أحكام القرآن - ج ٢

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦

الآية وذلك لا يكون إلا على وجه النسخ ومعلوم امتناع جواز الناسخ والمنسوخ في خطاب لأن النسخ لا يجوز إلا بعد استقرار الحكم والتمكن من الفعل فثبت بذلك أن المعروف المشروط في تراضيهما ليس هو الولي وأيضا فإن الباء تصحب الإبدال فإنما انصرف ذلك إلى مقدار المهر وهو أن يكون مهر مثلها لا نقص فيه ولذلك قال أبو حنيفة إنها إذا نقضت من مهر المثل فللأولياء أن يفرقوا بينهما ونظير هذه الآية في جواز النكاح بغير ولى قوله تعالى (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) قد حوى الدلالة من وجهين على ما ذكرنا أحدهما إضافته عقد النكاح إليها في قوله (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) والثاني (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) فنسب التراجع إليهما من غير ذكر الولي* ومن دلائل القرآن على ذلك قوله تعالى (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) فجاز فعلها في نفسها من غير شرط الولي وفي إثبات شرط الولي في صحة العقد نفى الموجب الآية* فإن قيل إنما أراد* بذلك اختيار الأزواج وأن لا يجوز العقد عليها إلا بإذنها* قيل له هذا غلط من وجهين أحدهما عموم اللفظ في اختيار الأزواج وفي غيره والثاني أن اختيار الأزواج لا يحصل لها به فعل في نفسها وإنما يحصل ذلك بالعقد الذي يتعلق به أحكام النكاح وأيضا فقد ذكر الاختيار مع العقد بقوله (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ).

ذكر الاختلاف في ذلك

اختلف الفقهاء في عقد المرأة على نفسها بغير ولى فقال أبو حنيفة لها أن تزوج نفسها كفوا وتستوفى المهر ولا اعتراض للولي عليها وهو قول زفر وإن زوجت نفسها غير كفو فالنكاح جائز أيضا وللأولياء أن يفرقوا بينهما وروى عن عائشة أنها زوجت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبى بكر من المنذر بن الزبير وعبد الرحمن غائب فهذا يدل على أن من مذهبهما جواز النكاح بغير ولى وهو قول محمد بن سيرين والشعبي والزهري وقتادة وقال أبو يوسف لا يجوز النكاح بغير ولى فإن سلم الولي جاز وإن أبى أن يسلم والزوج كفو أجازه القاضي وإنما يتم النكاح عنده حين يجيزه القاضي وهو قول محمد وقد روى عن أبى يوسف غير ذلك والمشهور عنه ما ذكرناه قال الأوزاعى إذا ولت أمرها رجلا فزوجها كفوا فالنكاح جائز وليس للولي أن يفرق بينهما وقال ابن أبى ليلى والثوري والحسن بن

١٠١

صالح والشافعى لا نكاح إلا بولي وقال ابن شبرمة لا يجوز النكاح وليس الوالدة بولي ولا أن تجعل المرأة وليها رجلا إلا قاض من قضاة المسلمين وقال ابن القاسم عن مالك إذا كانت امرأة معتقة أو مسكينة أو دنية لا حظ لها فلا بأس أن تستخلف رجلا ويزوجها ويجوز وقال مالك وكل امرأة لها مال وغنى وقدر فإن تلك لا ينبغي أن يزوجها إلا الأولياء أو السلطان قال وأجاز مالك للرجل أن يزوج المرأة وهو من فخذها وإن كان غيره أقرب منه إليها وقال الليث في المرأة تزوج بغير ولى أن غيره أحسن منه يرفع أمرها إلى السلطان فإن كان كفوا أجازه ولم يفسخه وذلك في الثيب وقال في السوداء تزوج بغير ولى أنه جائز قال والبكر إذا زوجها غير ولى والولي قريب حاضر فهذا الذي أمره إلى الولي يفسخه له السلطان إن رأى لذلك وجها والولي من قبل هذا أولى من الذي أنكحها* قال أبو بكر وجميع ما قدمنا من دلائل الآي الموجبة لجواز عقدها تقضى بصحة قول أبى حنيفة في هذه المسألة ومن جهة السنة حديث ابن عباس حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن على قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن صالح بن كيسان عن نافع بن جبير بن مطعم عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ليس للولي مع الثيب أمر قال أبو داود وحدثنا أحمد بن يونس وعبد الله بن مسلمة قالا حدثنا مالك عن عبد الله بن الفضل عن نافع بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأيم أحق بنفسها من وليها فقوله ليس للولي مع الثيب أمر يسقط اعتبار الولي في العقد وقوله الأيم أحق بنفسها من وليها يمنع أن يكون له حق في منعها العقد على نفسها كقوله صلّى الله عليه وسلّم الجار بصقبه وقوله لأم الصغير أنت أحق به ما لم تنكحى فنفى بذلك كله أن يكون له معها حق ويدل عليه حديث الزهري عن سهل بن سعد في المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال صلّى الله عليه وسلّم مالي في النساء من أرب فقام رجل فسأله أن يزوجها فزوجها ولم يسألها هل لها ولى أم لا ولم يشترط الولي في جواز عقدها وخطب النبي صلّى الله عليه وسلّم أم سلمة فقالت ما أحد من أوليائى شاهد فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم ما أحد من أوليائك شاهد ولا غائب يكرهنى فقالت لابنها وهو غلام صغير قم فزوج أمك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتزوجها صلّى الله عليه وسلّم بغير ولى * فإن قيل لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان وليها وولى المرأة التي وهبت نفسها له لقوله تعالى (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) قيل له هو أولى بهم فيما يلزمه من اتباعه وطاعته فيما يأمرهم به فإما أن يتصرف عليهم في

١٠٢

أنفسهم وأموالهم فلا ألا ترى أنه لم يقل لها حين قالت له ليس أحد من أوليائى شاهد وما عليك من أوليائك وأنا أولى بك منهم بل قال ما أحد منهم يكرهنى وفي هذا دلالة على أنه لم يكن وليا لهن في النكاح ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على جواز نكاح الرجل إذا كان جائز التصرف في ماله كذلك المرأة لما كانت جائزة التصرف في مالها وجب جواز عقد نكاحها والدليل على أن العلة في جواز نكاح الرجل ما وصفنا أن الرجل إذا كان مجنونا غير جائز التصرف في ماله لم يحز نكاحه فدل على صحة ما وصفنا واحتج من خالف في ذلك بحديث شريك عن سماك عن أبى أخى معقل بن يسار عن معقل أن أخت معقل كانت تحت رجل فطلقها ثم أراد أن يراجعها فأبى عليها معقل فنزلت هذه الآية (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) وقد روى عن الحسن أيضا هذه القصة وأن الآية نزلت فيها وأنه صلّى الله عليه وسلّم دعا معقلا وأمره بتزويجها وهذا الحديث غير ثابت على مذهب أهل النقل لما في سنده من الرجل المجهول الذي روى عنه سماك وحديث الحسن مرسل ولو ثبت لم ينف دلالة الآية على جواز عقدها من قبل أن معقلا فعل ذلك فنهاه الله عنه فبطل حقه في العضل فظاهر الآية يقتضى أن يكون ذلك خطابا للأزواج لأنه قال (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ) فقوله تعالى (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) إنما هو خطاب لمن طلق وإذا كان كذلك كان معناه عضلها عن الأزواج بتطويل العدة عليها كما قال (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) وجائز أن يكون قوله تعالى (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) خطابا للأولياء وللأزواج ولسائر الناس والعموم يقتضى ذلك واحتجوا أيضا بما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال أيما امرأة نكحت بغير وليها فنكاحها باطل وبما روى من قوله لا نكاح إلا بولي وبحديث أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها فأما الحديث الأول فغير ثابت وقد بينا علله في شرح الطحاوي وقد روى في بعض الألفاظ أيما امرأة تزوجت بغير إذن مواليها وهذا عندنا على الأمة تزوج نفسها بغير إذن مولاها وقوله لا نكاح إلا بولي لا يعترض على موضع الخلاف لأن هذا عندنا نكاح بولي لأن المرأة ولى نفسها كما أن الرجل ولى نفسه لأن الولي هو الذي يستحق الولاية على من يلي عليه والمرأة تستحق الولاية والتصرف على نفسها في مالها فكذلك في بعضها وأما حديث أبى هريرة فمحمول على وجه الكراهة لحضور المرأة مجلس الاملاك لأنه

١٠٣

مأمور بإعلان النكاح ولذلك يجمع له الناس فكره للمرأة حضور ذلك المجمع وقد ذكر أن قوله الزانية هي التي تنكح نفسها من قول أبى هريرة وقد روى في حديث آخر عن أبى هريرة هذا الحديث وذكر فيه أن أبا هريرة قال كان يقال الزانية هي التي تنكح نفسها وعلى أن هذا اللفظ خطأ بإجماع المسلمين لأن تزويجها نفسها ليس بزنا عند أحد من المسلمين والوطء غير مذكور فيه فإن حملته على أنها زوجت نفسها ووطئها الزوج فهذا أيضا لا خلاف فيه أنه ليس بزنا لأن من لا يجيزه إنما يجعله نكاحا فاسدا يوجب المهر والعدة ويثبت به النسب إذا وطئ وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في شرح الطحاوي وقوله عز وجل (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) يعنى إذا لم تعضلوهن لأن العضل ربما أدى إلى ارتكاب المحظور منهما على غير وجه العقد وهو معنى قول النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن شاذان قال حدثنا معلى قال حدثنا حاتم بن إسماعيل قال سمعت عبد الله بن هرمز قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض

. باب الرضاع

قال الله تعالى (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) الآية قال أبو بكر ظاهره الخبر ولكنه معلوم من مفهوم الخطاب أنه لم يرد به الخبر لأنه لو كان خبرا لوجد مخبره فلما كان في الوالدات من لا يرضع علم أنه لم يرد به الخبر ولا خلاف أيضا في أنه لم يرد به الخبر وإذا لم يكن المراد حقيقة اللفظ الذي هو الخبر لم يخل من أن يكون المراد إيجاب الرضاع على الأم وأمرها به إذ قد يرد الأمر في صيغة الخبر كقوله (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) وأن يريد به إثبات حق الرضاع للأم وإن أبى الأب أو تقدير ما يلزم الأب من نفقة الرضاع فلما قال في آية أخرى (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) وقال تعالى (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) دل ذلك على أنه ليس المراد الرضاع شاءت الأم أو أبت وأنها مخيرة في أن ترضع أو لا ترضع فلم يبق إلا الوجهان الآخران وهو أن الأب إذا أبى استرضاع الأم أجبر عليه وإن أكثر ما يلزمه في نفقة الرضاع للحولين فإن أبى أن ينفق نفقة الرضاع أكثر منهما لم يجبر عليه

١٠٤

ثم لا يخلوا بعد ذلك قوله تعالى (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) من أن يكون عموما في سائر الأمهات مطلقات كن أو غير مطلقات أو أن يكون معطوفا على ما تقدم ذكره من المطلقات مقصور الحكم عليهن فإن كان المراد سائر الأمهات المطلقات منهن والمزوجات فإن النفقة الواجبة للمزوجات منهن هي نفقة الزوجية وكسوتها لا للرضاع لأنها لا تستحق نفقة الرضاع مع بقاء الزوجية فتجتمع لها نفقتان إحداهما للزوجية والأخرى للرضاع وإن كانت مطلقة فنفقة الرضاع أيضا مستحقة بظاهر الآية لأنه أوجبها بالرضاع وليست في هذه الحال زوجة ولا معتدة منه لأنه يكون معطوفا على قوله تعالى (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) فتكون منقضية العدة بوضع الحمل وتكون النفقة المستحقة أجرة الرضاع وجائز أن يكون طلقها بعد الولادة فتكون عليها العدة بالحيض* وقد اختلفت الرواية من أصحابنا في وجوب نفقة الرضاع ونفقة العدة معا ففي إحدى الروايتين أنهما تستحقهما معا وفي الأخرى أنها لا تستحق للرضاع شيئا مع نفقة العدة فقد حوت الآية الدلالة على معنيين أحدهما أن الأم أحق برضاع ولدها في الحولين وأنه ليس للأب أن يسترضع له غيرها إذا رضيت بأن ترضعه والثاني أن الذي يلزم الأب في نفقة الرضاع إنما هو سنتان وفي الآية دلالة على أن الأب لا يشارك في نفقة الرضاع لأن الله تعالى أوجب هذه النفقة على الأب للأم وهما جميعا وارثان ثم جعل الأب أولى بإلزام ذلك من الأم مع اشتراكهما في الميراث فصار ذلك أصلا في اختصاص الأب بإلزام النفقة دون غيره كذلك حكمه في سائر ما يلزمه من نفقة الأولاد الصغار والكبار الزمنى يختص هو بإيجابه عليه دون مشاركة غيره فيه لدلالة الآية عليه* وقوله تعالى (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) يقتضى وجوب النفقة والكسوة لها في حال الزوجية لشمول الآية لسائر الوالدات من الزوجات والمطلقات* وقوله تعالى (بِالْمَعْرُوفِ) يدل على أن الواجب من النفقة والكسوة هو على قدر حال الرجل في إعساره ويساره إذ ليس من المعروف إلزام المعسر أكثر مما يقدر عليه ويمكنه ولا إلزام الموسر الشيء الطفيف ويدل أيضا على أنها على مقدار الكفاية مع اعتبار حال الزوج وقد بين ذلك بقوله عقيب ذلك (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) فإذا اشتطت المرأة وجلبت من النفقة أكثر من المعتاد

١٠٥

المتعارف لمثلها لم تعط وكذلك إذا قصر الزوج عن مقدار نفقة مثلها في العرف والعادة لم يحل ذلك وأجبر على نفقة مثلها وفي هذه الآية دلالة على جواز استئجار الظئر بطعامها وكسوتها لأن ما أوجبه الله تعالى في هذه الآية للمطلقة هما أجرة الرضاع وقد بين ذلك بقوله تعالى (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) وفي هذه الآية دلالة على تسويغ اجتهاد الرأى في أحكام الحوادث إذ لا توصل إلى تقدير النفقة بالمعروف إلا من جهة غالب الظن وأكثر الرأى إذ كان ذلك معتبرا بالعادة وكل ما كان مبنيا على العادة فسبيله الاجتهاد وغالب الظن إذ ليست العادة مقصورة على مقدار واحد لا زيادة عليه ولا نقصان ومن جهة أخرى هو مبنى على الاجتهاد وهو اعتبار حاله في إعساره ويساره ومقدار الكفاية والإمكان بقوله (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) واعتبار الوسع مبنى على العادة* وقوله تعالى (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) يوجب بطلان قول أهل الإجبار في اعتقادهم أن الله يكلف عباده ما لا يطيقون وإكذاب لهم في نسبتهم ذلك إلى الله تعالى الله عما يقولون وينسبون إليه من السفه والعبث علوا كبيرا* قوله تعالى (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) روى عن الحسن ومجاهد وقتادة قالوا هو المضارة في الرضاع وعن سعيد بن جبير وإبراهيم قالا إذا قام الرضاع على شيء خيرت الأم* قال أبو بكر فمعناه لا تضار والدة بولدها بأن لا تعطى إذا رضيت بأن ترضعه بمثل ما ترضعه به الأجنبية بل تكون هي أولى على ما تقدم في أول الآية من قوله (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) فجعل الأم أحق برضاع الولد هذه المدة ثم أكد ذلك بقوله تعالى (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) يعنى والله أعلم أنها إذا رضيت بأن ترضع بمثل ما ترضع به غيرها لم يكن للأب أن يضارها فيدفعه إلى غيرها وهو كما قال في آية أخرى (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) فجعلها أولى بالرضاع ثم قال (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) فلم يسقط حقها من الرضاع إلا عند التعاسر ويحتمل أن يريد به أنها لا تضار بولدها إذا لم تختر أن ترضعه بأن ينتزع منها ولكنه يؤمر الزوج بأن يحضر الظئر إلى عندها حتى ترضعه في بيتها وكذلك قول أصحابنا ولما كانت الآية محتملة للمضارة في نزع الولد منها واسترضاع غيرها وجب حمله على المعنيين فيكون الزوج ممنوعا من استرضاع غيرها إذا رضيت هي بأن ترضعه بأجرة

١٠٦

مثلها وهي الرزق والكسوة بالمعروف وإن لم ترضع أجبر الزوج على إحضار المرضعة حتى ترضعه في بيتها حتى لا يكون مضارا لها بولدها* وفي هذا دلالة على أن الأم أحق بإمساك الولد ما دام صغيرا وإن استغنى عن الرضاع بعد ما يكون ممن يحتاج إلى الحضانة لأن حاجته إلى الأم بعد الرضاع كهي قبله فإذا كانت في حال الرضاع أحق به وإن كانت المرضعة غيرها علمنا في كونه عند الأم حقا لها وفيه حق للولد أيضا وهو أن الأم أرفق به وأحنى عليه وذلك في الغلام عندنا إلا أن يأكل وحده ويشرب وحده ويتوضأ وحده وفي الجارية حتى تحيض لأن الغلام إذا بلغ الحد الذي يحتاج فيه إلى التأديب ويعقله ففي كونه عند الأم دون الأب ضرر عليه والأب مع ذلك أقوم بتأديبه وهي الحال التي

قال فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع فمن كان سنه سبعا فهو مأمور بالصلاة على وجه التعليم والتأديب لأنه يعقلها فكذلك سائر الأدب الذي يحتاج إلى تعلمه وفي كونه عندها في هذه الحال ضرر عليه ولا ولاية لأحد على الصغير فيما يكون فيه ضرر عليه وأما الجارية فلا ضرر عليها في كونها عند الأم إلى أن تحيض بل كونها عندها انفع لها لأنها تحتاج إلى آداب النساء ولا تزول هذه الولاية عنها إلا بالبلوغ لأنها تستحقها عليها بالولادة ولا ضرر عليها في كونها عندها فلذلك كانت أولى إلى وقت البلوغ فإذا بلغت احتاجت إلى التحصين والأب أقوم بتحصينها فلذلك كان أولى بها* وبمثل دلالة القرآن على ما وصفنا ورد الأثر عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو ما روى عن على كرم الله وجهه وابن عباس أن عليا اختصم هو وزيد بن حارثة وجعفر بن أبى طالب في بنت حمزة وكانت خالتها تحت جعفر فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم ادفعوها إلى خالتها فإن الخالة والدة فكان هذا الخبر أنه جعل الخالة أحق من العصبة كما حكمت الآية بأن الأم أحق بإمساك الولد من الأب وهذا اصل في أن ذوات الرحم المحرم أولى بإمساك الصبى وحضانته من حضانة العصبة من الرجال الأقرب فالأقرب منهم* وقد حوى هذا الخبر معاني منها أن الخالة لها حق الحضانة وأنها أحق به من العصبة وسماها والدة ودل ذلك على أن كل ذات رحم محرم من الصبى فلها هذا الحق الأقرب فالأقرب إذ لم يكن هذا الحق مقصورا على الولادة وقد روى عمر بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمر أن امرأة جاءت بابن لها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت يا رسول الله حين كان بطني له وعاء وثديى له

١٠٧

سقاء وحجري له حواء أراد أبوه أن ينتزعه منى فقال أنت أحق به ما لم تتزوجي وروى مثل ذلك عن جماعة من الصحابة منهم على وأبو بكر وعبد الله بن مسعود والمغيرة بن شعبة في آخرين من الصحابة والتابعين وقال الشافعى يخير الغلام إذا أكل أو شرب وحده فإن اختار الأب كان أولى به وكذلك إن اختار الأم كان عندها وروى فيه حديث عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خير غلاما بين أبويه فقال له اختر أيهما شئت وروى عبد الرحمن ابن غنم قال شهدت عمر بن الخطاب خير صبيا بين أبويه فأما ما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فجائز أن يكون بالغا لأنه قد يجوز أن يسمى غلاما بعد البلوغ وقد روى عن على أنه خير غلاما وقال لو قد بلغ هذا يعنى أخا له صغيرا لخيرته فهذا يدل على أن الأول كان كبيرا وقد روى في حديث أبى هريرة أن امرأة خاصمت زوجها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقالت إنه طلقني وأنه يريد أن ينزع منى ابني وقد نفعني وسقاني من بئر أبى عنبة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استهما عليه فقال من يحاجني في ابني فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا غلام هذه أمك وهذا أبوك فاختر أيهما شئت فأخذ الغلام بيد أمه وقول الأم قد سقاني من بئر أبى عنبة يدل على أنه كان كبيرا وقد اتفق الجميع أنه لا اختيار للصغير في سائر حقوقه وكذلك في الأبوين قال محمد بن الحسن لا يخير الغلام لأنه لا يختار إلا شر الأمرين قال أبو بكر هو كذلك لأنه يختار اللعب والإعراض عن تعلم الأدب والخير وقال الله تعالى (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) ومعلوم أن الأدب أقوم بتأديبه وتعليمه وأن في كونه عند الأم ضررا عليه لأنه ينشأ على أخلاق النساء وأما قوله تعالى (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) فإنه عائد على المضارة نهى الرجل أن يضارها بولدها ونهى المرأة أيضا أن تضار بولده والمضارة من جهتها قد تكون في النفقة وغيرها فأما في النفقة فأن تشتط عليه وتطلب فوق حقها وفي غير النفقة أن تمنعه من رؤيته والإلمام به ويحتمل أن تغترب به وتخرجه عن بلده فتكون مضارة له بولده ويحتمل أن تريد أن لا يطيعه وتمتنع من تركه عنده فهذه الوجوه كلها محتملة ينطوى عليها قوله تعالى (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) فوجب حمل الآية عليها قوله تعالى (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) هو عطف على جميع المذكور قبله من عند قوله (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) لأن الكلام كله معطوف بعضه على بعض بالواو وهي حرف الجمع فكان الجميع مذكورا في حال واحدة النفقة والكسوة والنهى لكل واحد منهما عن مضارة الآخر

١٠٨

على ما اعتورها من المعاني التي قدمنا ذكرها ثم قال الله (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) يعنى النفقة والكسوة وأن لا يضارها ولا تضاره إذ كانت المضارة قد تكون في غيرها فلما قال عطفا على ذلك (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) كان ذلك موجبا على الوارث جميع المذكور وقد روى عن عمر وزيد بن ثابت والحسن وقبيصة بن ذؤيب وعطاء وقتادة في قوله تعالى (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) قالوا النفقة وعن ابن عباس والشعبي عليه أن لا يضار قال أبو بكر قولهما عليه أن لا يضار لا دلالة فيه على أنهما لم يريا النفقة واجبة على الوارث لأن المضارة قد تكون في النفقة كما تكون في غيرها فعوده على المضارة لا ينفى إلزامه النفقة ولو لا أن عليه النفقة ما كان لتخصيصه بالنهى عن المضارة فائدة إذ هو في ذلك كالأجنبى ويدل على أن المراد المضارة في النفقة وفي غيرها قوله تعالى عقيب ذلك (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) فدل ذلك على أن المضارة قد انتظمت الرضاع والنفقة وقد اختلف السلف فيمن تلزمه نفقة الصغير فقال عمر بن الخطاب إذا لم يكن له أب فنفقته على العصبات وذهب في ذلك إلى أن الله تعالى أوجب النفقة على الأب دون الأم لأنه عصبة فوجب أن تختص بها العصبات بمنزلة العقل وقال زيد بن ثابت النفقة على الرجال والنساء على قدر مواريثهم وهو قول أصحابنا وروى عن ابن عباس ما ذكرنا من أن على الوارث أن لا يضارها وقد بينا أن هذا يدل على أنه رأى على الوارث النفقة لأن المضارة تكون فيها وقال مالك لا نفقة على أحد إلا الأب خاصة ولا تجب على الجد وعلى ابن الإبن للجد وتجب على الإبن للأب وقال الشافعى لا تجب نفقة الصغير على أحد من قرابته إلا الوالد والولد والجد وولد الولد قال أبو بكر وظاهر قوله (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) واتفاق السلف على ما وصفنا من إيجاب النفقة يقضيان بفساد هذين القولين لأن قوله (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) عائد على جميع المذكورين في النفقة والمضارة وغير جائز لأحد تخصيصه بغير دلالة وقد ذكرنا اختلاف السلف فيمن تجب عليه من الورثة ولم يقل أحد منهم أن الأخ والعم لا تجب عليهما النفقة وقول مالك والشافعى خارج عن قول الجميع ومن حيث وجب على الأب وهو ذو رحم محرم وجب على من هو بهذه الصفة الأقرب فالأقرب لهذه العلة ويدل عليه قوله تعالى (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) ـ إلى قوله تعالى ـ (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ) فذكر ذوى الرحم المحرم وجعل لهم أن

١٠٩

أكلوا من بيوتهم فدل على أنهم مستحقون لذلك لولاه لما أباحه لهم فإن قيل قد ذكرنا فيه (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ) ولا يستحقان النفقة* قيل له هو منسوخ عنهم بالاتفاق ولم يثبت نسخ ذوى الرحم المحرم فإن قيل فأوجبوا النفقة على ابن العم إذا كان وارثا قيل له الظاهر يقتضيه وخصصناه بدلالة فإن قيل فإن كان قوله (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) موجبا للنفقة على كل وارث فالواجب إيجاب النفقة على الأب والأم على قدر مواريثهما منه قيل له إنما المراد وعلى الوارث غير الأب وذلك لأنه قد تقدم ذكر الأب في أول الخطاب بإيجاب جميع النفقة عليه دون الأم ثم عطف عليه قوله (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) وغير جائز أن يكون مراده الأب مع سائر الورثة لأنه نسخ ما قد تقدم وغير جائز وجود الناسخ والمنسوخ في شيء واحد في خطاب إذ كان النسخ غير جائز إلا بعد استقرار الحكم والتمكين من الفعل وذكر إسماعيل بن إسحاق أنه إذا ولد مولود وأبوه ميت أو معدوم فعلى أمه أن ترضعه لقوله تعالى (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) فلا يسقط عنها بسقوط ما كان يجب على الأب فإن انقطع لبنها بمرض أو غيره فلا شيء عليها وإن كان يمكنها أن تسترضع فلم تفعل وخافت عليه الموت وجب عليها أن تسترضع لا من جهة ما على الأب لكن من جهة أن على كل واحد إعانة من يخاف عليه إذا أمكنه وهذا الفصل من كلامه يشتمل على ضروب من الاختلال أحدها أنه أوجب الرضاع على الأم لقوله (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) وأعرض عن ذكر ما يتصل به من قوله (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) فإنما جعل عليها الرضاع بحذاء ما أوجب لها من النفقة والكسوة فكيف يجوز إلزامها ذلك بغير بدل ومعلوم أن لزوم النفقة للأب بدلا من الرضاع يوجب أن تكون تلك المنافع في الحكم حاصلة للأب ملكا باستحقاق البدل عليه فاستحال إيجابها على الأم وقد أوجبها الله تعالى على الأب بإلزامها بدل من النفقة والكسوة والثاني قوله (يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) ليس فيه إيجاب الرضاع عليها وإنما جعل به الرضاع حقا لها لأنه لا خلاف أنها لا تجبر على الرضاع إذا أبت وكان الأب حيا وقد نص الله على ذلك في قوله (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) فلا يصح الاستدلال بالآية على إيجاب الرضاع عليها في حال فقد الأب وهو لم يقتض إيجابه عليها في حال حياته وهو المنصوص عليه في الآية ثم زعم أنه إن انقطع لبنها

١١٠

بمرض أو غيره فلا شيء عليها وإن أمكنها أن تسترضع وهذا أيضا متنقض لأنها إن كانت منافع الرضاع مستحقة عليها للولد في حال فقد الأب فواجب أن يكون ذلك عليها في مالها إذا تعذر عليها الرضاع كما وجب على الأب استرضاعه وإن لم تكن منافع الرضاع مستحقة عليها في مالها فغير جائز إلزامها الرضاع وما الفرق بين لزومها منافع الرضاع وبين لزوم ذلك في مالها إذا تعذر عليها ثم ناقض فيه من وجه آخر وهو أنه لم يلزمها نفقته بعد انقضاء الرضاع ويفرق بين الرضاع وبين النفقة بعد الرضاع وهما جميعا من نفقة الصغير فمن اين أوجب الفرق بينهما ولو جازت الفرقة من هذا الوجه لجاز مثله في الأب حتى يقال إن الذي يلزمه إنما هو نفقة الرضاع فإذا انقضت مدة الرضاع فلا نفقة عليه للصغير لأن الله تعالى إنما أوجب عليه نفقتها وكسوتها للرضاع ثم زعم أنه إذا أمكنها أن تسترضع وخافت عليه الموت فعليها أن تسترضع على الوجه الذي يلزمها ذلك لو خافت عليه الموت فإن كان ذلك على هذا المعنى فكيف خصها بإلزامها ذلك دون جيرانها ودون سائر الناس وهذا كله تخليط وتشبه غير مقرون بدلالة ولا مستند إلى شبهة وقد حكى مثل ذلك عن مالك أنه لا يوجب النفقة إلا على الأب للابن وعلى الإبن للأب ولا يوجبها للجد على ابن الإبن وهو قول خارج عن أقاويل السلف والخلف جميعا لا نعلم عليه موافقا ومع ذلك فإن ظاهر الكتاب يرده وهو قوله تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) والجد داخل في هذه الجملة لأنه أب قال الله تعالى (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) وهو مأمور بمصاحبته بالمعروف لا خلاف في ذلك وليس من الصحبة بالمعروف تركه جائعا مع القدرة على سد جوعته ويدل عليه أيضا قوله (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ) فذكر بيوت هؤلاء الأقرباء ولم يذكر بيت الإبن ولا ابن الإبن لأن قوله (مِنْ بُيُوتِكُمْ) قد اقتضى ذلك كقوله أنت ومالك لأبيك فأضاف إليه ملك الإبن كما أضاف إليه بيت الإبن واقتصر على إضافة البيوت إليه* والدليل على أنه أراد بيوت الإبن وابن الإبن أنه قد كان معلوما قبل ذلك أن الإنسان غير محظور عليه مال نفسه فإنه لا وجه لقول القائل لا جناح عليك في أكل مال نفسك فدل ذلك على أن المراد بقوله (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) هي بيوت الأبناء وأبناء الأبناء إذ لم يذكرهما جميعا كما ذكر سائر الأقرباء* وقد اختلف

١١١

موجبو النفقة على الورثة على قدر مواريثهم فقال أصحابنا هي على كل من كان من أهل الميراث على قدر ميراثه من الصبى إذا كان ذا رحم محرم منه ولا نفقة على من لم يكن ذا رحم محرم من الصبى وإن كان وارثا ولذلك أوجبوا النفقة على الخال والميراث لابن العم لأن ابن العم ليس رحم محرم والخال وإن لم يكن وارثا في هذه الحال فهو من أهل الميراث ذو رحم محرم وذلك لأنه معلوم أنه لم يرد به وارثا في حال الحياة لأن الميراث لا يكون في حال الحياة وبعد الموت لا يدرى من يرثه وعسى أن يكون هذا الصبى يرث هذا الذي عليه النفقة بموته قبله وجائز أن يحدث له من الورثة من يحجب من أوجبنا عليه ولما كان ذلك كذلك علمنا أنه ليس المراد حصول الميراث وإنما المعنى أنه ذو رحم محرم من أهل الميراث* وقال ابن أبى ليلى النفقة واجبة على كل وارث ذا رحم محرم كان أو غير ذي* رحم محرم فيوجبها على ابن العم دون الخال* والدليل على صحة ما ذكرنا اتفاق الجميع على أن مولى العتاقة لا تجب عليه النفقة وإن كان وارثا وكذلك المرأة لا تجب عليها نفقة زوجها الصغير وهي ممن يرثه فدل ذلك على أن كونه ذا رحم محرم شرط في إيجاب النفقة وأما قوله عز وجل (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) فإنه لا يخلو توقيت الحولين من أحد المعنيين إما أن يكون تقديرا لمدة الرضاع الموجب للتحريم أو لما يلزم الأب من نفقة الرضاع فلما قال في نسق التلاوة بعد ذكر الحولين (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) دل ذلك على أن الحولين ليسا تقديرا لمدة الرضاع الموجب للتحريم لأن الفاء للتعقيب فواجب أن يكون الفصال الذي علقه بإرادتهما بعد الحولين وإذا كان الفصال معلقا بتراضيهما وتشاورهما بعد الحولين فقد دل ذلك على أن ذكر الحولين ليس هو من جهة توقيت نهاية الرضاع الموجب للتحريم وإنه جائز أن يكون بعدهما رضاع* وقد روى معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) ثم قال (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ) إن أراد أن يفطماه قبل الحولين أو بعده فأخبر ابن عباس في هذا الحديث أن قوله تعالى (فَإِنْ أَرادا فِصالاً) على ما قبل الحولين وبعده* ويدل عليه قوله تعالى (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) وظاهره الاسترضاع بعد الحولين لأنه معطوف على ذكر الفصال الذي علقه بتراضيهما

١١٢

فأباحه لهما وأباح للأب الاسترضاع بعد ذلك كما أباح لهما الفصال إذا كان فيه صلاح الصبى ودل ما وصفنا على أن ذكر الحولين إنما هو توقيت لما يلزم الأب في الحكم من نفقة الرضاع ويجبره الحاكم عليه والله أعلم.

ذكر اختلاف الفقهاء في وقت الرضاع

قال أبو بكر قد كان بين السلف اختلاف في رضاعة الكبير فروى عن عائشة أنها كانت ترى رضاع الكبير موجبا للتحريم كرضاع الصغير وكانت تروى في ذلك حديث سالم مولى أبى حذيفة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لسهلة بنت سهيل وهي امرأة أبى حذيفة أرضعيه خمس رضعات ثم يدخل عليك وكانت عائشة إذا أرادت أن يدخل عليها رجل أمرت أختها أم كلثوم أن ترضعه خمس رضعات ثم يدخل عليها بعد ذلك وأبى سائر نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك وقلن لعل هذه كانت رخصة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسالم وحده وقد روى أن سهلة بنت سهيل قالت يا رسول الله إنى أرى في وجه أبى حذيفة من دخول سالم على فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم أرضعيه يذهب ما في وجه أبى حذيفة فيحتمل أن يكون ذلك خاصا لسالم كما تأوله سائر نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم كما خص أبا زياد ابن دينار بالجذعة في الأضحية وأخبر أنها لا تجزى عن أحد بعده وقد روت عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يدل على أن رضاع الكبير لا يحرم وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن أشعث بن سليم عن أبيه عن مسروق عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها وعندها رجل فقالت يا رسول الله إنه أخى من الرضاعة فقال صلّى الله عليه وسلّم انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة فهذا يوجب أن يكون حكم الرضاع مقصورا على حال الصغير وهي الحال التي يسد اللبن فيها جوعته ويكتفى في غذائه وقد روى عن أبى موسى أنه كان يرى رضاع الكبير وروى عنه ما يدل على رجوعه وهو ما روى أبو حصين عن أبى عطية قال قدم رجل بامرأته من المدينة فوضعت فتورم ثديها فجعل يمجه ويصبه فدخل في بطنه جرعة منه فسأل أبا موسى فقال بانت منك فأتى ابن مسعود فأخبره ففصل فأقبل بالأعرابى إلى الأشعرى فقال أرضيعا ترى هذا الأشمط إنما يحرم من الرضاع ما ينبت اللحم والعظم فقال الأشعرى لا تسألونى عن شيء وهذا الحبر بين أظهركم وهذا يدل على أنه رجع عن قوله الأول إلى قول ابن مسعود

«٨ ـ أحكام في»

١١٣

إذ لو لا ذلك لم يقل لا تسألونى عن شيء وهذا الحبر بين أظهركم وكان باقيا على مخالفته وإن ما أفتى به حق وقد روى عن على وابن عباس وعبد الله وأم سلمة وجابر بن عبد الله وابن عمر أن رضاع الكبير لا يحرم ولا نعلم أحدا من الفقهاء قال برضاع الكبير إلا شيء يروى عن الليث بن سعد يرويه عنه أبو صالح أن رضاع الكبير يحرم وهو قول شاذ لأنه قد روى عن عائشة ما يدل على أنه لا يحرم وهو ما روى الحجاج عن الحكم عن أبى الشعثاء عن عائشة قالت يحرم من الرضاع ما أنبت اللحم والدم وقد روى حرام بن عثمان عن ابن جابر عن أبيهما قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يتم بعد حلم ولا رضاع بعد فصال وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث عائشة الذي قدمنا إنما الرضاعة من المجاعة وفي حديث آخر ما أنبت اللحم وانشز العظم وهذا ينفى كون الرضاع في الكبير* وقد روى حديث عائشة الذي قدمناه في رضاع الكبير على وجه آخر وهو ما روى عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عائشة كانت تأمر بنت عبد الرحمن بن أبى بكر أن ترضع الصبيان حتى يدخلوا عليها إذا صاروا رجالا فإذا ثبت شذوذ قول من أوجب رضاع الكبير فحصل الاتفاق على أن رضاع الكبير غير محرم وبالله التوفيق* وقد اختلف فقهاء الأمصار في مدة ذلك فقال أبو حنيفة ما كان من رضاع في الحولين وبعدهما بستة أشهر وقد فطم أو لم يفطم فهو يحرم وبعد ذلك لا يحرم فطم أو لم يفطم وقال زفر ابن الهذيل ما دام يجتزئ باللبن ولم يفطم فهو رضاع وإن أتى عليه ثلاث سنين وقال أبو يوسف ومحمد والثوري والحسن بن صالح والشافعى يحرم في الحولين ولا يحرم بعدهما ولا يعتبر الفطام وإنما يعتبر الوقت وقال ابن وهب عن مالك قليل الرضاع وكثيره محرم في الحولين وما كان بعد الحولين فإنه لا يحرم قليله ولا كثيره وقال ابن القاسم عن مالك الرضاع حولان وشهر أو شهران بعد ذلك ولا ينظر إلى إرضاع أمه إياه إنما ينظر إلى الحولين وشهر أو شهرين قال وإن فصلته قبل الحولين وأرضعته قبل تمام الحولين فهو فطيم فإن ذلك لا يكون رضاعا إذا كان قد استغنى قبل ذلك عن الرضاع فلا يكون ما أرضع بعده رضاعا وقال الأوزاعى إذا فطم لسنة واستمر فطامه فليس بعده رضاع ولو أرضع ثلاث سنين لم يفطم لم يكن رضاعا بعد الحولين وقد روى عن السلف في ذلك أقاويل فروى عن على لا رضاع بعد فصال وعن عمر وابن عمر لا رضاع إلا ما كان في الصغر وهذا يدل من قولهم على

١١٤

ترك اعتبار الحولين لأن عليا علق الحكم بالفصال وعمر وابنه بالصغر من غير توقيت وعن أم سلمة أنها قالت إنما يحرم من الرضاع ما كان في الثدي قبل الفطام وعن أبى هريرة لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان في الثدي قبل الفطام فعلق الحكم بما كان قبل الفطام وبما فتق الأمعاء وهو نحو ما روى عن عائشة أنها قالت إنما يحرم من الرضاعة ما أنبت اللحم والدم فهذا كله يدل على أنه لم يكن من مذهبهم اعتبار الحولين وقد روى عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس أنهما قالا لا رضاع بعد الحولين وما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال الرضاعة من المجاعة يدل على أنه غير متعلق بالحولين لأنه لو كان الحولان توقيتا له لما قال الرضاعة من المجاعة ولقال الرضاعة في الحولين فلما لم يذكر الحولين وذكر المجاعة ومعناها أن اللبن إذا كان يسد جوعته ويقوى عليه بدنه فالرضاعة في تلك الحال وذلك قد يكون بعد الحولين فاقتضى ظاهر ذلك صحة الرضاع الموجب للتحريم بعد الحولين وفي حديث جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لا رضاع بعد فصال وذلك يوجب أنه إذا فصل بعد الحولين أن ينقطع حكمه بعد ذلك وكذلك ما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال الرضاعة ما أنبت اللحم وانشز العظم دلالته على نفى توقيت الحولين بمدة الرضاع لدلالة الأخبار المتقدمة وقد حكى عن ابن عباس قول لست أثق بصحة النقل فيه هو أنه يعتبر ذلك بقوله تعالى (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) فإن ولدت المرأة لستة أشهر فرضاعه حولان كاملان وإن ولدت لتسعة أشهر فأحد وعشرون شهرا وإن ولدت لسبعة أشهر فثلاثة وعشرون شهرا يعتبر فيه تكملة ثلاثين شهرا بالحمل والفصال جميعا ولا نعلم أحدا من السلف والفقهاء بعدهم اعتبر ذلك ولما كانت أحوال الصبيان تختلف في الحاجة إلى الرضاع فمنهم من يستغنى عنه قبل الحولين ومنهم من لا يستغنى عنه بعد كمال الحولين واتفق الجميع على نفى الرضاع للكبير وثبوت الرضاع للصغير على ما قدمنا من الرواية فيه عن السلف ولم يكن الحولان حدا للصغير إذ لا يمتنع أحد أن يسميه صغيرا وإن أتى عليه حولان علمنا أن الحولين ليس بتوقيف لمدة الرضاع ألا ترى أنه صلّى الله عليه وسلّم لما قال الرضاعة من المجاعة وقال الرضاعة ما أنبت اللحم وانشز العظم فقد اعتبر معنى تختلف فيه أحوال الصغار وإن كان الأغلب أنهم قد يستغنون عنه بمضى الحولين فسقط اعتبار الحولين في ذلك ثم مقدار الزيادة عليهما طريقة الاجتهاد لأنه تحديد بين الحال التي يكتفى فيها باللبن في غذائه وينبت عليه

١١٥

لحمه وبين الانتقال إلى الحال التي يكتفى فيها بالطعام ويستغنى عن اللبن وكان عند أبى حنيفة أنه ستة أشهر بعد الحولين وذلك اجتهاد في التقدير والمقادير التي طريقها الاجتهاد لا يتوجه على القائل بها سؤال نحو تقويم المستهلكات وأروش الجنايات التي لم يرد بمقاديرها توقيف وتقدير متعة النساء بعد الطلاق وما جرى مجرى ذلك ليس لأحد مطالبة من غلب على ظنه شيء من هذه المقادير بإقامة الدلالة عليه فهذا أصل صحيح في هذا الباب يجرى مسائله فيه على منهاج واحد ونظيره ما قال أبو حنيفة في حد البلوغ أنه ثماني عشرة سنة وأن المال لا يدفع إلى البالغ الذي لم يؤنس رشده إلا بعد خمس وعشرين سنة في نظائر لذلك من المسائل التي طريق إثبات المقادير فيها الاجتهاد* فإن قال قائل وإن كان طريقة الاجتهاد فلا بد من جهة يغلب معها في النفس اعتبار هذا المقدار بعينه دون غيره فما المعنى الذي أوجب من طريق الاجتهاد اعتبار ستة أشهر بعد الحولين دون سنة تامة على ما قال زفر قيل له أحد ما يقال في ذلك أن الله تعالى لما قال (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) ثم قال (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) فعقل من مفهوم الخطابين كون الحمل ستة أشهر ثم جارت الزيادة عليه إلى تمام الحولين إذ لا خلاف أن الحمل قد يكون حولين ولا يكون عندنا الحمل أكثر منهما فلا يخرج الحمل المذكور في هذه الجملة من جملة الحولين كذلك الفصال لا يخرج من جملة ثلاثين شهرا لأنهما جميعا قد انتظمتهما الجملة المذكورة في قوله تعالى (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وكان أبو الحسن يقول في ذلك لما كان الحولان هما الوقت المعتاد للفطام وقد جازت الزيادة عليه بما ذكرنا وجب أن تكون مدة الانتقال من غذاء اللبن بعد الحولين إلى غذاء الطعام ستة أشهر كما كانت مدة انتقال الولد في بطن الأم إلى غذاء الطعام بالولادة ستة أشهر وذلك أقل مدة الحمل* فإن قال قائل قوله تعالى (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) نص على أن الحولين تمام الرضاع فغير جائز أن يكون بعده رضاع قيل له إطلاق لفظ الإتمام غير مانع من الزيادة عليه ألا ترى أن الله تعالى قد جعل مدة الحمل ستة أشهر في قوله (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وقوله تعالى (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) فجعل مجموع الآيتين الحمل ستة أشهر ثم لم تمتنع الزيادة عليها فكذلك ذكر الحولين للرضاع غير مانع جواز الزيادة عليهما وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم من أدرك عرفه فقد تم حجه ولم تمتنع زيادة الفرض عليها تقدير لما يلزم الأب من

١١٦

أجرة الرضاع وأنه غير مجبر على أكثر منهما لإثباته الرضاع بتراضيهما بقوله تعالى (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) وبقوله تعالى (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) فلما ثبت الرضاع بعد الحولين دل ذلك على أن حكم التحريم به غير مقصور عليهما* فإن قيل هلا اعتبرت الفطام على ما اعتبره مالك في الحولين في حال استغناء الصبى عن اللبن بالطعام بدلالة ما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا رضاع بعد فصال وبما روى عن الصحابة فيه على نحو ما قدمنا ذكره مما يدل كله على اعتبار الفطام قيل له لو وجب ذلك لوجب اعتبار حال الصبى بعد الحولين في حاجته إلى اللبن واستغنائه عنه لأن من الصبيان من يحتاج إلى الرضاع بعد الحولين فلما اتفق الجميع على سقوط اعتبار ذلك بعد الحولين دل على سقوط اعتباره في الحولين ووجب أن يكون حكم التحريم معلقا بالوقت دون غيره* فإن قال قائل قد روى في حديث جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لا رضاع بعد الحولين * قيل له المشهور عنه لا رضاع بعد فصال فجائز أن يكون هذا هو أصل الحديث وإن من ذكر الحولين حمله على المعنى وحده وأيضا لو ثبت هذا اللفظ احتمل أن يريد أيضا لا رضاع على الأب بعد الحولين على نحو تأويل قوله تعالى (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) وقد تقدم ذكره وأيضا لو كان الحولان هما مدة الرضاع وبهما يقع الفصال لما قال تعالى (فَإِنْ أَرادا فِصالاً) وهذا القول يدل من وجهين على أن الحولين ليسا توقيتا للفصال أحدهما ذكره للفصال منكورا في قوله تعالى (فِصالاً) ولو كان الحولان فصالا لقال الفصال حتى يرجع ذكر الفصال إليهما لأنه معهود مشار إليه فلما أطلق فيه لفظ النكرة دل على أنه لم يرد به الحولين والوجه الآخر تعليقه الفصال بإرادتهما وما كان مقصورا على وقت محدود لا يعلق بالإرادة والتراضي والتشاور وفي ذلك دليل على ما ذكرنا* وقوله تعالى (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ) يدل على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث لإباحة الله تعالى للوالدين التشاور فيما يؤدى إلى صلاح أمر الصغير وذلك موقوف على غالب ظنهما لا من جهة اليقين والحقيقة وفيه أيضا دلالة على أن الفطام في مدة الرضاع موقوف على تراضيهما وأنه ليس لأحدهما أن يفطمه دون الآخر لقوله تعالى (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ) فأجاز ذلك بتراضيهما وتشاورهما وقد روى نحو ذلك عن مجاهد وقد روى عن بعض السلف نسخ في هذه الآية روى شيبان عن قتادة في قوله تعالى

١١٧

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) ثم أنزل التخفيف بعد ذلك فقال تعالى (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) قال أبو بكر كأنه عنده كان رضاع الحولين واجبا ثم خفف وأبيح الرضاع أقل من مدة الرضاع بقوله تعالى (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس مثل قتادة وروى على بن أبى طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) ثم قال فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا حرج إن أرادا أن يفطما قبل الحولين أو بعدهما والله أعلم.

باب ذكر عدة المتوفى عنها زوجها

قال الله تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) والتربص بالشيء الانتظار به قال الله تعالى (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) وقال تعالى (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) يعنى ينتظر وقال تعالى (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) فأمرها الله تعالى بأن يتربصن بأنفسهن هذه المدة عن الأزواج ألا ترى أنه عقبه بقوله تعالى (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) وقد كانت عدة المتوفى عنها زوجها سنة بقوله تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) فتضمنت هذه الآية أحكاما منها توقيت العدة سنة ومنها أن نفقتها وسكناها كانت في تركة زوجها ما دامت معتدة بقوله تعالى (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) ومنها أنها كانت ممنوعة من الخروج في هذه السنة فنسخ منها من المدة ما زاد على أربعة أشهر وعشرا ونسخ أيضا وجوب نفقتها وسكناها في التركة بالميراث لقوله تعالى (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) من غير إيجاب نفقة ولا سكنى ولم يثبت نسخ الإخراج فالمنع من الخروج في العدة الثانية قائم إذ لم يثبت نسخه وقد حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخرسانى عن ابن عباس في هذه الآية يعنى قوله تعالى (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) قال كان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسكناها سنة فنسختها آية المواريث فجعل لهن الربع أو الثمن مما ترك الزوج قال وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (لا وصية لوارث إلا أن يرضى الورثة)

١١٨

قال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا يزيد عن يحيى بن سعيد عن حميد عن نافع أنه سمع زينب بنت أبى سلمة عن أم سلمة وأم حبيبة أن امرأة أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكرت أن بنتا لها توفى عنها زوجها واشتكت عينها وهي تريد أن تكحلها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (قد كانت إحداكن ترمى بالبعرة عند رأس الحول وإنما هي أربعة أشهر وعشرا) قال حميد فسألت زينب وما رميها بالبعرة فقالت كانت المرأة في الجاهلية إذا توفى عنها زوجها عمدت إلى شرى بيت لها فجلست فيه سنة فإذا مرت سنة خرجت فرمت ببعرة من ورائها رواه مالك عن عبد الله بن أبى بكر بن عمر وعن حميد عن نافع عن زينب بنت أبى سلمة وذكرت الحديث وقالت فيه كانت المرأة في الجاهلية إذا توفى عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى تمر سنة ثم تؤتى بدابة حمار وشاة أو طير فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات ثم تخرج فتعطى بعرة فترمى بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن عدة الحول منسوخة بأربعة أشهر وعشرا وأخبر ببقاء حظر الطيب عليها في العدة وعدة الحول وإن كانت متأخرة في التلاوة فهي متقدمة في التنزيل وعدة الشهور متأخرة عنها ناسخة لها لأن نظام التلاوة ليس هو على نظام التنزيل وترتيبه واتفق أهل العلم على أن عدة الحول منسوخة بعدة الشهور على ما وصفنا وأن وصية النفقة والسكنى للمتوفى عنها زوجها منسوخة إذا لم تكن حاملا واختلفوا في نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها أيضا وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى ولا خلاف بين أهل العلم أيضا في أن هذه الآية خاصة في غير الحامل* واختلفوا في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها على ثلاثة أنحاء فقال على وهي إحدى الروايتين عن ابن عباس عدتها أبعد الأجلين وقال عمر وعبد الله وزيد بن ثابت وابن عمر وأبو هريرة في آخرين عدتها أن تضع حملها وروى عن الحسن أن عدتها أن تضع حملها وتطهر من نفاسها ولا يجوز لها أن تتزوج وهي ترى الدم وأما على فإنه ذهب إلى أن قوله تعالى (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) يوجب الشهور وقوله تعالى (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) يوجب انقضاء العدة بوضع الحمل فجمع بين الآيتين في إثبات حكمهما للمتوفى عنها زوجها وجعل انقضاء عدتها أبعد الأجلين من وضع الحمل أو مضى الشهور وقال عبد الله بن مسعود من شاء باهلته أن قوله تعالى (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) نزل بعد قوله (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً)

١١٩

فحصل بما ذكرنا اتفاق الجميع على أن قوله تعالى (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَ) عام في المطلقة والمتوفى عنها زوجها وإن كان مذكورا عقيب ذكر الطلاق لاعتبار الجميع بالحمل في انقضاء العدة لأنهم قالوا جميعا أن مضى الشهور لا تنقضي به عدتها إذا كانت حاملا حتى تضع حملها فوجب أن يكون قوله تعالى (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) مستعملا على مقتضاه وموجبه وغير جائز اعتبار الشهور معه ويدل على ذلك أيضا عدة الشهور خاصة في غير المتوفى عنها زوجها ويدل عليه أيضا أن قوله تعالى (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) مستعمل في المطلقات غير الحوامل وأن الإقراء غير مشروطة مع الحمل في الحامل بل كانت عدة الحامل المطلقة وضع الحمل من غير ضم الإقراء إليها وقد كان جائزا أن يكون الحمل والإقراء مجموعين عدة لها بأن لا تنقضي عدتها بوضع الحمل حتى تحيض ثلاث حيض فكذلك يجب أن تكون عدة الحامل المتوفى عنها زوجها هي الحمل غير مضموم إليه الشهور وروى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قلت يا رسول الله في هذه الآية حين نزلت (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) في المطلقة والمتوفى عنها زوجها قال فيهما جميعا وقد روت أم سلمة أن سبيعة بنت الحارث ولدت بعد وفاة زوجها بأربعين ليلة فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن تتزوج وروى منصور عن إبراهيم عن الأسود عن أبو السنابل بن بعكك أن سبيعة بنت الحارث وضعت بعد وفاة زوجها ببضع وعشرين ليلة فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تتزوج وهذا حديث قد ورد من طرق صحيحة لا مساغ لأحد في العدول عنه مع ما عضده من ظاهر الكتاب وهذه الآية خاصة في الحرائر دون الإماء لأنه لا خلاف بين السلف فيما نعلمه وبين فقاء الأمصار في أن عدة الأمة المتوفى عنها زوجها شهران وخمسة أيام نصف عدة الحرة وقد حكى عن الأصم أنها عامة في الأمة والحرة وكذلك يقول في عدة الأمة في الطلاق أنها ثلاث حيض وهو قول شاذ خارج عن أقاويل السلف والخلف مخالف للسنة لأن السلف لم يختلفوا في أن عدة الأمة من الحيض والشهور على النصف من عدة الحرة وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم (طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان) وهذا خبر قد تلقاه الفقهاء بالقبول واستعملوه في تنصيف عدة الأمة فهو في حيز التواتر الموجب للعلم عندنا* واختلف السلف في المتوفى عنها زوجها إذا لم تعلم بموته وبلغها الخبر فقال ابن مسعود وابن عباس وابن عمر

١٢٠