أحكام القرآن - ج ١

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٤

الحرم دون محل الإحصار* ومن جهة النظر لما اتفقوا في جزاء الصيد أن محله الحرم وأنه لا يجزى في غيره وجب أن يكون كذلك حكم كل دم تعلق وجوبه بالإحرام والمعنى الجامع بينهما تعلق وجوبهما بالإحرام* فإن قيل قال الله تعالى (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) وذلك في شأن الحديبية وفيه دلالة على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه نحروا هديهم في غير الحرم لو لا ذلك لكان بالغا محله* قيل له هذا من أدل شيء على أن محله الحرم لأنه لو كان موضع الإحصار هو الحل محلا للهدى لما قال (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) فلما أخبر عن منعهم الهدى عن بلوغ محله دل ذلك على أن الحل ليس بمحل له وهذا يصلح أن يكون ابتداء دليل في المسألة* فإن قيل فإن لم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ذبحوا الهدى في الحل فما معنى قوله (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) قيل له لما حصل أدنى منع جاز أن يقال أنهم منعوا وليس يقتضى ذلك أن يكون أبدا ممنوعا ألا ترى أن رجلا لو منع رجلا حقه جاز أن يقال منعه حقه كما يقال حبسه ولا يقتضى ذلك أن يكون أبدا محبوسا فلما كان المشركون منعوا الهدى بديا من الوصول إلى الحرم جاز إطلاق الاسم عليهم بأنهم منعوا الهدى عن بلوغ محله وإن أطلقوا ألا ترى أنه قد وصف المشركين بصد المسلمين عن المسجد الحرام وإن كانوا قد أطلقوا لهم بعد ذلك الوصول إليه في العام القابل وقال الله عز وجل (قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) وإنما منعوه في وقت وأطلقوه في وقت آخر فكذلك منعوا الهدى بديا ثم لما وقع الصلح بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبينهم أطلقوه حتى ذبحه في الحرم وقيل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساق البدن ليذبحها بعد الطواف بالبيت فلما منعوه من ذلك قال الله تعالى (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) لقصوره عن الوقت المقصود فيه ذبحه ويحتمل أن يريد به المحل المستحب فيه الذبح وهو عند المروة أو بمنى فلما منع ذلك أطلق ما فيه ما وصفت* وقد ذكر المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن الحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم وأن مضرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في الحل ومصلاه كان في الحرم فإذا أمكنه أن يصلى في الحرم فلا محالة قد كان الذبح ممكنا فيه وقد روى أن ناجية بن جندب الأسلمى قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابعث معى الهدى حتى آخذ به في الشعاب والأودية فأذبحها بمكة ففعل وجائز أن يكون بعث معه بعضه ونحر هو بعضه في الحرم والله أعلم.

٣٤١

باب وقت ذبح هدى الإحصار

قال الله تعالى (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ولم يختلف أهل العلم ممن أباح الإحلال بالهدى أن ذبح هدى العمرة غير موقت وأن له أن يذبحه متى شاء ويحل وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه محصرين بالحديبية وكانوا محرمين بالعمرة فحلوا منها بعد الذبح وكان ذلك في ذي العقدة واختلفوا في هدى الإحصار في الحج فقال أبو حنيفة ومالك والشافعى له أن يذبحه متى شاء ويحل قبل يوم النحر وقال أبو يوسف والثوري ومحمد لا يذبح قبل يوم النحر وظاهر قوله (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) يقتضى جوازه غير موقت وفي إثبات التوقيت تخصيص اللفظ وذلك غير جائز إلا بدليل* فإن قيل لما قال تعالى (وَلا تَحْلِقُوا* رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) والمحل اسم يقع على التوقيت وجب أن يكون موقتا* قيل له قد بينا أن المحل اسم للموضع وإن كان قد يقع على الوقت فقد اتفق الجميع على أن المكان مراد بذكر المحل فإذا بلغ الحرم وذبح جاز بظاهر الآية وحينئذ يصير شرط الوقت زيادة فيه لأن أكثر أحواله أن يكون الاسم لما تناولهما جميعا فواجب أن يجزى بأيهما وجد لأنه جعل بلوغ المحل غاية الإحرام وقد وجد بذبحه في الحرم ولما قال تعالى (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) وكان هذا المحل هو الحرم ثم قال في هذه القصة بعينها (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) وجب أن يكون هو المحل المذكور في الآية الأخرى وهو الحرم ومما يدل على أنه غير موقت أن قوله عز وجل (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) عائد إلى الحج والعمرة والمبدوء بذكرهما في قوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) والهدى المذكور للحج هو المذكور للعمرة واتفق الجميع على أنه لم يرد به التوقيت للعمرة فكذلك الحج إذ قد أريد باللفظ الإطلاق* ويدل عليه أيضا قوله تعالى (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) والمراد بمحله للعمرة هو الحرم دون الوقت فصار كالمنطوق به فيه فاقتضى ذلك جواز ذبحه في الحرم أى وقت شاء في العمرة فكذلك هو للحج وأيضا لما كان الإطلاق قد تناول العمرة لم يجز أن يكون مقيدا للحج لأنه دخل فيهما على وجه واحد بلفظ واحد فغير جائز أن يراد في بعض ما انتظمه اللفظ الوقت وفي بعضه المكان كما لا يجوز أن يريد بقوله (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) في بعضهم سارق العشرة وفي بعضهم سارق ربع دينار ويدل على ذلك من جهة السنة حديث الحجاج بن عمرو الأنصارى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كسر أو

٣٤٢

عرج فقد حل وعليه الحج من قابل ومعناه فقد جاز له أن يحل إذ لا خلاف أنه لا يحل بالكسر والعرج* ويدل عليه حديث ضباعة بنت الزبير أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لها اشترطى وقولي إن محلى حيث حبستني ومعنى ذلك إعلامها أن ذلك محلها بدلالة الأصول أن موجب الإحرام لا ينتفى بالشرط ثم لم يوقت المحل* ويحتج له من جهة النظر باتفاق الجميع على أن العمرة التي تحلل بها عند الفوات لا وقت لها إذا وجبت كذلك هذا الدم لما وجب عند الإحصار وجب أن يكون غير موقت لأنه يقع به إحلال على وجه الفسخ كعمرة الفوات* قوله تعالى (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ) هو نهى عن حلق الرأس في الإحرام للحاج والمعتمر جميعا لأنه معطوف على قوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وقد اقتضى حظر حلق بعضنا رأس بعض وحلق كل واحد رأس نفسه لاحتمال اللفظ للأمرين كقوله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) اقتضى النهى عن قتل كل واحد منا لنفسه ولغيره فيدل ذلك على أن المحرم محظور عليه حلق رأس غيره ومتى فعله لزمه الجزاء ويدل على أن الذبح مقدم على الحلق في القرآن والتمتع لأنه عموم في كل من عليه حلق وهدى في وقت واحد فيحتج فيمن حلق قبل أن يذبح أن عليه دما لمواقيته المحظور في تقديم الحلق على الهدى* وقد اختلفوا في المحصر هل عليه حلق أم لا فقال أبو حنيفة ومحمد لا حلق عليه وقال أبو يوسف في إحدى الروايتين يحلق فإن لم يحلق فلا شيء عليه وروى عنه أنه لا بد من الحلق ولم يختلفوا في المرأة تحرم تطوعا بغير إذن زوجها والعبد يحرم بغير إذن مولاه أن للزوج والمولى أن يحللاهما بغير حلق ولا تقصير وذلك بأن يفعل بهما أدنى ما يحظره الإحرام من طيب أو لبس وهذا يدل على أن الحلق غير واجب على المحصر لأن هذين بمنزلة المحصر وقد جاز لمن يملك إحلالهما أن يحللهما بغير حلق ولو كان الحلق واجبا وهو ممكن لكان عليه أن يحلل العبد بالحلق والمرأة بالتقصير وأيضا فالحلق إنما ثبت نسكا مرتبا على قضاء المناسك ولم يثبت على غير هذا الوجه فغير جائز إثباته نسكا إلا عند قيام الدلالة إذ قد ثبت أن الحلق في الأصل ليس بنسك ويقاس بهذه العلة على العبد والمرأة أن المولى والزوج لما جاز لهما إحلال العبد والمرأة بغير حلق ولا تقصير إذا لم يفعلا سائر المناسك التي رتب عليها الحلق وجب أن يجوز لسائر المحصرين الإحلال بغير حلق لهذه العلة ويدل على ذلك أيضا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة حين أمرها برفض العمرة قبل استيعاب أفعالها انقضى

٣٤٣

رأسك وامتشطى ودعى العمرة واغتسلي وأهلى بالحج فلم يأمرها بالحلق ولا بالتقصير حين لم تستوعب أفعال العمرة فدل ذلك على أن من جاز له الإحلال من إحرامه قبل قضاء المناسك فليس عليه الإحلال بالحلق وفيه دليل على أن الحلق مرتب على قضاء المناسك كترتيب سائر أفعال المناسك بعضها على بعض وقد احتج محمد لذلك بأنه لما سقط عنه سائر المناسك سقط الحلق ويحتمل ذلك من قوله وجهين أحدهما أن يكون مراده المعنى الذي ذكرنا أن الحلق مرتب على قضاء المناسك فلما سقط عنه سائر المناسك سقط الحلق ويحتمل أنه لما كان الحلق إذا وجب في الإحرام كان نسكا وقد سقط عن المحصر سائر المناسك وجب أن يسقط عنه الحلق فإن قيل إنما سقط عنه سائر المناسك لتعذر فعلها والحلق غير متعذر فعليه فعله قيل له هذا غلط لأن المحصر لو أمكنه الوقوف بالمزدلفة ورمى الجمار ولم يمكنه الوصول إلى البيت ولا الوقوف بعرفة لا يلزمه الوقوف بالمزدلفة ولا رمى الجمار مع إمكانهما لأنهما مرتبان على مناسك تتقدمهما كذلك لما كان الحلق مرتبا على أفعال أخر لم يكن فعله قبلهما نسكا فقد سقط بما ذكرنا اعتراض السائل لوجودنا مناسك يمكنه فعلها ولم تلزمه مع ذلك عند كونه محصرا* فإن احتج محتج لأبى يوسف بقوله (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) فجعل بلوغه محله غاية لزوال الحظر وواجب أن يكون حكم الغاية بضد ما قبلها فيكون تقديره ولا تلحقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدى محله فإذا بلغ فاحلقوا وذلك يقتضى وجوب الحلق* قيل له هذا غلط لأن الإباحة هي ضد الحظر كما أن الإيجاب ضده فليست في صرفه إلى أحد الضدين وهو الإيجاب بأولى من الآخر وهو الإباحة وأيضا فإن ارتفاع الحظر غير موجب لفعل ضده على جهة الإيجاب وإنما الذي يقتضيه زوال الحظر بقاء الشيء على ما كان عليه قبله فيكون بمنزلته قبل الإحرام فإن شاء حلق وإن شاء ترك ألا ترى أن زوال حظر البيع بفعل الجمعة وزوال حظر الصيد بالإحلال لم يقتض إيجاب البيع ولا الاصطياد وإنما اقتضى إباحتهما* ويحتج لأبى يوسف بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (رحم الله المحلقين ثلاثا ودعا للمقصرين مرة) وذلك في عمرة الحديبية عند الإحصار فدل ذلك على أنه نسك وإذا كان نسكا وجب فعله كما يجب عند قضاء المناسك لغير المحصر والجواب أن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشتد عليهم الحلق والإحلال قبل الطواف بالبيت فلما أمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإحلال

٣٤٤

توقفوا رجاء أن يمكنهم الوصول وعاد عليهم القول ثم إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدأ فنحر هديه وحلق رأسه فلما رأوه كذلك حلق بعض وقصر بعض فدعا للمحلقين لمبالغتهم في متابعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومسارعتهم إلى أمره ولما قيل له يا رسول الله دعوت للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة فقال إنهم لم يشكوا * ومعنى ذلك أنهم لم يشكوا أن الحلق أفضل من التقصير* فاستحقوا من الثواب بعلمهم لذلك ما لم يستحقه الآخرون* فإن قيل فكيفما جزى الأمر فقد أمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحلق وأمره على الوجوب ودعاؤه للفريقين من المحلقين والمقصرين دليل على أنه نسك وما ذكرته من أن القوم كرهوا الحلق قبل الوصول إلى البيت وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرهم به ليس بناف وجه الدلالة منه على كونه نسكا* فإنه يقال قد روى المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قصة الحديبية فقالا فيه فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أحلوا وانحروا) وذكر في بعض الأخبار الحلق فنستعمل اللفظين فنقول ما حل به من شيء فهو حلال لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحلوا وقوله احلقوا المقصد به الإحلال لا تعيينه بالحلق دون غيره وإنما استحقوا الثواب لإحلالهم وائتمارهم لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان الحلق أفضل من التقصير لجدهم واجتهادهم في متابعة أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم والله أعلم بالصواب.

باب ما يجب على المحصر بعد إحلاله من الحج بالهدى

قال الله تعالى بعد ما ذكر في شأن المحصر (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) واختلف السلف وفقهاء الأمصار في المحصر بالحج إذا حل بالهدى* فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس ومجاهد عن عبد الله بن مسعود قالا عليه عمرة وحجة فإن جمع بينهما في أشهر الحج فعليه دم وهو متمتع وإن لم يجمعهما في أشهر الحج فلا دم عليه وكذلك قال علقمة والحسن وإبراهيم وسالم والقاسم ومحمد بن سيرين وهو قول أصحابنا وروى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال أمر الله بالقصاص أو يأخذ منكم العدوان حجة بحجة وعمرة بعمرة وروى عن الشعبي قال عليه حجة وإنما يوجب أبو حنيفة عليه حجة وعمرة إذا أحل بالدم ثم لم يحج من عامه ذلك فلو أنه أحل من إحرامه قبل يوم النحر ثم زال الإحصار فأحرم بالحج وحج من عامه لم يكن عليه عمرة وذلك لأن هذه العمرة إنما هي التي تلزم بالفوات لأن من فاته الحج فعليه أن يتحلل بعمل عمرة فلما حصل حجه فائتا كان عليه عمرة للفوات والدم الذي عليه في الإحصار إنما هو للإحلال ولا يقوم

٣٤٥

مقام العمرة التي تلزم بالفوات وذلك لأنه ليس في الأصول عمرة يقوم مقامها دم ألا ترى أن من نذر عمرة لم ينب عنها دم لا في حال العذر ولا في حال الإمكان وكذلك من يجعل العمرة فريضة لا يجعل الدم نائبا عنها بحال فلما كان الفوات قد ألزمه عمل عمرة لم يجز أن ينوب عنها دم فثبت بذلك أن الدم إنما هو للإحلال فحسب ويدل على ذلك أن العمرة التي تلزم بالفوات غير جائز فعلها قبل الفوات لعدم وقتها وسببها ودم الإحصار يجوز ذبحه والإحلال به قبل الفوات باتفاق منا ومن مخالفينا فدل ذلك على أن الدم هو للإحلال لا على أنه قائم مقام العمرة ولا يسوغ لمالك والشافعى أن يجعلا دم الإحصار قائما مقام العمرة الواجبة بالفوات لأنهما يقولان الذي يفوته الحج عليه مع عمرة الفوات هدى فهدى الإحصار عندهما هو الذي يلزم بالفوات فلا يقوم مقام العمرة كما لا يقوم مقامه بعد الفوات فإن قيل فأنت تجيز صوم ثلاثة أيام المتعة بعد إحرام العمرة قبل يوم النحر وهو بدل من الهدى والهدى نفسه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر قيل له إنما جاز ذلك لوجود سبب المتعة وهو العمرة فجاز تقديم بعض الصوم على وقت ذبح الهدى ولم يوجد للمحصر سبب للزوم العمرة لأن سببه إنما هو طلوع الفجر يوم النحر قبل الوقوف بعرفة فلذلك لم يقم الدم مقام العمرة التي تلزم بالفوات ويدل على أن الدم غير قائم مقام العمرة التي تلزم بالفوات أنه يلزم المعتمر وهو لا يخشى الفوات لأنها غير موقتة فدل ذلك على أن هذا الدم لا يتعلق بالفوات وإنه موضوع لتعجيل الإحلال بدلالة أنه لم يختلف فيه حكم ما يخشى فوته وحكم ما لا يخشى فوته في لزوم الدم* فإن قيل في حديث الحجاج بن عمرو الأنصارى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل ولم يذكر فيه عمرة ولو كانت واجبة معه لذكرها كما ذكر وجوب قضاء الحج قيل له ولم يذكر دما ومع ذلك فلا يجوز له أن يحل إلا بدم وإنما أراد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإخبار عن الإحصار بالمرض ووجوب قضاء ما يحل فيه وقد ذهب عبد الله بن مسعود وابن عباس في رواية سعيد بن جبير إلى أن قوله عقيب ذكر حكم المحصر (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) أراد به العمرة التي تجب بالإحلال من الحج إذا جمعها إلى الحج الذي أحل منه في أشهر الحج فعليه الفداء وروى عن ابن عباس قول آخر في المحصر وهو ما رواه عبد الرزاق قال حدثنا الثوري عن ابن أبى نجيح عن عطاء ومجاهد عن ابن عباس قال

٣٤٦

الحبس حبس العدو فإن حبس وليس معه هدى حل مكانه وإن كان معه هدى حل به ولم يحل حتى ينحر الهدى وليس عليه حجة ولا عمرة وقد روى عن عطاء إنكار ذلك على رواية رواها محمد بن بكر قال أخبرنا ابن جريج عن عمرو بن دينار قال قال ابن عباس ليس على من حصره العدو هدى حسب أنه قال ولا حج ولا عمرة قال ابن جريج فذكرت ذلك لعطاء قلت هل سمعت ابن عباس يقول ليس على المحصر هدى ولا قضاء إحصاره قال لا وأنكره وهذه رواية لعمري منكرة خلاف نص التنزيل وما ورد بالنقل المتواتر عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الله تعالى (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) وقوله (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) على أحد وجهين أحدهما فعليه ما استيسر من الهدى والآخر فليهد ما استيسر من الهدى فاقتضى ذلك إيجاب الهدى على المحصر متى أراد الإحلال ثم عقبه بقوله (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) فكيف يسوغ لقائل أن يقول جائز له الإحلال بغير هدى مع ورود النص بإيجابه ومع نقل إحصار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية وأمره إياهم بالذبح والإحلال* واختلف الفقهاء في المحصر إذا لم يحل حتى فاته الحج ووصل إلى البيت فقال أصحابنا والشافعى عليه أن يتحلل بالعمرة ولا يصح له فعل الحج بالإحرام الأول وقال مالك يجوز له أن يبقى حراما حتى يحج في السنة الثانية وإن شاء تحلل بعمل عمرة* والدليل على أنه غير جائز له أن يفعل بذلك الإحرام الأول حجا بعد الفوات اتفاق الجميع على أن له أن يتحلل بعمل عمرة فلو لا أن إحرامه قد صار بحيث لا يفعل به حجا لما جاز له التحلل منه ألا ترى أنه غير جائز له أن يتحلل منه في السنة الأولى حين أمكنه فعل الحج به وفي ذلك دليل على أن إحرامه قد صار بحيث لا يفعل به حجا* وأيضا فإن فسخ الحج منسوخ بقوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) فعلمنا حين جاز له الإحلال أن موجبه في هذه الحال هو عمل العمرة لا عمل الحج لأنه لو أمكنه عمل الحج فجعله عمرة بالإحلال لكان فاسخا لحجه مع إمكان فعله وهذا لم يكن قط إلا في السنة التي حج فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم نسخ وهو معنى قول عمر متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما متعة النساء ومتعة الحج فأراد بمتعة الحج فسخه على نحو ما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به أصحابه في حجة الوداع واختلفوا أيضا فيمن أحصر وهو محرم بحج تطوع أو بعمرة تطوع فقال أصحابنا عليه القضاء سواء كان

٣٤٧

الإحصار بمرض أو عدو إذا حل منهما بالهدى وأما مالك والشافعى فلا يريان الإحصار بالمرض ويقولان إن أحصر بعدو فحل فلا قضاء عليه في الحج ولا في العمرة* والدليل على وجوب القضاء قوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وذلك يقتضى الإيجاب بالدخول ولما وجب بالدخول صار بمنزلة حجة الإسلام والنذر فيلزمه القضاء بالخروج منه قبل إتمامه سواء كان معذورا فيه أو غير معذور لأن ما قد وجب لا يسقطه العذر فلما اتفقوا على وجوب القضاء بالإفساد وجب عليه مثله بالإحصار ويدل عليه من جهة السنة حديث الحجاج بن عمرو الأنصارى من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل ولم يفرق بين حجة الإسلام والتطوع* وأيضا فإن من ترك موجبات الإحرام لا يختلف فيه المعذور وغيره في ترك لزوم حكمه والدليل عليه أن الله قد عذر حالق رأسه من أذى ولم يخله من إيجاب فدية سواء كان ذلك في إحرام فريضة أو تطوع فكذلك ينبغي أن يكون حكم المحصر بحجة فرض أو نفل في وجوب القضاء وواجب أيضا أن يستوي حكم إفساده إياه بالجماع وخروجه منه بإحصار كما لم يخل من إيجاب كفارة في الجنايات الواقعة في الإحرام المعذور وغيره ويدل على وجوب القضاء على المحصر وإن كان معذورا اتفاق الجميع أن على المريض القضاء إذا فاته الحج وإن كان معذورا في الفوات كما يلزمه لو قصد إلى الفوات من غير عذر والمعنى في استواء حكم المعذور وغير المعذور ما لزمه من الإحرام بالدخول وهو موجود في المحصر فوجب أن لا يسقط عنه القضاء ويدل عليه أيضا قصة عائشة حين حاضت وهي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع وكانت محرمة بعمرة فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (انقضى رأسك وامتشطى وأهلى بالحج ودعى العمرة) ثم لما فرغت من الحج أمر عبد الرحمن بن أبى بكر فأعمرها من التنعيم وقال هذه مكان عمرتك فأمرها بقضاء ما رفضته من العمرة للعذر فدل ذلك على أن المعذور في خروجه من الإحرام لا يسقط عنه القضاء ويدل عليه أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أحصر هو وأصحابه بالحديبية وكانوا محرمين بالعمرة وقضوها في العام المقبل سميت عمرة القضاء ولو لم تكن لزمت بالدخول ووجب القضاء لما سميت عمرة القضاء ولكانت تكون حينئذ عمرة مبتدأة وفي ذلك دليل على لزوم القضاء بالإحلال والله الموفق.

٣٤٨

باب المحصر لا يجد هديا

قال الله تعالى (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) واختلف أهل العلم في المحصر لا يجد هديا فقال أصحابنا لا يحل حتى يجد هديا فيذبح عنه وقال عطاء يصوم عشرة أيام ويحل كالمتمتع إذا لم يجد هديا وللشافعي فيه قولان أحدهما أنه لا يحل أبدا إلا بهدى والآخر إذا لم يقدر على شيء حل وأهراق دما إذا قدر عليه وقيل إذا لم يقدر أجزأه وعليه الطعام أو صيام إن لم يجد ولم يقدر قال أبو بكر واحتج محمد لذلك بأن هدى المتعة منصوص عليه وكذلك حكم المتمتع منصوص عليه فيما يلزم من هدى أو صيام إن لم يجد هديا والمنصوصات لا يقاس بعضها على بعض ووجه آخر وهو أنه غير جائز إثبات الكفارات بالقياس فلما كان الدم مذكورا للمحصر لم يجز لنا إثبات شيء غيره قياسا لأن ذلك دم جناية على وجه الكفارة لامتناع جواز إثبات الكفارة قياسا وأيضا فإن فيه ترك المنصوص عليه بعينه لأنه قال (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) فمن أباح له الحلق قبل بلوغ الهدى محله فقد خالف النص ولا يجوز ترك النص بالقياس والله أعلم.

باب إحصار أهل مكة

قال أبو بكر روى عن عروة بن الزبير والزهري أنهما قالا ليس على أهل مكة إحصار إنما إحصارهم أن يطوفوا بالبيت وكذلك قال أصحابنا إذا أمكنهم الوصول إلى البيت وذلك لأنه لا يخلو من أن يكون محرما بحج أو عمرة فإن كان معتمرا فلعمرة إنما هي الطواف والسعى وليس بمحصر عن ذلك وإن كان حاجا فله أن يؤخر الخروج إلى عرفات إلى آخر وقته لو لم يكن محصرا فإذا فاته الوقوف فقد فاته الحج وعليه أن يتحلل بعمرة فيكون مثل المعتمر فلا يكون محصرا والله أعلم.

باب المحرم يصيبه أذى من رأسه أو مرض

قال الله تعالى (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) إلى آخر الآية يعنى والله أعلم فمن كان منكم مريضا من المحرمين محصرين أو غير محصرين فأصابه مرض أو أذى في رأسه ففدية من صيام فدل ذلك على أن المحصر

٣٤٩

لا يجوز له الحلق قبل بلوغ الهدى محله وأنه إذا كان مريضا أو به أذى من رأسه فحلق فعليه الفدية وإن كان غير محصر فهو في حكم المحصر الذي لم يبلغ هديه محله فدل ذلك على التسوية بين المحصرين وغير المحصرين في أن كل واحد منهم لا يجوز له الحلق في الإحرام إلا على الشرط المذكور وقوله تعالى (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) عنى المرض الذي يحتاج فيه إلى لبس أو شيء يحظره الإحرام فيفعل ذلك لدفع الأذى ويفتدى وكذلك قوله (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) إنما هو على أذى يحتاج فيه إلى استعمال بعض ما يحظره الإحرام من حلق أو تغطية فأما إن كان مريضا أو به أذى في رأسه لا يحتاج فيه إلى حلق ولا إلى استعمال بعض ما يحظره الإحرام فهو في هذه الحال بمنزلة الصحيح في حظر ما يحظره الإحرام وقد روى في أخبار متظاهرة عن كعب بن عجرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر به في عام الحديبية والقمل تتناثر على وجهه فقال أتؤذيك هوام رأسك فقلت نعم فأمره بالفدية فكان كثرة القمل من الأذى المراد بالآية ولو كان به قروح في رأسه أو خراج فاحتاج إلى شده أو تغطيته كان ذلك حكمه في جواز الفدية وكذلك سائر الأمراض التي تصيبه ويحتاج إلى لبس الثياب جاز له أن يستبيح ذلك ويفتدى لأن الله لم يخصص شيئا من ذلك فهو عام في الكل فإن قيل قوله (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) معناه فحلق ففدية من صيام قيل له الحلق غير مذكور وإن كان مرادا وكذلك اللبس وتغطية الرأس كل ذلك غير مذكور وهو مراد لأن المعنى فيه استباحة ما يحظره الإحرام للعذر وكذلك لو لم يكن مريضا وكان به أذى في بدنه يحتاج فيه إلى حلق الشعر كان في حكم الرأس في باب الفدية إذ كان المعنى معقولا في الجميع وهو استباحة ما يحظره الإحرام في حال العذر وأما قوله تعالى (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ) فإنه قد ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه صام ثلاثة أيام في حديث كعب بن عجرة وهو قول جماعة السلف وفقهاء الأمصار إلا شيء روى عن الحسن وعكرمة أن الصيام عشرة أيام كصيام المتعة وأما الصدقة فإنه روى في مقدارها عن كعب بن عجرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم روايات مختلفة الظاهر فمنها ما حدثنا عبد الباقي ابن قانع قال حدثنا أحمد بن سهل بن أيوب قال حدثنا سهل بن محمد قال حدثنا ابن أبى زائدة عن أبيه قال حدثني عبد الرحمن بن الأصبهانى عن عبد الله بن مغفل أن كعب بن عجرة حدثه أنه خرج مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم محرما فقمل رأسه ولحيته فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعا

٣٥٠

بحلاق فحلق رأسه وقال هل تجد نسكا قال ما أقدر عليه فأمره أن يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين صاعا وأنزل الله (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) للمسلمين عامة ورواه صالح بن أبى مريم عن مجاهد عن كعب بن عجرة بمثل ذلك وروى داود بن أبى هند عن عامر عن كعب بن عجرة وقال فيه صدق بثلاثة آصع من تمر بين كل مسكينين صاع وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا عبد الله بن الحسن بن أحمد قال حدثنا عبد العزيز بن داود قال حدثنا حماد بن سلمة عن داود بن أبى هند عن الشعبي عن عبد الرحمن ابن أبى ليلى عن كعب بن عجرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له (أنسك نسيكة أو صم ثلاثة أيام أو أطعم ثلاثة آصع من طعام لستة مساكين) فذكر في الخبر الأول ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين وفي خبر ستة آصع وهذا أولى لأن فيه زيادة* ثم قوله ثلاثة آصع من طعام على ستة مساكين ينبغي أن يكون المراد به الحنطة لأن هذا ظاهره والمعتاد المتعارف منه فيحصل من ذلك أن يكون من التمر ستة آصع ومن الحنطة ثلاثة آصع وعدد المساكين الذين يتصدق عليهم ستة بلا خلاف* وأما النسك فإن في أخبار كعب بن عجرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره أن ينسك نسيكة وفي بعضها شاة ولا خلاف بين الفقهاء أن أدناه شاة وإن شاء جعله بعيرا أو بقرة ولا خلاف أنه مخير بين هذه الأشياء الثلاثة يبتدئ بأيها شاء وذلك مقتضى الآية وهو قوله (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) واو للتخير هذا حقيقتها وبابها إلا أن تقوم الدلالة على غير هذا في الإثبات وقد بيناه في مواضع* واختلف الفقهاء في موضع الفدية من الدم والصدقة مع اتفاقهم على أن الصوم غير مخصوص بموضع فإن له أن يصوم في أى موضع شاء فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر الدم بمكة والصيام والصدقة حيث شاء وقال مالك بن أنس الدم والصدقة والصيام حيث شاء وقال الشافعى الصدقة والدم بمكة والصيام حيث شاء فظاهر قوله (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) يقتضى إطلاقها حيث شاء المفتدى غير مخصوم بموضع لو لم يكن في غيرها من الآي دلالة على تخصيصه بالحرم وهو قوله (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) يعنى الأنعام التي قدم ذكرها ثم قال (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) وذلك عام في سائر الأنعام التي تهدى إلى البيت فوجب بعموم هذه الآية أن كل هدى متقرب به مخصوص بالحرم لا يجزى في غيره ويدل عليه قوله تعالى (هَدْياً

٣٥١

بالِغَ الْكَعْبَةِ) وذلك جزاء الصيد فصار بلوغ الكعبة صفة للهدى ولا يجزى دونها وأيضا لما كان ذلك ذبحا تعلق وجوبه بالإحرام وجب أن يكون مخصوصا بالحرم كجزاء الصيد وهدى المتعة فإن قيل لما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكعب بن عجرة أو اذبح شاة ولم يشترط له مكانا وجب أن لا يكون مخصوصا بموضع* قيل له إن كعب بن عجرة أصابه ذلك وهو بالحديبية وبعضها من الحل وبعضها من الحرم فجائز أن يكون ترك ذكر المكان اكتفاء بعلم كعب بن عجرة بأن ما تعلق من ذلك بالإحرام فهو مخصوص بالحرم وقد كان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل ذلك عالمين بحكم تعلق الهدايا بالحرم لما كان يرون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسوق البدن إلى الحرم لينحرها هناك وأما الصدقة والصوم فحيث شاء لأن الله تعالى أطلق ذلك غير مقيد بذكر المكان فغير جائز لنا تقييده بالحرم لأن المطلق على إطلاقه كما أن المقيد على تقييده ويدل عليه أنه ليس في الأصول صدقة مخصوصة بموضع لا يجوز أداؤها في غيره فلما كانت هذه صدقة لم تجز أن تكون مخصوصة بموضع لا يجوز أداؤها في غيره لأن ذلك مخالف للأصول خارج عنها فإن قيل ينبغي أن تكون الصدقة في الحرم لأن للمساكين بالحرم فيها حقا كالذبائح قيل له الذبح لم يتعلق جوازه بالحرم لأجل حق المساكين لأنه لو ذبحه في الحرم ثم أخرجه منه وتصدق به في غير الحرم أجزأه ومع ذلك فإنه لا يختص ذلك بمساكين الحرم دون غيرهم لأنه لو كان حقا لهم لكان لهم المطالبة به ولما لم تكن لهم المطالبة به دل على أنه ليس بحق لهم وإنما هو حق الله قد لزمه إخراجه إلى المساكين على وجه القربة كالزكاة وسائر الصدقات التي لا تختص بموضع دون غيره وأيضا لما لم تكن القربة فيها إراقة الدم وجب أن لا يختص بالحرم كالصيام وقد اختلف السلف في ذلك فروى عن الحسن وعطاء وإبراهيم قالوا ما كان دم فبمكة وما كان من صيام أو صدقة فحيث شاء وعن مجاهد قال اجعل الفدية حيث شئت وقال طاوس النسك والصدقة بمكة والصيام حيث شئت وروى أن عليا نحر عن الحسين بعيرا وكان قد مرض وهو محرم وأمر بحلقه ونحر البعير عنه بالسقيا وقسمه على أهل الماء وليس في ذلك دلالة على أنه رأى جواز الذبح في غير الحرم لأنه جائز أن يكون جعل اللحم صدقة وذلك جائز عندنا والله أعلم.

٣٥٢

باب التمتع بالعمرة إلى الحج

قال الله تعالى (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) قال أبو بكر هذا الضرب من التمتع ينتظم معنيين أحدهما الإحلال والتمتع إلى النساء والآخر جمع العمرة إلى الحج في أشهر الحج ومعناه الارتفاق بهما وترك إنشاء سفرين لهما وذلك لأن العرب في الجاهلية كانت لا تعرف العمرة في أشهر الحج وتنكرها أشد الإنكار ويروى عن ابن عباس وعن طاوس أن ذلك عندهم كان من أفجر الفجور ولذلك رجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أمرهم أن يحلوا بعمرة على عادتهم كانت في ذلك* حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا الحسن بن المثنى قال حدثنا عفان قال حدثنا وهيب قال حدثنا عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفرا ويقولون إذا برىء الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر فلما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صبيحة رابعه مهلين بالحج أمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحلوا فتعاظم ذلك عندهم قالوا يا رسول الله أى الحل قال الحل كله فمتعة الحج تنتظم هذين المعنيين إما استباحة التمتع بالنساء بالإحلال وإما الارتفاق بالجمع بين العمرة والحج في أشهر الحج والاقتصار بهما على سفر واحد بعد أن كانوا لا يستحلون ذلك في الجاهلية ويفردون لكل واحد سفرا ويحتمل التمتع بالعمرة إلى الحج الانتفاع بهما بجمعهما في أشهر الحج واستحقاق الثواب بهما إذا فعلا على هذا الوجه فدل ذلك على زيادة نفع وفضيلة تحصل لفاعلهما* والمتعة على أربعة أوجه أحدها القارن والمحرم بعمرة في أشهر الحج إذا حج من عامه في سفر واحد لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام والمحصر على قول من لا يرى له الإحلال ولكنه يمكث على إحرامه حتى يصل إلى البيت فيتحلل من حجه بعمل العمرة بعد فوت الحج وفسخ الحج بالعمرة وقد اختلف في تأويل قوله تعالى (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) فقال ابن مسعود وعلقمة هو عطف على قوله (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) يعنى الحاج إذا أحصر فحل من إحرامه بهدى أن عليه قضاء عمرة وحجة فإن هو تمتع بهما وجمع بينهما في أشهر الحج في سفر واحد فعليه دم آخر للتمتع وإن اعتمر في أشهر الحج ثم عاد إلى أهله ثم حج من عامه فلا دم عليه قال عبد الله بن مسعود سفران وهدى أو هديان وسفر يعنى بقوله سفران

٣٥٣

وهدى أن هذا المحصر إن اعتمر بعد إحلاله من الحج في أشهر الحج ورجع إلى أهله ثم عاد فحج من عامه فعليه هدى واحد وهو هدى الإحصار وذلك لأنه فعلهما في سفرين أو هديان وسفر يعنى إذا لم يرجع بعد العمرة في أشهر الحج إلى أهله فعليه هدى التمتع والهدى الأول للإحصار فلذلك هديان وسفر وقال ابن عباس فيما رواه ابن جريج عن عطاء أن ابن عباس كان يقول بجمع الآية المحصر والمخلى سبيله يعنى قوله (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) قال عطاء وإنما سميت متعة من أجل أنه اعتمر في أشهر الحج ولم تسم متعة من أجل أنه يحل أن يتمتع إلى النساء فكان مذهب ابن عباس أن الآية قد انتظمت الأمرين من المحصرين إذا أرادوا قضاء الحج مع العمرة التي لزمت بالفوات ومن غير المحصرين ممن أراد التمتع بالعمرة إلى الحج فكان عند عبد الله بن مسعود أن ذلك لما كان معطوفا على المحصرين فحكمه أن يكونوا هم المرادين به فيفيد إيجاب عمرة بالفوات ويفيد الحكم بأنه إذا جمعهما مع قضاء الحج الفائت في سفر واحد في أشهر الحج فعليه دم وإن فعلهما في سفرين فلا دم عليه وليس مذهب ابن مسعود في ذلك مخالفا لقول ابن عباس إلا أن ابن عباس قال الآية عامة في المحصرين وغيرهم وهي مقيدة في المحصرين بما ذكره ابن مسعود ومقيدة في غير المحصرين في جواز التمتع لهم وبيان حكمهم إذا تمتعوا وقال ابن مسعود الآية في فحواها خاصة في المحضرين وإن كان غير المحصرين إذا تمتعوا كانوا بمنزلتهم والقارن والذي يعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه في سفر واحد متمتعان من وجهين أحدهما الارتفاق بالجمع بينهما في سفر واحد والآخر حصول فضيلة الجمع فيدل ذلك على أن ذلك أفضل من الإفراد بكل واحد منهما في سفر أو تفريقهما بأن يفعل العمرة في غير أشهر الحج* وقد روى عن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه المتعة روايات ظاهرها يقتضى الإختلاف في إباحتها وإذا حصلت كان الإختلاف في الأفضل لا في الحظر والإباحة فممن روى عنه النهى عن ذلك عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وأبو ذر والضحاك بن قيس حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا ابن أبى مريم عن مالك بن أنس عن ابن شهاب أن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل حدثه أنه سمع سعد بن أبى وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية وهما يتذكران التمتع بالعمرة إلى الحج فقال الضحاك لا بصنع

٣٥٤

ذلك إلا من جهل أمر الله تعالى قال سعد بئس ما قلت يا ابن أخى فقال الضحاك فإن عمر ابن الخطاب قد نهى عنه قال سعد صنعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصنعناها معه وحدثنا جعفر ابن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن شعبة عن قتادة قال سمعت جرى بن كليب يقول رأيت عثمان ينهى عن المتعة وعلى يأمر بها فأتيت عليا فقلت إن بينكما لشرا أنت تأمر بها وعثمان ينهى عنها فقال ما بيننا إلا خير ولكن خيرنا اتبعنا لهذا الدين * وقد روى عن عثمان أنه لم يكن ذلك منه على وجه النهى ولكن على وجه الإختيار وذلك لمعان أحدها الفضيلة ليكون الحج في أشهره المعلومة له ويكون العمرة في غيرها من الشهور والثاني أنه أحب عمارة البيت وأن يكثر زواره في غيرها من الشهور والثالث أنه رأى إدخال الرفق على أهل الحرم بدخول الناس إليهم* فقد جاءت بهذه الوجوه أخبار مفسرة عنه حدثنا جعفر بن محمد المؤدب قال حدثنا أبو الفصل جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال حدثنا أبو عبيد قال حدثني يحيى بن سعيد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال قال عمر بن الخطاب إن تفرقوا بين الحج والعمرة فتجعلوا العمرة في غير أشهر الحج أتم الحج أحدكم وأتم لعمرته* قال أبو عبيد وحدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم عن عبد الله عن أبيه قال كان عمر يقول إن الله قال (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وقال (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) فأخلصوا أشهر الحج للحج واعتمروا فيما سواها من الشهور وذلك لأن من اعتمر في أشهر الحج لم تتم عمرته إلا بهدى ومن اعتمر في غير أشهر الحج تمت عمرته إلا أن يتطوع بهدى غير واجب فأخبر في هذا الخبر بجهة اختياره للتفريق بينهما* قال أبو عبيد وحدثنا أبو معاوية هشام عن عروة عن أبيه قال إنما كره عمر العمرة في أشهر الحج إرادة أن لا يتعطل البيت في غير أشهر الحج فذكر في هذا الخبر وجها آخر لاختياره التفريق بينهما* قال أبو عبيد وحدثنا هشيم قال حدثنا أبو بشر عن يوسف بن ماهك قال إنما نهى عمر عن المتعة لمكان أهل البلد ليكون موسمان في عام فيصيبهم من منفعتهما فذكر في هذا الخبر أنه اختاره لمنفعة أهل البلد وقد روى عن عمر اختيار المتعة على غيرها حدثنا جعفر ابن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدى عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن طاوس عن ابن عباس قال سمعت عمر يقول لو اعتمرت

٣٥٥

ثم اعتمرت ثم اعتمرت ثم حججت لتمتعت ففي هذا الخبر اختياره للمتعة* فثبت بذلك أنه لم يكن ما كان منه في أمر المتعة على وجه اختيار المصلحة لأهل البلد تارة ولعمارة البيت أخرى* وبين الفقهاء خلاف في الأفضل من إفراد كل واحد منهما أو القران أو التمتع فقال أصحابنا القران أفضل ثم التمتع ثم الإفراد وقال الشافعى الإفراد أفضل والقران والتمتع حسنان وقد روى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر لأن اعتمر في شوال أو في ذي القعدة أو في ذي الحجة في شهر يجب على فيه الهدى أحب إلى من أن أعتمر في شهر لا يجب على فيه الهدى وقد روى قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال سألت ابن مسعود عن امرأة أرادت أن تجمع مع حجها عمرة فقال أسمع الله يقول (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) ما أراها إلا أشهر الحج ولا دلالة في هذا الخبر على أنه كان يرى الإفراد أفضل من التمتع والقران وجائز أن يكون مراده البيان عن الأشهر التي يصح فيها التمتع بالجمع بين الحج والعمرة وقال على كرم الله وجهه تمام العمرة أن تحرم من حيث ابتدأت من دويرة أهلك فهذا يدل على أنه أراد التمتع والقران بأن يبدأ بالعمرة من دويرة أهله إلى الحج لا يلم بأهله* وتأوله أبو عبيد القاسم بن سلام على أنه يخرج من منزله ناويا العمرة خالصة لا يخلطها بالحج قال لأنه إذا أحرم بها من دويرة أهله كان خلاف السنة لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد وقت المواقيت وهذا تأويل ساقط لأنه قد روى عن على تمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك فنص الإحرام بهما من دويرة أهله والذي ذكره من السنة على خلاف ما ظن لأن السنة إنما قضت بحظر مجاورتها إلا محرما لمن أراد دخول مكة فأما الإحرام بها قبل الميقات فلا خلاف بين الفقهاء فيه* وروى عن الأسود بن يزيد قال خرجنا عمارا فلما انصرفنا مررنا بأبى ذر فقال أحلقتم الشعث وقضيتم التفث أما إن العمرة من مدركم وتأوله أبو عبيد على ما تأول عليه حديث على وإنما أراد أبو ذر أن الأفضل إنشاء العمرة من أهلك كما روى عن على تمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبار متواترة أنه قرن بين الحج والعمرة * حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبى وائل عن صبي بن معبد أنه كان نصرانيا فأسلم فأراد الجهاد فقيل له ابدأ بالحج فأتى أبا موسى الأشعرى فأمره أن يهل بالحج والعمرة جميعا ففعل

٣٥٦

فبينما هو يلبى بهما إذ مر زيد بن صوحان وسلمان بن ربيعة فقال أحدهما هذا أضل من بعيره فسمعهما صبي فكبر عليه فلما قدم على عمر بن الخطاب ذكر له ذلك فقال عمر إنهما لا يقولان شيئا هديت لسنة نبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أبو عبيد وحدثنا ابن أبى زائدة عن الحجاج ابن أرطاة عن الحسن بن سعيد عن ابن عباس قال أنبأنى أبو طلحة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمع بين حجة وعمرة * قال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا الحجاج عن شعبة قال حدثني حميد ابن هلال قال سمعت مطرف بن عبد الله بن الشخير يقول قال عمران بن الحصين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمع بين حجة وعمرة ثم لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل قرآن بتحريمه* قال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا هشيم قال أخبرنا حميد عن بكر بن عبد الله قال سمعت أنس بن مالك يقول سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلبى بالحج والعمرة قال بكر فحدثت ابن عمر بذلك قال لبى بالحج وحده قال بكر فلقيت أنس بن مالك فحدثته بقول ابن عمر فقال ما يعدونا إلا صبياننا سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لبيك عمرة وحجا * قال أبو بكر وجائز* أن يكون ابن عمر سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لبيك بحجة* وسمعه أنس في وقت آخر يقول لبيك بعمرة وحجة وكان قارنا وجائز للقارن أن يقول مرة لبيك بعمرة وحجة وتارة لبيك بحجة وأخرى لبيك بعمرة فليس في حديث ابن عمر نفى لما رواه أنس* وقالت عائشة اعتمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربع عمر أحدها مع حجة الوداع وروى يحيى بن أبى كثير عن عكرمة عن ابن عباس سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول وهو بوادي العقيق (أتانى الليلة آت من ربي فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل حجة وعمرة) وروى عمرة في حجة وفي حديث جابر وغيره أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أصحابه أن يجعلوا حجهم عمرة وقال لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لما سقت الهدى ولجعلتها عمرة وقال لعلى بما ذا أهللت قال بإهلال كإهلال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إنى سقت الهدى ولا أحل إلى يوم النحر فلو لم يكن هديه هدى تمتع وقران لما منعه الإحلال لأن هدى التطوع لا وقت له يجوز ذبحه متى شاء فدل ذلك على أن هديه كان هدى قران ولذلك منعه الإحلال لأنه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر فهذه الأخبار توجب كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قارنا ورواية من روى أنه كان مفردا غير معارض لها من وجوه أحدها أنها ليست في وزن الأخبار التي فيها ذكر القران في الاستفاضة والشيوع والثاني أن الراوي للإفراد أكثر ما أخبر

٣٥٧

أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لبيك بحجة وذلك لا ينفى كونه قارنا لأنه جائز للقارن أن يذكر الحج وحدة تارة وتارة العمرة وحدها وأخرى ويذكرهما والثالث أنهما لو تساويا في النقل والاحتمال لكان خبر الزائد أولى وإذا ثبت بما ذكرنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قارنا وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم خذوا عنى مناسككم فأولى الأمور وأفضلها الاقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما فعله لا سيما وقد قال لهم خذوا عنى مناسككم فأولى الأمور وأفضلها الاقتداء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما فعله وقال الله تعالى (فَاتَّبِعُوهُ) وقال (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يختار من الأعمال إلا أفضلها وفي ذلك دليل على أن القران أفضل من التمتع ومن الإفراد ويدل عليه أن فيه زيادة نسك وهو الدم لأن دم القران عندنا دم نسك وقربة يؤكل منه كالأضحية بدلالة قوله (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) وليس شيء من الدماء ترتب عليه هذه الأفعال إلا دم القران والتمتع* ويدل عليه قوله (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) وقد بينا أن التمتع يجوز أن يكون اسما للحج للنفع الذي يحصل له بجمعه بينهما والفضيلة التي يستحقها به ويجوز أن يكون اسما للارتفاق بالجمع من غير إحداث سفر آخر وهو عليهما جميعا فجائز أن يكون المعنيان جميعا مرادين بالآية فينتظم القارن والمتمتع من وجهين أحدهما الفضيلة الحاصلة بالجمع والثاني الارتفاق بالجمع من غير إحداث سفر ثان* وهذه المتعة مخصوص بها من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام لقوله (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ومن كان وطنه المواقيت فما دونها إلى مكة فليس له متعة ولا قران وهو قول أصحابنا فإن قرن أو تمتع فهو مخطئ وعليه دم ولا يأكل منه لأنه ليس بدم متعة وإنما هو دم جناية إذ لا متعة لمن كان من أهل هذه المواضع لقوله (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وقد روى عن ابن عمر أنه قال إنما التمتع رخصة لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام وقال بعضهم إنما معنى ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام لا دم عليهم إذا تمتعوا ومع ذلك فلهم أن يتمتعوا بلا هدى فظاهر الآية يوجب خلاف ما قالوه لأنه تعالى قال (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) والمراد المتعة ولو كان المراد الهدى لقال ذلك على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام* فإن قيل يجوز أن يكون معنى ذلك على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام لأن اللام قد تقام مقام

٣٥٨

على كما قال تعالى (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) ومعناه وعليهم اللعنة* قيل لا يجوز إزالة اللفظ عن حقيقته وصرفه إلى المجاز إلا بدلالة ولكل واحدة من هذه الأدوات معنى هي موضوعة له حقيقة فعلى حقيقتها خلاف حقيقة اللام فغير جائز حملها عليها إلا بدلالة وأيضا فإن التمتع لأهل سائر الآفاق إنما هو تخفيف من الله تعالى وإزالة المشقة عنهم في إنشاء سفر لكل واحد منهما وأباح لهم الاقتصار على سفر واحد في جميعها جميعا إذ لو منعوا عن ذلك لأدى ذلك إلى مشقة وضرر وأهل مكة لا مشقة عليهم ولا ضرر في فعل العمرة في غير أشهر الحج ويدل عليه أن اسم التمتع يقتضى الارتفاق بالجمع بينهما وإسقاط تجديد سفر العمرة على ما روى من تأويله عمن قدمنا قوله وهو مشبه لمن أوجب على نفسه المشي إلى بيت الله الحرام فإذا ركب لزمه دم لارتفاقه بالركوب غير أن هذا الدم لا يؤكل منه ودم المتعة يؤكل منه فاختلافهما من هذا الوجه لا يمنع اتفاقهما من الوجه الذي ذكرنا وقد حكى عن طاوس أنه قال ليس على أهل مكة متعة فإن فعلوا وحجوا فعليهم ما على الناس وجائز أن يريد به أن عليهم الهدى ويكون هدى جناية لا نسكا واتفق أهل العلم السلف منهم والخلف أنه إنما يكون متمتعا بأن يعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه ذلك ولو أنه اعتمر في هذه السنة ولم يحج فيها وحج في عام قابل أنه غير متمتع ولا هدى عليه واختلف أهل العلم فيمن اعتمر في أشهر الحج ثم رجع إلى أهله وعاد فحج من عامه فقال أكثرهم أنه ليس بمتمتع منهم سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس ومجاهد وإبراهيم والحسن في إحدى الروايتين وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء وروى أشعث عن الحسن أنه قال من اعتمر في أشهر الحج ثم حج من عامه فهو متمتع رجع أو لم يرجع ويدل على صحة القول الأول أن الله تعالى خص أهل مكة بأن لم يجعل لهم متعة وجعلها لسائر أهل الآفاق وكان المعنى فيه إلمامهم بأهاليهم بعد العمرة مع جواز الإحلال منها وذلك موجود فيمن رجع إلى أهله لأنه قد حصل له إلمام بعد العمرة فكان بمنزلة أهل مكة وأيضا فإن الله جعل على المتمتع الدم بدلا من أحد السفرين اللذين اقتصر على أحدهما فإذا فعلهما جميعا لم يكن الدم قائما مقام شيء فلا يجب واختلفوا أيضا فيمن لم يرجع إلى أهله وخرج من مكة حتى جاوز الميقات فقال أبو حنيفة هو متمتع إن حج من عامه ذلك لأنه إذا لم يحصل له إلمام بأهله بعد العمرة فهو بمنزلة كونه بمكة وروى عن أبى يوسف أنه ليس

٣٥٩

بمتمتع لأن ميقاته الآن في الحج ميقات أهل بلده لأن الميقات قد صار بينه وبين أهل مكة فصار بمنزلة عوده إلى أهله والصحيح هو الأول لما بينا واختلف أهل العلم فيمن ينشئ العمرة في رمضان ويدخل مكة في شوال أو قبله فروى قتادة عن ابن عياض قال عمرته في الشهر الذي يهل فيه وقال الحسن والحكم عمرته في الشهر الذي يحل فيه وروى عن إبراهيم مثله وقال عطاء وطاوس عمرته في الشهر الذي دخل فيه الحرم وروى عن الحسن وإبراهيم رواية أخرى قالا عمرته في الشهر الذي يطوف فيه وهو قول مجاهد وكذلك قال أصحابنا أنه يعتبر الطواف فإن فعل أكثر الطواف في رمضان فهو غير متمتع وإن فعل أكثره في شوال فهو متمتع وذلك لأن من أصلهم أن فعل الأكثر بمنزلة الكل في باب امتناع ورود الفساد عليها فإذا تمت عمرته في رمضان فهو غير جامع بينهما في أشهر الحج وبقاء الإحرام لا حكم له ألا ترى أنه لو احرم بعمرة فأفسدها ثم حل منها ثم حج من عامه لم يكن متمتعا لأن العمرة لم تتم في أشهر الحج مع اجتماع إحراميهما في أشهر الحج وكذلك لو قرن ثم وقف بعرفات قبل أن يطوف لعمرته لم يكن متمتعا فلا اعتبار إذا باجتماع الإحرامين في أشهر الحج وإنما الواجب اعتبار فعل العمرة مع الحج في أشهر الحج وكذلك قول من قال عمرته في الشهر الذي يهل فيه لا معنى له لما بينا من سقوط اعتبار الإحرام دون أفعالها والله أعلم بالصواب.

باب ذكر اختلاف أهل العلم في حاضري المسجد الحرام

قال أبو بكر اختلف الناس في ذلك على أربعة أوجه فقال عطاء ومكحول من دون المواقيت إلى مكة وهو قول أصحابنا إلا أن أصحابنا يقولون أهل المواقيت بمنزلة دونها وقال ابن عباس ومجاهد هم أهل الحرم وقال الحسن وطاوس ونافع وعبد الرحمن الأعرج هم أهل مكة وهو قول مالك بن أنس وقال الشافعى هم من كان أهله دون ليلتين وهو حينئذ أقرب المواقيت وما كان وراء فعليهم المتعة قال أبو بكر لما كان أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة لهم أن يدخلوها بغير إحرام وجب أن يكونوا بمنزلة أهل مكة ألا ترى أن من خرج من مكة فما لم يجاوز الميقات فله الرجوع ودخولها بغير إحرام وكان تصرفهم في الميقات فما دونه بمنزلة تصرفهم في مكة فوجب أن يكونوا بمنزلة أهل مكة في حكم المتعة ويدل على أن الحرم وما قرب منه أهل من حاضري المسجد الحرام قوله تعالى

٣٦٠