع كان كناية عنه وجائز أن يكون حكمه كذلك وإذا أريد به الخلوة سقط اعتبار ظاهر اللفظ لاتفاق الجميع على أنه لم يرد حقيقة معناه وهو المس باليد ووجب طلب الدليل على الحكم من غيره وما ذكرناه من الدلالة يقتضى أن مراد الآية هو الخلوة دون الجماع فأقل أحواله أن لا يخص به ما ذكرنا من ظواهر الآي والسنة وأيضا لو اعتبرنا حقيقة اللفظ اقتضى ذلك أن يكون لو خلا بها ومسها بيده أن تستحق كمال المهر لوجود حقيقة المس وإذا لم يخل بها ومسها بيده خصصناه بالإجماع وأيضا لو كان المراد الجماع فليس يمتنع أن يقوم مقامه ما هو مثله وفي حكمه من صحة التسليم كما قال تعالى (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) وما قام مقامه من الفرقة فحكمه حكمه في إباحتها للزوج الأول وقد حكى عن الشافعى في المجبوب إذا جامع امرأته أن عليه كمال المهر إن طلق من غير وطء فعلمنا أن الحكم غير متعلق بوجود الوطء وإنما هو متعلق بصحة التسليم* فإن قيل لو كان التسليم* قائما مقام الوطء لوجب أن يحلها للزوج الأول كما يحلها الوطء* قيل له هذا غلط لأن التسليم إنما هو علة لاستحقاق كمال المهر وليس بعلة لإحلالها للزوج الأول ألا ترى أن الزوج لو مات عنها قبل الدخول استحقت كمال المهر وكان الموت بمنزلة الدخول ولا يحلها ذلك للزوج الأول* قوله تعالى (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) قوله تعالى (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) المراد به الزوجات لأنه لو أراد الأزواج لقال إلا أن يعفوا ولا خلاف في ذلك وقد روى أيضا عن ابن عباس ومجاهد وجماعة من السلف ويكون عفوها أن تترك بقية الصداق وهو النصف الذي جعله الله لها بعد الطلاق بقوله تعالى (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) فإن قيل قد يكون الصداق عرضا بعينه وعقارا لا يصح فيه العفو* قيل له ليس معنى العفو في هذا الموضع أن تقول قد عفوت وإنما العفو هو التسهيل أو الترك والمعنى فيه أن تتركه له على الوجه الجائز في عقود التمليكات فكان تقدير الآية أن تملكه إياه وتتركه له تمليكا بغير عوض تأخذه منه فإن قال قائل في هذا دلالة على جواز

١٥٠

هبة المشاع فيما يقسم لإباحة الله تعالى لها تمليك نصف الفريضة إياه بعد الطلاق ولم يفرق بين ما كان منها عينا أو دينا ولا بين ما يحتمل القسمة أو لا يحتملها فوجب بقضية الآية جواز هبة المشاع فيقال له ليس الأمر كما ظننت لأنه ليس المعنى في العفو أن تقول قد عفوت إذ لا خلاف أن رجلا لو قال لرجل قد عفوت لك عن دارى هذه أو قد أبرأتك من دارى هذه أن ذلك لا يوجب تمليكا ولا يصح به عقد هبة وإذا كان كذلك وما نص عليه في الآية من العفو غير موجب لجواز عقود التمليكات به علم أن المراد به تمليكها على الوجه الذي تجوز عليه عقود الهبات والتمليكات إذ كان اللفظ الذي به يصح التمليك غير مذكور فصار حكمه موقوفا على الدلالة فما جاز في الأصول جاز في ذلك وما لم يجز في الأصول من عقود الهبات لم يجز في هذا ومع هذا فإن كان هذا السائل عن ذلك من أصحاب الشافعى فإنه يلزمه أن يجيز الهبة غير مقبوضة لأن الله سبحانه لم يفرق بين المهر المقبوض وغير المقبوض فإذا عفت وقد قبضت فواجب أن يجوز من غير تسليمه إلى الزوج وإذا لم يجز ذلك وكان محمولا على شروط الهبات كذلك في المشاع وإن كان من أصحاب مالك واحتج به في جوازها في المشاع وقبل القبض كان الكلام على ما قدمناه وأما قوله تعالى (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) فإن السلف قد اختلفوا فيه فقال على وجبير بن مطعم ونافع بن جبير وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب وقتادة ونافع هو الزوج وكذلك قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري وابن شبرمة والأوزاعى والشافعى قالوا عفوه أن يتم لها كمال المهر بعد الطلاق قبل الدخول قالوا وقوله تعالى (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) البكر والثيب وقد روى عن ابن عباس في ذلك روايتان إحداهما ما رواه حماد بن سلمة عن على بن زيد عن عمار بن أبى عمار عن ابن عباس قال هو الزوج وروى ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال رضى الله بالعفو وأمر به وإن عفت فكما عفت وإن ضنت وعفى وليها جاز وإن أبت وقال علقمة والحسن وابراهيم وعطاء وعكرمة وأبو الزناد هو الولي وقال مالك بن أنس إذا طلقها قبل الدخول وهي بكر جاز عفو أبيها عن نصف الصداق وقوله تعالى (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) اللاتي قد دخل بهن قال ولا يجوز لأحد أن يعفو عن شيء من الصداق إلا الأب وحده لا وصى ولا غيره وقال الليث لأبى البكر أن يضع من صداقها عند عقدة

١٥١

النكاح ويجوز ذلك عليها وبعد عقدة النكاح ليس له أن يضع شيئا من صداقها ولا يجوز أيضا عفوه عن شيء من صداقها بعد الطلاق قبل الدخول ويجوز له مبارأة زوجها وهي كارهة إذا كان ذلك نظرا من أبيها لها فكما لم يجز للأب أن يضع شيئا من صداقها بعد النكاح كذلك لا يعفو عن نصف صداقها بعد ذلك وذكر ابن وهب عن مالك أن مبارأته عليها جائزة* قال أبو بكر قوله تعالى (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) متشابه لاحتماله الوجهين اللذين تأولهما السلف عليهما فوجب رده إلى المحكم وهو قوله تعالى (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) وقال تعالى في آية أخرى (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) وقال تعالى (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) فهذه الآيات محكمة لا احتمال فيها لغير المعنى الذي اقتضته فوجب رد الآية المتشابهة وهي قوله تعالى (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) إليها لأمر الله تعالى الناس برد المتشابه إلى المحكم وذم متبعي المتشابه من غير حمله على معنى المحكم بقوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) وأيضا لما كان اللفظ محتملا للمعاني وجب حمله على موافقة الأصول ولا خلاف أنه غير جائز للأب هبة شيء من مالها للزوج ولا لغيره فكذلك المهر لأنه مالها وقوله من حمله على الولي خارج عن الأصول لأن أحدا لا يستحق الولاية على غيره في هبة مالها فلما كان قول القائلين بذلك مخالفا للأصول خارجا عنها وجب حمل معنى الآية على موافقتها إذ ليس ذلك أصلا بنفسه لاحتماله للمعاني وما ليس بأصل في نفسه فالواجب رده إلى غيره من الأصول واعتباره بها وأيضا فلو كان المعنيان جميعا في حيز الاحتمال ووجد نظائرهما في الأصول لكان في مقتضى اللفظ ما يوجب أن يكون الزوج أولى بظاهر اللفظ من الولي وذلك لأن قوله تعالى (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) لا يجوز أن يتناول الولي بحال لا حقيقة ولا مجازا لأن قوله تعالى (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) يقتضى أن تكون العقدة موجودة وهي في يد من هي في يده فأما عقدة غير موجودة فغير جائز إطلاق اللفظ عليها بأنها في يد أحد فلما لم تكن هناك عقدة موجودة في يد الولي قبل العقد ولا بعده وقد كانت العقدة في يد الزوج قبل الطلاق فقد تناوله اللفظ بحال فوجب أن يكون حمله على الزوج أولى منه على الولي فإن قيل إنما حكم

١٥٢

الله بذلك بعد الطلاق وليست عقدة النكاح بيد الزوج بعد الطلاق قيل له يحتمل اللفظ بأن يريد الذي كان بيده عقدة النكاح والولي لم يكن بيده عقدة النكاح ولا هي في يده في الحال فكان الزوج أولى بمعنى الآية من الولي ويدل على ذلك قوله تعالى في نسق التلاوة (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) فندبه إلى الفضل وقال تعالى (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) وليس في هبة مال الغير إفضال منه على غيره والمرأة لم يكن منها إفضال وفي تجويز عفو الولي إسقاط معنى الفضل المذكور في الآية وجعله تعالى بعد العفو أقرب للتقوى ولا تقوى له في هبة مال غيره وذلك الغير لم يقصد إلى العفو فلا يستحق به سمة التقوى وأيضا فلا خلاف أن الزوج مندوب إلى ذلك وعفوه وتكميل المهر لها جائز منه فوجب أن يكون مرادا بها وإذا كان الزوج مرادا انتفى أن يكون الولي مرادا بها لأن السلف تأولوه على أحد معنيين إما الزوج وإما الولي وإذ قد دللنا على أن الزوج مراد وجب أن تمتنع إرادة الولي فإن قال قائل على ما قدمنا فيما تضمنته الآية من الندب إلى الفضل وإلى ما يقرب من التقوى وإن كان ذلك خطابا مخصوصا به المالك دون من يهب مال الغير ليس يمتنع في الأصول أن تلحق هذه التسمية للولي وإن فعل ذلك في مال من يلي عليه والدليلى على ذلك أنه يستحق الثواب بإخراج صدقة الفطر عن الصغير من مال الصغير وكذلك الأضحية والختان قيل أغفلت موضع الحجاج مما قدمناه وذلك أنا قلنا هو غير مستحق للثواب والفضل بالتبرع بمال الغير فعارضتنا بمن وجب عليه حق في ماله فأخرجه عنه وليه وهو الأب ونحن نجيز للوصي ولغير الوصي أن يخرج عنه هذه الحقوق ولا نجيز عفوهم عنه فكيف تكون الأضحية وصدقة الفطر والحقوق الواجبة بمنزلة التبرع وإخراج ما لا يلزم من ملكها* وزعم بعض من احتج لمالك أنه أراد الزوج لقال إلا أن يعفون أو يعفو الزوج لما قد تقدم من ذكر الزوجين فيكون الكلام راجعا إليهما جميعا فلما عدل عن ذلك إلى ذكر من لا يعرف إلا بالصفة علم أنه لم يرد الزوج* قال أبو بكر وهذا الكلام فارغ لا معنى تحته لأن الله تعالى يذكر إيجاب الأحكام تارة بالنصوص وتارة بالدلالة على المعنى المراد من غير نص عليه وتارة بلفظ يحتمل للمعاني وهو في بعضها أظهر وبه أولى وتارة بلفظ مشترك يتناول معاني مختلفة يحتاج في الوصول إلى المراد بالاستدلال عليه من غيره وقد وجد ذلك كله في القرآن* وقوله لو أراد الزوج

١٥٣

لقال أو يعفو حتى يرجع الكلام إلى الزوج دون غيره ولما عدل عنه إلى لفظ محتمل خلف من القول لا معنى له ويقال له لو أراد الولي لقال الولي ولم يورد لفظا يشترك فيه الولي وغيره* وقال هذا القائل أن العافي هو التارك لحقه وهي إذا تركت النصف الواجب لها فهي عافية وكذلك الولي فإن الزوج إذا أعطاها شيئا غير واجب لها لا يقال له عاف وإنما هو واهب وهذا أيضا كلام ضعيف لأن الذي تأولوه على الزوج قالوا إن عفوه هو إتمام الصداق لها وهم الصحابة والتابعون وهم أعلم بمعاني اللغة وما تحتمله من هذا القائل وأيضا فإن العفو في هذا الموضع ليس هو قوله قد عفوت وإنما المعنى فيه تكميل المهر من قبل الزوج أو تمليك المرأة النصف الباقي بعد الطلاق إياه ألا ترى أن المهر لو كان عبدا بعينه لكان حكم الآية مستعملا فيه والندب المذكور فيها قائما فيه ويكون عفو المرأة أن تملكه النصف الباقي لها بعد الطلاق لا بأن تقول قد عفوت ولكن على الوجه الذي يجوز فيه عقود التمليكات فكذلك العفو من قبل الزوج ليس هو أن يقول قد عفوت لكن بتمليك مبتدأ على حسب ما تجوز التمليكات وكذلك لو كانت المرأة قد قبضت المهر واستهلكته كان عفو الزوج في هذه الحالة إبراءها من الواجب عليها ولو كان المهر دينا في ذمة الزوج كان عفوها إبراءه من الباقي فكل عفو أضيف إلى المرأة فمثله يضاف إلى الزوج ويقال فما تقول في عفو الولي على أى صفة هو فإنا نجعل عفو الزوج على مثلها فالاشتغال بمثل ذلك لا يجدي نفعا لأن ذلك كلام في لفظ العفو والعدول عنه وهو مع ذلك منتقض على قائله إلا أنى ذكرته إبانة عن اختلال قول المخالفين ولجأهم إلى تزويق الكلام بما لا دلالة فيه* وقوله تعالى (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) يدل على بطلان قول من يقول إن البكر إذا عفت عن نصف الصداق بعد الطلاق إنه لا يجوز وهو قول مالك لأن الله تعالى لم يفرق بين البكر والثيب في قوله تعالى (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) ولما كان قوله وابتداء خطابه حين قال تعالى (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) عاما في الأبكار والثيب وجب أن يكون ما عطف عليه من قوله تعالى (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) عاما في الفريقين منهما وتخصيص الثيب بجواز العفو دون البكر لا دلالة عليه* وقوله تعالى (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) يوجب أن يكون إذا تزوجها على ألف درهم ودفعها إليها ثم طلقها قبل الدخول وقد اشترت بها متاعا أن يكون لها نصف الألف وتضمن

١٥٤

للزوج النصف وقال مالك يأخذ الزوج نصف المتاع الذي اشترته والله تعالى إنما جعل له نصف المفروض وكذلك المرأة فكيف يجوز أن يؤخذ منها ما لم يكن مفروضا ولا هو قيمة له وهو أيضا خلاف الأصول لأن رجلا لو اشترى عبدا بألف درهم وقبض البائع ألف واشترى بها متاعا ثم وجد المشترى بالعبد عيبا فرد لم يكن له على المتاع الذي اشتراه البائع سبيل وكان المتاع كله للبائع وعليه أن يرد على المشترى ألفا مثلها فالنكاح مثله لا فرق بينهما إذ لم يقع عقد النكاح على المتاع كما لم يقع عقد البيع عليه وإنما وقع على الألف والله تعالى أعلم.

باب الصلاة الوسطى وذكر الكلام في الصلاة

قال الله تعالى (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) فيه أمر بفعل الصلاة وتأكيد وجوبها بذكر المحافظة وهي الصلاة الخمس المكتوبات المعهودات في اليوم والليلة وذلك لدخول الألف واللام عليها إشارة بها إلى معهود وقد انتظم ذلك القيام بها واستيفاء فروضها وحفظ حدودها وفعلها في مواقيتها وترك التقصير فيها إذ كان الأمر بالمحافظة يقتضى ذلك كله وأكد الصلاة الوسطى بإفرادها بالذكر مع ذكره سائر الصلوات وذلك يدل على معنيين إما أن تكون أفضل الصلوات وأولاها بالمحافظة عليها فلذلك أفردها بالذكر عن الجملة وإما أن تكون المحافظة عليها أشد من المحافظة على غيرها وقد روى في ذلك روايات مختلفة يدل بعضها على الوجه الأول وبعضها على الوجه الثاني فمنها ما روى عن زيد بن ثابت أنه قال هي الظهر لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصلى بالهجير ولا يكون وراءه إلا الصف أو الصفان والناس في قائلتهم وتجارتهم فأنزل الله تعالى (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) وفي بعض ألفاظ الحديث فكانت أثقل الصلوات على الصحابة فأنزل الله تعالى ذلك قال زيد بن ثابت وإنما سماها وسطى لأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين* وروى عن ابن عمر وابن عباس أن الصلاة الوسطى صلاة العصر وروى عن ابن عباس رواية أخرى أنها صلاة الفجر وقد روى عن عائشة وحفصة وأم كلثوم أن في مصحفهن حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر روى عن البراء بن عازب قال نزلت حافظوا على الصلوات وصلاة العصر وقرأتها على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم نسخها الله تعالى فأنزل (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) فأخبر البراء أن ما في مصحف

١٥٥

هؤلاء من ذكر صلاة العصر منسوخ وقد روى عاصم عن زر عن على قال قاتلنا الأحزاب فشغلونا عن صلاة العصر حتى كادت الشمس أن تغيب فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم (اللهم املأ قلوب الذين شغلونا عن الصلاة الوسطى نارا) قال على كنا نرى أنها صلاة الفجر وروى عكرمة وسعيد بن جبير ومقسم عن ابن عباس مثل ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وروى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنها صلاة العصر وكذلك روى سمرة بن جندب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وروى عن على من قوله أنها صلاة العصر وكذلك عن أبى بن كعب وعن قبيصة بن ذؤيب المغرب وقيل إنما سميت صلاة العصر الوسطى لأنها بين صلاتين من صلاة النهار وصلاتين من صلاة الليل وقيل إن أول الصلوات وجوبا كانت الفجر وآخرها العشاء الآخرة فكانت العصر هي الوسطى في الوجوب ومن قال إن الوسطى الظهر يقول لأنها وسطى صلاة النهار بين الفجر والعصر ومن قال الصبح فقد قال ابن عباس لأنها تصلى في سواد من الليل وبياض من النهار فجعلها وسطى في الوقت ومن الناس من يستدل بقوله تعالى (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) على نفى وجوب الوتر لأنها لو كانت واجبة لما كان لها وسطى لأنها تكون حينئذ ستا فيقال له إن كانت الوسطى العصر فوجهه ما قيل أنها وسطى في الإيجاب وإن كانت الظهر فلأنها بين صلاتي النهار الفجر والعصر فلا دلالة على نفى وجوب الوتر التي هي من صلاة الليل وأيضا فإنها وسطى الصلوات المكتوبات وليس الوتر من المكتوبات وإن كانت واجبة لأنه ليس كل واجب فرضا إذا كان الفرض هو أعلى في مراتب الوجوب وأيضا فإن فرض الوتر زيادة وردت بعد فرض المكتوبات لقوله صلّى الله عليه وسلّم إن الله زادكم إلى صلاتكم صلاة وهي الوتر وإنما سميت وسطى قبل وجوب الوتر * وأما قوله عز وجل (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فإنه قد قيل في معنى القنوت في أصل اللغة أنه الدوام على الشيء وروى عن السلف فيه أقاويل روى عن ابن عباس والحسن وعطاء والشعبي (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) مطيعين وقال نافع عن ابن عمر قال القنوت طول القيام وقرأ (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ) وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال أفضل الصلاة طول القنوت يعنى القيام وقال مجاهد القنوت السكوت والقنوت الطاعة ولما كان أصل القنوت الدوام على الشيء جاز أن يسمى مديم الطاعة قانتا وكذلك من أطال القيام والقراءة والدعاء في الصلاة أو أطال الخشوع والسكوت كل هؤلاء فاعلو القنوت وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قنت شهرا يدعوا فيه

١٥٦

على حي من أحياء العرب والمراد به أطال قيام الدعاء* وقد روى الحارث عن شبل عن أبى عمرو الشيباني قال كنا نتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمرنا بالسكوت فاقتضى ذلك النهى عن الكلام في الصلاة وقال عبد الله بن مسعود كنا نسلم على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في الصلاة فيرد علينا قبل أن نأتى أرض الحبشة فلما رجعت سلمت عليه فلم يرد على فذكرت ذلك له فقال إن الله يحدث من أمره ما يشاء وأنه قضى أن لا تتكلموا في الصلاة وروى عطاء بن يسار عن أبى سعيد الخدري أن رجلا سلم على النبي صلّى الله عليه وسلّم فرد عليه بالإشارة فلما سلم قال كنا نرد السلام في الصلاة فنهينا عن ذلك * وروى إبراهيم الهجري عن ابن عياض عن أبى هريرة قال كانوا يتكلمون في الصلاة فنزل (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) وفي حديث معاوية بن الحكم السلمى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن * ففي هذه الأخبار حظر الكلام في الصلاة ولم تختلف الرواة أن الكلام كان مباحا في الصلاة إلى أن حظره واتفق الفقهاء على حظره إلا أن مالكا قال يجوز فيها لإصلاح الصلاة وقال الشافعى كلام السهو لا يفسدها ولم يفرق أصحابنا بين شيء منه وأفسدوا الصلاة بوجوده فيها على وجه السهو وقع أو لإصلاح الصلاة والدليل عليه أن الآية التي تلونا من قوله تعالى (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) ورواية من روى أنها نزلت في حظر الكلام في الصلاة مع احتماله له لو لم ترد الرواية بسبب نزولها ليس فيها فرق بين الكلام الواقع على وجه السهو والعمد وبينه إذا قصد به إصلاح الصلاة أو لم يقصد وكذلك سائر الأخبار المأثورة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حظره فيها لم يفرق فيها بين ما قصد به إصلاح الصلاة وبين غيره ولا بين السهو والعمد منه فهي عامة في الجميع* فإن قيل النهى عن الكلام في الصلاة* مقصور على العامد دون الناسي لاستحالة نهى الناسي* قيل له حكم النهى قد يجوز أن يتعلق على الناسي كهو على العامد وإنما يختلفان في المأثم واستحقاق الوعيد فأما في الأحكام التي هي فساد الصلاة وإيجاب قضائها فلا يختلفان ألا ترى أن الناسي بالأكل والحدث والجماع في الصلاة في حكم العامد فيما يتعلق عليه من أحكام هذه الأفعال من إيجاب القضاء وإفساد الصلاة وإن كانا مختلفين في حكم المأثم واستحقاق الوعيد وإذا كان ذلك على ما وصفنا كان حكم النهى فيما يقتضيه من إيجاب القضاء معلقا بالناسي كهو بالعامد لا فرق

١٥٧

بينهما فيه وإن اختلفا في حكم المأثم والوعيد* فقد دلت هذه الأخبار على فساد قول من فرق بين ما قصد به الإصلاح للصلاة وبين ما لم يقصد به إصلاحها وعلى فساد قول من فرق بين الناسي والعامد ويدل على ذلك أيضا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث معاوية بن الحكم إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس وحقيقته الخبر فهو محمول على حقيقته فاقتضى ذلك إخبارا من النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن الصلاة لا يصلح فيها كلام الناس فلو بقي مصليا بعد الكلام لكان قد صلح الكلام فيها من وجه فثبت بذلك أن ما وقع فيه كلام الناس فليس بصلاة ليكون مخبره خبرا موجودا في سائر ما أخبر به ومن وجه آخر أن ضد الصلاح هو الفساد وهو يقتضيه في مقابلته فإذا لم يصلح فيها ذلك فهي فاسدة إذا وقع الكلام فيها ولو لم يكن كذلك لكان قد صلح الكلام فيها من غير إفساد وذلك خلاف مقتضى الخبر واحتج الفريقان جميعا من مخالفينا الذين حكينا من قولهما بحديث أبى هريرة في قصة ذي اليدين وروى من طرق قال صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحدى صلاتي العشى الظهر أو العصر ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها إحداهما على الآخر يعرف في وجهه الغضب قال وخرج سرعان الناس فقالوا أقصرت الصلاة وفي الناس أبو بكر وعمر فهاباه أن يكلماه فقام رجل طويل اليدين كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسميه ذا اليدين فقال يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة فقال له لم أنس ولم تقصر الصلاة فقال بل نسيت فأقبل على القوم فقال أصدق ذو اليدين قالوا نعم فجاء فصلى بنا الركعتين الباقيتين وسلم وسجد سجدتي السهو

قالوا فأخبر أبو هريرة بما كان منه ومنهم من الكلام ولم يمتنع من البناء وقد كان أبو هريرة متأخر الإسلام وروى يحيى بن سعيد القطان قال حدثنا إسماعيل ابن أبى خالد عن قيس بن أبى حازم قال أتينا أبا هريرة فقلنا حدثنا فقال صحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث سنين وقد روى عنه أنه قدم المدينة والنبي صلّى الله عليه وسلّم بخيبر فخرج خلفه وقد فتح النبي صلّى الله عليه وسلّم خيبر قالوا فإذا كانت هذه القصة بعد إسلام أبى هريرة ومعلوم أن نسخ الكلام كان بمكة لأن عبد الله بن مسعود لما قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أرض الحبشة كان الكلام في الصلاة محظورا لأنه سلم عليه فلم يرد عليه وأخبره بنسخ الكلام في الصلاة فثبت بذلك أن ما في حديث ذي اليدين كان بعد حظر الكلام في الصلاة وقال أصحاب مالك إنما لم تفسد به الصلاة لأنه كان لإصلاحها وقال الشافعى لأنه وقع ناسيا

١٥٨

فيقال لهم لو كان حديث ذي اليدين بعد نسخ الكلام لكان مبيحا للكلام فيها ناسخا لحظره المتقدم له لأنه لم يخبرهم أن جواز ذلك مخصوص بحال دون حال وقد روى سفيان ابن عيينة عن أبى حازم عن سهل بن سعد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال من نابه في صلاته شيء فليقل سبحان الله إنما التصفيق للنساء والتسبيح للرجال وروى سفيان عن الزهري عن أبى سلمة عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال التسبيح للرجال والتصفيق للنساء فمنع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمن نابه شيء في صلاته من الكلام وأمر بالتسبيح فلما لم يكن من القول تسبيح في قصة ذي اليدين ولا أنكر عليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم تركه دل ذلك على أن قصة ذي اليدين كانت قبل أن يعلمهم التسبيح إذ غير جائز أن يكون قد علمهم التسبيح ثم يخالفونه إلى غيره ولو كانوا خالفوا ما أمروا به من التسبيح في مثل هذه الحال لظهر فيه النكير عليهم في تركهم التسبيح المأمور به إلى الكلام المحظور وفي هذا دليل على أن قصة ذي اليدين كانت على على أحد وجهين إما قبل حظر الكلام ثم حظر الكلام في الصلاة وإما أن تكون بعد حظر الكلام بديا منه ثم أبيح الكلام ثم حظر بقوله التسبيح للرجال والتصفيق للنساء وقد كان نسخ الكلام بالمدينة بعد الهجرة ويدل عليه ما روى معمر عن الزهري عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن أبى هريرة قال صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظهر أو العصر وذكر الحديث قال الزهري فكان هذا قبل بدر ثم استحكمت الأمور بعده وقال زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمرنا بالسكوت وقال أبو سعيد الخدري سلم رجل على النبي صلّى الله عليه وسلّم فرد عليه إشارة وقال كنا نرد السلام في الصلاة فنهينا عن ذلك وأبو سعيد الخدري من أصاغر أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ويدل على صغر سنه ما روى هشام عن أبيه عن عائشة قالت وما علم أبى سعيد الخدري وأنس بن مالك بحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإنما كانا غلامين صغيرين وكان قدوم عبد الله بن مسعود على النبي صلّى الله عليه وسلّم من الحبشة إنما كان بالمدينة وروى الزهري عن سعيد بن المسيب وأبى بكر بن عبد الرحمن وعروة ابن الزبير أن عبد الله بن مسعود ومن كان معه بالحبشة قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة وقد روى أهل السير أن عبد الله بن مسعود لما قتل أبا جهل يوم بدر بعد ما أثخنه ابنا عفراء وإذا كان كذلك فقد أخبر عبد الله بن مسعود بحظر الكلام في الصلاة عند قدومه من الحبشة وكان ذلك والنبي صلّى الله عليه وسلّم يريد الخروج إلى بدر وروى عبد الله بن وهب

١٥٩

عن عبد الله بن العمرى عن نافع عن ابن عمر أنه ذكر له حديث ذي اليدين فقال كان إسلام أبى هريرة بعد ما قتل ذو اليدين ثبت بذلك أن ما رواه أبو هريرة كان قبل إسلامه لأن إسلامه كان عام خيبر فثبت أن أبا هريرة لم يشهد تلك القصة وإن حدث بها كما قال البراء ما كل ما نحدثكم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمعناه ولكن سمعنا وحدثنا أصحابنا وروى حماد بن سلمة عن حميد عن أنس قال والله ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولكن كان يحدث بعضنا بعضا ولا يتهم بعضنا بعضا وقد روى ابن جريج قال أخبرنى عمرو عن يحيى بن جعدة أنه أخبره عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه سمع أبا هريرة يقول لا ورب هذا البيت ما أنا قلت من أدرك الصبح وهو جنب فليفطر ولكن محمد قاله ورب هذا البيت ثم لما أخبر برواية عائشة وأم سلمة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصبح جنبا من غير احتلام ثم يصوم يومه ذلك قال لا علم لي بهذا إنما أخبرنى به الفضل بن العباس فليس في روايته بحديث ذي اليدين ما يدل على مشاهدته* فإن قيل فقد روى في بعض أخباره أنه قال صلى بنا رسول* الله صلّى الله عليه وسلّم* قيل له يحتمل أن يكون مراده أنه صلى بالمسلمين وهو منهم كما روى مسعر بن كدام عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنا وإياكم كنا ندعى بنى عبد مناف فأنتم اليوم بنو عبد الله ونحن بنو عبد الله إنما يعنى أنه قال ذلك لقومه فإن قيل لو كان حظر الكلام في الصلاة متقدما لبدر لما شهده زيد بن أرقم لأنه كان صغير السن وكان يتيما في حجر عبد الله بن رواحة حين خرج إلى مؤتة ومثله لا يدرك قصة كانت قبل بدر قيل له إن كان زيد بن أرقم قد شهد إباحة الكلام في الصلاة فإنه جائز أن يكون قد أبيح بعد الحظر وجائز أن يكون أبو هريرة أيضا قد شهد إباحة الكلام في الصلاة بعد حظره ثم حظر بعد ذلك إلا أن أخباره عن قصة ذي اليدين لا محالة لم يكن عن مشاهدة لأنه أسلم بعدها وجائز أن يكون زيد بن أرقم أخبر عن حال المسلمين في كلامهم في الصلاة إلى نزول قوله تعالى (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) ويكون معنى قوله كنا نتكلم في الصلاة أخبارا عن المسلمين وهو منهم كما قال النزال بن سبرة قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكما قال الحسن خطبنا ابن عباس بالبصرة وهو لم يكن بها يومئذ إنما طرئ عليها بعده ومما يدل على أن قصة ذي اليدين كانت في حال إباحة الكلام أن فيها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم استند إلى جذع في المسجد وأن سرعان الناس خرجوا فقالوا أقصرت الصلاة وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم

١٦٠