أحكام القرآن - ج ٢

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦

وعطاء وجابر بن زيد عدتها منذ يوم يموت وكذلك في الطلاق من يوم طلق وهو قول الأسود بن زيد في آخرين وهو قول فقهاء الأمصار وقال على والحسن البصري وخلاس ابن عمرو من يوم يأتيها الخبر في الموت وفي الطلاق من يوم طلق وهو قول ربيعة وقال الشعبي وسعيد بن المسيب إذا قامت البينة فالعدة من يوم يموت وإذا لم تقم بينة فمن يوم يأتيها الخبر وجائز أن يكون مذهب على على هذا المعنى بأن يكون قد خفى عليها وقت الموت فأمرها بالاحتياط من يوم يأتيها الخبر وذلك لأن الله تعالى نص على وجوب العدة بالموت والطلاق بقوله (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) كما قال تعالى (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) فأوجب العدة فيهما بالموت وبالطلاق فواجب أن تكون العدة فيهما من يوم الموت والطلاق ولما اتفقوا على أن عدة المطلقة من يوم طلق ولم يعتبروا وقت بلوغ الخبر كذلك عدة الوفاء لأنهما جميعا سببا وجوب العدة وأيضا فإن العدة ليست هي فعلها فيعتبر فيها علمها وإنما هي مضى الأوقات ولا فرق بين علمها بذلك وبين جهلها به وأيضا لما كانت العدة موجبة عن الموت كالميراث وإنما يعتبر في الميراث وقت الوفاة لا وقت بلوغ خبرها وجب أن تكون كذلك العدة وأن لا يختلف فيها حكم العلم والجهل كما لا يختلف في الميراث وأيضا فإن أكثر ما في العلم أن تجتنب ما تجتنبه المعتدة من الخروج والزينة إذا علمت فإذا لم تعلم فترك اجتناب ما يلزم اجتنابه في العدة لم يكن مانعا من انقضاء العدة لأنها لو كانت عالمة بالموت فلم تجتنب الخروج والزينة لم يؤثر ذلك في انقضاء العدة فكذلك إذا لم تعلم به قوله تعالى (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) ذكر سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبى يوسف عن أبى حنيفة أنه قال في المتوفى عنها زوجها والمعتدة من الطلاق بالشهور أنه إن وجبت مع رؤية الهلال اعتدت بالأهلة كان الشهر ناقصا أو تاما وإن كانت العدة وجبت في بعض شهر لم تعمل على الأهلة واعتدت تسعين يوما في الطلاق وفي الوفاة مائة وثلاثين يوما وذكر أيضا سليمان بن شعيب عن أبيه عن محمد عن أبى يوسف عن أبى حنيفة بخلاف ذلك قال إن كانت العدة وجبت في بعض شهر فإنها تعتد بما بقي من ذلك الشهر أياما ثم تعتد لما يمر عليها من الأهلة شهورا ثم تكمل الأيام الأول ثلاثين يوما وإذا وجبت العدة مع رؤية الهلال اعتدت بالأهلة وهو قول أبى يوسف ومحمد والشافعى وروى عن مالك في الإجارة مثله وقال ابن

١٢١

القاسم وكذلك قوله في الأيمان والطلاق وكذلك قال أصحابنا في الإجارة وروى عمرو ابن خالد عن زفر في الإيلاء في بعض الشهر أنها تعتد بكل شهر يمر عليها ناقصا أو تاما قال وقال أبو يوسف تعتد بالأيام حتى تستكمل مائة وعشرين يوما ولا تنظر إلى نقصان الشهر ولا إلى تمامه قال أبو بكر وهذا على ما حكاه سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبى يوسف عن أبى حنيفة في عدة الشهور ولا خلاف بين الفقهاء في مدة العدد وأجل الإيلاء والأيمان والإجارات إذا عقدت على الشهور مع رؤية الهلال أنه تعتير الأهلة في سائر شهوره سواء كانت ناقصة أو تامة وإذا كان ابتداء المدة في بعض الشهر فهو على الخلاف الذي ذكرنا وأما وجه من اعتبر في ذلك بقية الشهر الأول بالعدد ثلاثين يوما وسائر الشهود بالأهلة ثم يكمله الشهر الآخر بالأيام مع بقية الشهر الأول فإنه ذهب إلى معنى قول النبي صلّى الله عليه وسلّم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين فدل ذلك على معنيين أحدهما أن كل شهر ابتداؤه وانتهاؤه بالهلال واحتجنا إلى اعتباره فواجب اعتباره بالهلال ناقصا كان أو تاما كما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم باعتباره في صوم رمضان وشعبان وكل شهر لم يكن ابتداؤه وانتهاؤه بالأهلة فهو ثلاثون وإنما ينقص بالهلال فلما لم يكن ابتداء الشهر الأول بالهلال وجب فيه استيفاء ثلاثين يوما من آخر المدة وسائر الشهور لما أمكن استيفاؤها بالأهلة وجب اعتبارها بها وعلى قول من اعتبر سائر الشهور بالأيام يقول لما لم يكن ابتداء المدة بالهلال وجب استيفاء هذا الشهر بالأيام ثلاثون يوما فيكون انقضاؤه في بعض الشهر الذي يليه ثم يكون كذلك حكم سائر الشهور قالوا ولا يجوز أن يجبر هذا الشهر من أحد الشهور ويجعل ما بينهما شهورا بالأهلة لأن الشهور سبيلها أن تكون أيامها متصلة متوالية فوجب استيفاء شهر كامل ثلاثين يوما منذ أول المدة أياما متوالية فيقع ابتداء الشهر الثاني في بعض الشهر الثاني فتكون الشهور وأيامها متوالية متصلة ومن يعتبر الأهلة فيما يستقبل من الشهور بعد بقية الشهر الأول فإنه يحتج بما قدمنا ذكره من أنه قد استقبل الشهر الذي يليه بالهلال فوجب أن يكون انتهاؤه بالهلال قال الله تعالى (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) واتفق أهل العلم بالنقل أنها كانت عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشرا من ربيع الآخر فاعتبر الهلال فيما يأتى من الشهور دون عدد الأيام فوجب مثله في نظائره من المدة* وقوله تعالى (وَعَشْراً)

١٢٢

ظاهرها أنها الليالى والأيام مرادة معها ولكن غلبت الليالى على الأيام إذا اجتمعت في التاريخ وغيره لأن ابتداء شهور الأهلة بالليالي منذ طلوع الأهلة فلما كان ابتداؤها الليل غلبت الليالى وخصت بالذكر دون الأيام وإن كانت تفيد ما بإزائها من الأيام ولو ذكر جمعا من الأيام أفادت ما بإزائها من الليالى والدليل عليه قوله تعالى (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) وقال تعالى في موضع آخر (ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) والقصة واحدة فاكتفى تارة بذكر الأيام عن الليالى وتارة بذكر الليالى عن الأيام وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم الشهر تسع وعشرون وفي لفظ آخر تسعة وعشرون فدل على أن كل واحد من العددين إذا أطلق أفاد ما بإزائه من الآخر ألا ترى أنه لما اختلف العددان من الليالى والأيام فصل بينهما في اللفظ في قوله تعالى (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) وذكر الفراء أنهم يقولون صمنا عشرا من شهر رمضان فيعبرون بذكر الليالى عن الأيام لأن عشرا لا تكون إلا الليالى ألا ترى أنه لو قال عشرة أيام لم يجز فيها إلا التذكير وأنشد الفراء :

أقامت ثلاثا بين يوم وليلة

وكان النكير أن تضيف وتجارا

فقال ثلاثا وهي الليالى وذكر اليوم والليلة في المراد وإذا ثبت ما وصفنا كان قوله تعالى (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) مفيدا لكون المدة أربعة أشهر على ما قدمنا من الاعتبار وعشرة أيام زائدة عليها وإن كان لفظ العدد واردا بلفظ التأنيث.

ذكر الإختلاف في خروج المعتدة من بيتها

قال أصحابنا لا تنتقل المبتوتة ولا المتوفى عنها زوجها عن بيتها الذي كانت تسكنه وتخرج المتوفى عنها زوجها بالنهار ولا تبيت في غير منزلها ولا تخرج المطلقة ليلا ولا نهارا إلا من عذر وهو قول الحسن وقال مالك لا تنتقل المطلقة المبتوتة ولا الرجعية ولا المتوفى عنها ولا يخرجن بالنهار ولا يبتن عن بيوتهن وقال الشافعى ولم يكن الإحداد في سكنى البيوت فتسكن المتوفى عنها زوجها أى بيت كانت فيه جيدا أو رديا وإنما الإحداد في الزينة قال أبو بكر أما المطلقة فلقوله تعالى (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) فحظر خروجها وإخراجها في العدة إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وذلك ضرب من العذر فأباح خروجها لعذر وقد اختلف في الفاحشة المذكورة في هذه الآية وسنذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى وأما المتوفى عنها زوجها فإن الله تعالى قال في العدة الأولى

١٢٣

(مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) ثم نسخ منها ما زاد على الأربعة الأشهر والعشر فبقى حكم هذه العدة الثانية على ما كان عليه من ترك الخروج إذ لم يرد لها نسخ وإنما النسخ فيما زاد وقد وردت السنة بمثل ما دل عليه الكتاب حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن سلمة القعنبي عن مالك عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبى سعيد الخدري أخبرتها أنها جاءت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بنى خدرة فإن زوجها قتله عبد له فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أرجع إلى أهلى فإنه لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نعم قالت فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني فقال كيف قلت فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي قالت فقال امكثى في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا قالت فلما كان عثمان أرسل إلى وسألنى عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به وقد روى عن ابن عباس خلاف ذلك حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن محمد المروزى قال حدثنا موسى بن مسعود قال حدثنا شبل عن ابن أبى نجيح قال قال عطاء قال ابن عباس نسخت هذه الآية عدتها عند أهله فتعتد حيث شاءت وهو قول الله عز وجل (غَيْرَ إِخْراجٍ) قال عطاء إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في منزلها وإن شاءت خرجت لقول الله تعالى (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ) قال عطاء ثم جاء الميراث فنسخ السكنى فتعتد حيث شاءت قال أبو بكر ليس في إيجاب الميراث ما يوجب نسخ الكون في المنزل وقد يجوز اجتماعهما فليس في ثبوت أحدهما نفى الآخر وقد ثبت ذلك أيضا بسنة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد نسخ الحول وإيجاب الميراث لأن عدة الفريعة كانت أربعة أشهر وعشرا وقد نهاها النبي صلّى الله عليه وسلّم عن النقلة وما روينا من قصة الفريعة قد دل على معنيين أحدهما لزوم السكون في المنزل الذي كانت تسكنه يوم الوفاة والنهى عن النقلة والثاني جواز الخروج إذ لم ينكر النبي صلّى الله عليه وسلّم الخروج ولو كان الخروج محظورا لنهاها عنه وقد روى مثل ذلك عن جماعة من السلف منهم عبد الله بن مسعود وعمر وزيد بن ثابت وأم سلمة وعثمان أنهم قالوا المتوفى عنها زوجها تخرج بالنهار ولا تبيت عن بيتها وروى عبد الرزاق عن ابن كثير عن مجاهد قال استشهد رجال يوم أحد فآمنت نساؤهم وكن متجاورات في دار

١٢٤

فأتين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلن نبيت عند إحدانا فقال تزاورن بالنهار فإذا كان الليل فلتأو كل واحدة منكن إلى بيتها وروى عن جماعة من السلف أن المتوفى عنها زوجها تعتد حيث شاءت منهم على وابن عباس وجابر بن عبد الله وعائشة وما قدمنا من دليل الكتاب والسنة يوجب صحة القول الأول فإن قيل قال الله تعالى (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) فهذا يدل على أن لها أن تنتقل قيل له المعنى فإذا خرجن بعد انقضاء العدة كما قال في الآية الأخرى (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) ويدل على أن المراد ما ذكرنا أنها لو خرجت قبل انقضاء العدة لم يكن لها أن تتزوج بالاتفاق فدل ذلك على أن المراد فإذا خرجن بعد انقضاء العدة وإذا كان ذلك على ما وصفنا كان حظر الانتقال باقيا على المتوفى عنها زوجها* وإنما قالوا إن المطلقة لا تخرج ليلا ولا نهارا لقوله تعالى (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) وذلك عموم في جميعهن وحظر عن خروجهن في سائر الأوقات وخالفت المتوفى عنها زوجها فهي مستغنية عن الخروج والله أعلم.

باب ذكر إحداد المتوفى عنها زوجها

روى عن جماعة من الصحابة أن عليها اجتناب الزينة والطيب منهم عائشة وأم سلمة وابن عمر وغيرهم ومن التابعين سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وحكاه عن فقهاء المدينة وهو قول أصحابنا وسائر فقهاء الأمصار لا خلاف بينهم فيه* وروى ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الله بن أبى بكر عن حميد بن نافع عن زينت بنت أبى سلمة أنها أخبرته بهذه الأحاديث قالت زينب دخلت على أم حبيبة حين توفى أبوها أبو سفيان فدعت بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها ثم قالت والله مالي بالطيب من حاجة غير أنى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليالي إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا قالت زينب ودخلت على زينب بنت جحش حين توفى أخوها فدعت بطيب فمست منه ثم قالت والله مالي بالطيب من حاجة غير أنى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول وهو على المنبر (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا قالت زينب وسمعت أمى أم سلمة تقول

١٢٥

جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت يا رسول الله إن ابنتي توفى عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لامرأتين أو ثلاثا كل ذلك يقول لا ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما هي أربعة أشهر وعشرا وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمى بالبعرة على رأس الحول قال حميد فقلت لزينب وما ترمى بالبعرة على رأس الحول فقالت زينب كانت المرأة إذا توفى عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى تمر بها سنة ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات ثم تخرج فتعطى بعرة فترمى بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره فحظر عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الاكتحال في العدة وأخبر بالعدة التي كانت تعتد إحداهن وما تجتنبه من الزينة والطيب ثم قال إنما هي أربعة أشهر وعشرا فدل بذلك على أن هذه العدة محتدا بها العدة التي كانت سنة في اجتناب الطيب والزينة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا زهير قال حدثنا يحيى بن أبى بكير قال حدثنا إبراهيم بن طهمان قال حدثني بديل عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة عن أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال (المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلية ولا تختضب ولا تكتحل) وروى أم سلمة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل وروت أم سلمة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لها وهي معتدة من زوجها (لا تمتشطى بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب) قوله عز وجل (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) الآية قد تضمنت هذه الآية أربعة أحكام أحدها الحول وقد نسخ منه ما زاد على أربعة أشهر وعشرا والثاني نفقتها وسكناها في مال الزوج فقد نسخ بالميراث على ما روى عن ابن عباس وغيره لأن الله تعالى أوجبها لها على وجه الوصية لأزواجهم كما كانت الوصية واجبة للوالدين والأقربين فنسخت بالميراث وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لا وصية لوارث ومنها الإحداد الذي دلت عليه الدلالة من الآية فحكمه باق بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومنها انتقالها عن بيت زوجها فحكمه باق في حظره فنسخ من الآية حكمان وبقي حكمان ولا نعلم آية اشتملت على أربعة أحكام فنسخ منها اثنان وبقي اثنان غيرها ويحتمل أن يكون قوله تعالى (غَيْرَ إِخْراجٍ) منسوخا لأن المراد به السكنى الواجبة في مال الزوج فقد نسخ كونها في مال الزوج فصار حظر

١٢٦

الإخراج منسوخا إلا أن قوله تعالى (غَيْرَ إِخْراجٍ) قد تضمن معنيين أحدهما وجوب السكنى في مال الزوج والثاني حظر الخروج والإخراج لأنهم إذا كانوا ممنوعين من إخراجها فهي لا محالة مأمورة باللبس فإذا نسخ وجوب السكنى في مال الزوج بقي حكم لزوم اللبث في البيت وقد اختلف أهل العلم في نفقة المتوفى عنها زوجها فقال ابن عباس وجابر بن عبد الله نفقتها على نفسها حاملا كانت أو غير حامل وهو قول الحسن وسعيد ابن المسيب وعطاء وقبيصة بن ذؤيب وروى الشعبي عن على وعبد الله قالا إذا مات عنها زوجها فنفقتها من جميع المال وروى الحكم عن إبراهيم قال كان أصحاب عبد الله يقضون في الحامل المتوفى عنها زوجها إن كان المال كثيرا فنفقتها من نصيب ولدها وإن كان قليلا فمن جميع المال وروى الزهري عن سالم عن ابن عمر قال ينفق عليها من جميع المال وقال أصحابنا جميعا لا نفقة لها ولا سكنى في مال الميت حاملا كانت او غير حامل وقال ابن أبى ليلى هي في مال الزوج بمنزلة الدين على الميت إذا كانت حاملا وقال مالك بن أنس نفقتها على نفسها وإن كانت حاملا ولها السكنى إن كانت الدار للزوج وإن كان عليه دين فالمرأة أحق بسكناها حتى تنقضي عدتها وإن كانت في بيت بكراء فأخرجوها لم يكن لها سكنى في مال الزوج هذا رواية ابن وهب عنه وقال ابن القاسم عنه لا نفقة لها في مال الميت ولها السكنى إن كانت الدار للميت وإن كان عليه دين فهي أحق بالسكنى من الغرماء وتباع للغرماء ويشترط السكنى على المشترى وقال الثوري إن كانت حاملا أنفق عليها من جميع المال حتى تضع فإذا وضعت أنفق على الصبى من نصيبه هذه رواية الأشجعى عنه وروى عنه المعافى أن نفقتها من حصتها وقال الأوزاعى في المرأة يموت زوجها وهي حامل فلا نفقة لها وإن كانت أم ولد فلها النفقة من جميع المال حتى تضع وقال الليث بن سعد في أم الولد إذا كانت حاملا منه فإنه ينفق عليها من المال فإن ولدت كان ذلك في حظ ولدها وإن لم تلد كان ذلك دينا يتبع به وقال الحسن بن صالح للمتوفى عنها زوجها النفقة من جميع المال وقال الشافعى في المتوفى عنها زوجها قولين أحدهما لها النفقة والسكنى والآخر لا نفقة لها ولا سكنى* قال أبو بكر لا تخلو نفقة الحامل من أحد ثلاثة أوجه إما أن تكون واجبة على حسب وجوبها بديا حين كانت عدتها حولا في قوله تعالى (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) أو أن تكون واجبة على حسب وجوبها للمطلقة المبتوتة أو تجب للحامل

١٢٧

دون غيرها لأجل الحمل والوجه الأول باطل لأنها كانت واجبة على وجه الوصية والوصية للوارث منسوخة والوجه الثاني لا يصح أيضا من قبل أن النفقة لم تكن واجبة في حال الحياة وإنما تجب حالا فحالا على حسب مضى الأوقات وتسليم نفسها في بيت الزوج ولا يجوز إيجابها بعد الموت من وجهين أحدهما أن سبيلها أن يحكم بها الحاكم على الزوج ويثبتها في ذمته وتؤخذ من ماله وليس للزوج ذمة فتثبت فيها فلم يجز أخذها من ماله إذا لم تثبت عليه والثاني أن ذلك الميراث قد انتقل إلى الورثة بالموت إذا لم يكن هناك دين عند الموت فغير جائز إثباتها في مال الورثة ولا في مال الزوج فتؤخذ منه وإن كانت حاملا لم يخل إيجاب النفقة لها في مال الزوج من أحد وجهين إما أن يكون وجوبها متعلقا بكونها في العدة أو لأجل الحمل وقد بينا أن إيجابها لأجل العدة غير جائز ولا يجوز إيجابها لأجل الحمل لأن الحمل نفسه لا يستحق نفقة على الورثة إذ هو موسر مثلهم بميراثه ولو ولدته لم تجب نفقته على الورثة فكيف تجب له في حال الحمل فلم يبق وجه يستحق به النفقة والله أعلم.

باب التعريض بالخطبة في العدة

قال الله تعالى (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) الآية وقد قيل في الخطبة أنها الذكر الذي يستدعى به إلى عقدة النكاح والخطبة بالضم الموعظة المتسقة على ضروب من التأليف وقد قيل أيضا إن الخطبة ما له أول وآخر كالرسالة والخطبة للحال نحو الجلسة والقعدة وقيل في التعريض أنه ما تضمن الكلام من الدلالة على شيء من غير ذكر له كقول القائل ما أنا بزان يعرض بغيره أنه زان ولذلك رأى عمر فيه الحد وجعله كالتصريح والكناية العدول عن صريح اسمه إلى ذكر يدل عليه كقوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) يعنى القرآن فالهاء كناية عنه وقال ابن عباس التعريض بالخطبة أن يقول لها إنى أريد أن أتزوج امرأة من أمرها وأمرها يعرض لها بالقول وقال الحسن هو أن يقول لها إنى بك لمعجب وإنى فيك لراغب ولا تفوتينا نفسك وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة بنت قيس وهي في العدة لا تفوتينا نفسك ثم خطبها بعد انقضاء العدة على أسامة بن زيد وقال عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال هو أن يقول لها وهي في العدة إنك لكريمة وإنى فيك لراغب وإن الله لسائق إليك خيرا أو نحو هذا من القول

١٢٨

وقال عطاء هو أن يقول إنك لجميلة وإنى فيك لراغب وإن قضى الله شيئا كان فكان التعريض أن يتكلم بكلام يدل فحواه على رغبته فيها ولا يخطبها بصريح القول قال سعيد ابن جبير في قوله تعالى (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) أن يقول إنى فيك لراغب وإنى لأرجو أن نجتمع وقوله تعالى (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) يعنى أضمرتموه من التزويج بعد انقضاء عدتها فأباح التعريض بالخطبة وإضمار نكاحها من غير إفصاح به وذكر إسماعيل ابن إسحاق عن بعض الناس أنه احتج في نفى الحد في التعريض بالقذف بأن الله تعالى لم يجعل التعريض في هذا الموضع بمنزلة التصريح كذلك لا يجعل التعريض بالقذف كالتصريح* قال إسماعيل فاحتج بما هو حجة عليه إذ التعريض بالنكاح قد فهم به مراد* القائل فإذا فهم به مراده وهو القذف حكم عليه بحكم القاذف* قال وإنما يزيل الحد عن* المعرض بالقذف من يزيله لأنه لم يعلم بتعريضه أنه أراد القذف إذ كان محتملا لغيره* قال وينبغي على قوله هذا أن يزعم أن التعريض بالقذف جائز مباح كما أبيح التعريض* بالخطبة بالنكاح* قال وإنما اختير التعريض بالنكاح دون التصريح لأن النكاح لا يكون إلا منهما ويقتضى خطبته جوابا منها ولا يقتضى التعريض جوابا في الأغلب فلذلك افترقا قال أبو بكر الكلام الأول الذي حكاه عن خصمه في الدلالة به على نفى الحد بالتعريض صحيح ونقضه ظاهر الاختلال واضح الفساد ووجه الاستدلال به على نفى الحد بالتعريض أنه لما حظر عليه المخاطبة بعقد النكاح صريحا وأبيح له التعريض به اختلف حكم التعريض والتصريح في ذلك على أن التعريض بالقذف مخالف لحكم التصريح وغير جائز التسوية بينهما كما خالف الله بين حكمهما في خطبة النكاح وذلك لأنه معلوم أن الحدود مما يسقط بالشبهة فهي في حكم السقوط والنفي آكد من النكاح فإذا لم يكن التعريض في النكاح كالتصريح وهو آكد في باب الثبوت من الحد كان الحد أولى أن لا يثبت بالتعريض من حيث دل على أنه لو خطبها بعد انقضاء العدة بالتعريض لم يقع بينهما عقد النكاح فكان تعريضه بالعقد مخالفا للتصريح فالحد أولى أن لا يثبت بالتعريض وكذلك لم يختلفوا أن الإقرار في العقود كلها لا يثبت بالتعريض ويثبت بالتصريح لأن الله فرق بينهما في النكاح فكان الحد أولى أن لا يثبت به وهذه الدلالة واضحة على الفرق بينهما في سائر ما يتعلق حكمه بالقول وهي كافية مغنية في جهة الدلالة على ما وصفنا وإن أردنا رده إليه من جهة القياس

«٩ ـ أحكام في»

١٢٩

لعلة تجمعهما كان سائغا وذلك أن النكاح حكمه متعلق بالقول كالقذف فلما اختلف حكم التصريح والتعريض بالخطبة بهذا المعنى ثبت حكمه بالتعريض وإن كان حكمه ثابتا بالإفصاح والتصريح كما حكم الله به في النكاح* وأما قوله إن التعريض بالقذف ينبغي أن يكون بمنزلة التصريح لأنه قد عرف مراده كما عرف بالتصريح فإنى أظنه نسى عند هذا القول حكم الله تعالى في الفصل بين التعريض والتصريح بالخطبة إذ كان المراد مفهوما مع الفرق بينهما لأنه إن كان الحكم متعلقا بمفهوم المراد فلذلك بعينه موجود في الخطبة فينبغي أن يستوي حكمهما فيها فإذا كان نص التنزيل قد فرق بينهما فقد انتقض هذا الإلزام وصح الاستدلال به على ما وصفنا وأما قوله إن من أزال الحد عن المعرض بالقذف فإنما أزاله لأنه لم يعلم بتعريضه أنه أراد القذف لاحتمال كلامه لغيره فإنها وكالة لم تثبت عن الخصم وقضاء على غائب بغير بينة وذلك لأن أحدا لا يقول بأن حد القذف متعلق بإرادته وإنما يتعلق عند خصومه بالإفصاح به دون غيره فالذي يحيل به خصمه من أنه أزال الحد لأنه لم يعلم مراده لا يقبلونه ولا يعتمدونه* وأما إلزامه خصمه أن يبيح التعريض بالقذف كما يبيح التعريض بالنكاح فإنه كلام رجل غير مثبت فيما يقوله ولا ناظر في عاقبة ما يئول إليه حكم إلزامه له فنقول إن خصمه الذي احتج به لم يجعل ما ذكره علة للإباحة حتى يلزم عليه إباحة التعريض بالقذف وإنما استدل بالآية على إيجاب الفرق بين التعريض والتصريح فأما الحظر موقوفان على دلالتهما من غير هذا الوجه* وأما قوله إنما حيز التعريض بالنكاح دون التصريح لأن النكاح لا يكون إلا منهما ويقتضى خطبته جوابا منها ولا يقتضى التعريض جوابا في الأغلب فإنه كلام فارغ لا معنى تحته وهو مع ذلك منتقض وذلك التعريض بالنكاح والتصريح به لا يقتضى واحد منهما جوابا لأن النهى إنما انصرف إلى خطبتها لوقت مستقبل بعد انقضاء العدة بقوله تعالى (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) وذلك لا يقتضى الجواب كما لا يقتضى التعريض ولم يجز الخطاب عن النهى عن العقد المقتضى للجواب حتى يفرق بينهما بما ذكر فقد بان بذلك أنه لا فرق بين التعريض والتصريح في نفى اقتضاء الجواب وهذا الموضع هو الذي فرقت الآية فيه بين الأمرين فأما العقد المقتضى للجواب فإنما هو منهى عنه بقوله تعالى (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) وإن كان نهيه عن العقد نفسه فقد

١٣٠

اقتضاه نهيه عن الإفصاح بالخطبة من جهة الدلالة كدلالة قوله تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) على حظر الشتم والضرب* وأما وجه انتقاضه فإنه لا خلاف أن العقود المقتضية للجواب لا تصح بالتعريض وكذلك الإقرارات لا تصح بالتعريض وإن لم تقتض جوابا من المقر له فلم يختلف حكم ما يقتضى من ذلك جوابا وما لا يقتضيه فعلمت أن اختلافهما من هذا الوجه لا يوجب الفرق بينهما* وأما قوله تعالى (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) فإنه مختلف في المراد به فقال ابن عباس وسعيد بن جبير والشعبي ومجاهد مواعدة السر أن يأخذ عليها عهدا أو ميثاقا أن تحبس نفسها عليه ولا تنكح زوجا غيره وقال الحسن وإبراهيم وأبو مجلز ومحمد وجابر بن زيد (لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) الزنا وقال زيد بن أسلم (لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) لا تنكح المرأة في عدتها ثم تقول سأسره ولا يعلم به أو يدخل عليها فيقول لا يعلم بدخولي حتى تنقضي العدة* قال أبو بكر اللفظ محتمل لهذه المعاني كلها لأن الزنا قد يسمى سرا قال الحطيئة :

ويحرم سر جارتهم عليهم

ويأكل جارهم أنف القصاع

وأراد بالسر الزنا وصفهم بالعفة عن نساء جيرانهم وقال رؤبة يصف حمار الوحش وأتانه لما كف عنها حين حملت :

قد أحضنت مثل دعاميص الرنق

أجنة في مستكنات الحلق

 فعف عن أسرارها بعد العسق

يعنى بعد للزوق يقال عسق به إذا لزق به وأراد بالسر هاهنا الغشيان وعقد النكاح نفسه يسمى سرا كما يسمى به الوطء ألا ترى أن الوطء والعقد كل واحد منهما يسمى نكاحا ولذلك ساغ تأويل الآية على الوطء وعلى العقد وعلى التصريح بالخطبة لما بعد انقضاء العدة* وأظهر الوجوه وأولاها بمراد الآية مع احتمالها لسائر ما ذكرنا ما روى عن ابن عباس ومن تابعه وهو التصريح بالخطبة وأخذ العهد عليها أن تحبس نفسه عليه ليتزوجها بعد انقضاء العدة لأن التعريض المباح إنما هو في عقد يكون بعد انقضاء العدة وكذلك التصريح واجب أن يكون حظره من هذا الوجه بعينه ومن جهة أخرى أن ذلك معنى لم نستفده إلا بالآية فهو لا محالة مراد بها وأما حظر إيقاع العقد في العدة فمذكور باسمه في نسق التلاوة بقوله تعالى (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) فإذا كان ذلك

١٣١

مذكورا في نسق الخطاب بصريح اللفظ دون التعريض وبالإفصاح دون الكناية فإنه يبعد أن يكون مراده بالكناية المذكورة بقوله (سِرًّا) هو والذي قد أفصح به في المخاطبة وكذلك تأويل من تأوله على الزنا فيه بعد لأن المواعدة بالزنا محظورة في العدة وغيرها إذ كان تحريم الله الزنا تحريما مبهما مطلقا غير مقيد بشرط ولا مخصوص بوقت فيؤدى ذلك إلى إبطال فائدة تخصيصه حظر المواعدة بالزنا بكونها في العدة وليس يمتنع أن يكون الجميع مرادا لاحتمال اللفظ له بعد أن لا يخرج منه تأويل ابن عباس الذي ذكرناه* وقوله تعالى (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) يعنى إن الله علم أنكم ستذكرونهن بالتزويج لرغبتكم فيهن ولخوفكم أن يسبقكم إليهن غيركم وأباح لهم التوصل إلى المراد من ذلك بالتعريض دون الإفصاح وهذا يدل على ما اعتبره أصحابنا في جواز التوصل إلى استباحة الأشياء من الوجوه المباحة وإن كانت محظورة من وجوه أخر ونحوه ما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين أتاه بلال بتمر جيد فقال أكل تمر خيبر هكذا فقال لا إنما نأخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا تفعلوا ولكن بيعوا تمركم بعرض ثم اشتروا به هذا التمر فأرشدهم إلى التوصل إلى أخذ التمر الجيد ولهذا الباب موضع غير هذا سنذكره إن شاء الله* وقوله تعالى (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) كقوله تعالى (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) وأباح لهم الأكل والجماع في ليالي رمضان علمنا أنه لو لم يبح لهم لكان فيهم من يواقع المحظور عنه فخفف عنهم رحمة منه بهم وكذلك قوله تعالى (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) هو على هذا المعنى قوله عز وجل (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) قيل فيه أن أصل العقدة في اللغة هو الشد تقول عقدت الحبل وعقدت العقد تشبيها له بعقد الحبل في التوثق وقوله تعالى (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) معناه ولا تعقدوه ولا تعزموا عليه أن تعقدوه في العدة وليس المعنى أن لا تعزموا بالضمير على إيقاع العقد بعد انقضاء العدة لأنه قد أباح إضمار عقد بعد انقضاء العدة بقوله (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) والإكنان في النفس هو الإضمار فيها فعلمنا أن المراد بقوله تعالى (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) إنما تضمن النهى عن إيقاع العقد في العدة وعن العزيمة عليه فيها وقوله تعالى (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) يعنى به انقضاء العدة وذلك في مفهوم الخطاب غير محتاج إلى بيان ألا ترى أن فريعة بنت مالك حين سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم أجابها

١٣٢

بأن قال لا حتى يبلغ الكتاب أجله فعقلت من مفهوم خطابه انقضاء العدة ولم يحتج إلى بيان من غيره ولا خلاف بين الفقهاء أن من عقد على امرأة نكاحا وهي في عدة من غيره أن النكاح فاسد* وقد اختلف السلف ومن بعدهم في حكم من تزوج امرأة في عدتها من غيره فروى ابن المبارك قال حدثنا أشعث عن الشعبي عن مسروق قال بلغ عمر أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها فأرسل إليهما ففرق بينهما وعاقبهما وقال لا ينكحها أبدا وجعل الصداق في بيت المال وفشا ذلك بين الناس فبلغ عليا كرم الله وجهه فقال رحم الله أمير المؤمنين ما بال الصداق وبيت المال إنهما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة قيل فما تقول أنت فيها قال لها الصداق بما استحل من فرجها ويفرق بينهما ولا جلد عليهما وتكمل عدتها من الأول ثم تكمل العدة من الآخر ثم يكون خاطبا فبلغ ذلك عمر فقال يا أيها الناس ردوا الجهالات إلى السنة وروى ابن أبى زائدة عن أشعث مثله وقال فيه فرجع عمر إلى قول على * قال أبو بكر قد اتفق على وعمر على قول واحد لما روى أن عمر رجع إلى قول على واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر يفرق بينهما ولها مهر مثلها فإذا انقضت عدتها من الأول تزوجها الآخر إن شاء وهو قول الثوري والشافعى وقال مالك والأوزاعى والليث بن سعد لا تحل له أبدا قال مالك والليث ولا بملك اليمين* قال أبو بكر لا خلاف بين من ذكرنا قوله من الفقهاء أن رجلا لو زنى بامرأة جاز له أن يتزوجها والزنا أعظم من النكاح في العدة فإذا كان الزنا لا يحرمها عليه تحريما مؤبدا فالوطء بشبهة أحرى أن لا يحرمها عليه وكذلك من تزوج أمة على حرة أو جمع بين أختين ودخل بهما لم تحرم عليه تحريما مؤبدا فكذلك الوطء عن عقد كان في العدة لا يخلو من أن يكون وطأ بشبهة أو زنا وأيهما كان فالتحريم غير واقع به* فإن قيل قد يوجب الزنا والوطء بالشبهة تحريما مؤبدا عندكم كالذي يطأ أم امرأته أو ابنتها فتحرم عليه تحريما مؤبدا قيل له ليس هذا مما نحن فيه بسبيل لأن كلامنا إنما هو في وطء يوجب تحريم الموطوءة نفسها فأما وطء يوجب تحريم غيرها فإن ذلك حكم كل وطء عندنا زنا كان أو وطء بشبهة أو مباحا وأنت لم تجد في الأصول وطأ يوجب تحريم الموطوءة فكان قولك خارجا عن الأصول وعن أقاويل السلف أيضا لأن عمر قد رجع إلى قول على في هذه المسألة وأما ما روى عن عمر أنه جعل المهر في بيت المال

١٣٣

فإنه ذهب إلى أنه مهر حصل لها من وجه محظور فسبيله أن يتصدق به فلذلك جعله في بيت المال ثم رجع فيه إلى قول على رضى الله عنه ومذهب عمر في جعل مهرها لبيت المال إذ قد حصل لها ذلك من وجه محظور يشبه ما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الشاة المأخوذة بغير إذن مالكها قدمت إليه مشوية فلم يكد يسيغها حين أراد الأكل منها فقال إن هذه تخبرني أنها أخذت بغير حق فأخبروه بذلك فقال أطعموها الأسارى ووجه ذلك عندنا إنما صارت لهم بضمان القيمة فأمرهم بالصدقة بها لأنها حصلت لهم من وجه محظور ولم يكونوا قد أدوا القيمة إلى أصحابها وقد روى عن سليمان بن يسار أن مهرها لبيت المال وقال سعيد بن المسيب وإبراهيم والزهري الصداق لها على ما روى عن على وفي اتفاق عمر وعلى على أن لاحد عليهما دلالة على أن النكاح في العدة لا يوجب الحد مع العلم بالتحريم لأن المرأة كانت عالمة بكونها في العدة ولذلك جلدها عمر وجعل مهرها في بيت المال وما خالفهما في ذلك أحد من الصحابة فصار ذلك أصلا في أن كل وطء عن عقد فاسد أنه لا يوجب الحد سواء كانا عالمين بالتحريم أو غير عالمين به وهذا يشهد لأبى حنيفة فيمن وطئ ذات محرم منه بنكاح أنه لا حد عليه* وقد اختلف الفقهاء في العدة إذا وجبت من رجلين فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك في رواية ابن القاسم عنه والثوري والأوزاعى إذا وجبت عليها العدة من رجلين فإن عدة واحدة تكون لهما جميعا سواء كانت العدة بالحمل أو بالحيض أو بالشهور وهو قول إبراهيم النخعي وقال الحسن بن صالح والليث والشافعى تعتد لكل واحد عدة مستقبلة والذي يدل على صحة القول الأول قوله تعالى (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) يقتضى كون عدتها ثلاثة قروء إذا طلقها زوجها ووطئها رجل بشبهة لأنها مطلقة قد وجبت عليها عدة ولو أوجبنا عليها أكثر من ثلاثة قروء كنا زائدين في الآية ما ليس فيها إذ لم تفرق بين من وطئت بشبهة من المطلقات وبين غيرها ويدل عليه أيضا قوله تعالى (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) ولم يفرق بين مطلقة قد وطئها أجنبى بشبهة وبين من لم توطأ فاقتضى ذلك أن تكون عدتها ثلاثة أشهر في الوجهين جميعا ويدل عليه أيضا قوله تعالى (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) ولم يفرق بين من عليها عدة من رجل أو رجلين ويدل عليه أيضا قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ

١٣٤

مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) لأن العدة إنما هي بمضى الأوقات والأهلة والشهور وقد جعلها الله وقتا لجميع الناس فوجب أن تكون الشهور والأهلة وقتا لكل واحد منهما لعموم الآية ويدل عليه اتفاق الجميع على أن الأول لا يجوز له عقد النكاح عليها قبل انقضاء عدتها منه فعلمنا أنها في عدة من الثاني لأن العدة منه لا تمنع من تزويجها* فإن قيل منع من ذلك* لأن العدة منه نتلوها عدة من غيرها* قيل له فقد يجوز أن يتزوجها ثم يموت هو قبل بلوغها مواضع الاعتداد من الثاني فلا تلزمها عدة من الثاني فلو لم تكن في هذه الحال معتدة منه لما منع العقد عليها لأن عدة تجب في المستقبل لا ترفع عقدا ماضيا ويدل عليه أن الحيض إنما هو استبراء للرحم من الحبل فإذا طلقها الأول ووطئها الثاني بشبهة قبل أن تحيض ثم حاضت ثلاث حيض فقد حصل الاستبراء ويستحيل أن يكون استبراء من حمل الأول غير استبراء من حمل الثاني فوجب أن تنقضي به العدة منهما جميعا ويدل عليه أن من طلق امرأته وأبانها ثم وطئها في العدة بشبهة أن عليها عدتين عدة من الوطء وتعتد بما بقي من العدة الأولى من العدتين ولا فرق بين أن تكون العدة من رجلين أو رجل واحد* فإن قيل إن هذا حق واجب لرجل واحد والأول واجب لرجلين* قيل له لا فرق بين الرجل الواحد والرجلين لأن الحقين إذا وجبا لرجل واحد فواجب إيفاؤهما إياه جميعا كوجوبهما لرجلين في لزوم توفيتهما إياهما ألا ترى أنه لا فرق بين الرجلين والرجل الواحد في آجال الديون ومواقيت الحج والإجارات ومدد الإيلاء في أن مضى الوقت الواحد يصير كل واحد منهما مستوفيا لحقه فتكون الشهور التي لهذا هي بعينها للآخر وقد روى أبو الزناد عن سليمان بن يسار عن عمر في التي تزوجت في العدة أنه أمرها أن تعتد منهما وظاهر ذلك يقتضى أن تكون عدة واحدة منهما* فإن قيل روى الزهري عن سليمان بن يسار عن عمر أنه قال تعتد بقية عدتها من الأول ثم تعتد من الآخر* قيل له ليس فيه أنها تعتد من الآخر عدة مستقبلة فوجب أن يحمل معناه على بقية العدة ليوافق أبى الزناد والله أعلم.

باب متعة المطلقة

قال الله عز وجل (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَ) تقديره ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة ألا ترى أنه عطف

١٣٥

عليه قوله تعالى (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) فلو كان الأول بمعنى ما لم تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة أو لم تفرضوا لما عطف عليها المفروض لها فدل ذلك على أن معناه ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة وقد تكون أو بمعنى الواو قال الله تعالى (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) معناه ولا كفورا وقال تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) والمعنى وجاء أحد منكم من الغائط وأنتم مرضى ومسافرون وقال تعالى (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) معناه ويزيدون فهذا موجود في اللغة وهي النفي أظهر في دخولها عليه أنها بمعنى الواو منه ما قدمنا من قوله تعالى (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) معناه ولا كفورا لدخولها على النفي وقال تعالى (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) أو في هذه المواضع بمعنى الواو فوجب على هذا أن يكون قوله تعالى (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) لما دخلت على النفي أن تكون بمعنى الواو فيكون شرط وجوب المتعة المعنيين جميعا من عدم المسيس والتسمية جميعا بعد الطلاق وهذه الآية تدل على أن للرجل أن يطلق امرأته قبل الدخول بها في الحيض وأنها ليست كالمدخول بها لإطلاقه إباحة الطلاق من غير تفصيل منه بحال الطهر دون الحيض* وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار في وجوب المتعة فروى عن على أنه قال لكل مطلقة متعة وعن الزهري مثله وقال ابن عمر لكل مطلقة متعة إلا التي تطلق وقد فرض لها صداق ولم تمس فحسبها نصف ما فرض لها وروى عن القاسم بن محمد مثله وقال شريح وإبراهيم والحسن تخير التي تطلق قبل الدخول ولم يفرض على المتعة وقال شريح وقد سألوه في متاع فقال لا نأبى أن نكون من المتقين فقال إنى محتاج فقال لا نأبى أن نكون من المحسنين وقد روى عن الحسن وأبى العاليه لكل مطلقة متاع وسئل سعيد بن جبير عن المتعة على الناس كلهم فقال لا على المتقين وروى ابن أبى الزناد عن أبيه في كتاب البغية وكانوا لا يرون المتاع للمطلقة واجبا ولكنها تخصيص من الله وفضل وروى عطاء عن ابن عباس قال إذا فرض الرجل وطلق قبل أن يمس فليس لها إلا المتاع وقال محمد بن على المتعة التي لم يفرض لها والتي قد فرض لها ليس لها متعة وذكر محمد بن إسحاق عن نافع قال كان ابن عمر لا يرى للمطلقة متعة واجبة إلا للتي أنكحت بالعوض ثم يطلقها قبل أن

١٣٦

يدخل بها وروى معمر عن الزهري قال متعتان إحداهما يقضى بها السلطان والأخرى حق على المتقين من طلق قبل أن يفرض ولم يدخل أخذ المتعة لأنه لا صداق عليه ومن طلق بعد ما يدخل أو يفرض فالمتعة حق عليه وعن مجاهد نحو ذلك فهذا قول السلف فيها وأما فقهاء الأمصار فإن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا وزفر قالوا المتعة واجبة للتي طلقها قبل الدخول ولم يسم لها مهرا وإن دخل بها فإنه يمتعها ولا يجبر عليها وهو قول الثوري والحسن بن صالح والأوزاعى إلا أن الأوزاعى زعم أن أحد الزوجين إذا كان مملوكا لم تجب المتعة وإن طلقها قبل الدخول ولم يسم لها مهرا وقال ابن أبى ليلى وأبو الزناد المتعة ليست واجبة إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ولا يجبر عليها ولم يفرقا بين المدخول بها وبين غير المدخول بها وبين من سمى لها وبين من لم يسم لها وقال مالك والليث لا يجبر أحد على المتعة سمى لها أو لم يسم لها دخل بها أو لم يدخل وإنما هي مما ينبغي أن يفعله ولا يجبر عليها قال مالك وليس للملاعنة متعة على حال من الحالات وقال الشافعى المتعة واجبة لكل مطلقة ولكل زوجة إذا كان الفراق من قبله أو يتم به إلا التي سمى لها وطلق قبل الدخول قال أبو بكر نبدأ بالكلام في إيجاب المتعة ثم نعقبه بالكلام على من أوجبها لكل مطلقة والدليل على وجوبها قوله تعالى (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) وقال تعالى في آية أخرى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) وقال في آية أخرى (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) فقد حوت هذه الآيات الدلالة على وجوب المتعة من وجوه أحدها قوله تعالى (فَمَتِّعُوهُنَ) لأنه أمر والأمر يقتضى الوجوب حتى تقوم الدلالة على الندب* والثاني قوله تعالى (مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) وليس في ألفاظ الإيجاب آكد من قوله حقا عليه والثالث قوله تعالى (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) تأكيد لإيجابه إذ جعلها من شرط الإحسان وعلى كل أحد أن يكون من المحسنين وكذلك قوله تعالى (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) قد دل قوله حقا عليه على الوجوب وقوله تعالى (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) تأكيدا لإيجابها وكذلك قوله تعالى (فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) قد دل على الوجوب من حيث هو أمر وقوله تعالى (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ

١٣٧

بِالْمَعْرُوفِ) يقتضى الوجوب أيضا لأنه جعلها لهم وما كان للإنسان فهو ملكه له المطالبة به كقولك هذه الدار لزيد* فإن قيل لما خص المتقين والمحسنين بالذكر في إيجاب المتعة عليهم دل على أنها غير واجبة وأنها ندب لأن الواجبات لا يختلف فيها المتقون والمحسنون وغيرهم* قيل له إنما ذكر المتقين والمحسنين تأكيدا لوجوبها وليس تخصيصهم بالذكر نفيا على غيرهم كما قال تعالى (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وهو هدى للناس كافة وقوله تعالى (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ) فلم يكن قوله تعالى (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) موجبا لأن لا يكون هدى لغيرهم كذلك قوله تعالى (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) و(حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) غير ناف أن يكون حقا على غيرهم وأيضا فإنا نوجبها على المتقين والمحسنين بالآية ونوجبها على غيرهم بقوله تعالى (فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) وذلك عام في الجميع بالاتفاق لأن كل من أوجبها من فقهاء الأمصار على المحسنين والمتقين أوجبها على غيرهم ويلزم هذا السائل أن لا يجعلها ندبا أيضا لأن ما كان ندبا لا يختلف فيه المتقون وغيرهم فإذا جاز تخصيص المتقين والمحسنين بالذكر في المندوب إليه من المتعة وهم وغيرهم فيه سواء فكذلك جائز تخصيص المحسنين والمتقين بالذكر في الإيجاب ويكونون هم وغيرهم فيه سواء* فإن قيل لما لم يخصص المتقين والمحسنين في سائر الديون من الصداق وسائر عقود المداينات عند إيجابهم عليهم وخصهم بذلك عند ذكر المتعة دل على أنها ليست بواجبة قيل له إذا كان لفظ الإيجاب موجودا في الجميع فالواجب علينا الحكم بمقتضى اللفظ ثم تخصيصه بعض من أوجب عليه الحق بذكر التقوى والإحسان إنما هو على وجه التأكيد ووجوه التأكيد مختلفة فمنها ما يكون ذكر بتقييد التقوى والإحسان ومنها ما يكون بتخصيص لفظ الأداء نحو قوله تعالى (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) وقوله تعالى (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) ومنها ما يكون بالأمر بالإشهاد عليه والرهن به فكيف يستدل بلفظ التأكيد على نفى الإيجاب وأيضا فإنا وجدنا عقد النكاح لا يخلو من إيجاب البدل إن كان مسمى فالمسمى وإن لم يكن فيه تسمية فمهر المثل ثم كانت حاله إذا كان فيه تسمية أن البضع لا يخلو من استحقاق البدل له مع ورود الطلاق قبل الدخول وفارق النكاح بهذا المعنى سائر العقود لأن عود المبيع إلى ملك البائع يوجب سقوط الثمن كله وسقوط حق الزوج عن بضعها بالطلاق قبل الدخول لا يخرجه من استحقاق بدل ما هو نصف المسمى فوجب

١٣٨

أن يكون ذلك حكمه إذا لم تكن فيه تسمية والمعنى الجامع بينها ورود الطلاق قبل الدخول وأيضا فإن مهر المثل مستحق بالعقد والمتعة هي بعض مهر المثل فتجب كما يجب نصف المسمى إذا طلق قبل الدخول فإن قيل مهر المثل دراهم ودنانير والمتعة إنما هي أثواب قيل له المتعة أيضا عندنا دراهم ودنانير لو أعطاها لم يجبر على غيرها وهذا الذي ذكرناه من أنها بعض مهر المثل يسوغ على مذهب محمد لأنه يقول إذا رهنها بمهر المثل رهنا ثم طلقها قبل الدخول كان رهنا بالمتعة محبوسا بها إن هلك هلك بها وأبو يوسف فإنه لا يجعله رهنا بالمتعة فإن هلك هلك بغير شيء والمتعة واجبة باقية عليه فهذا يدل على أنه لم يرها بعض مهر المثل ولكنه أوجبها بمقتضى ظاهر القرآن وبالاستدلال وبالأصول على أن البضع لا يخلو من بدل مع ورود الطلاق قبل الدخول وأنه لا فرق بين وجود التسمية في العقد وبين عدمها إذ غير جائز حصول ملك البضع له بغير بدل فوجوب مهر المثل بالعقد عند عدم التسمية كوجوب المسمى فيه فوجب أن يستوي فيه حكمهما في وجوب بدل البضع عند ورود الطلاق قبل الدخول وأن تكون المتعة قائم مقام بعض مهر المثل وإن لم تكن بعضه كما تقوم القيم مقام المستهلكات وقد قال إبراهيم في المطلقة قبل الدخول وقد سمى لها أن لها نصف الصداق هو متعتها فكانت المتعة اسما لما يستحق بعد الطلاق قبل الدخول ويكون بدلا من البضع فإن قيل إذا قامت مقام بعض مهر المثل فهو عوض من المهر والمهر لا يجب له عوض قبل الطلاق فكذلك بعده* قيل له لم نقل إنه لم بدل منه وإن قام مقامه كما لا نقول أن قيم المستهلكات أبدال لها بل كأنها هي حين قامت مقامها ألا ترى أن المشترى لا يجوز له أخذ بدل المبيع قبل القبض ببيع ولا غيره ولو كان استهلكه مستهلك كان له أخذ القيمة منه لأنها تقوم مقامه كأنها هو لا على معنى العوض فكذلك المتعة تقوم مقام بعض مهر المثل بدلا من البضع كما يجب نصف المسمى بدلا من البضع مع الطلاق* فإن قيل لو كانت المتعة تقوم مقام بعض مهر المثل بدلا من البضع لوجب اعتبارها بالمرأة كما يعتبر مهر المثل بحالها دون حال الزوج فلما أوجب الله تعالى اعتبار المتعة بحال الرجل في قوله تعالى (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) دل على أنها ليست بدلا من البضع وإذا لم تكن بدلا من البضع لم يجز أن تكون بدلا من الطلاق لأن البضع يحصل لها بالطلاق فلا يجوز أن تستحق بدل ما يحصل لها وهذا يدل على أنها

١٣٩

ليست بدلا عن شيء وإذا كان كذلك علمنا أنها ليست بواجبة قيل له أما قولك في اعتبار حاله دون حالها فليس كذلك عندنا وأصحابنا المتأخرون مختلفون فيه فكان شيخنا أبو الحسن رحمه الله يقول يعتبر فيها حال المرأة أيضا وليس فيه خلاف الآية لأنا نستعمل حكم الآية مع ذلك في اعتبار حال الزوج ومنهم من يقول يعتبر حاله دون حالها ومن قال بهذا يلزمه سؤال هذا السائل أيضا لأنه يقول إن مهر المثل إنما وجب اعتباره بها في الحال التي يحصل البضع للزوج إما بالدخول وإما بالموت القائم مقام الدخول في استحقاق كمال المهر فكان بمنزلة قيم المتلفات في اعتبارها بأنفسها وأما المتعة فإنها لا تجب عندنا إلا في حال سقوط حقه من بضعها لسبب من قبله قبل الدخول أو ما يقوم مقامه فلم يجب اعتبار حال المرأة إذ البضع غير حاصل للزوج بل حصل لها بسبب من قبله من غير ثبوت حكم الدخول فلذلك اعتبر حاله دونها وأيضا لو سلمنا لك أنها ليست بدلا عن شيء لم يمنع ذلك وجوبها لأن النفقة ليست بدلا عن شيء بدلالة أن بدل البضع هو المهر وقد ملكه بعقد النكاح والدخول والاستمتاع إنما هو تصرف في ملكه وتصرف الإنسان في ملكه لا يوجب عليه بدلا ولم يمنع ذلك وجوبها ولذلك تلزمه نفقة أبيه وابنه الصغير بنص الكتاب والإنفاق ليس بدلا عن شيء ولم يمنع ذلك وجوبها والزكوات والكفارات ليست بدلا عن شيء وهن واجبات فالمستدل بكونها غير بدل عن شيء على نفى إيجابها مغفل وأيضا فاعتبارها بالرجل وبالمرأة إنما هو كلام في تقديرها والكلام في التقدير ليس يتعلق بالإيجاب ولا بنفيه وأيضا لو لم تكن واجبة لم تكن مقدرة بحال الرجل فلما قال تعالى (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) دل على الوجوب إذ ما ليس بواجب غير معتبر بحال الرجل إذ له أن يفعل ما شاء منه في حال اليسار والإعسار فلما قدرها بحال الرجل ولم يطلقها فيخير الرجل فيها دل على وجوبها وهذا يصلح أن يكون ابتداء دليل في المسألة وقال هذا القائل أيضا لما قال تعالى (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) اقتضى ذلك أن لا تلزم المقتر الذي لا يملك شيئا وإذا لم تلزمه لم تلزم الموسر ومن ألزمها المقتر فقد خرج من ظاهر الكتاب لأن من لا مال له لم تقتض الآية إيجابها عليه إذ لا مال له فيعتبر قدره فغير جائز أن نجعلها دينا عليه وأن لا يكون مخاطبا بها* قال أبو بكر هذا الذي ذكره هذا القائل إغفال منه لمعنى الآية لأن الله تعالى لم يقل على الموسع على قد ماله

١٤٠