أحكام القرآن - ج ١

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٤

في آثار شائعة النهى عن قتل النساء والولدان وروى عنه أيضا النهى عن قتل أصحاب الصوامع رواه داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن كان معنى الآية على ما قال الربيع بن أنس أنه أمر فيها بقتال من قاتل والكف عمن لا يقاتل فإن قوله (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) ناسخ لمن يلي وحكم الآية كان باقيا فيمن لا يلينا منهم ثم لما نزل قوله (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ـ إلى قوله ـ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فكان ذلك أعم من الأول الذي فيه الأمر بقتال من يلينا دون من لا يلينا إلا أن فيه ضربا من التخصيص بحظره القتال عند المسجد الحرام إلا على شرط أن يقاتلونا فيه بقوله (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) ثم نزل الله فرض قتال المشركين كافة بقوله (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) وقوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) وقوله تعالى (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) فمن الناس من يقول إن قوله (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) منسوخ بقوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ومنهم من يقول هذا الحكم ثابت لا يقاتل في الحرم إلا من قاتل ويؤيد ذلك ما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال يوم فتح مكة(إن مكة حرام حرمها الله يوم خلق السموات والأرض فإن ترخص مترخص بقتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها فإنما أحلت له ساعة من نهار ثم عادت حراما إلى يوم القيامة) فدل ذلك على أن حكم الآية باق غير منسوخ وأنه لا يحل أن نبتدئ فيها بالقتال لمن لم يقاتل وقد كان القتال محظورا في الشهر الحرام بقوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ) ثم نسخ بقوله (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ومن الناس من يقول هو غير منسوخ والحظر باق وأما قوله (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) فإنه أمر بقتل المشركين إذا ظفرنا بهم وهي عامة في قتال سائر المشركين من قاتلنا منهم ومن لم يقاتلنا بعد أن يكونوا من أهل القتال لأنه لا خلاف أن قتل النساء والذراري محظورا وقد نهى عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن قتل أهل الصوامع فإن كان المراد بقوله (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) الأمر بقتال من قاتلنا ممن هو أهل القتال دون من كف عنا منهم وكان قوله (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) نهى عن قتال من لم يقاتلنا فهي لا محالة

٣٢١

منسوخة بقوله (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) لإيجابه قتل من حظر قتله في الآية الأولى بقوله (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) إذ كان الاعتداء في هذا الموضع هو قتال من لم يقاتل وقوله (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) يعنى والله اعلم من مكة إن أمكنكم ذلك لأنهم قد كانوا آذوا المسلمين بمكة حتى اضطروهم إلى الخروج فكانوا مخرجين لهم وقد قال الله تعالى (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) فأمرهم الله تعالى عند فرضه القتال بإخراجهم إذا تمكنوا من ذلك إذ كانوا منهيين عن القتال فيها إلا أن يقاتلوهم فيكون قوله (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) عاما في سائر المشركين إلا فيمن كان بمكة فإنهم أمروا بإخراجهم منها إلا لمن قاتلهم فإنه أمر بقتالهم حينئذ والدليل على ذلك قوله في نسق التلاوة (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) فثبت أن قوله (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) فيمن كان بغير مكة* وقوله (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) روى عن جماعة من السلف أن المراد بالفتنة هاهنا الكفر وقيل إنهم كانوا يفتنون المؤمنين بالتعذيب ويكرهونهم على الكفر ثم عيروا المؤمنين بأن قتل واقد بن عبد الله وهو من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمرو بن الحضرمي وكان مشركا في الشهر الحرام وقالوا قد استحل محمد القتال في الشهر الحرام فأنزل الله (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) يعنى كفرهم وتعذيبهم المؤمنين في البلد الحرام وفي الشهر الحرام أشد وأعظم مأثما من القتل في الشهر الحرام* وأما قوله (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) فإن المراد بقوله (حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) حتى يقتلوا بعضكم كقوله (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) يعنى بعضكم بعضا إذ غير جائز أن يأمر بقتلهم بعد أن يقتلوهم كلهم وقد أفادت الآية حظر القتل بمكة لمن لم يقتل فيها فيحتج بها في حظر قتل المشرك الحربي إذا لجأ إليها ولم يقاتل ويحتج أيضا بعمومها فيمن قتل ولجأ إلى الحرم في أنه لا يقتل لأن الآية لم تفرق بين من قتل وبين من لم يقتل في حظر قتل الجميع فلزم بمضمون الآية أن لا نقتل من وجدنا في الحرم سواء كان قاتلا أو غير قاتل إلا أن يكون قد قتل في الحرم فحينئذ يقتل بقوله (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) فإن قيل هو منسوخ بقوله (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) قيل له إذا أمكن استعمالهما لم يثبت النسخ لا سيما مع اختلاف الناس في نسخه فيكون قوله (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) في غير الحرم ونظيره في حظر

٣٢٢

قتل من لجأ إلى الحرم وإن كان جانيا قوله (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) وقد تضمن ذلك أمنا من خوف القتل فدل على أن المراد من دخله وقد استحق القتل أنه يأمن بدخوله وكذلك قوله (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) كل ذلك دل على أن اللاجئ إلى الحرم المستحق للقتل يأمن به ويزول عنه القتل بمصيره إليه ومع ذلك فإن قوله (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) إذا كان نازلا مع أول الخطاب عند قوله (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فغير جائز أن يكون ناسخا له لأن النسخ لا يصح إلا بعد التمكن من الفعل وغير جائز وجود الناسخ والمنسوخ في خطاب واحد وإذا كان الجميع مذكورا في خطاب واحد على ما يقتضيه نسق التلاوة ونظام التنزيل فغير جائز لأحد إثبات تاريخ الآيتين وتراخى نزول إحداهما عن الأخرى إلا بالنقل الصحيح ولا يمكن أحد دعوى نقل صحيح في ذلك وإنما روى ذلك عن الربيع بن أنس فقال هو منسوخ بقوله (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) وقال قتادة هو منسوخ بقوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وجائز أن يكون ذلك تأويلا منه ورأيا لأن قوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) لا محالة نزل بعد سورة البقرة لا يختلف أهل النقل في ذلك وليس فيه مع ذلك دلالة على النسخ لإمكان استعمالهما بأن يكون قوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) مرتبا على قوله (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ) فيصير قوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم إلا عند المسجد الحرام إلا أن يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ويدل عليه أيضا حديث ابن عباس وأبى شريح الخزاعي وأبى هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب يوم فتح مكة فقال (يا أيها الناس إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حراما إلى يوم القيامة) وفي بعض الأخبار فإن ترخص مترخص بقتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنما أحلت لي ساعة من نهار فثبت بذلك حظر القتال في الحرم إلا أن يقاتلوا وقد روى عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق قال حدثني سعيد بن أبى سعيد المقبري عن أبى شريح الخزاعي هذا الحديث وقال فيه وإنما أحل لي القتال بها ساعة من نهار ويدل عليه أيضا ما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه خطب يومئذ حين قتل رجل من خزاعة رجلا من هذيل ثم قال (إن أعتى الناس على الله ثلاثة رجل قتل غير قاتله ورجل قتل في الحرم ورجل قتل بذحل الجاهلية)وهذا يدل على

٣٢٣

تحريم القتل في الحرم لمن لم يجن فيه من وجهين أحدهما عموم الذم للقاتل في الحرم والثاني قد ذكر معه قتل من لم يستحق القتل فثبت أن المراد قتل من استحق القتل فلجأ وأن ذلك إخبار منه بأن الحرم يحظر قتل من لجأ إليه وهذه الآي التي تلوناها في حظر قتل من لجأ إلى الحرم فإن دلالتها مقصورة على حظر القتل فحسب ولا دلالة فيها على حكم ما دون النفس لأن قوله (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) مقصور على حكم القتل وكذلك قوله (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) وقوله (مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) ظاهره الا من من القتل وإنما يدخل ما سواه بدلالة لأن قوله (وَمَنْ دَخَلَهُ) اسم للإنسان وقوله (كانَ آمِناً) راجع إليه فالذي اقتضت الآية أمانه هو الإنسان لا أعضاؤه ومع ذلك فإن كان اللفظ مقتضيا للنفس فما دونها فأما ما خصصنا دونها بدلالة وحكم اللفظ باق في النفس ولا خلاف أيضا أن من لجأ إلى الحرم وعليه دين أنه يحبس به وإن دخوله الحرم لا يعصمه من الحبس كذلك كل ما لم يكن نفسا من الحقوق فإن الحرم لا يعصمه منه قياسا على الديون وأما قوله عز وجل (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعنى فإن انتهوا عن الكفر فإن الله يغفر لهم لأن قوله (فَإِنِ انْتَهَوْا) شرط يقتضى جوابا وهذا يدل على أن قاتل العمد له توبة إذ كان الكفر أعظم مأثما من القتل وقد أخبر الله أنه يقبل التوبة منه ويغفر له وقوله تعالى (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) يوجب فرض قتال الكفار حتى يتركوا الكفر قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع بن أنس الفتنة هاهنا الشرك وقيل إنما سمى الكفر فتنة لأنه يؤدى إلى الهلاك كما يؤدى إليه الفتنة وقيل إن الفتنة هي الاختبار والكفر عند الاختبار إظهار الفساد وأما الدين فهو الانقياد لله بالطاعة وأصله في اللغة ينقسم إلى معنيين أحدهما الانقياد كقول الأعشى :

هو دان الرباب اذكر هو الدين

دراكا بغزوة وصيال

ثم دانت بعد الرباب وكانت

كعذاب عقوبة الأقوال

والآخر العادة من قول الشاعر :

تقول وقد درأت لها وضينى

أهذا دينه أبدا وديني

والدين الشرعي هو الانقياد لله عز وجل والاستسلام له على وجه المداومة والعادة وهذه الآية خاصة في المشركين دون أهل الكتاب لأن ابتداء الخطاب جرى بذكرهم

٣٢٤

في قوله عز وجل (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) وذلك صفة مشركي أهل مكة الذين أخرجوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فلم يدخل أهل الكتاب في هذا الحكم وهذا يدل على أن مشركي العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف لقوله (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ـ يعنى كفرا ـ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) ودين الله هو الإسلام لقوله (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) وقوله (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) المعنى فلا قتل إلا على الظالمين يعنى والله أعلم القتل المبدوء يذكره في قوله (وَقاتِلُوهُمْ) وسمى القتل الذي يستحقونه بكفرهم عدوانا لأنه جزاء الظلم فسمى باسمه كقوله تعالى (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) وقوله (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) وإن لم يكن الجزاء اعتداء ولا سيئة* قوله تعالى (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) روى عن الحسن أن مشركي العرب قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام قال نعم وأراد المشركون أن يغيروه في الشهر الحرام فيقاتلوه فأنزل الله تعالى (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) يعنى إن استحلوا منكم في الشهر الحرام شيئا فاستحلوا منهم مثله وروى ابن عباس والربيع بن أنس وقتادة والضحاك أن قريشا لما ردت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية محرما في ذي القعدة عن البلد الحرام في الشهر الحرام فأدخله الله مكة في العام المقبل في ذي القعدة فقضى عمرته وأقصه بما حيل بينه وبينه في يوم الحديبية ويمتنع أن يكون المراد الأمرين فيكون إخبارا بما أقصه الله من الشهر الحرام الذي صده المشركون عن البيت بشهر مثله في العام القابل وقد تضمن مع ذلك إباحة القتال في الشهر الحرام إذا قاتلهم المشركون لأن لفظا واحدا لا يكون خبرا وأمرا ومتى حصل على أحد المعنيين انتفى الآخر إلا أنه جائز أن يكون إخبارا بما عوض الله نبيه من فوات العمرة في الشهر الحرام الذي صده المشركون عن البيت شهرا مثله في العام القابل وكانت حرمة الشهر الذي أبدل كحرمة الشهر الذي فات فلذلك قال (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) ثم عقب تعالى ذلك بقوله (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) فأفاد أنهم إذا قاتلوهم في الشهر الحرام فعليهم أن يقاتلوهم فيه وإن لم يجز لهم أن يبتدئوهم بالقتال وسمى الجزاء اعتداء لأنه مثله في الجنس وقدر الاستحقاق على ما يوجبه فسمى باسمه على وجه المجاز لأن المعتدى في الحقيقة هو الظالم* وقوله تعالى

٣٢٥

(فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) عموم في أن من استهلك لغيره ما لا كان عليه مثله وذلك المثل ينقسم إلى وجهين أحدهما مثله في جنسه وذلك في المكيل والموزون والمعدود والآخر مثله في قيمته لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى في عبد بين رجلين اعتقه أحدهما وهو موسر أن عليه ضمان نصف قيمته فجعل المثل اللازم بالاعتداء هو القيمة فصار أصلا في هذا الباب وفي أن المثل قد يقع على القيمة ويكون اسما لها ويدل على أن المثل قد يكون اسما لما ليس هو من جنسه إذا كان في وزانه وعروضه في المقدار المستحق من الجزاء أن من اعتدى على غيره بقذف لم يكن المثل المستحق عليه أن يقذف بمثل قذفه بل يكون المثل المستحق عليه هو جلد ثمانين وكذلك لو شتمه بما دون القذف كان عليه التعزير وذلك مثل لما نال منه فثبت بذلك أن اسم المثل قد يقع على ما ليس من جنسه بعد أن يكون في وزانه وعروضه في المقدار المستحق من طريق الجزاء ويحتج بذلك في أن من غصب ساجة فأدخلها في بنائه أن عليه قيمتها لأن القيمة قد تناولها اسم المثل فمن حيث كان الغاصب معتديا بأخذها كان عليه مثلها لحق العموم* فإن قيل إذا نقضنا بناءه* وأخذناها بعينها فقد اعتدينا عليه بمثل ما اعتدى* قيل له أخذ ملكه بعينه لا يكون اعتداء على الغاصب كما أن من له عند رجل وديعة فأخذها لم يكن معتديا عليه وإنما الاعتداء عليه أن يزيل من ملكه مثل ما أزال أو يزيل يده عن مثل ما أزال عنه يد المغصوب منه فأما أخذ ملكه بعينه فليس فيه اعتداء على أحد ولا فيه أخذ المثل ويحتج به في إيجاب القصاص فيما يمكن استيفاء المماثلة والمساواة فيه دون ما لم يعلم فيه استيفاء المماثلة وذلك نحو قطع اليد من نصف الساعد والجائفة والآمة في سقوط القصاص فيها لتعذر استيفاء المثل إذ كان الله تعالى إنما أمرنا باستيفاء المثل ويحتج به أبو حنيفة فيمن قطع يد رجل وقتله أن لوليه أن يقطع يده ثم يقتله لقوله (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) فله أن يفعل به مثل ما فعل بمقتضى الآية* وقوله تعالى (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) قال أبو بكر قد قيل فيه وجوه أحدها ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح قال حدثنا ابن وهب عن حيوة بن شريح وابن لهيعة عن يزيد بن أبى حبيب عن أسلم أبى عمران قال غزونا بالقسطنطينية وعلى الجماعة عبد الرحمن بن الوليد والروم ملصوق

٣٢٦

ظهورهم بحائط المدينة فحمل رجل على العدو فقال الناس مه مه لا إله إلا الله يلقى بيديه إلى التهلكة فقال أبو أيوب إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه الإسلام قلنا هلم نقيم في أموالنا ونصلحها فأنزل الله تعالى (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) فالإلقاء بالأيدى إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا فنصلحها وندع الجهاد قال أبو عمران فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية فأخبر أبو أيوب أن الإلقاء بالأيدى إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله وأن الآية في ذلك نزلت وروى مثله عن ابن عباس وحذيفة والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك وروى عن البراء بن عازب وعبيدة السلماني الإلقاء بالأيدى إلى التهلكة هو اليأس من المغفرة بارتكاب المعاصي وقيل هو الإسراف في الإنفاق حتى لا يجد ما يأكل ويشرب فيتلف وقيل هو أن يقتحم الحرب من غير نكاية في العدو وهو الذي تأوله القوم الذي أنكر عليهم أبو أيوب وأخبر فيه بالسبب وليس يمتنع أن يكون جميع هذه المعاني مرادة بالآية لاحتمال اللفظ لها وجواز اجتماعها من غير تضاد ولا تناف* فأما حمله على الرجل الواحد يحمل على حلبة العدو فإن محمد بن الحسن ذكر في السير الكبير أن رجلا لو حمل على ألف رجل وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية فإنى أكره له ذلك لأنه عرض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين وإنما ينبغي للرجل أن يفعل هذا إذا كان يطمع في نجاة أو منفعة للمسلمين فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية ولكنه يجرئ المسلمين بذلك حتى يفعلوا مثل ما فعل فيقتلون وينكون في العدو فلا بأس بذلك إن شاء الله لأنه لو كان على طمع من النكاية في العدو ولا يطمع في النجاة لم أر بأسا أن يحمل عليهم فكذلك إذا طمع أن ينكى غيره فيهم بحملته عليهم فلا بأس بذلك وأرجو أن يكون فيه مأجورا وإنما يكره له ذلك إذا كان لا منفعة فيه على وجه من الوجوه وإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية ولكنه مما يرهب العدو فلا بأس بذلك لأن هذا أفضل النكاية وفيه منفعة للمسلمين والذي قال محمد من هذه الوجوه صحيح لا يجوز غيره وعلى هذه المعاني يحمل تأويل من تأول في حديث أبى أيوب أنه ألقى بيده إلى التهلكة بحمله على العدو إذ لم يكن عندهم في ذلك منفعة وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن يتلف نفسه من غير منفعة عائدة على الدين ولا على

٣٢٧

المسلمين فأما إذا كان في تلف نفسه منفعة عائدة على الدين فهذا مقام شريف مدح الله به أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) وقال (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) وقال (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) في نظائر ذلك من الآي التي مدح الله فيها من بذل نفسه لله* وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أنه متى رجا نفعا في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل كان في أعلى درجات الشهداء قال الله تعالى (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) وقد روى عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله) وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن الجراح عن عبد الله بن يزيد عن موسى بن على بن رباح عن أبيه عن عبد العزيز بن مروان قال سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول (شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع) وذم الجبن يوجب مدح الإقدام والشجاعة فيما يعود نفعه على الدين وإن أيقن فيه بالتلف والله تعالى أعلم بالصواب.

باب العمرة هل هي فرض أم تطوع

قال الله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) واختلف السلف في تأويل هذه الآية

فروى عن على وعمر وسعيد بن جبير وطاوس قالوا إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك وقال مجاهد إتمامهما بلوغ آخرهما بعد الدخول فيهما وقال سعيد بن جبير وعطاء هو إقامتهما إلى آخر ما فيهما لله تعالى لأنهما واجبان كأنهما تأولا ذلك على الأمر بفعلهما كقوله لو قال حجوا واعتمروا وروى عن ابن عمر وطاوس قالا إتمامهما إفرادهما وقال قتادة إتمام العمرة الاعتمار في غير أشهر الحج وروى عن علقمة في قوله تعالى (الْعُمْرَةَ لِلَّهِ) قال لا تجاوز بها البيت وقد اختلف السلف في وجوب العمرة فروى عن عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي والشعبي أنها تطوع وقال مجاهد في قوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) قال ما أمرنا به فيهما وقالت عائشة وابن عباس وابن عمر

٣٢٨

والحسن وابن سيرين هي واجبة وروى نحوه عن مجاهد وروى عن طاوس عن أبيه قال العمرة واجبة* واحتج من أوجبها بظاهر قوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) قالوا واللفظ يحتمل إتمامهما بعد الدخول فيهما ويحتمل الأمر بابتداء فعلهما فالواجب حمله على الأمرين بمنزلة عموم يشتمل على مشتمل فلا يخرج منه شيء إلا بدلالة* قال أبو بكر ولا دلالة في الآية على وجوبها وذلك لأن أكثر ما فيها الأمر بإتمامها وذلك إنما يقتضى نفى النقصان عنهما إذا فعلت لأن ضد التمام هو النقصان لا البطلان ألا ترى أنك تقول للناقص أنه غير تام ولا تقول مثله لما لم يوجد منه شيء فعلمنا أن الأمر بالإتمام إنما اقتضى نفى النقصان ولذلك قال على وعمر إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك يعنى الأبلغ في نفى النقصان الإحرام بهما من دويرة أهلك وإذا كان ذلك على ما وصفنا كان تقديره أن لا يفعلهما ناقصين وقوله لا يفعلهما ناقصين لا يدل على الوجوب لجواز إطلاق ذلك على النوافل ألا ترى أنك تقول لا تفعل الحج التطوع ولا العمرة التطوع ناقصين ولا صلاة النفل ناقصة فإذا كان الأمر بالإتمام يقتضى نفى النقصان فلا دلالة فيه إذا على وجوبها* ويدل على صحة ذلك أن العمرة التطوع والحج النفل مرادان بهذه الآية في النهى عن فعلهما ناقصين ولم يدل ذلك على وجوبهما في الأصل وأيضا فإن الأظهر من لفظ الإتمام إنما يطلق بعد الدخول فيه قال الله عز وجل (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) فأطلق عليه لفظ الإتمام بعد الدخول قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) فأطلق لفظ الإتمام عليها بعد الدخول فيها* ويدل على أن المراد إيجاب إتمامهما بعد الدخول فيهما أن الحج والعمرة نافلتين يلزمه إتمامهما بعد الدخول فيهما بالآية فكان بمنزلة قوله أتموهما بعد الدخول فيهما فغير جائز إذا ثبت أن المراد لزوم الإتمام بعد الدخول حمله على الابتداء لتضاد المعنيين ألا ترى أنه إذا أراد به الإلزام بالدخول انتفى إن يريد به الإلزام قبل الدخول ناف لكونه واجبا بالدخول ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال أن حجة الإسلام إنما تلزم بالدخول وإن صلاة الظهر متعلق لزومها بالدخول فيها وهذا يدل على أنه غير جائز إرادة إيجابهما بالدخول وإيجابهما ابتداء قبل الدخول فيهما فثبت بما وصفنا أنه لا دلالة في هذه الآية على وجوب العمرة قبل الدخول فيها ومما يدل على

٣٢٩

أنها ليست بواجبة ما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (العمرة هي الحج الأصغر) وروى عن عبد الله بن شداد ومجاهد قالا العمرة هي الحج الأصغر وإذا ثبت أن اسم الحج يتناول العمرة ثم ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبى شيبة قالا حدثنا يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن أبى سنان الدؤلي عن ابن عباس أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة قال (بل مرة واحدة فمن زاد فتطوع) فلما سمى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم العمرة في الخبر الأول حجا وقال للأقرع الحج مرة واحدة فمن زاد فتطوع انتفى بذلك وجوب العمرة إذ كانت قد تسمى حجا ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا يعقوب بن يوسف المطوعى قال حدثنا أبو عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر قال حدثنا عبد الرحمن بن سليمان عن حجاج بن أرطاة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال سأل رجل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة والحج أواجب قال نعم وسأله عن العمرة أهي واجبة قال لا ولأن تعتمر خير لك ورواه أيضا عباد بن كثير عن محمد ابن المنكدر مثل حديث الحجاج وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا ابن الأصبهانى قال حدثنا شريك وجرير وأبو الأحوص عن معاوية بن إسحاق عن أبى صالح قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الحج جهاد والعمرة تطوع) ويدل عليه أيضا حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) ومعناه أنه ناب عنها لأن أفعال العمرة موجودة في أفعال الحج وزيادة ولا يجوز أن يكون المراد أن وجوبها كوجوب الحج لأنه حينئذ لا تكون العمرة بأولى أن تدخل في الحج من الحج بأن يدخل في العمرة إذ هما جميعا واجبان كما لا يقال دخلت الصلاة في الحج لأنها واجبة كوجوب الحج ويدل عليه حديث جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أصحابه حين أحرموا بالحج أن يحلوا منه بعمرة وأن سراقة بن مالك قال أعمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد فقال بل للأبد ومعلوم أن هذه كانت عمل عمرة يحلل بها من إحرام الحج كما يتحلل الذي يفوته الحج بعمل عمرة وهي غير مجزية عن فرض العمرة عند من يراها فرضا فدل ذلك على أن العمرة غير مفروضة لأنها لو كانت مفروضة لما قال عمرتكم هذه للأبد وفيه أخبار بأنه لا عمرة عليهم غيرها* ويدل على أن ما يتحلل به من إحرام

٣٣٠

الحج ليس بعمرة أنه لو بقي الذي يفوته الحج على إحرامه حتى تحلل منه بعمرة في أشهر الحرم وحج من عامه أنه لا يكون متمتعا ومما يحتج به لذلك من طريق النظر بأن الفروض مخصوصة بأوقات يتعلق وجوبها بوجودها كالصلاة والصيام والزكاة والحج فلو كانت العمرة فرضا لوجب أن تكون مخصوصة بوقت فلما لم تكن مخصوصة بوقت كانت مطلقة له أن يفعلها متى شاء فأشبهت الصلاة التطوع والصوم النفل فإن قيل إن الحج النفل مخصوص بوقت ولم يدل ذلك على وجوبه قيل له هذا لا يلزم لأنا قلنا إن من شرط الفروض التي تلزم كل أحد في نفسه كونها مخصوصة بأوقات وما ليس مخصوصا بوقت فليس بفرض وليس يمتنع على ذلك أن يكون بعض النوافل مخصوصا بوقت وبعضها مطلق غير مخصوص بوقت فكل ما كان غير مخصوص بوقت فهو نافلة وما هو مخصوص بوقت فعلى ضربين منه فرض ومنه نفل ومما يحتج به أيضا من طريق الأثر ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا الحسن ابن يحيى الحسنى قال حدثنا عمر بن قيس قال حدثني طلحة بن موسى عن عمه إسحاق بن طلحة عن طلحة بن عبد الله أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول الحج جهاد والعمرة تطوع وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا أحمد بن يحتر العطار قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا محمد بن الفضل ابن عطية عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحج جهاد والعمرة تطوع واحتج من رآها واجبة بما روى ابن لهيعة عن عطاء عن جابر قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الحج والعمرة فريضتان واجبتان) وبما روى الحسن عن سمرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا واعتمروا واستقيموا يستقم لكم) وأمره على الوجوب وبما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن الإسلام فذكر الصلاة وغيرها ثم قال وأن تحج وتعتمر وبقول صبي بن معبد وجدت الحج والعمرة مكتوبتين على قال ذلك لعمر فلم ينكر عليه وقال له اجمعهما وبحديث أبى رزين رجل من بنى عامر أنه قال يا رسول الله إن أبى شيخ كبير لا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن قال (احجج عن أبيك واعتمر) فأما حديث جابر في وجوب العمرة من طريق ابن لهيعة فهو ضعيف كثير الخطأ يقال احترقت كتبه فعول على حفظه وكان سيئ الحفظ وإسناد حديث جابر الذي رويناه في عدم وجوبها أحسن من إسناد حديث ابن لهيعة ولو تساويا لكان أكبر

٣٣١

أحوالهما أن يتعارضا فيسقطا جميعا ويبقى لنا حديث طلحة وابن عباس من غير معارض فإن قال قائل ليس حديث الحجاج عن محمد بن المنكدر عن جابر الذي رويته في نفى الإيجاب بمعارض لحديث ابن لهيعة عن عطاء عن جابر في إيجابها لأن حديث الحجاج وارد على الأصل وحديث ابن لهيعة ناقل عنه ومتى ورد خبر ان أحدهما ناف والآخر مثبت فالمثبت منهما أولى وكذلك إذا كان أحدهما موجبا والآخر غير موجب لأن الإيجاب يقتضى حظر تركه ونفيه لا حظر فيه ولخبر الحاظر أولى من المبيح* قيل له هذا لا يجب من قبل أن حديث ابن لهيعة في إيجابها لو كان ثابتا لورد النقل به مستفيضا لعموم الحاجة إليه ولوجب أن يعرفه كل من عرف وجوب الحج إذ كان وجوبها كوجوب الحج ومن خوطب به فهو مخاطب بها فغير جائز فيما كان هذا وصفه أن يكون وروده من طريق الآحاد مع ما في سنده من الضعف ومعارضة غيره إياه وأيضا فمعلوم أن الروايتين وردتا عن رجل واحد فلو كان خبر الوجوب متأخرا في التاريخ عن خبر نفيه لبينه جابر في حديثه ولقال قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العمرة أنها تطوع ثم قال بعد ذلك أنها واجبة إذ غير جائز أن يكون عنده الخبران جميعا مع علمه بتاريخهما فيطلق رواية تارة بإيجاب وتارة بضده من غير ذكر تاريخ فدل ذلك على أن هذين الخبرين وردا متعارضين وإنما يعتبر خبر المثبت والنافى على ما ذكرنا من الإعتبار إذا وردت الروايتان من جهتين وأما حديث سمرة وقوله فاعتمروا فإنه على الندب بالدلائل التي قدمنا فأما قوله حين سئل عن الإسلام فذكر الصلاة وغيرها ثم قال وأن تحج وتعتمر فإن النوفل من الإسلام وكذلك كل ما يتقرب به إلى الله تعالى لأنه من شرائعه وقد روى أن الإسلام بضع وسبعون خصلة منها إماطة الأذى عن الطريق* وأما قول صبي بن معبد لعمر وجدت الحج والعمرة مكتوبين على وسكوت عمر عنه وتركه النكير عليه فإنه إنما قال هما مكتوبان على ولما يقل مكتوبتان على الناس فظاهره يقتضى أن يكون نذرهما فصارا مكتوبين عليه بالنذر وأيضا فإنه إنما قاله تأويل منه للآية وفيه مساغ للتأويل فلم ينكره عمر لاحتمالها له وهو بمنزلة قول القائل بوجوب العمرة فلا يستحقون النكير إذ كان الاجتهاد سائغا فيه وأما قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للرجل الذي سئله عن الحج عن أبيه وقوله حج عن أبيك واعتمر فلا دلالة فيه على وجوبها لأنه لا خلاف أن هذا القول لم يخرج مخرج الإيجاب إذ ليس عليه أن

٣٣٢

يحج عن أبيه ولا أن يعتمر ومن الناس من يحتج لإيجاب العمرة بقوله تعالى (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) لأنها خير فظاهر اللفظ يقتضى إيجاب جميع الخير وهذا يسقط من وجوه أحدها أنه يحتاج أن يثبت أن فعل العمرة مع اعتقاد وجوبها خيرا لأن من لا يراها واجبة فغير جائز أن يفعلها على أنها واجبة ولو فعلها على هذا الإعتقاد لم يكن ذلك خيرا كمن صلى تطوعا واعتقد فيه الفرض وآخر وهو أن قوله (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) لفظ مجمل لاشتماله على المجمل الذي لا يلزم استعماله بورود اللفظ ألا ترى أنه يدخل فيه الصلاة والزكاة والصوم وهذه كلها فروض مجملة ومتى انتظم اللفظ ما هو مجمل فهو مجمل يحتاج في إثبات حكمه إلى دليل من غيره ووجه آخر وهو أن الخير بالألف واللام لفظ جنس لا يمكن استغراقه فيتناول أدنى ما يقع عليه الاسم كقولك إن شربت الماء وتزوجت النساء فإذا فعل أدنى ما يسمى به فقد قضى عهدة اللفظ وأيضا فقد علمنا مع ورود اللفظ أن المراد البعض لتعذر استيعاب الكل فصار كقوله افعلوا بعض الخير فيحتاج إلى بيان في لزوم الأمر* واحتج من أوجبها بأنا لم نجد شيئا يتطوع به إلا وله أصل في الفرض فلو كانت العمرة تطوعا لكان لها أصل في الفرض فيقال له العمرة إنما هي الطواف والسعى ولذلك أصل في الفرض فإن قيل لا يوجد طواف وسعى مفردا فرضا غير العمرة وإنما يوجد ذلك في الفرض تابعا قيل له قد يتطوع بالطواف بالبيت وإن لم يكن له أصل في الفرض مفردا فكذلك العمرة يتطوع بها إذ كانت طوافا وسعيا وإن لم يكن لها أصل في الفرض واحتج الشافعى بأنه لما جاز الجمع بينها وبين الحج دل على أنها فرض لأنها لو كانت تطوعا ما جاز أن يعمل مع عمل الحج كما لا يجمع بين صلاتين إحداهما فرض والأخرى تطوع ويجمع بين أربعة ركعات فرض قال أبو بكر وهذه قضية فاسدة يبطل عليه القول بوجوب العمرة لأنه يقال له لما جاز الجمع بينهما ولم يجز بين صلاتي فرض دل على أنها ليست بفرض وأما قوله ويجمع بين عمل أربع ركعات فإن الأربع كلها صلاة واحدة كالحج الواحد المشتمل على سائر أركانه وكالطواف الواحد المشتمل على سبعة أشواط وهو مع ذلك منتقض على أصله لأنه لو اعتمر ثم حج حجة الفريضة وقرن معها عمرة كانت العمرة تطوعا والحج فرضا فقد صح الجمع بين الفرض والنفل في الحج والعمرة فانتقض بذلك استدلال من استدل بجواز جمعها إلى الحج على وجوبها واحتج الشافعى أيضا بأنه لما جعل لها ميقات كميقات

٣٣٣

الحج دل على أنها فرض فيقال له إذا اعتمر عمرة الفريضة ورجع إلى أهله ثم أراد أن يرجع للعمرة كان لها ميقات كميقات الحج وهي تطوع فشرط الميقات ليس بدلالة على الوجوب وكذلك الحج التطوع له ميقات كميقات الواجب واحتج أيضا بوجوب الدم على القارن ولم يبين منه وجه الدلالة على الوجوب ولكن ادعى دعوى عارية من البرهان ومع ذلك فإنه منتقض لأنه لو قرن حجة فريضة مع عمرة تطوع لكان عليه دم فكذلك لو جمع بينهما وهما نافلتان لوجب الدم قوله تعالى (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) قال الكسائي وأبو عبيدة وأكثر أهل اللغة الإحصار المنع بالمرض أو ذهاب النفقة والحصر حصر العدو ويقال أحصره المرض وحصره العدو وحكى عن الفراء أنه أجاز كل واحد منهما مكان الآخر وأنكره أبو العباس المبرد والزجاج وقال هما مختلفان في المعنى ولا يقال في المرض حصره ولا في العدو أحصره قالا وإنما هذا كقولهم حبسه إذا جعله في الحبس وأحبسه أى عرضه للحبس وقتله أوقع به القتل وأقتله أى عرضه للقتل وقبره دفنه في القبر وأقبره عرضه للدفن في القبر وكذلك حصره حبسه وأوقع به الحصر واحصره عرضه للحصر وروى ابن أبى نجيح عن عطاء عن ابن عباس قال لا حصر إلا حصر عدو فأما من حبسه الله بكسر أو مرض فليس بحصر فأخبر ابن عباس أن الحصر يختص بالعدو وأن المرض لا يسمى حصرا وهذا موافق لقول من ذكرنا قولهم من أهل اللغة في معنى الاسم ومن الناس من يظن أن هذا يدل من قوله على أن المريض لا يجوز له أن يحل ولا يكون محصرا وليس في ذلك دلالة على ما ظن لأنه إنما أخبر عن معنى الاسم ولم يخبر عن معنى الحكم فاعلم أن اسم الإحصار يختص بالمرض والحصر يختص بالعدو وقد اختلف السلف في حكم المحصر على ثلاثة أنحاء روى عن ابن مسعود وابن عباس العدو والمرض سواء يبعث بدم ويحل به إذا نحر في الحرم وهو قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد وزفر والثوري والثاني قول ابن عمران المريض لا يحل ولا يكون محصرا إلا بالعدو وهو قول مالك والليث والشافعى والثالث قول ابن الزبير وعروة بن الزبير أن المرض والعدو سواء لا يحل إلا بالطواف ولا نعلم لهما موافقا من فقهاء الأمصار قال أبو بكر ولما ثبت بما قدمته من قول أهل اللغة أن اسم الإحصار يختص بالمرض وقال الله (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) وجب أن يكون اللفظ مستعملا فيما هو حقيقة

٣٣٤

فيه وهو المرض ويكون العدو داخلا فيه بالمعنى فإن قيل فقد حكى عن الفراء أنه أجاز فيهما لفظ الإحصار قيل له لو صح ذلك كانت دلالة الآية قائمة في إثباته في المرض لأنه لم يدفع وقوع الاسم على المرض وإنما أجازه في العدو فلو وقع الاسم على الأمرين لكان عموما فيهما موجبا للحكم في المريض والمحصور بالعدو جميعا فإن قيل لم تختلف الرواة أن هذه الآية نزلت في شأن الحديبية وكان النبي صلّى الله عليه سلم وأصحابه ممنوعين بالعدو فأمرهم الله بهذه الآية بالإحلال من الإحرام فدل على أن المراد بالآية هو العدو قيل له لما كان سبب نزول الآية هو العدو ثم عدل عن ذكر الحصر وهو يختص بالعدو إلى الإحصار الذي يختص بالمرض دل ذلك على أنه أراد إفادة الحكم في المرض ليستعمل اللفظ على ظاهره ولما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه بالإحلال وحل هو دل على أنه أراد حصر العدو من طريق المعنى لا من جهة اللفظ فكان نزول الآية مفيدا للحكم في الأمرين ولو كان مراد الله تعالى تخصيص العدو بذلك دون المرض لذكر لفظا يختص به دون غيره ومع ذلك لو كان اسما للمعنيين لم يكن نزوله على سبب موجبا للاقتصار بحكمه عليه بل كان الواجب اعتبار عموم اللفظ دون السبب يدل عليه من جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن حجاج الصواف قال حدثني يحيى بن أبى كثير عن عكرمة قال سمعت الحجاج بن عمرو الأنصارى قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل قال عكرمة فسألت ابن عباس وأبا هريرة فقالا صدق ومعنى قوله فقد حل فقد جاز له أن يحل كما يقال حلت المرأة للزوج يعنى جاز لها أن تتزوج فإن قيل روى حماد وابن زيد عن أيوب عن عكرمة أنه قال في المحصر يبعث بالهدى فإذا بلغ الهدى محله حل وعليه الحج من قابل وقال لقد رضى الله سبحانه بالقصاص من عباده ويأخذ منهم العدو أن عليه حج مكان حج وإحرام مكان إحرام فزعم هذا القائل أنه لو كان عند عكرمة هذا الحديث لما كان قال يبعث بالهدى ولقال يحل كما روى في الخبر وهذا القائل إنما غلط حين ظن أن المعنى في قوله حل وقوع الإحلال بنفس الإحصار وليس هو كما ظن وإنما معناه أنه جاز له أن يحل كما ذكرنا مثله فيما يطلقه الناس من قولهم حلت المرأة للأزواج يريدون به قد جاز له أن تحل بالتزويج ويدل عليه من جهة النظر أن المحصر بالعدو لما جاز له الإحلال لتعذر وصوله إلى البيت وكان ذلك

٣٣٥

موجودا في المرض وجب أن يكون بمنزلته وفي حكمه ألا ترى أنه متى لم يتعذر وصوله إلى البيت بمنع العدو لم يجز له أن يحل فدل ذلك على أن المعنى فيه تعذر وصوله إلى البيت ويدل على ذلك موافقة مخالفينا إيانا على أن المرأة إذا منعها زوجها من حجة التطوع بعد الإحرام جاز لها الإحلال وكانت بمنزلة المحصر مع عدم العدو وكذلك من حبس في دين أو غيره فتعذر عليه الوصول إلى البيت كان في حكم المحصر فكذلك المريض ويدل عليه أن سائر الفروض لا يختلف حكمها في كون المنع منها بالعدو أو المرض ألا ترى أن الخائف جائز له فعل الصلاة بالإيماء أو قاعدا إذا تعذر عليه فعلها قائما كما يجوز ذلك للمريض فكذلك المضي في الإحرام واجب أن لا يختلف حكمه عند تعذر الوصول إلى البيت لمرض كان ذلك أو لخوف عدو وكذلك هذا في استقبال القبلة إذا كان خائفا أو مريضا وكذلك من عدم الماء أو كان مريضا ومن لا يجد ما يحتمل به للجهاد ومن كان مريضا لم يختلف حكم الأعذار في سقوط الفرض كذلك ينبغي أن لا يختلف حكمها في باب سقوط فرض المضي على الإحرام وجواز الإحلال منه والمعنى في الجميع تعذر الفعل فإن قيل لما قال تعالى (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ثم عقب ذلك بقوله (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ) دل ذلك من وجهين على أن المريض غير مراد بذكر الإحصار لأنه لو كان كذلك لما استأنف له ذكرا مع كونه في أول الخطاب والوجه الآخر أنه لو كان مرادا به لكان يحل بذلك الدم ولم يكن يحتاج إلى فدية* قيل له لما قال الله تعالى (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) منعه الإحلال مع وجود الإحصار إلى وقت بلوغ الهدى محله وهو ذيحه في الحرم فأبان عن حكم المريض قبل بلوغ الهدى محله وأباح له حلق الرأس مع إيجاب الفدية ووجه آخر وهو أنه ليس كل مرض يمنع الوصول إلى البيت ألا ترى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لكعب بن عجرة(أتؤذيك هوام رأسك) قال نعم فأنزل الله الآية ولم تكن هوام رأسه مانعته من الوصول إلى البيت فرخص الله له في الخلق وأمره بالفدية وكذلك المرض المذكور في الآية جائز أن يكون المرض الذي ليس معه إحصار والله سبحانه إنما جعل المرض إحصارا إذا منع الوصول إلى البيت فليس في ذكره حكم المريض بما وصف ما يمنع كون المرض إحصارا* ووجه آخر وهو قوله (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) يجوز أن يكون عائدا

٣٣٦

إلى أول الخطاب كما عاد إليه حكم الإحصار وهو قوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ثم عطف عليه قوله (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) فبين حكمهم إذا أحصروا ثم عقبه بقوله (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) يعنى أيها المحرمون بالحج والعمرة فبين حكمهم إذا مرضوا قبل الإحصار كما بين حكمهم عند الإحصار فليس إذا في قوله (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) دلالة على أن المرض لا يكون إحصارا فإن قيل لما قال في سياق الآية (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) دل على أن مراده العدو المخوف لأن الأمن يقتضى الخوف* قيل له ما الذي يمنع أن يكون المراد الأمن ضرر المرض المخوف ولم جعلته مخصوصا بالعدو دون المرض والأمن والخوف موجودان فيهما وقد روى عن عروة بن الزبير في قوله (فَإِذا أَمِنْتُمْ) يعنى إذا أمنت من كسرك ووجعك فعليك أن تأتى البيت* فإن قيل الفرق بين العدو والمرض أن المحصر بعدو إن لم يمكنه أن يتقدم أمكنه الرجوع والمريض لا يختلف حاله في التقدم والرجوع* قيل له فهذا أحرى أن يكون محصرا لتعذر الأمرين عليه فهو أعذر ممن يمكنه الرجوع وإن تعذر عليه المضي للخوف ويقال أيضا ما تقول في المحصر بالعدو إذا كان محيطا به ولم يمكنه الرجوع ولا التقدم أليس جائزا له الإحلال بلا خلاف بين الفقهاء فقد انتقضت علتك في الفرق بينهما ومع ذلك فقد قال الشافعى في المحرمة إذا منعها زوجها والمحبوس أنهما محصران وجائز لهما الإحلال وحال التقدم والرجوع لهما سواء لأنهما ممنوعان من الأمرين وزعم الشافعى أن الفرق بين المريض والخائف أن الله تعالى قد أباح للخائف في القتال أن يتحيز إلى فئة فينتقل بذلك من الخوف إلى الأمن فيقال له وكذلك قد أباح للمريض ترك القتال رأسا بقوله (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) فكانت رخصة المريض أوسع من رخصة الخائف لأن الخائف غير معذور في ترك حضور القتال والمريض معذور فيه وإنما عذر الخائف أن يتحيز إلى فئة ولم يعذر في ترك القتال رأسا فالمريض أولى بالعذر في الإحلال من إحرامه قال الشافعى فلما قال الله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ثم قال في شأن المحصر الخائف ما قال وجب أن لا يزول فرض تمام الحج والعمرة إلا عن الخائف فيقال له الذي قال (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) هو الذي قال (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) وهو عموم في الخائف وغيره فلا يخرج شيء منه إلا بدلالة فما الدلالة على تخصيصه بالخائف دون غيره وقد

٣٣٧

نقضت ذلك بإطلاقك للمرأة الإحلال إذا منعها زوجها وليست بخائفة وكذلك المحبوس لا يخاف القتل* وقال المزني جعل الإحلال رخصة للخائف من العدو ولا يشبه به غير غيره كما جعل المسح على الخفين خاصا لا يشبه به القفازين فيقال له إن كان المعنى فيه أنه رخصة فينبغي أن لا يقاس على شيء من الرخص فإذا رخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاستنجاء بالأحجار وجب أن لا يشبه به غيره في جواز الاستنجاء بالخرق والخشب ولما كان حلق الرأس من أذى رخصة وجب أن لا يشبه به الأذى في البدن في إباحة الحلق والفدية ويلزمه أن لا يشبه بالخائف المحبوس والمرأة إذا منعها زوجها وجميع ما ذكرنا ينقض اعتلاله.

(فصل) قال أبو بكر رضى الله عنه والإحصار من الحج والعمرة سواء وحكى عن محمد بن سيرين أن الإحصار يكون من الحج دون العمرة وذهب إلى أن العمرة غير موقتة وإنه لا يخشى الفوات وقد تواترت الأخبار بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان محرما بالعمرة عام الحديبية وأنه أحل من عمرته بغير طواف ثم قضاها في العام القابل في ذي القعدة وسميت عمرة القضاء وقال الله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ـ ثم قال ـ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) وذلك حكم عائد إليهما جميعا وغير جائز الاقتصار على أحدهما دون الآخر لما فيه من تخصيص حكم اللفظ بغير دلالة* وقوله تعالى (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) قال أبو بكر قد اختلف السلف في ذلك فروى عن عائشة وابن عمر أنهما قالا لا يكون الهدى إلا من الإبل والبقر وقال ابن عباس شاة واختلف فقهاء الأمصار فيه فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والشافعى الهدى من الأصناف الثلاثة الإبل والبقر والغنم وهو قول ابن شبرمة قال ابن شبرمة والبدن من الإبل خاصة وقال أصحابنا والشافعى من الإبل والبقر واختلفوا في السن فقال أصحابنا والشافعى لا يجز في الهدى من الإبل والبقر والغنم إلا الثنى فصاعدا إلا الجذع من الضأن فإنه يجزى وقال مالك لا يجزى من الهدى إلا الثنى فصاعدا وقال الأوزاعى يهدى الذكور من الإبل ويجوز الجذع من الإبل والبقر ويجزى كل واحد منهما عن سبعة قال أبو بكر الهدى اسم لما يهدى إلى البيت على وجه التقرب به إلى الله تعالى وجائز أن يسمى به ما يقصد به الصدقة وإن لم يهد إلى البيت قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (المبكر إلى الجمعة كالمهدى بدنة ثم الذي يليه كالمهدى بقرة ثم الذي يليه كالمهدى شاة ثم الذي يليه كالمهدى دجاجة ثم الذي يليه كالمهدى بيضة) فسمى الدجاجة

٣٣٨

والبيضة هديا وإن لم يرد به إهداءه إلى البيت وإنما أراد به الصدقة وإخراجها مخرج القربة ولذلك قال أصحابنا فيمن قال لله على أن أهدى ثوبي هذا أو دارى هذه أن عليه أن يتصدق به واتفق الفقهاء على أن ما عدا هذه الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم ليس من الهدى المراد بقوله (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) واختلفوا فيما أريد به منها على ما ذكرنا وظاهر الآية يقتضى دخول الشاة فيه لوقوع الاسم عليها ولم يختلفوا في معنى قوله (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) أن الشاة منه وأنه يكون هديا في جزاء الصيد وروى إبراهيم عن الأسود عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهدى غنما مرة وروى الأعمش عن أبى سفيان عن جابر قال كان فيما أهدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غنم مقلدة * فإن قيل الرواية عن عائشة في هدى الغنم لا يصح لأن القاسم قد روى عنها أنها كانت لا ترى الغنم مما يستيسر من الهدى قيل له إنما معناه أنه لا يصير محرما بها وأن هدى الإبل والبقر يوجب الإحرام إذا أراده وقلدهما وأما اعتبار الثنى فلما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قصة أبى بردة بن نيار حين ضحى قبل الصلاة فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإعادتها فقال عندي جذعة من المعز خير من شاتى لحم فقال تجزى عنك ولا تجزى عن أحد بعدك فمنع الجذع في الأضحية والهدى مثلها لأن أحدا لم يفرق بينهما وإنما أجازوا الجذع من الضأن لما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أمر بأن يضحى بالجذع من الضأن إذا فرض له ستة أشهر وقد بينا ذلك في شرح المختصر* وقد اختلفوا في جواز الشركة في دم الهدايا الواجبة فقال أصحابنا والشافعى تجوز البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة وقال مالك يجوز ذلك في التطوع ولا يجزى في الواجب وروى جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه جعل يوم الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة وتلك كانت واجبة لأنها كانت عن إحصار ولما اتفقوا على جوازها عن سبعة في التطوع كان الواجب مثله لأنهما لا يختلفان في الجواز في سائر الوجوه ويدل عليه قوله (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ظاهره يقتضى التبعيض فوجب أن يجزى بعض الهدى بحق الظاهر والله أعلم.

باب المحصر أين يذبح الهدى

قال الله تعالى (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) واختلف السلف في المحل ما هو فقال عبد الله بن مسعود وابن عباس وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين هو الحرم وهو قول أصحابنا والثوري وقال مالك والشافعى محله الموضع الذي أحصر

٣٣٩

فيه فيذبحه ويحل والدليل على صحة القول الأول أن المحل اسم لشيئين يحتمل أن يراد به الوقت ويحتمل أن يراد به المكان ألا ترى أن محل الدين هو وقته الذي تجب المطالبة به وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لضباعة بنت الزبير(اشترطى في الحج وقولي محلى حيث حبستني) فجعل المحل في هذا الموضع اسما للمكان فلما كان محتملا للأمرين ولم يكن هدى الإحصار في العمرة موقنا عند الجميع وهو لا محالة مراد بالآية وجب أن يكون مراده المكان فاقتضى ذلك أن لا يحل حتى يبلغ مكانا غير مكان الإحصار لأنه لو كان موضع الإحصار محلا للهدى لكان بالغا محله بوقوع الإحصار ولأدى ذلك إلى بطلان الغاية المذكورة في الآية فدل ذلك على أن المراد بالمحل هو الحرم لأن كل من لا يجعل موضع الإحصار محلا للهدى فإنما يجعل المحل الحرم ومن جعل محل الهدى موضع الإحصار أبطل فائدة الآية وأسقط معناها* ومن جهة أخرى وهو أن قوله (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ـ إلى قوله ـ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ودلالته على صحة قولنا في المحل من وجهين أحدهما عمومه في سائر الهدايا والآخر ما فيه من بيان معنى المحل الذي أجمل ذكره في قوله (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) فإذا كان الله قد جعل المحل البيت العتيق فغير جائز لأحد أن لا يجعل المحل غيره* ويدل عليه قوله في جزاء الصيد (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) فجعل بلوغ الكعبة من صفات الهدى فلا يجوز شيء منه دون وجوده فيه كما أنه لما قال في الظهار وفي القتل (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) فقيدهما بفعل التتابع لم يجز فعلهما إلا على هذا الوجه وكذلك قوله (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) لا يجوز إلا على الصفة المشروطة وكذلك قال أصحابنا في سائر الهدايا التي تذبح أنها لا تجوز إلا في الحرم* ويدل عليه أيضا قوله في سياق الخطاب بعد ذكر الإحصار (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) فأوجب على المحصر دما ونهاه عن الحلق حتى يذبح هديه فلو كان ذبحه في الحل جائز الذبح صاحب الأذى هديه عن الإحصار وحل به واستغنى عن فدية الأذى فدل ذلك على أن الحل ليس بمحل الهدى* فإن قيل* هذا فيمن لا يجد هدى الإحصار* قيل له لا يجوز أن يكون ذلك خطابا فيمن لا يجد الدم لأنه خيره بين الصيام والصدقة والنسك ولا يكون مخيرا بين الأشياء الثلاثة إلا وهو واجد لها لأنه لا يجوز التخيير بين ما يجد وبين ما لا يجد فثبت بذلك أن محل الهدى هو

٣٤٠