أحكام القرآن - ج ١

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٤

(إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وليس أهل مكة منهم لأنهم كانوا قد أسلموا حين فتحت فإنما نزلت الآية بعد الفتح في حجة أبى بكر وهم بنو مدلج وبنو الدئل وكانت منازلهم خارج مكة في الحرم وما قرب منه* فإن قيل كيف يكون أهل ذي الحليفة من حاضري المسجد الحرام وبينهم وبينها مسيرة عشر ليال قيل له أنهم وإن لم يكونوا من حاضري المسجد الحرام فهم في حكمهم في باب جواز دخولهم مكة بغير إحرام وفي باب أنهم متى أرادوا الإحرام أحرموا من منازلهم كما أن أهل مكة إذا أرادوا الإحرام أحرموا من منازلهم فيدل ذلك على أن المعنى حاضروا المسجد الحرام ومن في حكمهم وقال الله عز وجل في شأن البدن (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (منى منحر وفجاج مكة منحر) فكان مراد الله بذكر البيت ما قرب من مكة وإن كان خارجا منها وقال تعالى (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) وهي مكة وما قرب منها فهاتان المتعتان قد بينا حكمهما وهما القران والتمتع* وأما المتعة الثالثة فإنها على قول عبد الله بن الزبير وعروة بن الزبير أن يحصر الحاج المفرد بمرض أو أمر يحبسه فيقدم فيجعلها عمرة ويتمتع بحجة إلى العام المقبل ويحج فهذا المتمتع بالعمرة إلى الحج فكان من مذهبه أن المحصر لا يحل ولكنه يبقى على إحرامه حتى يذبح عنه الهدى يوم النحر يوم يحلق ويبقى على إحرامه حتى يقدم مكة فيتحلل من حجة بعمل عمرة وهذا خلاف قول الله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ثم قال (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ولم يفرق بين الحج والعمرة فيما أباح من الإحلال بالحلق ولا خلاف أن هذا الحلق للإحلال من العمرة فكذلك الحج والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حين أحصروا بالحديبية حلق هو وحل وأمرهم بالإحلال ومع ذلك فإن عمل العمرة الذي يلزم بالفوات ليس بعمرة وإنما هو عمل عمرة مفعول بإحرام الحج والله سبحانه إنما قال (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) وليس الذي يفوته الحج بالمعتمر وأيضا فإنه قال (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) وهو إنما أوجب عليه الهدى ليصل به إلى الحلق يوم النحر سواء حج بعد ذلك أو لم يحج ألا ترى أنه لو لم يحج إلا بعد عشر سنين لكان الهدى قائما فدل ذلك على أن المتمتع المذكور في الآية ليس هو ما ذهب إليه ابن الزبير لأن ما في الآية من ذلك إنما يتعلق الهدى فيه بفعل العمرة والحج والدم الذي يلزمه

٣٦١

بالإحصار غير متعلق بوجود الحج بعد العمرة وهذه المتعة هي الإحلال إلى النساء إلا على الوجه الذي ذكرناه من الجمع بين العمرة والحج في أشهر الحج* وأما المتعة الرابعة فهي فسح الحاج إذا طاف له قبل يوم النحر وما نعلم أحدا من الصحابة قال بذلك غير ابن عباس فإنه حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج قال أخبرنى عطاء عن ابن عباس قال لا يطوف بالبيت أحد إلا أحل قال قلت إنما هذا بعد المعروف قال كان ابن عباس يراه قبل وبعد قال قلت من أين كان يأخذ هذا فقال من أمررسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع أمرهم أن يحلوا ومن قول الله (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) قال أبو عبيد وحدثنا حجاج عن شعبة عن قتادة قال سمعت أبا حسان الأعرج يقول قال رجل لابن عباس ما هذه الفتيا التي قد شعبت الناس يعنى فرقت بينهم في الفتيا أنه من طاف فقد حل فقال سنة نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن رغمتم قال أبو بكر وقد وردت آثار متواترة في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه في حجة الوداع بفسخ الحج ولم يكن معه منهم هدى ولم يحل هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال إنى سقت الهدى ولا أحل إلى يوم النحر ثم أمرهم فأحرموا بالحج يوم التروية حين أرادوا الخروج إلى منى وهي إحدى المتعتين اللتين قال عمر بن الخطاب متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما متعة الحج ومتعة النساء وقال طارق بن شهاب عن أبى موسى في قصة نهى عمر بن الخطاب عن هذه المتعة قال فقلت يا أمير المؤمنين ما هذا الذي أحدثت في شأن النساء فقال أن نأخذ بكتاب الله فإن الله يقول (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وأن نأخذ بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما حل حتى نحر الهدى فأخبر عمر أن هذه المتعة منسوخة بقوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وهذا من قوله يدل على جواز نسخ السنة بالقرآن وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ذلك كان خاصا لأولئك حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا نعيم عن عبد العزيز بن محمد عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن عن الحرث بن بلال بن الحرث عن أبيه بلال ابن الحرث المزني قال قلت يا رسول الله فسخ الحج لنا أو لمن بعدنا قال لا بل لنا خاصة وقال أبو ذر لم يكن فسخ الحج بعمرة إلا لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وروى عن على وعثمان وجماعة من الصحابة إنكار فسخ الحج بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي قول عمر متعتان كانتا على عهد

٣٦٢

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلم الصحابة بها ما يوجب أن يكونوا قد علموا من نسخها مثل علمه لو لا ذلك ما أقروه على النهى عن سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلم الصحابة من غير ثبوت النسخ وقد روى عن جابر من طرق صحيحة أن سراقة بن مالك قال يا رسول الله أعمرتنا هذه لعامنا أم للأبد فقال هي لأبد الأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة فأخبر في هذا الحديث أن العمرة التي فسخوا بها الحج كانت خاصة في تلك الحال وأن مثلها لا يكون وأما قوله دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة فإنه مما حدثنا به جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أبو عبيد وقوله دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة يفسر تفسيرين أحدهما أن يكون دخول العمرة في الحج هو الفسخ بعينه وذلك أنه يهل الرجل بالحج ثم يحل منه بعمرة إذا طاف بالبيت والآخر أن يكون دخول العمرة في الحج هو المتعة نفسه وذلك أن يفرد الرجل العمرة في أشهر الحج ثم يحل منها بحج من عامه* قال أبو بكر وكلا الوجهين ملبس غير لائق باللفظ والذي يقتضيه ظاهره أن الحج نائب عن العمرة والعمرة داخلة فيه فمن فعل الحج فقد كفاه عن العمرة كما تقول الواحد داخل في العشرة يعنى أن العشرة مغنية عنه وموفية عليه فلا يحتاج إلى استئناف حكمه ولا ذكره وقد قيل في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه بالإحلال معنى آخر وهو ما رواه عمر بن ذر عن مجاهد في قصة إحلال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال في آخره قلت لمجاهد أكانوا فرضوا الحج وأمرهم أن يهلوا أو ينتظرون ما يؤمرون به وقال أهلوا بإهلال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانتظروا ما يؤمرون به وكذلك قال كل واحد من على وأبى موسى أهللت بإهلال كإهلال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذلك كان إحرام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بديا ويدل عليه قوله لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما سقت الهدى ولجعلتها عمرة فكأنه خرج ينتظر ما يؤمر به وبه أمر أصحابه ويدل عليه قوله أتانى آت من ربي في هذا الوادي المبارك وهو وادي العقيق فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل حجة في عمرة فهذا يدل على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج ينتظر ما يؤمر به فلما بلغ الوادي أمر بحجة في عمرة ثم أهل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحج وظنوا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحرم بذلك فجاز لهم مثله فلما أحرم منهم من أحرم بالحج لم يكن إحرامه صحيحا وكان موقوفا كما كان إحرام على وأبى موسى موقوفا ونزل الوحى وأمروا بالمتعة بأن يطوفوا بالبيت ويحلوا ويعملوا عمل

٣٦٣

العمرة ويحرموا بالحج كما يؤمر من يحرم بشيء لا يسميه لأنه يجعله عمرة إن شاء وإن لم تكن تسميتهم الحج تسمية صحيحة إذ كانوا مأمورين بانتظار أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان وجه الخصوص لأولئك الصحابة أنهم أحرموا بالحج ولم يصح تعيينهم له فكانوا بمنزلة من أحرم بشيء لا ينويه بعينه إذ كانوا مأمورين بانتظار أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيرهم من سائر الناس من أحرم بشيء بعينه لزمه حكمه وليس له صرفه إلى غيره* وقد أنكر قوم أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بفسخ الحج على حال واحتجوا بما روى زيد بن هارون قال حدثنا محمد بن عمر عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنواعا فمنا من أهل بحج مفردا ومنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة فمن أهل بالحج مفردا لم يحل مما أحرم عليه حتى يقضى مناسك الحج ومن أهل بعمرة فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وحل من حرمه حتى يستقبل حجا وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثني أبو عبيد قال حدثني عبد الرحمن ابن مهدى عن مالك بن أنس عن أبى الأسود عن عروة عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمنا من أهل بالحج ومنا من أهل بالحج والعمرة ومنا من أهل بالعمرة قالت وأهل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحج فأما من أهل بالعمرة فطاف بالبيت وسعى وحل وأما من أهل بالحج أو بالحج والعمرة فلم يحل إلى يوم النحر وقال حدثنا أبو عبيد قال حدثني عبد الرحمن عن مالك عن أبى الأسود عن سليمان بن يسار مثل ذلك إلا أنه لم يذكر إهلال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم* وقد روى عن عائشة خلاف ذلك حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا يزيد عن يحيى بن سعيد أن عمرة بنت عبد الرحمن أخبرته أنها سمعت عائشة تقول خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لخمس بقين من ذي القعدة ونحن لا نرى إلا الحج فلما قربنا أو دنونا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من لم يكن معه هدى أن يجعلها عمرة قالت فأحل الناس كلهم إلا من كان معه هدى قال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا ابن صالح عن الليث عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ذلك وزاد فيه قال يحيى فذكرت ذلك للقاسم بن محمد فقال جاءتك بالحديث على وجهه وهذا هو الصحيح لما ورد فيه من الآثار المتواترة في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه بفسخ الحج وقول عمر بحضرة الصحابة متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما

٣٦٤

متعة النساء ومتعة الحج وهو يعنى هذه المتعة فلم يظهر من أحد منهم إنكاره ولا الخلاف عليه* ولو تعارضت أخبار عائشة لكان سبيلها أن تسقط كأنه لم يرو عنها شيء وتبقى الأخبار الأخر في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه بفسخ الحج من غير معارض ويكون منسوخا بقوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) على ما روى عن عمر رضى الله عنه* وقوله (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) قال أبو بكر الهدى المذكور هاهنا مثل الهدى المذكور للإحصار وقد بينا أن أدناه شاة وأن من شاء جعله بقرة أو بعيرا فيكون أفضل وهذا الهدى لا يجزى إلا يوم النحر لقوله تعالى (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) وقضاء التفث وطواف الزيارة لا يكون قبل يوم النحر ولما رتب هذه الأفعال على ذبح هذه البدن دل على أنها بدن القران والتمتع لاتفاق الجميع على أن سائر الهدايا لا تترتب عليها هذه الأفعال وأن له أن ينحرها متى شاء فثبت بذلك أن هدى المتعة غير مجزى قبل يوم النحر ويدل عليه أيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما سقت الهدى ولجعلتها عمرة وقد كان عليه السلام قارنا وقد ساق الهدى وأخبر أنه لو استقبل من أمره ما استدبر ما ساق الهدى ولو جاز ذبح هدى المتعة قبل يوم النحر لذبحه وحل كما أمر أصحابه وكان لا يكون مستدركا في المستدبر شيئا قد فاته وقال لعلى حين قال أهللت بإهلال كإهلال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنى سقت الهدى وإنى لا أحل إلى يوم النحر ويدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خذوا عنى مناسككم وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحر بدنه يوم النحر فلزم اتباعه ولم يجز تقديمه على وقته والله سبحانه والله أعلم.

باب صوم التمتع

قال الله تعالى (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) قال أبو بكر قد اختلف في معنى قوله (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) فروى عن على أنه قبل يوم التروية بيوم ويوم التروية ويوم عرفة وقالت عائشة وابن عمر من حين أهل الحج إلى يوم عرفة قال ابن عمر ولا يصومهن حتى يحرم قال عطاء يصومهن في العشر حلالا إن شاء وهو قول طاوس وقالا لا يصومهن قبل أن يعتمر قال عطاء وإنما يؤخرهن إلى العشر لأنه لا يدرى عسى يتيسر له الهدى* قال أبو بكر هذا يدل على أن ذلك عندهما على جهة الاستحباب لا على جهة الإيجاب فيكون بمنزلة استحبابنا لمن لا يجد الماء تأخير التيمم

٣٦٥

إلى آخر الوقت إذا رجا وجود الماء وقول على وعطاء وطاوس يدل على جواز صومهن في العشر حلالا أو حراما لأنهم لم يفرقوا بين ذلك وأصحابنا يجيزون صومهن بعد إحرامه بالعمرة ولا يجيزونه قبل ذلك وذلك لأن الإحرام بالعمرة هو سبب التمتع قال الله (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) فمتى وجد السبب جاز تقديمه على وقت الوجوب كتعجيل الزكاة لوجود النصاب وتعجيل كفارة القتل لوجود الجراحة ويدل على جواز تقديمه قبل وقت وجوبه لوجود سببه إنا قد علمنا أن وجوب الهدى متعلق بوجوب تمام الحج وذلك إنما يكون بالوقوف بعرفة لأن قبل ذلك يجوز ورود الفساد عليه فلا يكون الهدى واجبا عليه وإذا كان كذلك وقد جاز عند الجميع صوم ثلاثة أيام بعد الإحرام بالحج وإن لم يكن الإحرام به موجبا له إذ كان وجوبه متعلقا بتمام الحج والعمرة جميعا ثبت جوازه بعد وجود سببه وهو العمرة ولا فرق بين إحرام الحج وإحرام العمرة إذا فعله بعد إحرام الحج إنما هو لأجل وجود سببه وذلك موجود بعد إحرام العمرة فإن قيل لو كان ما ذكرت سببا للجواز لوجب أن يجوز السبعة أيضا لوجود السبب قيل له لو لزمنا ذلك على قولنا في جوازه بعد إحرام العمرة للزمك مثله في إجازتك له بعد إحرام الحج لأنك تجيز صوم الثلاثة الأيام بعد إحرام الحج ولا تجيز السبعة* فإن قيل فإذا كان* الصيام بدلا من الهدى والهدى لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر فكيف جاز الصوم* قيل له لا خلاف في جواز الصوم قبل يوم النحر وقد ثبت بالسنة امتناع جواز ذبح الهدى قبل يوم النحر وأحدهما ثابت بالاتفاق وبدليل قوله (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) والآخر ثابت بالسنة فالاعتراض عليهما بالنظر ساقط وأيضا فإن الصوم يقع مراعى منتظر به شيئان أحدهما إتمام العمرة والحج في أشهر الحج والثاني أن لا يجد الهدى حتى يحل فإذا وجد المعنيان صح الصوم عن المتعة وإذا عدم أحدهما بطل أن يكون صوم المتعة وصار تطوعا وأما الهدى فقد رتب عليه أفعال أخر من حلق وقضاء التفث وطواف الزيارة فلذلك اختص بيوم النحر فإن قيل قال الله (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) فلا يجوز تقديمه على الحج* قيل له لا يخلو قوله (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) من أحد معان إما أن يريد به في الأفعال التي هي عمدة للحج وما سماه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجا وهو الوقوف بعرفة لأنه قال الحج عرفة أو أن يريد في إحرام الحج أو في أشهر الحج لأن الله تعالى قال (الْحَجُّ أَشْهُرٌ

٣٦٦

مَعْلُوماتٌ) وغير جائز أن يكون المراد فعل الحج الذي لا يصح إلا به لأن ذلك إنما هو يوم عرفة بعد الزوال ويستحيل صوم الثلاثة الأيام فيه ومع ذلك فلا خلاف في جوازه قبل يوم عرفة فبطل هذا الوجه وبقي من وجوه الاحتمال في إحرام الحج أو في أشهر الحج وظاهره يقتضى جواز فعله بوجود أيهما كان لمطابقته اللفظ في الآية وأيضا قوله (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) معلوم أن جوازه معلق بوجود سببه لا بوجوبه فإذا كان هذا المعنى موجودا عند إحرامه بالعمرة وجب أن يجزى ولا يكون ذلك خلاف الآية كما أن قوله (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) لا يمنع جواز تقديمها على القتل لوجود الجراحة وكذلك قوله لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول لم يمنع جواز تعجيلها لوجود سببها وهو النصاب فكذلك قوله (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) غير مانع جواز تعجيله لأجل وجود سببه الذي به جاز فعله في الحج* فإن قيل لم نجد بدلا يجوز تقديمه على وقت المبدل عنه ولما* كان الصوم بدلا من الهدى لم يجز تقديمه عليه* قيل له هذا اعتراض على الآية لأن نص التنزيل قد أجاز ذلك في الحج قبل يوم النحر وأيضا فإنا لم نجد ذلك فيما تقدم البدل كله على وقت المبدل عنه وها هنا إنما جاز تقديم بعض الصيام على وقت الهدى وهو صوم الثلاثة الأيام والسبعة التي معها غير جائز تقديمها عليه لأنه تعالى قال (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) فإنما أجيز له من ذلك مقدار ما يحل به يوم النحر إذا لم يجد الهدى وأيضا فإن الصوم لما كان بدلا من الهدى وهدى العمرة يصح إيجابه بعد إحرام العمرة ويتعلق به حكم التمتع في باب المنع من الإحلال إلى أن يذبحه فكذلك يجوز الصيام بدلا منه من حيث صح هديا للمتعة ويدل أيضا على صحة كونه عن المتعة أنه متى بعث بهدى المتعة ثم خرج يريد الإحرام أنه يصير محرما قبل أن يلحقه فدل ذلك على صحة هدى المتعة بالسوق فكذلك يصح الصوم بدلا منه إذا لم يجد* فإن قيل فقد يصح هديا قبل أن يحرم بالعمرة ولا* يجوز الصوم في تلك الحال* قيل له قبل إحرام المتعة لم يتعلق به حكم المتعة والدليل على ذلك أنه لا تأثير له في هذه الحال في حكم الإحرام ووجوده وعدمه سواء فلم يصح الصوم معه قبل إحرام العمرة فإذا أحرم بعمرة ثبت لها حكم الهدى في منعه الإحلال فلذلك جاز الصوم في تلك الحال كما صح هديا للمتعة ويدل على جواز تقديم الصوم على إحرام الحج أن سنة المتمتع أن يحرم بالحج يوم التروية وبذلك أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه

٣٦٧

حين أحلوا من إحرامهم بعمرة ولا يكون إلا وقد تقدم الصوم قبل ذلك.

باب المتمتع إذ لم يصم قبل يوم النحر

قال الله تعالى (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) واختلف السلف فيمن لم يجد الهدى ولم يصم الأيام الثلاثة قبل يوم النحر فقال عمر بن الخطاب وابن عباس وسعيد ابن جبير وإبراهيم وطاوس لا يجزيه إلا الهدى وهو قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد وقال ابن عمر وعائشة يصوم أيام منى وهو قول مالك وقال على بن أبى طالب يصوم بعد أيام التشريق وهو قول الشافعى* قال أبو بكر قد ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النهى عن صوم يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق في أخبار متواترة مستفيضة واتفق الفقهاء على استعمالهما وأنه غير جائز لأحد أن يصوم هذه الأيام عن غير صوم المتعة لا من فرض ولا من نفل فلم يجز صومها عن المتعة لعموم النهى عن الجميع ولما اتفقوا على أنه لا يجوز أن يصوم يوم النحر وهو من أيام الحج للنهى الوارد فيه كذلك لا يجوز الصوم أيام منى ولما لم يجز أن يصومهن عن قضاء رمضان لقوله (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وكان الحظر المذكور في هذه الأخبار قاضيا على إطلاق الآية موجبا لتخصيص القضاء في غيرها وجب أن يكون ذلك حكم صوم التمتع وأن يكون قوله تعالى (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) في غير هذه الأيام* قال أبو بكر وأيضا لما قال (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) ولم يكن* صوم هذه الأيام في الحج لأن الحج فائت في هذا الوقت لم يجز أن يصومها* فإن قيل* لما قال (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) وهذه من أيام الحج وجب أن يجوز صومهن فيها* قيل له لا يجب ذلك من وجوه أحدها أن نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صوم هذه الأيام قاض عليه ومخصص له كما خص قوله تعالى (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) نهيه عن صيام هذه الأيام والثاني أنه لو كان جائز إلا أنه من أيام الحج لوجب أن يكون صوم يوم النحر أجوز لأنه أخص بأفعال الحج من هذه الأيام والثالث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خص يوم عرفة بالحج بقوله الحج عرفة فقوله (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) يقتضى أن يكون آخرها يوم عرفة والرابع أنه روى أن يوم الحج الأكبر يوم عرفة وروى أنه يوم النحر وقد اتفقوا أنه لا يصوم يوم النحر مع أنه يوم الحج فما لم يسم يوم الحج من الأيام المنهي عن صومها أحرى أن لا يصوم فيها وأيضا فإن الذي يبقى بعد يوم النحر إنما هو من توابع الحج

٣٦٨

وهو رمى الجمار فلا اعتبار به في ذلك فليس هو إذا من أيام الحج فلا يكون صومها صوما في الحج وأما القول في صومها بعد أيام منى فإن أصحابنا لم يجيزوه لقوله تعالى (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) فجعل أصل الفرض هو الهدى ونقله إلى صوم مقيد بصفة وقد فات فوجب أن يكون الواجب هو الهدى كقوله (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) وقوله (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) فغير جائز وقوعها عن الكفارة إلا على الصفة المشروطة فإن قيل أكثر ما فيه إيجاب فعله في وقت فلا يسقطه فواته كقوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ـ وـ حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) وقوله (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) وما جرى مجرى ذلك من الفروض المخصوصة بأوقاتها ثم لم يكن فواتها مسقطا لها فالجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن كل فرض مخصوص بوقت فإن فوات الوقت يسقطه وإنما يحتاج إلى دلالة أخرى في إيجاب فرض آخر لأن المفروض في هذا الوقت الثاني هو غير المفروض في الوقت الأول ولو لا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) لما وجب قضاء الصلاة إذا فاتت عن أوقاتها وكذلك لو لا قوله (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) لما وجب قضاء صوم رمضان بعد فواته عن وقته ولما كان صوم الثلاثة الأيام مخصوصا بوقت ومعقودا بصفة وهو فعله في الحج ثم لم يفعله على الصفة المشروطة وفي الوقت المخصوص به لم يجز إيجاب قضائه وإقامة غيره مقامه إلا بتوقيف والثاني أن صوم الثلاثة الأيام جعل بدلا من الهدى عند عدمه بهذه الشريطة فغير جائز إثباته بدلا إلا على هذا الوصف ألا ترى أن التيمم لما كان بدلا عن الماء لم يجز لنا أن نقيم غير التراب مقام التراب عند عدمه مثل الدقيق والأشنان ونحوهما كذلك لما جعل الصوم بدلا عن الهدى على أن يفعله على صفة لا يجوز أن نقيم مقامه صوما غيره على غير تلك الصفة وليس كذلك حكم الصلوات الفوائت لأنا لم نقم القضاء بدلا منها عند عدمها وإنما هي فروض ألزمها عند الفوات فإن قيل شرط الله تعالى صوم الظهار قبل المسيس فإن مسها لم ينتقل إلى العتق كذلك صوم هذه الأيام وإن كان مشروطا في الحج فإن فواته فيه لا يسقط ولا يوجب الرجوع إلى الهدى* قيل له من قبل أن صوم الظهار مشروط قبل المسيس والنهى عن المسيس قائم قبله وبعده فالصفة التي علق بها فعل البدل موجودة فلذلك جاز والحج الذي علق به جواز البدل الذي هو الصوم غير موجود

٣٦٩

لأن الحج قد فات ففات فعل الصوم بفواته وأيضا فإن ظاهره يقتضى سقوطه بوجوده قبل المسيس ولو لا قيام الدلالة من غير الآية على جوازه لما أجزناه ومن الناس من لا يوجب كفارة الظهار بعد المسيس وأظنه مذهب طاوس ولكنه قد ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى المظاهر عن الجماع بعد المسيس حتى يكفر والله أعلم.

باب ذكر اختلاف الفقهاء فيمن دخل في صوم المتعة ثم وجد الهدى

قال أصحابنا إذا وجد الهدى بعد دخوله في الصوم أو بعد ما صام قبل أن يحل فعليه الهدى ولا يجزيه غيره وهو قول إبراهيم النخعي وقال مالك والشافعى إذا دخل في الصوم ثم وجد الهدى أجزأه الصوم وليس عليه هدى وروى مثله عن الحسن والشعبي وقال عطاء إذا صام يوما ثم أيسر فعليه الهدى وإن صام ثلاثة أيام ثم أيسر فليس عليه هدى وليصم السبعة والدليل على صحة القول الأول قوله تعالى (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) ففرض الهدى قائم عليه ما لم يحل أو يمضى أيام النحر التي هي مسنونة للحلق فمتى وجده فعليه أن يهدى وبطل صومه ومعلوم أن الهدى مشروط للإحلال لأنه لا يجوز أن يحل قبل ذبح الهدى لقوله تعالى (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) فمتى لم يحل حتى وجد الهدى فعليه الهدى لأن الله تعالى لم يفرق في إيجابه الهدى بين حاله قبل دخوله في الصوم وبعده ويدل على أن الهدى مشروط للإحلال قوله تعالى (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) فأمرهم بقضاء التفث بعد ذبح الهدى فإذا كان كذلك وجب أن يراعى وقوع الإحلال فإن صام رجل ثم وجد الهدى لم ينتقض صومه ولم يلزمه الهدى لوجود المعنى الذي من أجله شرط الهدى ثم نقل عند عدمه إلى البدل وهو بمنزلة المتيمم إذا وجد الماء بعد فراغه من الصلاة والعاري إذا وجد ثوبا والمظاهر إذا فرغ من الصوم ثم وجد الرقبة لأن الفرض قد سقط عنه فلا ينتقض حكم المفعول منه وأما قبل الفراغ من هذه الأشياء التي ذكرنا فإن حكم البدل مراعى فإن تم وفرغ منه فقد وقع موقع البدل وأجزى عن أصل الفرض وإن وجد الأصل قبل الفراغ مما شرط له انتقض حكمه وعاد إلى أصل فرضه ألا ترى أن دخوله في الصلاة مراعى ومنتظر بها آخرها لأن ما يفسد آخرها يفسد أولها فوجب أن يكون حكم التيمم بعد دخوله في الصلاة

٣٧٠

منتظرا مراعى وكذلك صوم الظهار إذا دخل فيه فهو مراعى منتظر ألا ترى أنه لو أفطر فيه يوما انتقض كله وعاد إلى أصل فرضه كذلك إذا وجد الرقبة وهو في الصوم وجب أن ينتقض صومه عن الظهار ويعود إلى أصل فرضه كما لو تيمم ولم يدخل في الصلاة حتى وجد الماء انتقض تيممه لأنه وقع مراعى على شريطة أن لا يجد الماء حتى يقضى به الفرض وزعم بعض المخالفين أنه إذا ابتدأ بصوم الظهار فقد سقط عنه فرض الرقبة لصحة الجزء المفعول وكذلك الداخل في الصلاة بالتيمم فقد سقط عنه فرض الطهارة بالماء لهذه الصلاة وكذلك إذا دخل في صوم التمتع فقد سقط عنه فرض الهدى لأن الجزء المفعول منه قد صح وفي الحكم بصحة ذلك إسقاط فرض الأصل قال وليس كذلك المتيمم إذا وجد الماء قبل دخوله في الصلاة لأن التيمم غير مفروض في نفسه وإنما هو مفروض لأجل الصلاة وهو مراعى فمتى وجد الماء قبل دخوله في الصلاة بطل تيممه والذي في عروض التيمم بعد الدخول دخوله في الصوم وهذا الذي قاله شديد الإختلاف ظاهر الفساد لأن الفرض لم يسقط بدخوله في صوم المتعة ولا في صوم الظهار ولا في الصلاة بل دخوله مراعى موقوف الحكم على آخره والدليل عليه أنه متى أفسد باقى الصلاة فسد ما قبله وكذلك إذا فسد باقى صوم الظهار فسد ما تقدم منه وكذلك لو دخل في صوم المتعة ثم أفسده في أول يوم منه فسد فإن كان واجدا للهدى لم يجزه الصوم بالاتفاق فقوله لما حكمنا بصحة الجزء المفعول من البدل سقط عنه فرض الأصل خطأ لأن الحكم لم يقع بصحته وإنما حكمه أن يكون منتظرا به آخره فإن تم مع عدل فرض الأصل ثبت حكمه وإن وجد الأصل قبل تمامه بطل حكمه وعاد إلى أصل فرضه ومن حيث حكم للمتيمم بحكم الانتظار إلى أن يدخل في الصلاة وجب أن يكون حكمه بعد الدخول في الصلاة لأن الصلاة المفعولة به منتظر بها الفراغ منها فوجب أن لا يختلف حكمه في وجود الماء قبل دخوله في الصلاة وبعده وكذلك سائر ما ذكرنا من صوم التمتع وصوم الظهار ونحوه وقالوا جميعا في الصغيرة المدخول بها إذا فارقها زوجها أن عدتها الشهور وأنه لا يختلف حكمها عند عدم الحيض في وجوده قبل الطلاق أو بعده بعد وجوب الشهور في انتقالها إلى الحيض وكذلك قالوا في الماسح على الخفين إذا خرج وقت مسحه وهو في الصلاة أو قبلها وتساوى حكم الحالين من الابتداء والبقاء في منع الصلاة ولزوم غسل الرجلين

٣٧١

وكذلك قال الشافعى في المستحاضة إذا زالت استحاضتها وهي في الصلاة أو قبل دخولها فيها في استواء حكم الحالين في باب المنع منها إلا بعد تجديد الطهارة لها وذكر بعض أصحاب مالك أن المرأة إذا طلقها زوجها طلاقا رجعيا ثم مات عنها كانت عليها عدة الوفاة لأنها كانت في حكم الزوجات عند الموت قال فلو أن رجلا كانت تحته أمة وطلقها كانت عليها عدة الأمة فإن عتقت وهي في العدة لم تنتقل عدتها إلى عدة الحرة وإن كان زوجها يملك رجعتها قال لأنه لم يحدث هناك شيء يجب به عدة كما حدث الموت في المسألة التي قبلها وهو موجب للعدة ويلزمه على هذا أن لا تنتقل عدة الصغيرة إذا حاضت لأنه لم يحدث ما يوجب العدة وهو وجود الحيض كما لا يجب بالعتق كما اقتضاه اعتلاله قوله تعالى (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) روى عن عطاء قال إن شاء صامهن بمكة وإن شاء إذا رجع إلى أهله وروى الحسن قال إن شاء صام في الطريق وإن شاء إذا رجع إلى أهله وكذلك قال مجاهد وسعيد بن جبير وقال بن عمر والشعبي يصومهن إذا رجع إلى أهله وقوله تعالى (إِذا رَجَعْتُمْ) محتمل للرجوع من منى وللرجوع إلى أهله فهو على أول الرجوعين وهو الرجوع من منى ويدل عليه أن الله حظر صيام أيام التشريق وأباح السبعة بعد الرجوع فالأولى أن يكون المراد الوقت الذي أباح فيه الصوم بعد حظره وهو انقضاء أيام التشريق* قوله تعالى (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) قال أبو بكر قد قيل فيه وجوه منها أنها كاملة في قيامها مقام الهدى فيما يستحق من الثواب وذلك لأن الثلاثة قد قامت مقام الهدى في باب جواز الإحلال بها يوم النحر قبل صيام السبعة فكان جائزا أن يظن ظان أن الثلاثة قد قامت مقام الهدى في باب استكمال الثواب فأعلمنا الله أن العشرة بكمالها هي القائمة مقامه في استحقاق ثوابه وأن الحكم قد تعلق بالثلاثة في جواز الإحلال بها وفي ذلك أعظم الفوائد في الحث على فعل السبعة والأمر بتعجيلها بعد الرجوع لاستكمال ثواب الهدى وقيل فيه أنه أزال احتمال التخيير وأن تكون الواو فيه بمعنى أو إذ كانت الواو قد تكون في معنى أو في بعض المواضع فأزال هذا الاحتمال بقوله (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) وقيل المعنى تأكيده في نفس المخاطب والدلالة على انقطاع التفصيل في العدد كما قال الشاعر (١) :

ثلاث واثنتين فهن خمس

وسادسة تميل إلى شمام (٢)

__________________

(١) قوله (قال الشاعر) وهو الفرزدق.

(٢) قوله (إلى شمام) هكذا في ديوانه وهو الصحيح. فليراجع «لمحصصه».

٣٧٢

وجعل الشافعى هذا أحد أقسام البيان وذكر أنه من البيان الأول ولم يجعل أحد من أهل العلم ذلك من أقسام البيان لأن قوله ثلاثة وسبعة غير مفتقر إلى البيان ولا إشكال على أحد فيه فجاعله من أقسام البيان مغفل في قوله* قوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) قال أبو بكر قد اختلف السلف في أشهر الحج ما هي فروى عن ابن عباس وابن عمر والحسن وعطاء ومجاهد أنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وروى عن عبد الله ابن مسعود أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة وروى عن ابن عباس وابن عمر في راوية أخرى مثله وكذلك روى عن عطاء ومجاهد وقال قائلون وجائز أن لا يكون ذلك اختلافا في الحقيقة وأن يكون مراد من قال وذو الحجة أنه بعضه لأن الحج لا محالة إنما هو في بعض الأشهر لا في جميعها لأنه لا خلاف أنه ليس يبقى بعد أيام منى شيء من مناسك الحج وقالوا ويحتمل أن يكون من تأوله على ذي الحجة كله مراده أنها لما كانت هذه أشهر الحج كان الإختيار عنده فعل العمرة في غيرها كما روى عن عمر وغيره من الصحابة استحبابهم لفعل العمرة في غير أشهر الحج على ما قدمنا وحكى الحسن بن أبى مالك عن أبى يوسف قال شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة لأن من لم يدرك الوقوف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر فحجه فائت* ولا تنازع بين أهل اللغة في تجويز أرادة الشهرين وبعض الثالث بقوله (أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيام منى ثلاثة وإنما هي يومان وبعض الثالث ويقولون حججت عام كذا وإنما الحج في بعضه ولقيت فلانا سنة كذا وإنما كان لقاؤه في بعضها وكلمته يوم الجمعة والمراد البعض وذلك من مفهوم الخطاب إذا تعذر استغراق الفعل للوقت كان المعقول منه البعض* قال أبو بكر ولقول من قال أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة وجه آخر وهو شائع مستقيم وهو ينتظم القولين من المختلفين في معنى الأشهر المعلومات وهو أن أهل الجاهلية قد كانوا ينسئون الشهور فيجعلون صفر المحرم ويستحلون المحرم على حسب ما يتفق لهم من الأمور التي يريدون فيها القتال فأبطل الله تعالى النسيء وأقر وقت الحج على ما كان ابتداؤه عليه يوم خلق السموات كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حجة الوداع ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة إثنا عشر شهرا منها أربعة حرم شوال وذو القعدة وذو الحجة ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان * قال الله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ)

٣٧٣

يعنى بها هذه الأشهر التي ثبت وقت الحج فيها دون ما كان أهل الجاهلية عليه من تبديل الشهور وتأخير الحج وتقديمه وقد كان وقت الحج معلقا عندهم وهذه الثلاثة التي يأمنون فيها واردين وصادرين فذكر الله هذه الأشهر وأخبرنا باستقرار أمر الحج وحظر بذلك تغييرها وتبديلها إلى غيرها* وفيه وجه آخر وهو أن الله لما قدم ذكر التمتع بالعمرة إلى الحج ورخص فيه وأبطل به ما كانت العرب تعتقده من حظر العمرة في الأشهر قال (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) فأفاد بذلك أن الأشهر التي يصح فيها التمتع بالعمرة إلى الحج وثبت حكمه فيها هذه الأشهر وإن من اعتمر في غيرها ثم حج لم يكن له حكم التمتع والله أعلم.

باب الإحرام بالحج قبل أشهر الحج

قال أبو بكر قد اختلف السلف في جواز الإحرام قبل أشهر الحج فروى مقسم عن ابن عباس قال من سنة الحج أن لا يحرم بالحج قبل أشهر الحج وأبو الزبير عن جابر قال لا يحرم الرجل بالحج قبل أشهر الحج وروى مثله عن طاوس وعطاء ومجاهد وعمرو بن ميمون وعكرمة وقال عطاء من أحرم بالحج قبل أشهر الحج فليجعلها عمرة وقال على رضى الله عنه في قوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) أن إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ولم يفرق بين من كان بين دويرة أهله وبين مكة مسافة بعيدة أو قريبة فدل ذلك على أنه كان من مذهبه جواز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج وما رواه مقسم عن ابن عباس أن من سنة الحج أن لا يحرم بالحج قبل أشهر الحج يدل ظاهره على أنه لم يرد بذلك حتما واجبا وروى عن إبراهيم النخعي وأبى نعيم جواز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج وهو قول أصحابنا جميعا ومالك والثوري والليث بن سعد وقال الحسن بن صالح بن حي إذا أحرم بالحج قبل أشهر الحج جعله عمرة فإذا أدركته أشهر الحج قبل أن يجعلها عمرة مضى في الحج وأجزأه وقال الأوزاعى يجعلها عمرة وقال الشافعى يكون عمرة قال أبو بكر قد قدمنا فيما سلف ذكر وجه الدلالة على جواز ذلك من قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) وأن ذلك عموم في كون الأهلة كلها وقتا للحج ولما كان معلوما أنها ليست ميقاتا لأفعال الحج وجب أن يكون حكم اللفظ مستعملا في إحرام الحج فاقتضى ذلك جوازه عند سائر الأهلة وغير جائز الاقتصار على بعضها

٣٧٤

دون بعض لاتفاق الجميع على أن إرادة الله تعالى عموم جميع الأهلة فيما جعله مواقيت للناس وأنه لم يرد به بعض الأهلّة دون بعض فمن حيث انتظم فيما جعله مواقيت للناس جميعا وجب أن يكون ذلك حكمها فيما جعله للحج منها إذ هما جميعا قد انطويا تحت لفظ واحد* فإن قيل لما جعلها مواقيت للحج والحج في الحقيقة هو الأفعال الموجبة بالإحرام ولم يكن الإحرام هو الحج وجب أن يحمل على حقيقته فتكون الأهلّة التي هي مواقيت للحج شوالا وذا العقدة وذا الحجة لأن هذه الأشهر هي التي تصح فيها أفعال الحج لأنه لو طاف وسعى للحج قبل أشهر الحج لم يصح عند الجميع فيكون لفظ الحج مستعملا على حقيقته* قيل له هذا غلط لما فيه من إسقاط حكم اللفظ رأسا وذلك لأن قوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) يقتضى أن تكون الأهلة نفسها ميقاتا للحج وفروض الحج ثلاثة الإحرام والوقوف بعرفة وطواف الزيارة* ومعلوم أن الأهلة ليست ميقاتا للوقوف ولا لطواف الزيارة إذ هما غير مفعولين في وقت الهلال فلم تبق الأهلة ميقاتا إلا للإحرام دون غيره من فروضه ولو حملناه على ما ذكرت لم يكن شيء من هذه الفروض متعلقا بالأهلة ولا كانت الأهلة ميقاتا لها فيؤدى ذلك إلى إسقاط ذكر الأهلة وزوال فائدته* فإن قيل إذا كانت معرفة وقت الوقوف* متعلقة بالهلال جاز أن يقال أن الهلال ميقات له* قيل له ليس ذلك كما ظننت لأن الهلال له وقت معلوم على ما قدمنا فيما سلف ولا يسمى بعد مضى ذلك الوقت هلالا ألا ترى أنه لا يقال للقمر ليلة الوقوف هلالا والله تعالى إنما جعل الهلال نفسه ميقاتا للحج وأنت إنما تجعل غير الهلال ميقاتا وفي ذلك إسقاط حكم اللفظ ودلالته ألا ترى أنه إذا جعل محل الدين هلالا شهر كذا كان الهلال نفسه وقتا لثبوت حق المطالبة ووجوب أدائه إليه لا ما بعده من الأيام وكذلك الإجارات إذا عقدت على الأهلة فإنما يعتبر فيها وقت رؤية الهلال وذلك مفهوم من اللفظ لا يشكل مثله على ذي فهم وأما قوله أن الحج هو اسم للأفعال الموجبة بالإحرام وأن الإحرام لا يسمى حجا فإن الإحرام إذا كان سببا لتلك الأفعال ولا يصح حكمها إلا به فجائز أن يسمى باسمه على ما بينا في أول الكتاب من تسمية الشيء باسم غيره إذا كان سببا أو مجاورا فسمى الإحرام حجا على هذا الوجه وأيضا فإنه إذا كان جائزا إضمار الإحرام حتى يكون في معنى قل هي مواقيت للناس

٣٧٥

ولإحرام الحج على نحو قوله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) ومعناه أهل القرية وقوله (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) ومعناه ولكن البر من اتقى وجب استعماله على هذا المعنى ليصح إثبات حكم اللفظ في جعله الأهلّة مواقيت الحج وأيضا لما كان الحج في اللغة اسما للقصد وإن كان في الشرع قد علق به أفعال أخر يصح إطلاق الاسم عليه لم يمتنع أن يسمى الإحرام حجا لأن أول قصد يتعلق به حكم هو الإحرام وقبل الإحرام لا يتعلق بذلك القصد حكم فجائز من أجل ذلك أن يسمى الإحرام حجا إذ هو أوله فيكون قوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) منتظما للإحرام وغيره من أفعال الحج ومناسكه لو خلينا وظاهره فلما خصت الأفعال بأوقات محصورة خصصناها من الجملة وبقي حكم اللفظ في الإحرام ويدل على أن الحج في اللغة هو القصد قول الشاعر :

يحج مأمومة في قعرها لجف

يعنى يقصدها ليعرف مقدارها وليس يجب من حيث علق بالقصد أفعال أخر لا يستحق القصد اسم الحج في الشرع إلا بها إسقاط اعتبار القصد فيه ألا ترى أن الصوم في أصل اللغة اسم للإمساك وهو في الشرع اسم لمعان أخر معه ولم يسقط مع ذلك اعتبار الإمساك في صحته وكذلك الاعتكاف اسم اللبث وهو في الشرع اسم لمعان أخر مع اللبث فكان معنى الاسم الموضوع له معتبرا وإن ألحقت به في الشرع معان أخر لا يثبت حكم الاسم في الشرع إلا بوجودها وكذلك الحج لما كان اسما في اللغة للقصد ثم كان حكم ذلك القصد متعلقا بالإحرام وما قبله لا حكم له جاز أن يكون الإحرام مسمى بهذا الاسم كما سمى به الطواف والوقوف بعرفة وأفعال المناسك فوجب بحق العموم كون الأهلة كلها ميقاتا للإحرام وقد اقتضى العموم ذلك لسائر أفعال الحج لو لا قيام الدلالة على تخصيصها بأوقات محصورة دليل آخر وهو قوله (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) وقد قدمنا ذكر أقاويل السلف في الأشهر وأن منهم من قال شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وقال آخرون شوال وذو القعدة وذو الحجة فحصل من اتفاقهم أن يوم النحر من أشهر الحج فوجب بعموم قوله (أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) جواز الإحرام بالحج يوم النحر وإذا صح يوم النحر جاز في سائر السنة لأن أحدا لم يفرق في جوازه بين يوم النحر وبين سائر أيام السنة* فإن قيل أن من قال عشر من ذي الحجة إنما أراد به عشر ليال ولم يجعل يوم النحر منها لأنه يكون الحج فائتا بطلوع

٣٧٦

الفجر من يوم النحر قيل له قول من قال عشرا إن كان مراده عشر ليال فإن ذكر الليالى يقتضى دخول ما بإزائها من الأيام كقوله في موضع (ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) وقد أراد الأيام ألا ترى إلى قوله في موضع آخر عند ذكر هذه القصة بعينها (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) وقال تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) وهي أربعة أشهر وعشرة أيام وقد روى عن على بن أبى طالب وعبد الله بن شداد وعبد الله بن أبى أوفى في آخرين أن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر ويستحيل أن يكون يوم النحر يوم الحج الأكبر ولا يكون من أشهر الحج ومع ذلك فإن قوله (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) يقتضى ظاهره استيعاب الشهور الثلاثة ولا ينقص شيء منه إلا بدلالة فثبت بذلك أن يوم النحر من أشهر الحج وقد أباح الله الإحرام فيه بقوله (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) فوجب أن يصح ابتداء الإحرام فيه وإذا صح فيه صح في سائر أيام السنة بالاتفاق وفي هذه الآية دلالة من وجه آخر على جواز الإحرام قبل دخول أشهر الحج وهو قوله في سياق الخطاب (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) معنى فرض الحج فيهن إيجابه فيها لأن سائر الأفعال موجبة به ولم يوقت للفرض وقتا وإنما وقته للفعل لأن الفرض المذكور في هذا الموضع هو لا محالة غير الحج الذي علقه به وإذا كان كذلك كان الوقت وقتا لأفعال المناسك وألزمه إياها بفرض غير موقت وجب أن يصح فعل إحرام الحج قبل أشهر الحج يوجب أفعال المناسك ويدلك على ما ذكرنا أنه يصح أن يبتدئ حجا بنذر قبل أشهر الحج فيكون موجبا للحج في وقته المشروط وإن كان إيجابه قبله ومن قال لله على أن أصوم غدا كان في هذا الوقت موجبا لصوم غد قبل وجوده فكذلك جائز أن يقال لمن أحرم بالحج قبل أشهر الحج أنه موجب للحج في أشهر الحج وإن كان فرضه وابتداء إحرامه في غيره فاقتضى ظاهر قوله تعالى (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) إيجاب فعل الحج بفرض قبلهن أو فيهن إذ كان ظاهر اللفظ يتناول الفروض في الوقتين* ويدل عليه من جهة السنة حديث ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (من أراد الحج فليتعجل) وذلك على الإحرام وأفعاله إلا ما قال دليله مما لا يجوز تقديمه على وقته* ويدل عليه أيضا قوله في ذكر المواقيت هن لأهلهن ولمن مر عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة وذلك عموم في جواز الإحرام بالحج في أى وقت مر عليهن من السنة* ويدل عليه من جهة

٣٧٧

النظر اتفاق الجميع على بقاء إحرام الحج بكماله بعد طلوع الفجر يوم النحر قبل رمى الجمار ولو كان الإحرام بالحج لا يجوز قبل أشهر الحج لوجب أن لا يبقى بكماله في الوقت الذي لا يصح فيه ابتداء الإحرام وفي بقاء إحرامه يوم النحر قبل رمى الجمار دليل على جواز ابتدائه وذلك لأن مناسك الحج محصورة بأوقات غير جائز تقديمها عليها فلو لم يكن يوم النحر وقتا للإحرام لما جاز بقاؤه فيه ألا ترى أن الجمعة لما كانت محصورة بوقت لا يجوز تقديمها عليه لم يجز أن تبقى الجمعة بعد الدخول فيها في وقت لا يصح ابتداؤها فيه نحو أن يدخل في الجمعة ثم يدخل وقت العصر قبل الفراغ منها فتبطل ولا يبقى حكمها بعد خروج الوقت كما لا يصح ابتداؤها فيه فكذلك إحرام الحج لو كان محصورا بأشهر الحج لما صح بقاؤه بكماله بعد انقضائه كما لا يصح عند مخالفينا ابتداؤه فلما صح بقاؤه في يوم النحر صح ابتداؤه* ويدل على ذلك اتفاق الجميع على جواز الإحرام بالحج في وقت يتراخى عنه أفعاله ولا يصح إيقاعها فيه فوجب أن يجوز تقديمه على أشهر الحج كما صح فعله فيها لأن موجبه من الأفعال متراخ عنه* وأيضا لو كان الإحرام موقتا لوجب أن يتصل به موجب أفعاله كما أن إحرام الصلاة لما كان موقتا كان موجبه من فرضه متصلا به ولم يجز تراخيه عنه ويحتج لذلك أيضا باتفاق الجميع على أن المتمتع هو الجامع بين أفعال العمرة والحج في سفر واحد ممن ليس من حاضري المسجد الحرام ولا يختلف حكم إحرام العمرة بأن يكون في أشهر الحج أو قبله فيما يقتضيه حكم المتمتع كذلك يجب أن لا يختلف حكم إحرام الحج في كونه في أشهر الحج أو قبله والمعنى الجامع بينهما أن حكم كل واحد من موجب الإحرامين من الأفعال متعلق بوقوعه في أشهر الحج فوجب استواء حكم الإحرامين في الوجه الذي ذكرنا كما استوى حكم أفعالهما في صحة وقوعهما في أشهر الحج واحتج من أبى تجويز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج بظاهر قوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) وقد ذكرنا وجه الدلالة منه على جوازه قبل أشهر الحج ومع ذلك فإن قوله (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) حكمه متعلق بضمير لا يستغنى عنه الكلام وذلك أنه معلوم أن الحج لا يكون أشهرا لأن الحج هو فعل الحاج والأشهر هي فعل الله تعالى وغير جائز أن يكون فعل الله هو فعل العبد فثبت أن فيه ضميرا ويحتمل أن يكون الضمير فعل الحج في أشهر معلومات وليس في شيء منه نفى لجواز إحرامه قبل أشهر الحج وإنما يفيد أن

٣٧٨

فعل الحج في هذه الأشهر وأن الإحرام جائز فيها وليس في تجويز الإحرام فيها نفى لجوازه في غيرها فإن قيل قد تضمن ذلك الأمر بإحرام الحج أو أفعاله فيها فغير جائز فعلها في غيرها* قيل له هذا غلط لأنه ليس في اللفظ دلالة على الأمر وإنما فيه الدلالة على جوازه فيها فأما الإيجاب فلا دلالة عليه من اللفظ وإذا كان كذلك فأكثر ما فيه تجويز إحرام الحج وأفعاله في هذه الأشهر وليس فيه نفى لجوازه في غيرها فإن قيل فإذا كان الإحرام جائزا في سائر السنة فلا معنى لتوقيت الأشهر له وهذا المذهب يؤدى إلى إسقاط فائدة التوقيت قيل له ليس كذلك بل فيه عدة فوائد منها أنه أفاد أن أفعال الحج مخصوصة بهذه الأشهر ألا ترى أنا نقول أنه لو كان طاف وسعى قبل أشهر الحج أنه لا يعتد به ويعيده ومنها أن التمتع إنما يتعلق حكمه بفعل العمرة مع الحج في هذه الأشهر حتى لو قدم طواف العمرة على أشهر الحج وحج من عامه لم يكن متمتعا ولذلك قال أصحابنا فيمن قرن ودخل مكة قبل أشهر الحج وطاف للعمرة وسعى ومضى على قرانه أنه ليس بمتمتع وليس عليه دم القران فأفادت الآية أن هذه الأشهر هي التي يتعلق بها حكم التمتع إذا جمع بين العمرة والحج فيها ومع ذلك فلو كان قوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) يوجب الاقتصار به عليها دون غيرها من الشهور لوجب أن نصرفه إلى أفعال الحج دون إحرامه ليسلم لنا عموم قوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) في جواز الإحرام في سائر الأهلة ولو حملناه على الإحرام لأدى ذلك إلى إسقاط فائدة قوله (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) والاقتصار به على معنى قوله (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) ومع ذلك فلا نكون مستعملين له لأن الله قد أخبر أنه جعل الأهلة وقتا للحج ومتى قصرناه على أشهر الحج لم يتعلق حكمه بالأهلة وكان متعلقا بأوقات أخر غيرها مثل يوم عرفة للوقوف ويوم النحر للطواف والرمي ونحوه وأيضا فغير جائز أن يريد الإحرام وأفعاله ومتى أراد الأفعال انتفى الإحرام لامتناع إرادتهما بلفظ واحد لأن أحدهما هو المقصود بعينه وهو أفعال المناسك والآخر سبب له سمى باسمه على طريق المجاز فغير جائز أن يرادا جميعا بلفظ واحد ألا ترى أن من حج ولم يقف فجائز أن يقال أنه لم يحج ومتى وقف أطلق عليه اسم الحاج وأيضا لما قال تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحج عرفة وجب أن يكون ذلك تعريفا للحج المذكور في قوله (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) فتكون

٣٧٩

الألف واللام لتعريف المعهود فيصير حينئذ تقدير الآية مع الخبر الحج الذي هو الوقوف بعرفة في أشهر معلومات ويكون فائدة ذكر الأشهر ما قدمنا وأيضا لو صح إرادة الوقت للإحرام وجب استعماله في الأشهر على الندب وقوله (مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) على الجواز حتى يوفى كل واحد من اللفظين حظه من الفائدة وقسطه من الحكم* فإن قيل إذا أراد به الإحرام لم يجز تقديمه على وقته ويصير بمنزلة قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) وقوله (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) ونحو ذلك من الآي التي فيها توقيت العبادات* قيل له قد بينا أن قوله (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) لا دلالة فيه على الوجوب لأنه ليس بأمر وفيه ضمير يحتاج في إثباته إلى دلالة من غيره لاحتماله أن يكون المراد جواز الحج ويحتمل أن يريد به فضيلة الحج فليس في ظاهر اللفظ دليل على أن المراد بالتوقيت المذكور فيه لما ذا هو فلذلك لم يصح الاستدلال على توقيت الإحرام بالأشهر على جهة الإيجاب وأما الصلاة فإن الله تعالى نص فيها على الأوقات المذكورة بلفظ يقتضى الإيجاب فيها من غير احتمال لغيرها بقوله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) وما جرى مجراه من الأوامر الموقتة ووجه آخر وهو أنا سلمنا لهم أن ذلك وقت الإحرام لم تلزم الصلاة عليه من قبل أن تقديم إحرام الصلاة على وقتها إنما لم يجز من حيث اتصلت فروضها وأركانها بالإحرام وسائر فروضها غير جائزة متراخية عن تحريمتها فلذلك كان حكم تحريمتها حكم سائر أفعالها ولا خلاف في جواز إحرام الحج في وقت يتراخى عنه سائر أفعاله وغير جائز شيء من فروضه عقيب إحرامه فلذلك اختلفا* ومن جهة أخرى وهو أن كونه منهيا عن فعل الإحرام لا يمنع صحة لزومه وكون الصلاة منهيا عنها يمنع صحة الدخول فيها والدليل على ذلك أن من تحرم بالصلوة محدثا أو غير مستقبل القبلة عامدا أو عاريا وهو يجد ثوبا لم يصح دخوله فيها ولو أحرم بالحج وهو مخالط لامرأته أو لابس ثيابا كان إحرامه واقعا ولزمه حكمه مع مقارنة ما يفسده فلم يجز اعتبار أحكام إحرام الحج بالصلوة* ووجه آخر وهو أن ترك بعض فروض الصلاة يفسدها مثل الحدث والكلام والمشي وما جرى مجرى ذلك وترك بعض فروض الإحرام لا يفسده لأنه لو تطيب أو لبس أو اصطاد لم يفسده مع كون ترك هذه الأمور فرضا فيه* وأيضا وجدنا من فروض الحج ما يفعل بعد أشهر الحج ويكون مفعولا في وقته وهو طواف الزيارة ولم نجد شيئا من

٣٨٠