أحكام القرآن - ج ١

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٤

فروض الصلاة يفعل بعد خروج وقتها إلا على وجه القضاء فلم يجز أن تكون الصلاة أصلا للإحرام ويمكن أن يجعل ذلك دليلا في أصل المسألة بأن يقال لما كان بعض فروض الحج مفعولا بعد أشهر الحج ويكون ذلك وقتا له كذلك جائز أن يكون إحرامه قبل أشهر الحج ويكون ذلك وقتا لأنه لو لم يجز تقديمه على أشهر الحج لما جاز تأخير شيء من فروضه عنه كالصلاة* فإن قيل لما اتفق الجميع على أن من فاته الحج لا يجوز أن يفعل بإحرامه ذلك حجا في القابل وكان عليه أن يتحلل بعمل عمرة دل ذلك على أن الإحرام بالحج في غير أشهر الحج يوجب عمرة وأنه غير جائز أن يفعل به حجا* قيل له فقد جاز أن يبقى إحرامه كاملا بعد أشهر الحج وهو يوم النحر قبل رمى الجمار حتى زعم الشافعى أنه إن جامع يوم النحر قبل رمى الجمار فسد حجه وقد ذكرنا فيما سلف وجه الاستدلال من ذلك على جواز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج إذ لم يكن يوم النحر عنده من أشهر الحج وقد جاز بقاء إحرامه بكماله فيه فدل على معنيين أحدهما سقوط سؤال السائل لنا واعتراضه بما ذكره إذ قد جاز وجود إحرام صحيح بالحج قبل أشهر الحج والمعنى الثاني أنه دل على جواز ابتداء إحرام الحج قبل أشهر الحج إذ قد جاز بقاؤه فيه على ما بيناه فيما سلف* وأما قول الشافعى في أن المحرم بالحج قبل أشهر الحج يكون محرما بعمرة فإنه قول ظاهر الاختلال والفساد لأنه لا يخلو من أن يلزمه إحرام الحج على ما عقده على نفسه أو لا يلزمه فإن لم يلزمه كان كمن لم يحرم وبمنزلة من أحرم بالظهر قبل دخول وقتها فلا يلزمه شيء ولا يكون داخلا فيها ولا في غيرها وأن يلزمه الحج فقد جاز أداء الإحرام بالحج قبل أشهر الحج وإذا صح إحرامه وأمكنه المضي فيه لم يجز له أن يتحلل منه بعمرة فإن قيل هو بمنزلة من فاته الحج فيلزمه أن يتحلل بعمرة* قيل له ليس ذلك بعمرة وإنما هو عمل عمرة يتحلل به من إحرام الحج ألا ترى أن من فاته الحج وهو بمكة أنه غير مأمور بالخروج منها إلى الحل لأجل ما لزمه من عمل العمرة إذ كان وقت العمرة لمن كان بمكة الحل ولو أراد أن يبتدئ عمرة لأمر بالخروج إلى الحل فدل ذلك على أن ما يفعله بعد الفوات ليس بعمرة وإنما هو عمل عمرة يتحلل به من إحرام الحج وإحرام الحج باق مع الفوات وأيضا فالذي فاته قد لزمه إحرام الحج وإنما احتاج إلى الإحلال منه بعمل عمرة فهل يقول الشافعى أن المحرم بالحج قبل أشهر الحج قد لزمه الحج ويتحلل منه بعمل عمرة

٣٨١

ويوجب عليه قضاء الحج فإذا لم يكن عنده محرما بالحج فقد لزمه في ذلك شيئان أحدهما أنه لزمه عمرة لم يعقدها على نفسه ولم ينوها والثاني أنه جعله بمنزلة الذي يفوته الحج بعد الإحرام وهذا لم يحرم قط به فألزمه عمرة لا سبب لها وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فإذا أحرم ونوى الحج فواجب أن يلزمه ما نوى بقضية قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما لكل امرئ ما نوى * قوله تعالى (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) قال أبو بكر قد اختلف السلف في تأويله فقال ابن عباس رواية والحسن وقتادة فمن أحرم وروى شريح عن أبى إسحاق عن ابن عباس (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) قال التلبية وكذلك روى عن عبد الله بن مسعود وابن عمر وإبراهيم النخعي وطاوس ومجاهد وعطاء وقالت عمرة عن عائشة لا إحرام إلا لمن أهل ولبى* قال أبو بكر قول من تأول قوله تعالى (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) على من أحرم لا يدل على أنه رأى الإحرام جائزا بغير تلبية لأنه جائز أن يقول فمن أحرم وشرط الإحرام أن يلبى فلم يثبت عن أحد من السلف جواز الدخول في الإحرام بغير تلبية أو ما يقوم مقامها من تقليد الهدى وسوقه وأصحابنا لا يجيزون الدخول في الإحرام إلا بالتلبية؟؟ وتقليد الهدى وسوقه* والدليل على ذلك حديث فراد بن أبى نوح قال حدثنا نافع عن ابن عمر عن ابن أبى مليكة عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليها وهي كأنها حزينة فقال مالك فقالت لا أنا قضيت عمرتي وألفانى الحج عاركا قال ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم فحجى وقولي ما يقول المسلمون في حجهم وذلك يدل على وجوب التلبية لأنها الذي يقوله المسلمون عند الإحرام وأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الوجوب* ويدل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خذوا عنى* مناسككم والتلبية من المناسك وقد فعلها عند الإحرام* ويدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتانى جبريل عليه السلام فقال مر أمتك يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحج فيضمن ذلك معنيين فعل التلبية ورفع الصوت بها وقد اتفقوا على أن رفع الصوت غير واجب فبقى حكمه في فعل التلبية* ويدل عليه أن الحج والعمرة ينتظمان أفعالا متغايرة مختلفة مفعولة بتحريمة واحدة فأشبهت الصلاة لما تضمنت أفعالا متغايرة مختلفة مفعولة بتحريمة واحدة كان شرط الدخول فيها الذكر كذلك الحج والعمرة واجب أن يكون الدخول فيهما بالذكر أو ما يقوم مقامه وقال أصحابنا إذا قلد بدنة وساقها وهو يريد الإحرام فقد أحرم وقد روى ابنا جابر عن أبيهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن من قلد بدنة فقد أحرم واختلف

٣٨٢

السلف في ذلك فقال ابن عمر إذا قلد بدنته فقد أحرم وكذلك روى عن على وقيس بن سعد وابن مسعود وابن عباس وطاوس وعطاء ومجاهد والشعبي ومحمد بن سيرين وجابر ابن زيد وسعيد بن جبير وإبراهيم وهذا على أنه قلدها وساقها وهو يريد الإحرام لأنه لا خلاف أنه إذا لم يرد الإحرام لا يكون محرما وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال إنى قلدت الهدى فلا أحل إلى يوم النحر فأخبر أن تقليد الهدى وسوقه كان المانع له من الإحرام فدل على أن لذلك تأثيرا في الإحرام وأنه قائم مقام التلبية في باب الدخول فيه كما كان له تأثير في منع الإحلال والدليل على أن التقليد بانفراده لا يوجب الإحرام ما روت عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يبعث بهديه ويقيم فلا يحرم عليه شيء وكذلك قالت عائشة لا يحرم إلا من أهل ولبى تعنى ممن لم يسق هديه ولم يخرج معه قوله تعالى (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) اختلف السلف في تأويل الرفث فقال ابن عمر هو الجماع وروى عن ابن عباس مثله وروى عنه أنه التعريض بالنساء وكذلك عن ابن الزبير وروى عن ابن عباس أنه أنشد في حرامه :

وهن يمشين بنا هميسا

أن يصدق الطير ننك لميسا

فقيل له في ذلك فقال إنما الرفث مراجعة النساء بذكر الجماع وقال عطاء الرفث الجماع فما دونه من قول الفحش وقال عمرو بن دينار هو الجماع فما دونه من شأن النساء* قال أبو بكر قد قيل إن أصل الرفث في اللغة هو الإفحاش في القول وبالفرج الجماع وباليد الغمز للجماع وإذا كان كذلك قد تضمن نهيه عن الرفث في الحج هذه الوجوه كلها وحصل من اتفاق جميع من روى عنه تأويله أن الجماع مراد به في هذه الآية* ويدل على أن الرفث الفحش في المنطق قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن جهل عليه فليقل إنى صائم) والمراد فحش القول وإن كان المراد بالرفث هو التعريض بذكر النساء في الإحرام فاللمس والجماع أولى أن يكون محظورا كما قال تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) عقل منه النهى عن السب والضرب وقد ذكر الله تعالى الرفث في شأن الصوم فقال (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) ولا خلاف أنه يريد به الجماع وعقل منه إباحة ما دونه كما أن حظره الرفث في الحج وهو التعريض واللمس قد عقل به حظر ما فوقه من الجماع لأن حظر القليل يدل على الكثير من جنسه وإباحة الكثير تدل على إباحة القليل من جنسه

٣٨٣

وقد روى عن محمد بن راشد قال خرجنا حجاجا فمررنا بالرويثة فإذا بها شيخ يقال له أبو هرم قال سمعت أبا هريرة يقوم للمحرم من امرأته كل شيء إلا الجماع قال فأهوى رجل منا إلى امرأته فقبلها فقدمنا مكة فذكرنا ذلك لعطاء فقال قاتله الله قعد على طريق من طرق المسلمين يفتنهم بالضلالة ثم قال للذي قبل امرأته أهرق دما وهذا شيخ مجهول وما ذكره قد اتفقت الأمة على خلافه وعلى أن من قبل امرأته في إحرامه بشهوة فعليه دم وروى ذلك عن على وابن عباس وابن عمر والحسن وعطاء وعكرمة وإبراهيم وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ذلك وهو قول فقهاء الأمصار ولما ثبت بما ذكرنا حظر مراجعة النساء بذكر الجماع في حال الإحرام والتعريض به واللمس وذلك كله من دواعي الجماع دل ذلك على أن الجماع ودواعيه محظورة على المحرم وذلك دليل على حظر التطيب لهذا المعنى بعينه ولما ورد فيه من السنة* وأما الفسوق فروى عن ابن عمر قال الفسوق السباب والجدال المراء وقال ابن عباس الجدال أن تجادل صاحبك حتى تغيظه والفسوق المعاصي وروى عن مجاهد لا جدال في الحج قال قد أعلم الله تعالى أشهر الحج فليس فيها شك ولا خلاف قال أبو بكر جميع ما ذكر من هذه المعاني عن المتقدمين جائز أن يكون مراد الله تعالى* فيكون المحرم منهيا عن السباب والمماراة في أشهر الحج وفي غير ذلك وعن الفسوق وسائر المعاصي فتضمنت الآية الأمر بحفظ اللسان والفرج عن كل ما هو محظور من الفسوق والمعاصي والمعاصي والفسوق وإن كانت محظورة قبل الإحرام فإن الله نص على حظرها في الإحرام تعظيما لحرمة الإحرام ولأن المعاصي في حال الإحرام أعظم وأكبر عقابا منها في غيرها كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن جهل عليه فليقل إنى امرؤ صائم) وقد روى أن الفضل بن العباس كان رديف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المزدلفة إلى منى فكان يلاحظ النساء وينظر إليهن فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصرف وجهه بيده من خلفه وقال (إن هذا يوم من ملك سمعه وبصره غفر له) ومعلوم حظر ذلك في غير ذلك اليوم ولكنه خص اليوم تعظيما لحرمته فكذلك المعاصي والفسوق والجدال والرفث كل ذلك محظور ومراد بالآية سواء كان مما حظره الإحرام أو كان محظورا فيه وفي غيره بعموم اللفظ ويكون تخصيصه إياها بحال الإحرام تعظيما للإحرام وإن كانت محظورة في غيره وقد روى مسعود عن منصور عن أبى حازم عن أبى هريرة عن النبي

٣٨٤

صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) وهذا موافق لدلالة الآية وذلك لأن الله تعالى لما نهى عن المعاصي والفسوق في الحج فقد تضمن ذلك الأمر بالتوبة منها لأن الإصرار على ذلك هو من الفسوق والمعاصي فأراد الله تعالى أن يحدث الحاج توبة من الفسوق والمعاصي حتى يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه على ما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله تعالى (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) قد تضمن النهى عن مماراة صاحبه ورفيقه وإغضابه وحظر الجدال في وقت الحج على ما كان عليه أمر الجاهلية لأنه قد استقر على وقت واحد وأبطل به النسيء الذي كان أهل الجاهلية عليه وهو معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض يعنى عود الحج إلى الوقت الذي جعله الله له واتفق ذلك في حجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) وإن كان ظاهره الخبر فهو نهى عن هذه الأفعال وعبر بلفظ النفي عنها لأن المنهي عنه سبيله أن يكون منفيا غير مفعول وهو كقوله في الأمر (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) و (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) وما جرى مجراه صيغته صيغة الخبر ومعناه الأمر* قوله تعالى (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) روى عن مجاهد والشعبي أن أناسا من أهل اليمن كانوا لا يتزودون في حجهم حتى نزلت (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) وقال سعيد بن جبير الزاد الكعك والزيت وقيل فيه إن قوما كانوا يرمون بأزوادهم يتسمون بالمتوكلة فقيل لهم تزودوا من الطعام ولا تطرحوا كلكم على الناس وقيل فيه أن معناه أن تزودوا من الأعمال الصالحة فإن خير الزاد التقوى* قال أبو بكر لما احتملت الآية الأمرين من زاد الطعام وزاد التقوى وجب أن يكون عليهما إذ لم تقم دلالة على تخصيص زاد من زاد وذكر التزود من الأعمال الصالحة في الحج لأنه أحق شيء بالاستكثار من أعمال البر فيه لمضاعفة الثواب عليه كما نص على حظر الفسوق والمعاصي فيه وإن كانت محظورة في غيره تعظيما لحرمة الإحرام وأخبارا أنها فيه أعظم مأثما فجمع الزادين في مجموع اللفظ من الطعام ومن زاد التقوى ثم أخبر أن زاد التقوى خيرهما لبقاء نفعه ودوام ثوابه وهذا يدل على بطلان مذهب المتوصفة الذين يتسمون بالمتوكلة في تركهم التزود والسعى في المعاش وهو يدل على أن من شرط استطاعة الحج الزاد والراحلة لأنه خاطب بذلك من خاطبه بالحج وعلى هذا المعنى قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سئل عن الاستطاعة فقال هي الزاد والراحلة والله الموفق.

٣٨٥

باب التجارة في الحج

قال الله عقيب ذكر الحج والتزود له (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) يعنى المخاطبين بأول الآية وهم المأمورون بالتزود للحج وأباح لهم التجارة فيه وروى أبو يوسف عن العلاء بن السائب عن أبى أمامة قال قلت لابن عمر إنى رجل أكرى الإبل إلى مكة أفيجزي من حجتي قال ألست تلبي فتقف وترمى الجمار قلت بلى قال سأل رجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مثل ما سألتنى فلم يجبه حتى أنزل الله هذه الآية (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنتم حاج وقال عمرو بن دينار قال ابن عباس كانت ذو المجاز وعكاظ متجرا للناس في الجاهلية فلما كان الإسلام تركوا حتى نزلت (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) في مواسم الحج وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال أتانى رجل فقال إنى آجرت نفسي من قوم على أن أخدمهم ويحجون بي فهل لي من حج فقال ابن عباس هذا من الذين قال الله تعالى (لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) وروى نحو ذلك عن جماعة من التابعين منهم الحسن وعطاء ومجاهد وقتادة ولا نعلم أحدا روى عنه خلاف ذلك إلا شيئا رواه سفيان الثوري عن عبد الكريم عن سعيد بن جبير قال سأله رجل أعرابى فقال إنى أكرى إبلى وأنا أريد الحج أفيجزيني قال لا ولا كرامة وهذا قول شاذ خلاف ما عليه الجمهور وخلاف ظاهر الكتاب في قوله (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) فهذا في شأن الحاج لأن أول الخطاب فيهم وسائر ظواهر الآي المبيحة لذلك دالة على مثل ما دلت عليه هذه الآية نحو قوله (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) وقوله (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ ـ إلى قوله ـ ليشهدوا منافع لهم) ولم يخصص شيئا من المنافع دون غيرها فهو عام في جميعها من منافع الدنيا والآخرة وقال تعالى (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) ولم يخصص منه حال الحج وجميع ذلك على أن الحج لا يمنع التجارة وعلى هذا أمر الناس من عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يومنا هذا في مواسم منى ومكة في أيام الحج والله أعلم.

باب الوقوف بعرفة

قال الله تعالى (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) قال أبو بكر

٣٨٦

قد دل ذلك على أن مناسك الحج الوقوف بعرفة وليس في ظاهره دلالة على أنه من فروضه فلما قال في سياق الخطاب (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) أبان بذلك عن فرض الوقوف ولزومه وذلك لأن أمره بالإضافة مقتض للوجوب ولا تكون الإفاضة فرضا إلا والكون بها فرضا حتى يفيض منها إذ لا يتوصل إلى الإفاضة إلا بكونه قبلها هناك* وقد اختلف في تأويل قوله (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) فروى عن عائشة وابن عباس وعطاء والحسن ومجاهد وقتادة والسدى أنه أراد الإفاضة من عرفة قالوا وذلك لأن قريشا ومن دان دينها يقال لهم الحمس كانوا يقفون بالمزدلفة ويقف سائر العرب بعرفات فلما جاء الإسلام أنزل الله تعالى على نبيه (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريشا ومن دان دينها أن يأتوا عرفات فيقفوا بها مع الناس ويفيضوا من حيث أفاض الناس وحكى عن الضحاك أنه أراد به الوقوف بالمزدلفة وأن يفيضوا من حيث أفاض إبراهيم عليه السلام وقيل أنه إنما قال (النَّاسُ) وأراد إبراهيم وحده كما قال تعالى (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) وكان رجلا واحدا ولأن إبراهيم عليه السلام لما كان الإمام المقتدى به سماه الله تعالى أمة كان بمنزلة الأمة التي تتبع سنته جاز إطلاق اسم الناس والمراد به هو وحده والتأويل الأول هو الصحيح لاتفاق السلف عليه والضحاك لا يزاحم به هؤلاء فهو قول شاذ وإنما ذكر الناس هاهنا وأمر قريشا بالإفاضة من حيث أفاض الناس لأنهم كانوا أعظم الناس وكانت قريش ومن دان دينها قليلة بالإضافة إليهم فلذلك قال (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) فإن قيل لما قال فإذا أفضتم من عرفات ثم عقب ذلك بقوله (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) وثم يقتضى الترتيب لا محالة علمنا أن هذه الإفاضة هي بعد الإفاضة من عرفات وليس بعدها إفاضة إلا من المزدلفة وهي المشعر الحرام فكان حمله على ذلك أولى منه على الإفاضة من عرفة ولأن الإفاضة من عرفة قد تقدم ذكرها فلا وجه لإعادتها* قيل له إن قوله تعالى (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) عائد إلى أول الكلام وهو الخطاب بذكر الحج وتعليم مناسكه وأفعاله فكأنه قال يا أيها المأمورون بالحج من قريش بعد ما تقدم ذكرنا له أفيضوا من حيث أفاض الناس فيكون ذلك راجعا إلى صلة خطاب المأمورين وهو كقوله تعالى (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) والمعنى بعد ما ذكرنا لكم أخبرنا كم أنا آتينا موسى

٣٨٧

الكتاب تماما على الذي أحسن ويجوز أن يكون ثم بمعنى الواو فيكون تقديره وأفيضوا من حيث أفاض الناس كما قال تعالى (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) معناه وكان من الذين آمنوا وقوله (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) معناه والله شهيد فإذا كان ذلك سائغا في اللغة ثم روى عن السلف ما ذكرنا لم يجز العدول عنه إلى غيره وأما قولك أن ذكر عرفات قد تقدم في قوله (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) فلا يكون لقوله (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) وجه فليس كذلك لأن قوله (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) لا دلالة فيه على إيجاب الوقوف وقوله (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) هو أمر لمن لم يكن يقف بعرفة من قريش فقد أفاد به من إيجاب الوقوف ما لم يتضمنه قوله (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) إذ لا دلالة في قوله (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) على فرض الوقوف ومع ذلك فلو اقتصر على قوله (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) لكان جائزا أن يظن ظان أنه خطاب لمن كان يقف بها دون من لم يكن يرى الوقوف بها فيكون التاركون للوقوف على جملة أمرهم في الوقوف بالمزدلفة دون عرفات فأبطل ظن الظان لذلك بقوله (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) واتفقت الأمة مع ذلك على أن تارك الوقوف بعرفة لا حج له ونقلته عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قولا وعملا وروى بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف الحج قال (الحج يوم عرفة من جاء عرفة ليلة جمع قبل الصبح أو يوم جمع فقد تم حجه) وروى الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال بالمزدلفة(من صلّى معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه) وقد روى عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وجابر إذا وقف قبل طلوع الفجر فقد تم حجه والفقهاء مجمعون على ذلك وقد اختلف الفقهاء فيمن لم يقف بعرفة ليلا فقال سائرهم إذا وقف نهارا فقد تم حجه وإن دفع منها قبل غروب الشمس فعليه دم عند أصحابنا إن لم يرجع قبل الإمام وقال مالك بن أنس إن لم يرجع حتى طلع الفجر بطل حجه وأصحابه يزعمون أنه قال ذلك لأن مذهبه أن فرض الوقوف بالليل دون النهار وأن الوقوف نهارا غير مفروض إنما هو مسنون وروى عن ابن الزبير أن من دفع من عرفات قبل غروب الشمس فسد حجه* والدليل على صحة القول الأول قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث عروة ابن مضرس وأفاض من عرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقدتم حجه وقضى تفثه فحكم بصحة

٣٨٨

حجه وإتمامه بوقوفه في أحد الوقتين من ليل أو نهار * ويدل عليه أيضا قوله تعالى (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) وحيث اسم للموضع وهو عرفات فكان بمنزلة قوله أفيضوا من عرفات ولم يخصصه بليل ولا نهار وليس فيه ذكر للوقت فاقتضى ذلك جوازه في أى وقت وقف فيه ويدل عليه من جهة النظر أنا وجدنا سائر المناسك ابتداؤها بالنهار وإنما يدخل فيه الليل تبعا ولم نجد شيئا منها يختص بالليل حتى لا يصح فعله في غيره فقول من جعل فرض الوقوف بالليل خارج عن الأصول ألا ترى أن طواف الزيارة والوقوف بالمزدلفة والرمي والذبح والحلق كل ذلك مفعول بالنهار وإنما يفعل بالليل على أنه يؤخر عن وقته على وجه التبع للنهار فوجب أن يكون ذلك حكم الوقوف بعرفة* وأيضا قد نقلت الأمة وقوف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهارا إلى يومنا هذا وأنه دفع منها عند سقوط الفرض وهذا يدل على أن وقت الوقوف هو النهار ووقت الغروب هو الدفع فاستحال أن يكون الدفع هو وقت الفرض ووقت الوقوف لا يكون وقتا للفرض وأيضا لما قيل يوم عرفة ونقلت هذه التسمية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أخبار كثيرة منها أن الله تعالى يباهى ملائكته يوم عرفة ومنها أن صيام يوم عرفة يعدل صيام سنة ولذلك أطلقت الأمة ذلك عليه دل على أن النهار وقت الفرض فيه وأن الوقوف ليلا إنما يفعله من وقف فائتا ألا ترى أنه لما قيل يوم الجمعة ويوم الأضحى ويوم الفطر كانت هذه الأفعال واقعة في هذه الأيام نهارا ولذلك أضيفت إليها فدل ذلك على أن فرض الوقوف يوم عرفة وأنه يفعل ليلا على وجه القضاء لما فاته كما يرمى الجمار ليلا على وجه القضاء لما فاته نهارا وكذلك الطواف والذبح والحلق* واختلف في موضع الوقوف فروى جبير بن مطعم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال كل عرفات موقف وارفعوا عن عرنة وكل مزدلفة موقف وارفعوا عن محسر وروى جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال كل عرفة موقف وقال ابن عباس ارتفعوا عن وادي عرنة والمنبر عن مسيله فما فوق ذلك موقف ولم يختلف رواة الأخبار أن النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم دفع من عرفة بعد غروب الشمس وقد روى أن أهل الجاهلية كانوا يدفعون منها إذا صارت الشمس على رؤس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم وإنهم كانوا يدفعون من المزدلفة بعد طلوع الشمس فخالفهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودفع من عرفات بعد الغروب ومن المزدلفة قبل الطلوع وروى سلمة بن كهيل عن الحسن العرني عن ابن عباس قال خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس

٣٨٩

يوم عرفة فقال (يا أيها الناس ليس البر في إيجاب الخيل ولا في إيضاع الإبل ولكن سيرا حسنا جميلا ولا تواطئوا ضعيفا ولا تؤذوا مسلما) وروى هشام بن عروة عن أبيه عن أسامة بن زيد قال كان سيرنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين يدفع من عرفات العنق غير أنه كان إذا وجد فجوة نص والله أعلم.

باب الوقوف بجمع

قال الله تعالى (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) ولم يختلف أهل العلم أن المشعر الحرام هو المزدلفة وتسمى جمعا فمن الناس من يقول أن هذا الذكر هو صلاة المغرب والعشاء اللتين يجمع بينهما بالمزدلفة والذكر الثاني في قوله (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) هو الذكر المفعول عند الوقوف بالمزدلفة غداة جمع* فيكون الذكر الأول غير الثاني والصلاة تسمى ذكرا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) وتلا عند ذلك قوله تعالى (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) فسمى الصلاة ذكرا فعلى هذا قد اقتضت الآية تأخير صلاة المغرب إلى أن تجمع مع العشاء بالمزدلفة وروى أسامة بن زيد وكان رديف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عرفات إلى المزدلفة أنه قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طريق المزدلفة الصلاة فقال الصلاة أمامك فلما أتى المزدلفة صلاها مع العشاء الآخرة والأخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم متواترة في جمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المغرب والعشاء بالمزدلفة* وقد اختلف فيمن صلى المغرب قبل أن يأتى المزدلفة فقال أبو حنيفة ومحمد لا تجزيه وقال أبو يوسف تجزيه وظاهر قوله تعالى (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) إذا كان المراد به الصلاة يمنع جوازها قبله وكذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلاة أمامك وحمله على ذلك أولى من حمله على الذكر المفعول في حال الوقوف بجمع لأن قوله تعالى (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) هو الذكر في موقف جمع فواجب أن نحمل الذكر الأول على الصلاة حتى نكون قد وفينا كل واحد من الذكرين حظه من الفائدة ولا يكون تكرارا وأيضا فإن قوله (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) هو أمر يقتضى الإيجاب والذكر المفعول بجمع ليس بواجب عند الجميع ومتى حمل على فعل صلاة المغرب بجمع كان محمولا على مقتضاه من الوجوب فوجب حمله عليه* وقد اختلف أهل العلم في الوقوف بالمزدلفة هل هو من فروض الحج أم لا فقال قائلون هو من فروض الحج ومن فاته فلا حج له كمن فاته الوقوف بعرفة

٣٩٠

وقال جمهور أهل العلم حجه تام ولا يفسده ترك الوقوف بالمزدلفة واحتج من لم يجعله من فروضه بما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (الحج عرفة فمن وقف قبل أن يطلع الفجر فقد تم حجه) وقال في بعض الأخبار من أدرك عرفة فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة فقد فاته الحج فحكم بصحة حجه بإدراك عرفة ولم يشترط معه الوقوف بجمع ويدل عليه ما روى ابن عباس وابن عمرو نقله الناس قائلين له أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم ضعفة أهله بليل وفي بعض الأخبار ضعفة الناس من المزدلفة ليلا وقال لهم لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس فلو كان الوقوف بها فرضا لما رخص لهم في تركه للضعف كما لا يرخص في الوقوف بعرفة لأجل الضعف فإن قيل لأنهم كانوا وقفوا ليلا وهو وقت الوقوف بها وروى سالم بن عمرو هو أحد من روى حديث تقديم ضعفة الناس من المزدلفة فكان يقدم ضعفة أهله من المزدلفة فيقفون عند المشعر الحرام بليل فيذكرون ما بدا لهم ثم يدفعون قيل له وقت الوقوف بها بعد طلوع الفجر وقد نقل الناس وقوف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها بعد طلوع الفجر ولم يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضعفة أهله بالوقوف حين عجلهم منها ليلا ولو كان ذلك وقت الوقوف لأمرهم به ولم يرخص لهم في تركه مع إمكانه من غير عذر وما روى عن ابن عمر فإنما هو من فعله ليس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقل ابن عمر أيضا أن هذا وقت الوقوف وإنما كان ذلك على وجه الاستحباب للذكر قبل الرجوع إلى منى ويدل على أن وقت الوقوف بعد طلوع الفجر إنا وجدنا سائر أفعال المناسك إنما وقتها بالنهار والليل يدخل فيه على وجه التبع على ما بينا واحتج من جعل الوقوف بها فرضا بظاهر قوله تعالى (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) فظاهره يقتضى الوجوب ويحتجون أيضا بحديث مطرف بن طريف عن الشعبي عن عروة بن مضرس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (من أدرك جمعا والإمام واقف فوقف مع الإمام ثم أفاض مع الناس فقد أدرك الحج ومن لم يدرك فلا حج له) وبما روى يعلى بن عبيد قال حدثنا سفيان عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقفا بعرفات فأقبل ناس من أهل نجد فسألوه عن الحج فقال (الحج يوم عرفة ومن أدرك جمعا قبل الصبح فقد أدرك الحج) فأما قوله (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) فلا دلالة فيه على ما ذكروا وذلك لأنه أمر بالذكر وقد اتفق الجميع على أن الذكر هناك

٣٩١

غير مفروض فإن تركه لا يوجب نقصا في الحج وليس للوقوف ذكر في الآية فسقط الاحتجاج به ومع ذلك فقد بينا أن المراد بهذا الذكر هو فعل صلاة المغرب هناك وأما حديث مطرف بن طريف عن الشعبي فإنه قد رواه خمسة من الرواة غير مطرف منهم زكريا بن أبى زائدة وعبد الله بن أبى السفر وسيار وغيرهم عن الشعبي عن عروة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكروا فيه أنه قال (من صلّى معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف وأفاض قبل ذلك من عرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه) ولم يذكر منهم أحد أنه قال فلا حج له ومع ذلك فقد اتفقوا أن ترك الصلاة هناك لا يفسد الحج وقد ذكرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكذلك الوقوف وقوله فلا حج له يحتمل أن يريد به نفى الفضل لا نفى الأصل كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) وكما روى عمر من قدم نفله فلا حج له وأما حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه قد روى هذا الحديث محمد بن كثير عن سفيان عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال فيه (من وقف قبل أن يطلع الفجر فقد تم حجه) فعلمنا أن المراد بذلك الوقوف بعرفة في شرط إدراك الحج وإن رواية من روى من أدرك جمعا قبل الصبح وهم وكيف لا يكون وهما وقد نقلت الأمة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوفه بها بعد طلوع الفجر ولم يرو عنه أنه أمر أحدا بالوقوف بها ليلا ومع ذلك فقد عارضته الأخبار الصحيحة التي رويت من قوله من صلى معنا هذه الصلاة ثم وقف معنا هذا الموقف وسائر أخبار عبد الرحمن بن يعمر أنه قال من أدرك عرفة فقد أدرك الحج وقد تم حجه ومن فاته عرفة فقد فاته الحج وذلك ينفى رواية من شرط معه الوقوف بالمزدلفة وأظن الأصم وابن علية القائلين بهذه المقالة* واحتجوا فيه من طريق النظر بأنه لما كان في الحج وقوفان واتفقنا على فرضية أحدهما وهو الوقوف بعرفة وجب أن يكون الآخر فرضا لأن الله عز وجل ذكرهما في القرآن كما أنه لما ذكر الركوع والسجود كانا فرضين في الصلاة فقال له أما قولك أنهما لما كانا مذكورين في القرآن كانا فرضين فإنه غلط فاحش لأنه يقتضى أن يكون كل مذكور في القرآن فرضا وهذا خلف من القول وعلى أن الله تعالى لم يذكر الوقوف وإنما قال (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) والذكر ليس بمفروض عند الجميع فكيف يكون الوقوف فرضا فالاحتجاج به من هذا الوجه ساقط فإن كان أوجبه قياسا على الوقوف بعرفة فإنه يطالب

٣٩٢

بالدلالة على صحة العلة الموجبة لهذا القياس وذلك معدوم ويقال له أليس قد طاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم مكة وسعى ثم طاف أيضا يوم النحر وطاف للصدر وأمر به فهل وجب أن يكون لهذا الطواف كله حكم واحد في باب الإيجاب فإذا جاز أن يكون بعض الطواف ندبا وبعضه واجبا فما ينكر أن يكون حكم الوقوف كذلك فيكون بعضه ندبا وبعضه واجبا* قوله تعالى (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) قضاء المناسك هو فعلها على تمام ومثله قوله (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً) وقوله (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا) يعنى افعلوا على التمام* وقوله (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) قد قيل فيه وجهان أحدهما الأذكار المفعولة في سائر أحوال المناسك كقوله (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) وهو مأمور به قبل الطلاق على مجرى قولهم إذا حججت فطف بالبيت وإذا أحرمت فاغتسل وإذا صليت فتوضأ وقوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) وإنما هو قبل الصلاة وكذلك (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ) جائز أن يريد الأذكار المسنونة بعرفات والمزدلفة وعند الرمي والطواف وقيل فيه أن أهل الجاهلية كانوا يقفون عند قضاء المناسك فيذكرون مآثرهم ومفاخر آبائهم فأبدلهم الله به ذكره وشكره على نعمه والثناء عليه فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعرفات (إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس من آدم وآدم من تراب لا فضل لعربي على عجميّ إلا بالتقوى) ثم تلا (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) فكان خروج الكلام على حال لأهل الجاهلية في ذكرهم آباءهم والله أعلم.

باب أيام منى والنفر فيها

قال الله عز وجل (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) قال أبو بكر روى سفيان وشعبة عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيام منى ثلاثة أيام التشريق فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليهواتفق أهل العلم على أن قوله بيان المراد الآية في قوله (أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) ولا خلاف بين أهل العلم أن المعدودات أيام التشريق وقد روى ذلك عن على وعمر

٣٩٣

وابن عباس وابن عمر وغيرهم إلا شيء رواه ابن أبى ليلى عن المنهال عن زر عن على قال المعدودات يوم النحر ويومان بعده اذبح في أيها شئت وقد قيل إن هذا وهم والصحيح عن على أنه قال ذلك في المعلومات وظاهر الآية ينفى ذلك أيضا لأنه قال (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) وذلك لا يتعلق بالنحر وإنما يتعلق برمي الجمار والمفعول في أيام التشريق* وأما المعلومات فقد روى عن على وابن عمر أن المعلومات يوم النحر ويومان بعده واذبح في أيها شئت قال ابن عمر المعدودات أيام التشريق وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس المعلومات العشر والمعدودات أيام التشريق وقد روى ابن أبى ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده أيام التشريق والمعدودات يوم النحر وثلاثة أيام بعده التشريق وروى عبد الله بن موسى أخبرنا عمارة بن ذكوان عن مجاهد عن ابن عباس قال المعدودات أيام العشر والمعلومات أيام النحر فقوله المعدودات أنها أيام العشر لا شك في أنه خطأ ولم يقل به أحد وهو خلاف الكتاب قال الله تعالى (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) وليس في العشر حكم يتعلق بيومين دون الثلاث وقد روى عن ابن عباس بإسناد صحيح أن المعلومات العشر والمعدودات أيام التشريق وهو قول الجمهور من التابعين منهم الحسن ومجاهد وعطاء والضحاك وإبراهيم في آخرين منهم وقد روى عن أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد أن المعلومات العشر والمعدودات أيام التشريق وذكر الطحاوي عن شيخه أحمد بن أبى عمران عن بشر بن الوليد قال كتب أبو العباس الطوسي إلى أبى يوسف يسأله عن الأيام المعلومات فأملى على أبى يوسف جواب كتابه اختلف أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فروى عن على وابن عمر أنها أيام النحر وإلى ذلك أذهب لأنه قال (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) وذكر شيخنا أبو الحسن الكرخي عن أحمد القاري عن محمد عن أبى حنيفة أن المعلومات العشر وعن محمد أنها أيام النحر الثلاثة يوم الأضحى ويومان بعده* قال أبو بكر فحصل من رواية أحمد القاري عن محمد ورواية بشر ابن الوليد عن أبى يوسف أن المعلومات يوم النحر ويومان بعده ولم تختلف عن أبى حنيفة أن المعلومات أيام العشر والمعدودات أيام التشريق وهو قول ابن عباس المشهور وقوله تعالى (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) لا دلالة فيه على أن المراد أيام النحر لاحتماله أن يريد لما رزقهم من بهيمة الأنعام كقوله (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) والمعنى لما

٣٩٤

هداكم وأيضا يحتمل أن يريد بها أيام العشر لأن فيها يوم النحر وفيه الذبح ويكون بتكرار السنين عليه أياما وذكر أهل اللغة أن المعدودات منفصلة عن المعلومات بدلالة اللفظ على افتراقهما في باب العدد وذلك لأن وصفها بالمعدودات دلالة التقليل كقوله تعالى (بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) وإنما يوصف بالعدد إذا أريد به التقليل لأنه يكون نقيض كثرة فهو كقولك قليل وكثير فعرفت المعدودات بالتقليل وقيل للأخرى معلومات فعرفت بالشهرة لأنها عشرة ولم يختلف أهل العلم أن أيام منى ثلاثة يوم النحر وبعد أن للحاج أن يتعجل في اليوم الثاني منها إذا رمى الجمار وينفر وأن له أن يتأخر إلى اليوم الثالث حتى يرمى الجمار فيه ثم ينفر واختلف فيمن لم ينفر حتى غابت الشمس من اليوم الثاني فروى عن عمر وابن عمر وجابر بن زيد والحسن وإبراهيم أنه إذا غابت الشمس من اليوم الثاني قبل أن ينفر فلا ينفر حتى يرمى الجمار من الغد وروى عن الحسن البصري أن له أن ينفر في اليوم الثاني إذا رمى وقت الظهر كله فإن أدركته صلاة العصر بمنى فليس له أن ينفر إلى اليوم الثالث وقال أصحابنا إنه إذا لم ينفر حتى غابت الشمس فلا ينبغي له أن ينفر حتى يرمى جمرة اليوم الثالث ولا يلزمه ذلك إلا أن يصبح بمنى فحينئذ يلزمه رمى اليوم الثالث ولا يجوز تركه ولا نعلم خلافا بين الفقهاء أن من أقام بمنى إلى اليوم الثالث أنه لا يجوز له النفر حتى يرمى وإنما قالوا إنه لا يلزمه رمى اليوم الثالث بإقامته بمنى إلى أن يمسي من قبل أن الليلة التي تلى اليوم الثاني هي تابعة له حكمها حكمه وليس حكمها حكم الذي بعدها ألا ترى أنه لو ترك الرمي في اليوم الأول رماه في ليلته ولم يكن مؤخرا له عن وقته لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رخص للرعاة أن يرموا ليلا فكان حكم الليلة حكم اليوم الذي قبلها ولم يكن حكمها حكم الذي بعدها فلذلك قالوا إن إقامته في اليوم الثاني بمنى إلى أن يمسي بمنزلة إقامته بها نهارا وإذا أقام حتى يصبح من اليوم الثالث لزمه الرمي بلا خلاف وهذا مما يستدل به على صحة قول أبى حنيفة في تجويزه رمى اليوم الثالث قبل الزوال إذ قد صار وقتا للزوم الرمي ويستحيل أن يكون وقتا لوجوبه ثم لا يصح فعله فيه* وأما قوله تعالى (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى) فإنه قد قيل فيه وجهان أحدهما فلا إثم عليه لتكفير سيئاته وذنوبه بالحج المبرور وروى نحوه عن عبد الله بن مسعود ومثله ما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع

٣٩٥

كيوم ولدته أمه والوجه الثاني أنه لا مأثم عليه في التعجيل وروى نحوه عن الحسن وغيره وقال (مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) لأنه مباح له التأخير* وقوله (لِمَنِ اتَّقى) يحتمل لمن اتقى ما نهى الله عنه في الإحرام بقوله (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) وإن لم يتق فغير موعود بالثواب.

قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية* قال أبو بكر فيه تحذير من الاغترار بظاهر القول وما يبديه من حلاوة المنطق والاجتهاد في تأكيد ما يظهره فأخبر الله تعالى أن من الناس من يظهر بلسانه ما يعجبك ظاهره (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) وهذه صفة المنافقين مثل قوله تعالى (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) وقوله (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) فأعلم الله تعالى نبيه ضمائرهم لئلا يغتر بظاهر أقوالهم وجعله عبرة لنا في أمثالهم لئلا نتكل على ظاهر أمور الناس وما يبدونه من أنفسهم وفيه الأمر بالاحتياط فيما يتعلق بأمثالهم من أمور الدين والدنيا فلا نقتصر فيما أمرنا بائتمان الناس عليه من أمر الدين والدنيا على ظاهر حال الإنسان دون البحث عنه* وفيه دليل على أن عليه استبراء حال من يراد للقضاء والشهادة والفتية والإمامة وما جرى مجرى ذلك في أن لا يقبل منهم ظاهرهم حتى يسئل ويبحث عنهم إذ قد حذرنا الله تعالى أمثالهم في توليتهم على أمور المسلمين ألا ترى أنه عقبه بقوله (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) فكان ذكر التولي في هذا الموضع إعلاما لنا أنه غير جائز الاقتصار على ظاهر ما يظهره دون الاستبراء لحاله من غير جهته* قوله تعالى (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) هو وصف له بالمبالغة في شدة الخصومة والقتل للخصم بها عن حقه وإحالته إلى جانبه ويقال لده عن كذا إذا حبسه وعلى هذا المعنى قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض وإنما اقضى بما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقطع له قطعة من النار فكان معنى قوله (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) أنه أشد المخاصمين خصومة* وقوله (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) نص على بطلان مذهب أهل الإجبار لأن ما لا يحبه الله فهو لا يريده وما يريده فهو لا يحبه فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يحب الفساد وهذا يوجب أن لا يفعل الفساد لأنه لو فعله لكان مريدا له ومحبا له وهو

٣٩٦

مثل قوله (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) فنفى عن نفسه فعل الظلم لأنه لو فعله لكان مريدا له لاستحالة أن يفعل ما لا يريد ويدل على أن محبته لكون الفعل هي إرادته له أنه غير جائز أن يجب كونه ولا يريد أن يكون بل يكره أن يكون وهذا هو التناقض كما لو قال يريد الفعل ويكرهه لكان مناقضا مختلا في كلامه ويدل عليه قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) والمعنى إن الذين يريدون فدل على أن المحبة هي الإرادة وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (إن الله أحب لكم ثلاثا وكره لكم ثلاثا أحب لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم وكره لكم القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال) فجعل الكراهة في مقابلة المحبة فدل أن ما أراده فقد أحبه كما أن ما كرهه فلم يرده إذ كانت الكراهة في مقابلة الإرادة كما هي في مقابلة المحبة فلما كانت الكراهة نقيضا لكل واحدة من الإرادة والمحبة دل على أنهما سواء قوله تعالى (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فإن العزيز هو المنيع القادر على أن يمنع ولا يمنع لأن أصل العزة الامتناع ومنه يقال أرض عزاز إذا كانت ممتنعة بالشدة والصعوبة وأما الحكيم فإنه يطلق في صفة الله تعالى على معنيين أحدهما العالم إذا أريد به ذلك جاز أن يقال لم يزل حكيما والمعنى الآخر من الفعل المتقن المحكم وإذا أريد به ذلك لم يجز أن يقال لم يزل حكيما كما لا يجوز أن يقال لم يزل فاعلا فوصفه لنفسه بأنه حكيم يدل على أنه لا يفعل الظلم والسفه والقبائح ولا يريدها لأن من كان كذلك فليس بحكيم عند جميع أهل العقل وفيه دليل على بطلان قول أهل الجبر* وقوله تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) هذا من المتشابه الذي أمرنا الله برده إلى المحكم في قوله (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) وإنما كان متشابها لاحتماله حقيقة اللفظ وإتيان الله واحتماله أن يريد أمر الله ودليل آياته كقوله في موضع آخر (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) فجميع هذه الآيات المتشابهة محمولة على ما بينه في قوله (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) لأن الله تعالى لا يجوز عليه الإتيان ولا المجيء ولا الانتقال ولا الزوال لأن ذلك من صفات الأجسام ودلالات الحدث وقال تعالى في آية محكمة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وجعل إبراهيم عليه السلام ما شهده من حركات النجوم وانتقالها

٣٩٧

دليلا على حدثها واحتج به على قومه فقال الله عز وجل (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) يعنى في حدث الكواكب والأجسام تعالى الله عن قول المشبهة علوا كبيرا فإن قيل فهل يجوز أن يقال جاء ربك بمعنى جاء كتابه أو جاء رسوله أو ما جرى مجرى ذلك* قيل له هذا مجاز والمجاز لا يستعمل إلا في موضع يقوم الدليل عليه وقد قال تعالى (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) وهو يريد أهل القرية وقال (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) وهو يعنى أولياء الله والمجاز إنما يستعمل في الموضع الذي يقوم الدليل على استعماله فيه أو فيما لا يشتبه معناه على السامع* وقوله عز وجل (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فيه وجهان أحدهما أنه لما كانت الأمور كلها قبل أن يملك العباد شيئا منها له خاصة ثم ملكهم كثيرا من الأمور ثم تكون الأمور كلها في الآخرة إليه دون خلقه جاز أن يقول ترجع إليه الأمور والمعنى الآخر أن يكون بمعنى قوله (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) يعنى أنه لا يملكها غيره لا على أنها لم تكن إليه ثم صارت إليه لكن على أنه لا يملكها أحد سواه كما قال لبيد :

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

وإنما عنى على أنه يصير رمادا لا على أنه كان رمادا مرة ثم رجع إلى ما كان قوله تعالى (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) الآية قيل فيه أنهم كانوا أمة واحدة على الكفر وإن كانوا مختلفين في مذاهبهم وجائز أن يكون فيهم مسلمون إلا أنهم قليلون في نفسهم وجائز إذا كان كذلك إطلاق اسم الأمة على الجماعة لانصرافه إلى الأعم الأكثر وقال قتادة والضحاك كانوا أمة واحدة على الحق فاختلفوا وقوله (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) فإن عبد الله بن طاوس يروى عن أبيه عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أن كل أمة أوتوا الكتاب قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له ولليهود غدو للنصارى بعد غد) وروى الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوه إلا أنه قال هدانا الله له يوم الجمعة لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى ففي هذا الحديث أن المراد بقوله (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) هو يوم الجمعة وعموم اللفظ يقتضى سائر الحق الذي هدى له المؤمنون ويكون يوم الجمعة أحدها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

٣٩٨

باب من يبدأ به في النفقة عليه

قال الله تعالى (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) الآية فالسؤال واقع عن مقدار ما ينفق والجواب صدر عن القليل والكثير مع بيان من تصرف إليه النفقة فقال تعالى (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) فذاك يتناول القليل والكثير لشمول اسم الخير لجميع الإنفاق الذي يطلب به وجه الله وبين فيمن تصرف إليه بقوله (فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) ومن ذكر في الآية وأن هؤلاء أولى من غيرهم ممن ليس هو في منزلتهم بالقرب والفقر وقد بين في آية أخرى ما يجب عليه فيه النفقة وهو قوله (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) فروى عن ابن عباس قال ما يفضل عن أهلك وقال قتادة العفو الفضل فأخبر في هذه الآية أن النفقة فيما يفضل عن نفسه وأهله وعياله وعلى هذا المعنى قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وفي خبر آخر ـ خير الصدقة ما أبقت غنى وابدأ بمن تعول) فهذا موافق لقوله (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبار في التبدئة بالأقرب فالأقرب في النفقة فمنها حديث ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول أمك وأبوك وأختك وأخوك وأدناك فأدناك وروى مثله ثعلبة بن زهدم وطارق عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد دل ذلك على معنى الآية في قوله (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) وإنما المراد بها تقديم الأقرب فالأقرب في الإنفاق وروى عن الحسن البصري أن الآية في الزكاة والتطوع جميعا وأنها ثابتة الحكم غير منسوخة عليه وقال السدى هي منسوخة بفرض الزكاة* قال أبو بكر هي ثابتة الحكم عامة في الفرض والتطوع أما الفرض فلم يرد به الوالدين ولا الولد وإن سلفوا لقيام الدلالة عليه وأما التطوع فهي عامة في الجميع ومتى أمكننا استعمالهما مع فرض الزكاة فغير جائز الحكم بنسخها وكذلك حكم سائر الآيات متى أمكن الجمع بين جميعها في أحكامها من غير إثبات نسخ لها لم يجز لنا الحكم بنسخ شيء منها وليس يمتنع أن يكون المراد به النفقة على الوالدين والأقربين إذا كانوا محتاجين وذلك إذا كان الرجل غنيا لأن قوله تعالى (قُلِ الْعَفْوَ) قد دل على أن النفقة إنما تجب عليه فيما يفضل فإذا كان هو وعياله محتاجين لا يفضل عنهم شيء فليس عليه نفقة* وقد دلت الآية على معان منها أن القليل والكثير من النفقة يستحق به الثواب على الله تعالى إذا أراد بها وجه الله وينتظم

٣٩٩

ذلك الصدقات من النوافل والفروض ومنها أن الأقرب فالأقرب أولى بذلك بقوله (فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) مع بيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمراد الله بقوله ابدأ بمن تعول أمك وأباك وأختك وأخاك وأدناك فأدناك وفيه الدلالة على وجوب نفقة الوالدين والأقربين عليه فإن قيل فينبغي أن يلزمه نفقة المساكين وابن السبيل وجميع من ذكر في الآية قيل له قد اقتضى ظاهرها ذلك وخصصنا بعضها من النفقة التي تستحقها الأقارب بدلالة وهم داخلون في الزكاة والتطوع* وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا سفيان عن مزاحم بن زفر عن مجاهد عن أبى هريرة قال دينار أعطيته في سبيل الله ودينار أعطيته مسكينا ودينار أعطيته في رقبة ودينار أنفقته على أهلك فإن الدينار الذي أنفقته على أهلك أعظمها أجرا وقد روى ذلك مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثنا عبد الباقي قال حدثنا محمد بن يحيى المروزى قال حدثنا عاصم بن على قال حدثنا المسعودي عن مزاحم بن زفر عن مجاهد عن أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوه وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا شعبة عن عدى بن ثابت عن عبد الله ابن زيد عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إن المسلم إذا أنفق نفقة على أهله كانت له صدقة فهذه الآثار موافقة لمعنى قوله (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) وقد اختلف في المراد به فقال ابن عباس وقتادة الفضل عن الغنى قال الحسن وعطاء الوسط من غير إسراف وقال مجاهد أراد به الصدقة المفروضة* قال أبو بكر إذا كان العفو ما فضل فجائز أن يريد به الزكاة المفروضة في أنها لا تجب إلا فيما فضل عن مقدار الحاجة وحصل به الغنى وكذلك سائر الصدقات الواجبة ويجوز أن يريد به صدقة التطوع فيتضمن ذلك الأمر بالإنفاق على نفسه وعياله والأقرب فالأقرب منه ثم بعد ذلك ما يفضل يصرفه إلى الأجانب ويحتج به في أن صدقة الفطر وسائر الصدقات لا تجب على الفقير إذ كان الله تعالى إنما أمرنا بالإنفاق من العفو والفاضل عن الغنى.

قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) هذا يدل على فرض القتال لأن قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) بمعنى فرض عليكم كقوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) ثم لا يخلو القتال المذكور في الآية من أن يرجع إلى معهود قد عرفه المخاطبون أو لم يرجع إلى معهود لأن الألف واللام تدخلان للجنس أو للمعهود فإن كان المراد قتالا قد عرفوه رجع الكلام

٤٠٠