أحكام القرآن - ج ١

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٤

قالت عائشة إن كان ليكون على الصوم من شهر رمضان فما أستطيع أن أقضيه حتى يأتى شعبان وروى عن عمرو أبى هريرة قالا لا بأس بقضاء رمضان في العشر وكذلك عن سعيد ابن جبير وقال عطاء وطاوس ومجاهد اقض رمضان متى شئت فهؤلاء السلف قد اتفقوا على جواز تأخيره عن أول أوقات إمكان قضائه* وقد اختلف الفقهاء فيمن أخر القضاء حتى حضر رمضان آخر فقال أصحابنا جميعا يصوم الثاني عن نفسه ثم يقضى الأول ولا فدية عليه وقال مالك والثوري والشافعى والحسن بن صالح إن فرط في قضاء الأول أطعم مع القضاء كل يوم مسكينا وقال الثوري والحسن بن حي لكل يوم نصف صاع بر وقال مالك والشافعى كل يوم مدا وإن لم يفرط بمرض أو سفر فلا إطعام عليه وقال الأوزاعى إذا فرط في قضاء الأول ومرض في الآخر حتى انقضى ثم مات فإنه يطعم عن الأول لكل يوم مدين مدا لتضييعه ومدا للصيام ويطعم عن الآخر مدا مدا لكل يوم واتفق من تقدم ذكر قوله قبل الأوزاعى أنه إذا مرض في رمضان ثم مات قبل أن يصح أنه لا يجب أن يطعم عنه* وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي قال حدثنا إبراهيم ابن إسحاق الضبي قال حدثنا قيس عن الأسود بن قيس عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يرى بأسا بقضاء رمضان في ذي الحجة * وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا يحيى بن إسحاق قال حدثنا ابن لهيعة عن الحرث بن يزيد عن أبى تميم الجيشاني قال جمعنا المجلس بطرابلس ومعنا هبيب بن معقل الغفاري وعمرو بن العاص صاحبا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عمرو أفصل رمضان وقال الغفاري لا نفرق بين رمضان فقال عمرو نفرق بين قضاء رمضان إنما قال الله تعالى (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وحدثنا عبد الله بن عبد ربه البغلانى قال حدثنا عيسى بن أحمد العسقلاني قال حدثنا بقية عن سليمان بن أرقم عن الحسن عن أبى هريرة قال قال رجل يا رسول الله على أيام من رمضان أفأفرق بينه قال نعم أرأيت لو كان عليك دين فقضيته متفرقا أكان يجزيك قال نعم قال فإن الله أحق بالتجاوز والعفو * فهذه الأخبار كلها تنبئ عن جواز تأخير قضاء رمضان عن أول وقت إمكان قضائه وقد روى عن جماعة من الصحابة إيجاب الفدية على من أخر قضاء رمضان إلى العام القابل منهم ابن عباس روى عن يزيد بن هارون عن عمرو بن ميمون بن مهران عن أبيه قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال مرضت رمضانين فقال

٢٦١

ابن عباس استمر بك مرضك أو صححت فيما بينهما قال بل صححت فيما بينهما قال أكان هذا قال لا قال فدعه حتى يكون فقام إلى أصحابه فأخبرهم فقالوا ارجع فأخبره أنه قد كان فرجع هو أو غيره وسأله فقال أكان هذا قال نعم قال صم رمضانين وأطعم ثلاثين مسكينا وقد روى روح بن عبادة عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر في رجل فرط في قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر قال يصوم الذي أدركه ويطعم عن الأول كل يوم مدا من بر ولا قضاء عليه وهذا يشبه مذهبه في الحامل أنها تطعم ولا قضاء عليها مع ذلك وقد روى عن أبى هريرة مثل قول ابن عباس وقد روى عن ابن عمر في ذلك قول آخر روى حماد بن سلمة عن أيوب وحميد عن أبى يزيد المدني أن رجلا احتضر فقال لأخيه إن لله على دينا وللناس على دين فابدأ بدين الله فاقضه ثم اقض دين الناس إن على رمضانين لم أصمهما فسأل ابن عمر فقال بدنتان مقلدتان فسأل ابن عباس وأخبره بقول ابن عمر فقال يرحم الله أبا عبد الرحمن ما شأن البدن وشأن الصوم أطعم عن أخيك ستين مسكينا قال أيوب وكانوا يرون أنه قد كان صح بينهما وذكر الطحاوي عن ابن أبى عمران قال سمعت يحيى بن أكثم أنه يقول وجدته يعنى وجوب الإطعام عن ستة من الصحابة ولم أجد لهم من الصحابة مخالفا وهذا جائز أن يريد به من مات قبل القضاء* وقوله تعالى (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) قد دل على جواز التفريق وعلى جواز التأخير وعلى أن لا فدية عليه لأن في إيجاب الفدية مع القضاء زيادة في النص ولا تجوز الزيادة في النص إلا بنص مثله وقد اتفقوا على أن تأخيره إلى آخر السنة لا يوجب الفدية وأن الآية إنما أوجبت قضاء العدة دون غيرها من الفدية ومعلوم أن قضاء العدة في السنة الثانية واجب بالآية فغير جائز أن يكون المراد في بعض ما انتظمته الآية القضاء دون الفدية وفي بعضه القضاء والفدية مع دخولهما فيها على وجه واحد ألا ترى أنه غير جائز أن يكون على بعض السراق المراد بالآية القطع وزيادة غرم وكذلك لا يجوز أن يكون بعضهم لا يقطع إلا في عشرة وبعضهم يقطع فيما دونها كذلك لا يجوز أن يكون بعض المرادين بقوله (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) مخصوصا بإيجاب القضاء دون الفدية وبعضهم مراد بالقضاء والفدية* ومن جهة أخرى أنه غير جائز إثبات الكفارات إلا من طريق التوقيف أو الاتفاق وذلك معدوم فيما وصفنا فلم يجز إثبات الفدية قياسا وأيضا فإن الفدية ما قام مقام الشيء وأجزأ عنه

٢٦٢

فإنما يختص وجوبها بمن لا يجب عليه القضاء كالشيخ الكبير ومن مات مفرطا قبل أن يقضى فأما اجتماع الفدية والقضاء فممتنع على ما بينا في باب الحامل والمرضع فمذهب ابن عمر في هذا أظهر في إيجابه الفدية دون القضاء من مذهب من جمعهما ومن حديث ابى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي قدمنا ذكره على أن تأخيره لا يوجب الفدية من وجهين أحدهما أنه لم يذكر الفدية عند ذكر التفريق ولو كان تأخيره يوجب الفدية لبينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والثاني تشبيهه إياه بالدين ومعلوم أن تأخير الدين لا يلزمه شيئا غير قضائه فكذلك ما شبهه به من قضاء رمضان فإن قيل لما اتفقنا على أنه منهى عن تأخيره إلى العام القابل وجب أن يجعل مفرطا بذلك فيلزمه الفدية كما لو مات قبل أن يقضيه لزمته الفدية بالتفريط* قيل له إن التفريط لا يلزمه الفدية وإنما الذي يلزمه الفدية فوات القضاء بعد الإمكان بالموت والدليل على ذلك أنه لو أكل في رمضان متعمدا كان مفرطا وإذا قضاه في تلك السنة لم تلزمه الفدية عند الجميع فدل ذلك على أن حصول التفريط منه ليس بعلة لإيجاب الفدية* وحكى على بن موسى القمي أن داود الأصفهاني قال يجب على من أفطر يوما من رمضان لعذر أن يصوم الثاني من شوال فإن ترك صيامه فقد أثم وفرط فخرج بذلك عن اتفاق السلف والخلف معا وعن ظاهر قوله تعالى (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وقوله (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) وخالف السنن التي روينا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك قال على بن موسى سألته يوما فقلت له لم قلت ذلك قال لأنه إن لم يصم اليوم الثاني من شوال فمات فكل أهل العلم يقولون إنه آثم مفرط فدل ذلك على أن عليه أن يصوم ذلك اليوم لأنه لو كان موسعا له أن يصومه بعد ذلك ما لزمه التفريط إن مات من ليلته قال فقلت له ما تقول في رجل وجب عليه عتق رقبة فوجد رقبة تباع بثمن موافق هل له أن يتعداها ويشترى غيرها فقال لا فقلت لم قال لأن الفرض عليه أن يعتق أول رقبة يجدها فإذا وجد رقبة لزمه الفرض فيها وإذا لزمه الفرض في أول رقبة لم يجزه غيرها إذا كان واجدا لها فقلت فإن اشترى رقبة غيرها فأعتقها وهو واجد للأولى فقال لا يجزيه ذلك قلت فإن كان عنده رقبة فوجب عليه عتق رقبة هل يجزيه أن يشترى غيرها قال لا فقلت لأن العتق صار عليه فيها دون غيرها فقال نعم فقلت فما تقول إن ماتت هل يبطل عنه العتق كما أن من نذر أن يعتق رقبة بعينها فماتت يبطل نذره فقال لا بل عليه أن يعتق

٢٦٣

غيرها لأن هذا إجماع فقلت وكذلك من وجب عليه رقبة بالإجماع أن له أن يعتق غيرها فقال عمن تحكى هذا الإجماع فقلت له وعمن تحكى أنت الإجماع الأول فقال الإجماع لا يحكى فقلت والإجماع الثاني أيضا لا يحكى وانقطع قال أبو بكر وجميع ما قاله داود من تعيين فرض القضاء باليوم الثاني من شوال وأن من وجب عليه رقبة فوجدها أنه لا يتعداها إلى غيرها خلاف إجماع المسلمين كلهم وما ادعاه على أهل العلم بأنهم يجعلونه مفرطا إذا مات وقد أخره عن اليوم الثاني فليس كما ادعى فإن من جعل له التأخير إلى آخر السنة لا يجعله مفرطا بالموت لأن السنة كلها إلى أن يجيء رمضان ثان وقت القضاء موسع له في التأخير كوقت الصلاة أنه لما كان موسعا عليه في التأخير من أوله إلى آخره لم يكن مفرطا بتأخيره إن مات قبل مضى الوقت فكذلك يقولون في قضاء رمضان فإن قيل لو لم يكن مفرطا لما لزمته الفدية إذا مات قبل مضى السنة ولم يقضه* قيل له ليس لزوم الفدية علما للتفريط لأن الشيخ الكبير يلزمه الفدية مع عدم التفريط وقول داود الإجماع لا يحكى خطأ فإن الإجماع يحكى كما تحكى النصوص وكما يحكى الإختلاف فإن أراد بذلك أن كل واحد من المجمعين لا يحتاج إلى حكاية أقاويلهم بعد أن ينشر القول عن جماعة منهم وهم حضور يسمعون ولا يخالفون فإن ذلك على ما قال ومع ذلك لا يجوز إطلاق القول بأن الإجماع لا يحكى لأن من الإجماع ما يحكى فيه أقاويل جماعتهم فيكون ما يحكيه من إجماعهم حكاية صحيحة ومنه ما يحكى أقاويل جماعة منهم منتشرة مستفيضة مع سماع الآخرين لها وترك إظهار المخالفة فهذا أيضا إجماع يحكى إذ كان ترك الآخرين إظهار النكير والمخالفة قائما مقام الموافقة فهذان الضربان من إجماع الخاصة والفقهاء يحكيان جميعا وإجماع آخر وهو ما تشترك فيه الخاصة والعامة كإجماعهم على تحريم الزنا والربا ووجوب الاغتسال من الجنابة والصلوات الخمس ونحوها فهذه أمور قد علم اتفاق المسلمين عليها وإن لم يحك عن كل واحد منهم بعينه اعتقاده والتدين به فإن عنى هذا الضرب من الإجماع فقد يسوغ أن يقال أن مثله لا يحكى وقد يسوغ أن يقال إن هذا الضرب أيضا يحكى لعلمنا بإجماع أهل الصلاة على اعتقاده والتدين به فجائز أن يحكى عنهم اعتقادهم لذلك والتدين به وأنهم مجمعون عليه كما إذا ظهر لنا إسلام رجل وإظهار اعتقاده الإيمان أن يحكى عنه أنه مسلم وقال الله تعالى (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) وبالله التوفيق.

٢٦٤

باب الصيام في السفر

قال الله تعالى (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) في هذه الآية دلالة واضحة على أن الإفطار في السفر رخصة يسر الله بها علينا ولو كان الإفطار فرضا لازما لزالت فائدة قوله (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) فدل على أن المسافر مخير بين الإفطار وبين الصوم كقوله تعالى (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) وقوله (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) فكل موضع ذكر فيه اليسر ففيه الدلالة على التخيير وروى عبد الرحيم الجزري عن طاوس عن ابن عباس قال لا نعيب على من صام ولا على من أفطر لأن الله قال (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) فأخبر ابن عباس أن اليسر المذكور فيه أريد به التخيير فلو لا احتمال الآية لما تأولها عليه وأيضا فقال الله (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ثم عطف عليه قوله (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فلم يوجب عليه الإفطار ولا الصوم والمسافر شاهد للشهر من وجهين أحدهما العلم به وحضوره والآخر أنه من أهل التكليف فهذا يدل على أنه من أهل الخطاب بصوم الشهر وأنه مع ذلك مرخص له في الإفطار وقوله (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) معناه فأفطر فعدة من أيام أخر كقوله تعالى (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ) المعنى فحلق ففدية من صيام ويدل على أن ذلك مضمر فيه اتفاق المسلمين على أن المريض متى صام أجزأه ولا قضاء عليه إلا أن يفطر فدل على أن الإفطار مضمر فيه وإذا كان كذلك فذلك الضمير بعينه هو مشروط للمسافر كهو للمريض لذكرهما جميعا في الآية على وجه العطف وإذا كان الإفطار مشروطا في إيجاب العدة فمن أوجب على المسافر القضاء إذا صام فقد خالف حكم الآية واتفقت الصحابة ومن بعدهم من التابعين وفقهاء الأمصار على جواز صوم المسافر غير شيء يروى عن أبى هريرة أنه قال من صام في السفر فعليه القضاء وتابعه عليه شواذ من الناس لا يعدون خلافا وقد ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخبر المستفيض الموجب للعلم بأنه صام في السفر وثبت عنه أيضا إباحة الصوم في السفر منه حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن حمزة بن عمر والأسلمى قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصوم في السفر فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن شئت فصم وإن شئت فأفطر وروى ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله وأبو الدرداء وسلمة بن

٢٦٥

المحبق صيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السفر واحتج من أبى جواز صوم المسافر وأوجب عليه القضاء بظاهر قوله (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) قالوا فالعدة واجبة في الحالين إذ ليس في الآية فرق بين الصائم والمفطر وبما روى كعب بن عاصم الأشعرى وجابر بن عبد الله وأبو هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (ليس من البر الصيام في السفر) ومما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي قال حدثنا إبراهيم بن منذر الحزامي قال حدثنا عبد الله بن موسى التيمي عن أسامة بن زيد عن الزهري عن أبى سلمة ابن عبد الرحمن عن أبيه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الصائم في السفر كالمفطر في الحضر) ومما روى أنس بن مالك القشيري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم وعن الحامل والمرضع فأما الآية فلا دلالة لهم فيها بل هي دالة على جواز صوم المسافر لما بينا وأما ما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (ليس من البر الصيام في السفر) فإنه كلام خرج على حال مخصوصة فهو مقصور الحكم عليها وهي ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال أبو الوليد الطيالسي قال حدثنا شعبة عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن محمد بن عمرو بن الحسن عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا يظلل عليه والزحام عليه فقال (ليس من البر الصيام في السفر) فجائز أن يكون كل من روى ذلك فإنما حكى ما ذكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلك الحال وساق بعضهم ذكر السبب وحذفه بعضهم واقتصر على حكاية قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد ذكر أبو سعيد الخدري في حديثه أنهم صاموا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفتح في رمضان ثم أنه قال لهم إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا فكانت عزيمة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أبو سعيد ثم لقد رأيتنى أصوم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل ذلك وبعد ذلك حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا ابن وهب قال حدثني معاوية عن ربيعة بن يزيد أنه حدثه عن قزعة قال سألت أبا سعيد الخدري عن صيام رمضان في السفر وذكر الحديث فذكر أيضا في هذا الحديث علة أمره بالإفطار وأنها كانت لأنه أقوى لهم على قتال عدوهم وذلك لأن الجهاد كان فرضا عليهم ولم يكن فعل الصوم في السفر فرضا فلم يكن جائزا لهم ترك الفرض لأجل الفضل وأما حديث أبى سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه فإن أبا سلمة ليس له سماع من أبيه فكيف يجوز ترك الأخبار المتواترة في جواز الصوم بحديث مقطوع لا يثبت عند كثير من

٢٦٦

الناس ومع ذلك فجائز أن يكون كلاما خرج على سبب وهو حال لزوم القتال مع العلم بالعجز عنه مع فعل الصوم فكان حكمه مقصورا على تلك الحال لمخالفة أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولما يؤدى إليه من ترك الجهاد وأما قوله إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم وعن الحامل والمرضع فإنما يدل على أن الفرض لم يتعين عليه لحضور الشهر وأن له أن يفطر فيه ولا دلالة فيه على نفى الجواز إذا صامه كما لم ينف جواز صوم الحامل والمرضع وقال أصحابنا الصوم في السفر أفضل من الإفطار وقال مالك والثوري الصوم في السفر أحب إلينا لمن قوى عليه وقال الشافعى إن صام في السفر أجزأه ومما يدل على أن الصوم فيه أفضل قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ـ إلى قوله ـ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) وذلك عائد إلى جميع المذكور في الآية إذ كان الكلام معطوفا بعضه على بعض فلا يخص شيء منه إلا بدلالة فاقتضى ذلك أن يكون صوم المسافر خيرا له من الإفطار* فإن قيل هو عائد على ما يليه دون ما تقدمه وهو قوله (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) قيل له لما كان قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) خطابا للجميع من المسافرين والمقيمين فواجب أن يكون قوله (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) خطابا لجميع من شمله الخطاب في ابتداء الآية وغير جائز الاقتصار به على البعض وأيضا فقد ثبت جوازه عن الفرض بما قدمناه وما كان كذلك فهو من الخيرات وقال الله (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) مدح قوما فقال (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) فالمسارعة إلى فعل الخيرات وتقديمها أفضل من تأخيرها وأيضا فعل الفروض في أوقاتها أفضل من تأخيرها إلى غيرها وأيضا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (من أراد أن يحج فليعجل) فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتعجيل الحج فكذلك ينبغي أن يكون سائر الفرائض المفعولة في وقتها أفضل من تأخيرها عن وقتها وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عقبة بن مكرم قال حدثنا أبو قتيبة قال حدثنا عبد الصمد بن حبيب بن عبد الله الأزدى قال حدثني حبيب بن عبد الله قال سمعت سنان بن سلمة بن المحبق الهذلي يحدث عن أبيه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (من كانت له حمولة يأوى إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه) وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا نصر بن المهاجر قال حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال حدثنا عبد الصمد بن حبيب

٢٦٧

قال حدثني أبى عن سنان بن سلمة عن سلمة بن المحبق قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (من أدركه رمضان في السفر) فذكر معناه فأمره بالصوم في السفر وهذا على وجه الدلالة على الأفضلية لا على جهة الإيجاب لأنه لا خلاف أن الصوم في السفر غير واجب عليه وقد روى عثمان بن أبى العاص الثقفي وأنس بن مالك أن الصوم في السفر أفضل من الإفطار والله أعلم.

باب من صام في السفر ثم أفطر

قد اختلف فيمن صام في السفر ثم أفطر من غير عذر فقال أصحابنا عليه القضاء ولا كفارة وكذلك لو أصبح صائما ثم سافر فأفطر أو كان مسافرا فصام وقدم فأفطر فعليه القضاء في هذه الوجوه ولا كفارة عليه وذكر ابن وهب عن مالك في الصائم في السفر إذا أفطر عليه القضاء والكفارة وقال مرة لا كفارة وروى ابن القاسم عن مالك أن عليه الكفارة وقال لو أصبح صائما في حضره ثم سافر فأفطر فليس عليه إلا القضاء وقال الأوزاعى لا كفارة على المسافر في الإفطار وقال الليث عليه الكفارة* قال أبو بكر الأصل في ذلك أن كفارة رمضان تسقطها الشبهة فهي بمنزلة الحد والدليل على ذلك أنها لا تستحق إلا بمأثم مخصوص كالحدود فلما كانت الحدود تسقطها الشبهة كانت كفارة رمضان بمثابتها فإذا ثبت ذلك قلنا أنه متى أفطر في حال السفر فإن وجود هذه الحال مانع من وجوب الكفارة لأن السفر يبيح الإفطار فأشبه عقد النكاح وملك اليمين في إباحتهما الوطء وإن كانا غير مبيحين لوطئ الحائض إلا أنهم متفقون على أن وجود السبب المبيح للوطء في الأصل مانع من وجوب الحد وإن لم يبح هذا الوطء بعينه كذلك السفر وإن لم يبح الإفطار بعد الدخول في الصوم فإنه يمنع وجوب الكفارة إذ كان في الأصل قد جعل سببا لإباحة الإفطار فلذلك قلنا إذا أفطر وهو مسافر فلا كفارة عليه وقد روى ابن عباس وأنس بن مالك وغيرهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفطر في السفر بعد ما دخل في الصوم وذلك لتعليم الناس جواز الإفطار فيه فغير جائز فيما كان هذا وصفه إيجاب الكفارة على المفطر فيه ووجه آخر وهو أنه لما لم يكن فعل الصوم مستحقا عليه في السفر أشبه الصائم في قضاء رمضان أو في صوم نذر أو كفارة فلا تجب عليه الكفارة بإفطاره فيه إذ كان له بديا أن لا يصومه ولم يكن لزوم إتمامه بالدخول فيه موجبا عليه

٢٦٨

الكفارة عند الإفطار فكذلك المسافر إذا صام ثم أفطر وأما إذا أصبح مقيما ثم سافر فأفطر فهو كما وصفنا من وجود الحال المبيحة للإفطار وهي حال السفر كوجود النكاح وملك اليمين في إباحة الوطء وإن لم يبح وطئ الحائض* فإن قيل فهذا لم يكن له في ابتداء النهار ترك الصوم لكونه مقيما فينبغي أن يوجب عليه الكفارة إذ كان فعل الصوم مستحقا عليه في ابتداء النهار* قيل له لا يجب ذلك لأنه قد طرئ من الحال ما يمنع وجوب الكفارة وهو ما وصفنا وأما إذا كان مسافرا فقدم ثم أفطر فلا كفارة عليه لأنه قد كان له أن لا يصوم بديا فأشبه الصائم في قضاء رمضان وكفارة اليمين ونحوها* واختلف في المسافر يفطر ثم يقدم من يومه والحائض تطهر في بعض النهار فقال أصحابنا والحسن ابن صالح والأوزاعى عليهما القضاء ويمسكان بقية يومهما عما يمسك عنه الصائم وهو قول عبيد الله بن الحسن وقال ابن شبرمة في المسافر إذا قدم ولم يأكل شيء أنه يصوم بقية يومه ويقضى ولو طهرت المرأة من حيضها فإنها تأكل ولا تصوم وقال ابن القاسم عن مالك في المرأة تطهر والمسافر يقدم وقد أفطر في السفر أنه يأكل ولا يمسك وهو قول الشافعى وروى عن جابر بن زيد مثله وروى الثوري عن عبد الله أنه قال من أكل أول النهار فليأكل آخره ولم يذكر سفيان عن نفسه خلاف ذلك وقال ابن القاسم عن مالك لو أصبح ينوى الإفطار وهو لا يعلم أنه من رمضان فإنه يكف عن الأكل والشرب ويقضى فإن أكل أو شرب بعد أن علم في يومه ذلك فلا كفارة عليه إلا أن يكون أكل جرأة على ما ذكرت لك فتجب عليه الكفارة* قال أبو بكر لما اتفقوا على أن من غم عليه هلال رمضان فأكل ثم علم به يمسك عما يمسك عنه الصائم كذلك الحائض والمسافر والمعنى الجامع بينهما أن الحال الطارئة عليهم بعد الإفطار لو كانت موجودة في أول النهار كانوا مأمورين بالصيام فكذلك إذا طرأت عليهم وهم مفطرون أمروا بالإمساك ويدل على صحة ذلك أيضا أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآكلين يوم عاشوراء بالإمساك مع إيجاب القضاء عليهم فصار ذلك أصلا في نظائره مما وصفناه وأما قول مالك في إيجابه الكفارة عليه إذا أكل جرأة على ذلك فلا معنى له لأن هذه كفارة يختص وجوبها بإفساد الصوم على وصف وهذا الآكل لم يفسد صوما بأكله فلا تجب عليه فيه كفارة والله تعالى أعلم بالصواب.

٢٦٩

باب في المسافر يصوم رمضان عن غيره

واختلف في المسافر يصوم رمضان عن واجب غيره فقال أبو حنيفة هو عما نوى فإن صامه تطوعا فعنه روايتان إحداهما أنه عن رمضان والأخرى أنه تطوع وقال أبو يوسف ومحمد هو عن رمضان في الوجهين جميعا وقال أصحابنا جميعا في المقيم إذا نوى بصيامه واجبا غيره أو تطوعا أنه عن رمضان ويجزيه وقال الثوري والأوزاعى في امرأة صامت رمضان تطوعا فإذا هو من شهر رمضان أجزأها وقالا من صام في أرض العدو تطوعا وهو لا يعلم أنه رمضان أجزى عنه وقال مالك والليث من صام في أول يوم من رمضان وهو لا يعلم أنه رمضان لم يجزه وقال الشافعى ليس لأحد أن يصوم دينا ولا قضاء لغيره في رمضان فإن فعل لم يجزه في رمضان ولا لغيره قال أبو بكر نبتدئ بعون الله تعالى بالكلام في المقيم يصوم رمضان تطوعا فنقول الدلالة على صحة قول أصحابنا من طريق الظاهر وجوه أحدها قوله عز وجل (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ـ إلى قوله ـ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ولم يخصص صوما فهو على سائر ما يصومه من تطوع أو فرض في كونه مجزيا عن الفرض لأنه لا يخلو الصائم تطوعا أو واجبا غيره أن يكون صوما عما نوى دون رمضان أو يكون ملغى لا حكم له بمنزلة من لم يصم أو مجزيا عن رمضان فلما كان وقوعه عما نوى وكونه ملغى مانعين من أن يكون هذا الصيام خيرا له بل يكون وقوعه عن رمضان خيرا له وجب أن لا يكون ملغى ولا عما نوى من غير رمضان ويدل عليه أيضا قوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ثم قال في نسق التلاوة (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ومعلوم عند جميع فقهاء الأمصار إضمار الإفطار فيه وإن تقديره فأفطر فعدة من أيام أخر فإنما أوجب القضاء على المسافر والمريض إذا أفطرا فيه فثبت بذلك أن من صام من المقيمين ولم يفطر فلا قضاء عليه إذا قد تضمنت الآية وأن صيام الجميع من المخاطبين إلا من أفطر من المرضى والمسافرين ويدل عليه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين فاقتضى ظاهر ذلك جوازه على أى وجه أوقع صومه من تطوع أو غيره ومن جهة النظر أن صوم رمضان لما كان مستحق العين في هذا الوقت أشبه طواف الزيارة في يوم النحر فعلى أى وجه أوقعه أجزأ عن الفرض على أنه لو نواه عن غيره لم يكن عما نواه فلو لا أنه قد أجرى

٢٧٠

عن الفرض لوجب أن يجزيه عما نوى كصيام سائر الأيام عما نوى* فإن قيل إن صلاة الظهر مستحقة العين لهذا الوقت إذا بقي من الوقت مقدار ما يصلى فيه الظهر ولم يوجب ذلك جوازها بنية النفل* قيل له وقت الظهر غير مستحق العين لفعلها لأنه يتسع لفعلها ولغيرها ولا فرق بين أول الوقت وآخره فإذا كان فعل التطوع في أوله لا يجزى عن الفرض كذلك في آخره وأيضا فإنه إذا نوى بصلاته في آخر الوقت تطوعا أو فرضا غيره كان كما نوى وقد اتفقنا على أن صوم عين رمضان لا يجزى عن غيره فدل أنه مستحق العين لامتناع جواز صوم آخر فيه ولأنه وقت يستغرق الفرض لا يجوز تقديمه عليه ولا تأخيره عنه والظهر لها وقت غير أنه إذا أخره كان جائزا له فعلها فيه* فإن قيل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) يمنع جواز صوم رمضان بنية التطوع قيل له أما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأعمال بالنيات فلا يصح الاحتجاج به لأن فيه ضميرا محتملا لمعان من جواز وفضيلة وهو غير مذكور في اللفظ ومتى تنازعنا فيه احتيج إلى دلالة في إثباته فسقط الاحتجاج به وأما قوله ولكل امرئ ما نوى فإن خصمنا يوافقنا في هذه المسألة أنه ليس له ما نوى من تطوع ولا فرض غيره لأنا نقول لا يكون تطوعا ولا فرضا غير رمضان وهو يقول لا يكون عن رمضان ولا عما نوى فحصل باتفاق الجميع أن قوله ولكل امرئ ما نوى غير مستعمل على ظاهره في هذه المسألة وأيضا قوله ولكل امرئ ما نوى غير مستعمل عند الجميع على حقيقته لأنه يقتضى أن من نوى الصوم كان صائما ومن نوى الصلاة كان مصليا وإن لم يفعل شيئا من ذلك وقد علم أنه لا يحصل له الصلاة بمجرد النية دون فعلها وكذلك الصوم وسائر الفروض والطاعات فثبت بذلك أن هذا اللفظ غير مكتف بنفسه في إثبات حكمه إلا بقرينة فسقط احتجاج المخالف به من وجهين أحدهما أن الحكم متعلق بمعنى محذوف ويحتاج إلى دلالة في إثباته وما كان هذا وصفه فالاحتجاج بظاهره ساقط والوجه الآخر أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكل امرئ ما نوى يقتضى جواز صومه إذا نواه تطوعا فإذا جاز صومه وقع عن الفرض لاتفاقنا أنه إذا لم يجز عن الفرض لم يحصل له ما نوى فوجب بقضية قوله ولكل امرئ ما نوى أن يحصل له ما نوى وإلا فقد ألغينا حكم اللفظ رأسا وأيضا معلوم من فحوى قوله ولكل امرئ ما نوى ما يقتضيه نيته من ثواب فرض أو فضيلة أو نحوها فيستحق ذلك ولأنه غير جائز أن

٢٧١

يكون مراده وقوع الفعل لأن الفعل حاصل موجود مع وجود النية وعدمها والنية هي التي تصرف أحكامه على حسب مقتضاها وموجبها من استحقاق ثواب الفرض أو الفضيلة أو الحمد أو الذم إن كانت النية تقتضي حمده أو ذمه وإذا كان ذلك كذلك فليس يخلو القول فيها من أحد معنيين إما أن يسقط اعتبار حكم اللفظ في دلالته على جواز الصوم أو بطلانه ووجب طلب الدلالة عليه من غيره أو أن يستعمل حكمه فيما يقتضيه مضمونه من إفادة ما يتعلق به من ثواب أو حمد أو ذم فإذا وجب استعماله على ذلك وقد توجهت نيته إلى ضرب من القرب فواجب أن يحصل له ذلك ثم أقل أحواله في ذلك إن لم يكن ثوابه مثل ثواب ناوى الفرض أن يكون أنقص منه ونقصان الثواب لا يمنع جوازه عن الفرض والدليل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إن الرجل ليصلى الصلاة فيكتب له نصفها ربعها خمسها عشرها) فأخبر بنقصان الثواب مع الجواز ويدل على صحة ما ذكرنا من تعلق حكم اللفظ بالثواب والعقاب أو الحمد والذم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ولكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) وزعم الشافعى أن من عليه حجة الإسلام فأحرم ينوى تطوعا أنه يجزيه من حجة الإسلام فأسقط نية التطوع وجعلها للفرض مع قوله إن فرض الحج على المهلة وأنه غير مستحق الفعل في وقت معين وذلك أبعد في الجواز من صوم رمضان لأن صوم رمضان مستحق العين في وقت لا يجوز له تقديمه عليه ولا تأخيره عنه فترك ظاهر قوله على أصله الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى ولم يلجأ فيه إلى نظر صحيح يعضد مقالته وكان الواجب على أصلهم اعتبار ما يدعونه ظاهرا من هذا الخبر* وأما على أصلنا فقد بينا أن الاحتجاج به ساقط وأوضحنا عن معناه ومقتضاه وأنه يوجب جوازه عن الفرض فسلم لنا ما استدللنا به من الظواهر والنظر ولم يعترض عليه هذا الأثر* وأما المسافر إذا صام رمضان عن واجب عليه فإنما أجاز ذلك أبو حنيفة عما نوى لأن فعل الصوم غير مستحق عليه في هذه الحال وهو مخير مع الإمكان من غير ضرر بين فعله وتركه فأشبه سائر الأيام غير رمضان فلما كان سائر الأيام جائزا لمن صامه عما نواه فكذلك حكم رمضان للمسافر وعلى هذا ينبغي أنه متى نواه تطوعا أن يكون تطوعا على الرواية التي رويت وهي أقيس

٢٧٢

الروايتين* فإن قيل على هذا يلزمه أن يجزى صوم المريض الذي يجوز له الإفطار عن غير رمضان بأن نواه تطوعا أو عن واجب عليه للعلة التي ذكرتها في المسافر قيل له لا يلزم ذلك لعدم العلة التي ذكرتها في المسافر وذلك لأن المعنى الذي وجب القول في المسافر بما وصفناه وأنه مخير بين الصوم وتركه من غير ضرر يلحقه وأشبه ذلك حاله في غير رمضان وأما المريض فليس كذلك لأنه لا يجوز له الفطر إلا مع خشية زيادة العلة والضرر اللاحق بالصوم فهو لا يخلو من أن لا يضر به الصوم فعليه فعله أو أن يضره فغير جائز له الصوم فلما كان كذلك كان فعل الصوم مستحقا عليه أو تركه من غير تخيير فمتى صامه وقع عن الفرض إذ كانت إباحة الإفطار متعلقة بخشية الضرر فمتى فعل الصوم فقد زال المعنى وصار بمنزلة الصحيح فأجزى عن صوم الشهر على أى وجه صام والله أعلم.

باب في عدد قضاء رمضان

قال الله تعالى (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فذكر بشر بن الوليد عن أبى يوسف وهشام عن محمد من غير خلاف من أحد من أصحابنا قالوا إذا صام أهل بلد تسعة وعشرين يوما للرؤية وفي البلد رجل مريض لم يصم فإنه يقضى تسعة وعشرين يوما فإن صام أهل بلد ثلاثين يوما للرؤية وصام أهل بلد تسعة وعشرين يوما للرؤية فعلم بذلك من صام تسعة وعشرين يوما فإن عليهم أن يقضوا يوما وعلى المريض المفطر قضاء ثلاثين يوما وحكى بعض أصحاب مالك بن أنس عنه أنه يقضى رمضان بالأهلة وذكر عنه أشهب أنه سئل عمن مرض سنتين ثم مات عن غير قضاء أنه يطعم عنه ستين مسكينا لكل مسكين مدا وقال الثوري فيمن مرض رمضان وكان تسعة وعشرين يوما أنه يصوم الذي كان عليه وقال الحسن بن صالح إن مرض رجل شهر رمضان فأفطره من أوله إلى آخره ثم ابتدأ شهرا يقضيه فكان هذا الشهر الذي يقضى فيه تسعة وعشرين يوما أجزأه عن شهر رمضان الذي أفطر وإن كان ثلاثين يوما لأنه جزاء شهر بشهر وإن كان ابتداء القضاء على غير استقبال شهر أتم ثلاثين يوما وإن كان شهر رمضان تسعة وعشرين يوما لأن الشهر لا يكون تسعة وعشرين يوما إلا شهرا من أوله إلى آخره* قال أبو بكر أما إذا كان الشهر تسعة وعشرين أو ثلاثين يوما ثم أراد المريض القضاء فإنه يقضيه بعدد أيام شهر الصوم الذي أفطر فيه سواء ابتدأ بالهلال أو من بعض

٢٧٣

الشهر وذلك لقوله عز وجل (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ومعناه فعدد من أيام أخر يدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) يعنى العدد وإذا كان الله سبحانه قد أوجب عليه قضاء العدد من أيام أخر لم يجز الزيادة عليه ولا النقصان منه سواء كان الشهر الذي يقضيه ناقصا أو تاما فإن قيل إن كان الذي أفطر فيه شهرا وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الشهر تسعة وعشرون الشهر ثلاثون) فأى شهر أتى به فقد قضى ما عليه لأنه شهر بشهر قيل له لم يقل الله تعالى فشهر من أيام أخر وإنما قال فعدة من أيام أخر فأوجب استيفاء عدد ما أفطر فوجب اتباع ظاهر الآية ولم يجز العدول عنها إلى معنى غير مذكور ويدل عليه أيضا قوله تعالى (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) يعنى العدد فإذا كان الشهر الذي أفطر فيه ثلاثين فعليه إكمال عدده من غيره ولو اقتصر على شهر هو تسعة وعشرون لما كان مكملا للعدة فثبت بذلك بطلان قول من اعتبر شهرا بشهر وأسقط اعتبار العدد ويدل على ذلك اتفاق الجميع على أن إفطاره بعض رمضان يوجب قضاء ما أفطر بعدده كذلك يجب أن يكون حكم إفطار جميعه في اعتبار عدده وأما إذا صام أهل مصر للرؤية تسعة وعشرين يوما وأهل مصر آخر للرؤية ثلاثين يوما فإنما أوجب أصحابنا على الذين صاموا تسعة وعشرين يوما قضاء يوم لقوله تعالى (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) فأوجب إكمال عدة الشهر وقد ثبت برؤية أهل بلد أن العدة ثلاثون يوما فوجب على هؤلاء إكمالها لأن الله لم يخصص بإكمال العدة قوما دون قوم فهو عام في جميع المخاطبين ويحتج له بقوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وقد أريد بشهود الشهر العلم به لأن من لا يعلم به فليس عليه صومه فلما صح له العلم بأن الشهر ثلاثون يوما برؤية أهل البلد الذين رأوه وجب عليه صومه فإن قيل إنما هو على من علم به في أوله قيل له هو على من علم به في أوله وبعد انقضائه ألا ترى أن من كان في دار الحرب فلم يعلم بشهر رمضان ثم علم بمضيه أن عليه أن يقضيه فدل ذلك على أن الأمر قد تناول الجميع ويدل عليه أيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين) والذين صاموا تسعة وعشرين قد غم عليهم رؤية أولئك فكان ذلك بمنزلة الحائل بينهم وبين الرؤية فوجب عليهم أن يعدوا ثلاثين* فإن قيل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته يوجب اعتبار رؤية كل قوم في بلدهم دون اعتبار رؤية غيرهم في سائر البلدان

٢٧٤

وكل قوم رأوا الهلال فالفرض عليهم العمل على رؤيتهم في الصيام والإفطار بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ويدل عليه اتفاق الجميع على أن على أهل كل بلد أن يصوموا لرؤيتهم وأن يفطروا لرؤيتهم وليس عليهم انتظار رؤية غيرهم من أهل سائر الآفاق فثبت بذلك أن كلا منهم مخاطب برؤية أهل بلده دون غيرهم* قيل له معلوم أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته عام في أهل سائر الآفاق وأنه غير مخصوص بأهل بلد دون غيرهم وإذا كان كذلك فمن حيث وجب اعتبار رؤية أهل بلد في الصوم والإفطار وجب اعتبار رؤية غيرهم أيضا فإذا صاموا للرؤية تسعة وعشرين يوما وقد صام غيرهم أيضا للرؤية ثلاثين فعلى هؤلاء قضاء يوم لوجود الرؤية منهم بما يوجب صوم ثلاثين يوما وأما المحتج باتفاق الجميع على أن على كل أهل بلد من الآفاق اعتبار رؤيتهم دون انتظار رؤية غيرهم فإنما يوجب ذلك عندنا على شريطة أن لا تكون رؤية غيرهم مخالفة لرؤيتهم في حكم العدد فكلفوا في الحال ما أمكنهم اعتباره ولم يكلفوا ما لا سبيل لهم إليه في معرفته في ذلك الوقت فمتى يتبين لهم غيره عملوا عليه كما لو حال بينهم وبين منظره سحاب أو ضباب وشهد قوم من غيرهم أنهم قد رأوه قبل ذلك لزمهم العمل على ما أخبرهم به دون ما كان عندهم من الحكم بعدم الرؤية* وقد روى في ذلك حديث يحتج به المخالف في هذه المقالة وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا إسماعيل بن جعفر قال حدثني محمد بن أبى حرملة قال أخبرنى كريب أن أم الفضل بنت الحرث بعثته إلى معاوية بالشام قال فقدمت الشأم فقضيت حاجتها فاستهل رمضان وأنا بالشأم فرأينا الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألنى ابن عباس ثم ذكر الهلال فقال متى رأيتم الهلال فقلت ليلة الجمعة فقال أنت رأيته قلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فقال لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصومه حتى نكمل الثلاثين أو نراه فقلت أولا تكتفى برؤية معاوية وصيامه فقال لا هكذا أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا لا يدل على ما ذكر لأنه لم يحك جواب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد سئل عن هذه بعينها فأجاب به وإنما قال هكذا أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويشبه أن يكون تأول فيه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته على ما قالوا بل وجه دلالته على ما قلنا ظاهر على ما قدمنا فلم يصح الاحتجاج به فيما اختلفنا* وقد ذكر عن الحسن البصري ما حدثنا

٢٧٥

محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن معاذ قال حدثني أبى قال حدثني الأشعث عن الحسن في رجل كان بمصر من الأمصار فصام يوم الإثنين وشهد رجلان أنهما رأيا الهلال ليلة الأحد قال لا يقضى ذلك اليوم ذلك الرجل ولا أهل مصره إلا أن يعلموا أن أهل مصر من الأمصار قد صاموا يوم الأحد فيقضوه وليس في هذا الخبر أنهم صاموا لرؤية أو لغيرها ومسألتنا إنما هي في أهل بلدين صام كل واحد منهم لرؤية غير رؤية الآخرين* وقد يحتج المخالف في ذلك بما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عبيد قال حدثنا حماد في حديث أيوب عن محمد بن المنكدر عن أبى هريرة ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه قال (وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون وكل عرفة موقف وكل منى منحر وكل فجاج مكة منحر وكل جمع موقف) وروى أبو خيثمة قال حدثنا محمد بن الحسن المدني قال حدثني عبد الله بن جعفر عن عثمان بن محمد عن المقبري عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) قالوا وهذا يوجب أن يكون صوم كل قوم يوم صاموا وفطرهم يوم أفطروا وهذا قد يجوز أن يريد به ما لم يتبين غيره ومع ذلك فلم يخصص به أهل بلد دون غيرهم فإن وجب أن يعتبر صوم من صام الأقل فيما لزمهم فهو موجب صوم من صام الأكثر فيكون ذلك صوما للجميع ويلزم من صام الأقل قضاء يوم وقد اختلف مع ذلك في صحة هذا الخبر من طريق النقل فثبته بعضهم ولم يثبته الآخرون وقد تكلم أيضا في معناه فقال قائلون معناه أن الجميع إذا اتفقوا على صوم يوم فهو صومهم وإذا اختلفوا احتاجوا إلى دلالة من غيره لأنه لم يقل صومكم يوم يصوم بعضكم وإنما قال يوم تصومون وذلك يقتضى صوم الجميع وقال آخرون هذا خطاب لكل واحد في نفسه وإخبار بأنه متعبد بما عنده دون ما هو عند غيره فمن صام يوما على أنه من رمضان فقد أدى ما كلف وليس عليه مما عند غيره شيء لأن الله تعالى إنما كلفه بما عنده لا بما عند غيره ولم يكلفه المغيب عند الله أيضا قوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) قال أبو بكر روى عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك أن اليسر الإفطار في السفر والعسر الصوم فيه وفي المرض ويحتمل ما ذكر من الإفطار في السفر لمن يجهده الصوم ويضره كماروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في الرجل الذي ظلل عليه في

٢٧٦

السفر وهو صائم ليس من البر الصيام في السفر فأفادت الآية إن الله يريد منكم من الصوم ما تيسر لا ما تعسر وشق لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صام في السفر وأباح الصوم فيه لمن لا يضره ومعلوم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان متبعا لأمر الله عاملا بما يريده الله منه فدل ذلك على أن قوله (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) غير ناف لجواز الصوم في السفر بل هو دال على أنه إن كان يضره فالله سبحانه غير مريد منه ذلك وأنه مكروه له ويدل على أن من صام في السفر أجزأه ولا قضاء عليه لأن في إيجاب القضاء إثبات العسر ولأن لفظ اليسر يقتضى التخيير كما روى عن ابن عباس وإذا كان مخيرا في فعل الصوم وتركه فلا قضاء عليه ويدل أيضا على أن المريض والحامل والمرضع وكل من خشي ضرر الصوم على نفسه أو على الصبى فعليه أن يفطر لأن في احتمال ضرر الصوم ومشقته ضربا من العسر وقد نفى الله تعالى عن نفسه إرادة العسر بنا وهو نظير ما روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما * وهذه الآية أصل في أن كل ما يضر بالإنسان ويجهده ويجلب له مرضا أو يزيد في مرضه أنه غير مكلف به لأن ذلك خلاف اليسر نحو من يقدر على المشي إلى الحج ولا يجد زادا وراحلة فقد دلت الآية أنه غير مكلف به على هذا الوجه لمخالفته اليسر وهو دال أيضا على أن من فرط في قضاء رمضان إلى القابل فلا فدية عليه لما فيه من إثبات العسر ونفى اليسر ويدل على أن سائر الفروض والنوافل إنما أمر بفعلها أو أبيحت له على شريطة نفى العسر والمشقة الشديدة ويدل أيضا على أن له أن يقضى رمضان متفرقا لأنه ذكر ذلك عقيب قوله (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ودلالة ذلك عليه من وجهين أحدهما أن قوله (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) قد اقتضى تخيير العبد في القضاء والثاني أن قضاءه متفرقا أولى بمعنى اليسر وأبعد من العسر وهو ينفى أيضا إيجاب التتابع لما فيه من العسر ويدل على بطلان قول من أوجب القضاء على الفور ومنعه التأخير لأنه بنفي معنى اليسر ويثبت العسر* وقد دلت الآية على بطلان قوله أهل الجبر والقائلين بأن الله يكلف عباده ما لا يطيقون لأن تكليف العبد ما لا يطيق وما ليس معه القدرة عليه من أعسر العسر وقد نفى الله تعالى عن نفسه إرادة العسر لعباده ويدل على بطلان قولهم من وجه آخر وهو أنه من حمل نفسه على المشقة الشديدة التي يلحقه ضرر عظيم في الصوم فاعل لما لم يرده الله منه بقضية الآية وأهل الجبر يزعمون أن كل ما فعله العبد من

٢٧٧

معصية أو كفر فإن الله مريده منه وقد نفى الله بهذا ما نسبوه إليه من إرادة المعاصي ويدل أيضا من وجه آخر على بطلان قولهم وهو أن الله تعالى قد أخبر في هذه الآية أنه يريد بهم اليسر ليحمدوه ويشكروه وأنه لم يرد منهم أن يكفروا ليستحقوا عقابه لأن مريد ذلك غير مريد لليسر بل هو مريد للعسر ولما لا يستحق الشكر والحمد عليه فهذه الآية دالة من هذه الوجوه على بطلان قول أهل الجبر وأنهم وصفوا الله تعالى بما نفاه عن نفسه ولا يليق به* قوله عز وجل (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) قال أبو بكر قد دل قوله (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) على معان منها أنه متى غم علينا هلال شهر رمضان فعلينا إكمال العدة ثلاثين يوما أى شهر كان لبيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك على الوجه الذي بينا فقال (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) فجعل إكمال العدة اعتبار الثلاثين عند خفاء الهلال ويدل أيضا على جواز قضاء رمضان متتابعا أو متفرقا لإخباره أن الفرض فيه إكمال العدة وذلك يحصل به متفرقا كان أو متتابعا ويدل على أن وجوب قضائه ليس على الفور لأنه إذا كان المقصد إكمال العدة وذلك قد يحصل على أى وجه صام فلا فرق بين فعله على الفور أو على المهلة مع حصول إكمال العدة ويدل على أنه لا فدية على من أخر قضاء رمضان وأنه ليس عليه غير القضاء شيء لأنه أخبر أن مراده منا إكمال العدة وقد وجد في إيجاب الفدية زيادة في النص وإثبات ما ليس هو من المقصد ويدل على أن من أفطر في شهر رمضان وهو ثلاثون يوما أنه غير جائز له أن يصوم شهرا بالهلال تسعة وعشرين يوما لقوله تعالى (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) وذلك يقتضى استيفاء العدد فالقائل بجواز الاقتصار على نقصان العدد مخالف لحكم الآية ويدل على أن أهل بلد إذا صاموا تسعة وعشرين يوما للرؤية وأهل بلد آخر إذا صاموا للرؤية ثلاثين أن على الذين صاموا تسعة وعشرين يوما أن يقضوا يوما لقوله تعالى (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) وقد حصل عدة رمضان ثلاثين لأهل ذلك البلد فعلى الآخرين أن يكملوها كما كان على أولئك إكمالها إذ كان الله لم يخصص بعضا من كل* وأما قوله (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) فإنه روى عن ابن عباس أنه كان يقول حقا على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبروا الله حتى يفرغوا من عيدهم وذلك لقوله (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) وروى عن الزهري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يكبر يوم الفطر

٢٧٨

إذا خرج إلى المصلى وإذا قضى الصلاة قطع التكبير وقد روى عن على وأبى قتادة وابن عمر وسعيد بن المسيب وعروة والقاسم وخارجة بن زيد ونافع بن جبير بن مطعم وغيرهم أنهم كانوا يكبرون يوم العيد إذا خرجوا إلى المصلى وروى جيش بن المعتمر عن على أنه ركب بغلته يوم الأضحى فلم يزل يكبر حتى أتى الجبانة وروى ابن أبى ذيب عن شعبة مولى ابن عباس قال كنت أقود ابن عباس إلى المصلى فيسمع الناس يكبرون فيقول ما شأن الناس أكبر الإمام فأقول لا فيقول أمجانين الناس فأنكر ابن عباس في هذا الخبر التكبير في طريق المصلى وهذا يدل على أن المراد عنده التكبير المذكور في الآية وهو التكبير الذي يكبره الإمام في الخطبة مما يصلح أن يكبر الناس معه وما روى عنه أنه حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبروا حتى يفرغوا من عيدهم فليس فيه دلالة على الجهر به وجائز أن يريد به تكبيرهم في أنفسهم وقد روى عن ابن عمر أنه كان إذا خرج يوم الفطر ويوم الأضحى يكبر ويرفع صوته حتى يجيء المصلى وروى عن زيد بن أسلم أنه تأول على تكبير يوم الفطر واختلف فقهاء الأمصار في ذلك فروى المعلى عن أبى يوسف عن أبى حنيفة قال يكبر الذي يذهب إلى العيد يوم الأضحى ويجهر بالتكبير ولا يكبر يوم الفطر وقال أبو يوسف يكبر يوم الأضحى والفطر وليس فيه شيء موقت لقوله تعالى (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) وقال عمرو سألت محمدا عن التكبير في العيدين فقال نعم يكبر وهو قولنا وقال الحسن بن زياد عن أبى حنيفة أن التكبير في العيدين ليس بواجب في الطريق ولا في المصلى وإنما التكبير الواجب في صلاة العيد وذكر الطحاوي أن ابن أبى عمران كان يحكى عن أصحابنا جميعا أن السنة عندهم في يوم الفطر أن يكبروا في الطريق إلى المصلى حتى يأتوه ولم نكن نعرف ما حكاه المعلى عنهم وقال الأوزاعى ومالك يكبر في خروجه إلى المصلى في العيدين جميعا قال مالك ويكبر في المصلى إلى أن يخرج الإمام فإذا خرج الإمام قطع التكبير ولا يكبر إذا رجع وقال الشافعى أحب إظهار التكبير ليلة الفطر وليلة النحر وإذا غدوا إلى المصلى حتى يخرج الإمام وقال في موضع آخر حتى يفتح الإمام الصلاة* قال أبو بكر تكبير الله هو تعظيمه وذلك يكون بثلاثة معان عقد الضمير والقول والعمل فعقد الضمير هو اعتقاد توحيد الله تعالى وعدله وصحة المعرفة به وزوال الشكوك وأما القول فالإقرار بصفاته العلى وأسمائه الحسنى وسائر

٢٧٩

ما مدح به نفسه وأما العمل فعبادته بما يعد به من الأعمال بالجوارح كالصلاة وسائر المفروضات وكل ذلك غير مقبول إلا بعد تقدمة الاعتقاد له بالقلب على الحد الذي وصفنا وأن يتحرى بجميع ذلك موافقة أمر الله كما قال عز وجل (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) فشرط بديا تحرى موافقة أمر الله بذكره إرادة الآخرة ولم يقتصر عليه حتى ذكر العمل لله وهو السعى وعقد ذلك كله بشريطة الإيمان بقوله (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ثم عقبه بذكر الوعد لمن حصلت له هذه الأعمال نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل هذه الآية وأن يوفقنا إلى ما يؤدينا إلى مرضاته* وإذا كان تكبير الله تعالى ينقسم إلى هذه المعاني التي ذكرنا وقد علمنا لا محالة أن اعتقاد التوحيد والإيمان بالله ورسله شرط في سائر القرب وذلك غير مختص بشيء من الطاعات دون غيرها ومعلوم أيضا أن سائر المفروضات التي يتعلق وجوبها بأسباب أخر غير مبنية على صيام رمضان ثبت أن التعظيم المذكور في هذه الآية ينبغي أن يكون متعلقا بإكمال عدة رمضان وأولى الأشياء به إظهار لفظ التكبير ثم جائز أن يكون تكبيرا يفعله الإنسان في نفسه عند رؤية هلال شوال وجائز أن يكون المراد ما تأوله كثير من السلف على أنه تكبير المفعول في الخروج إلى المصلى وجائز أن يريد به تكبيرات صلاة العيد كل ذلك يحتمله اللفظ ولا دلالة فيه على بعض دون بعض فأيها فعل فقد قضى عهدة الآية وفعل مقتضاها ولا دلالة في اللفظ على وجوبه لأن قوله تعالى (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) لا يقتضى الوجوب إذ جائز أن يتناول ذلك النفل ألا ترى أنا نكبر لله أو نعظمه بما نظهره من التكبير نفلا ولا خلاف بين الفقهاء أن إظهار التكبير ليس بواجب ومن كبر فإنما فعله استحبابا ومع ذلك فإنه متى فعل أدنى ما يسمى تكبيرا فقد وافق مقتضى الآية إلا أن ما روى من ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن السلف من الصدر الأول والتابعين في تكبيرهم يوم الفطر في طريق المصلى يدل على أنه مراد الآية فالأظهر من ذلك أن فعله مندوب إليه ومستحب لا حتما واجبا* والذي ذكره ابن أبى عمران هو أولى بمذهب أبى حنيفة وسائر أصحابنا لما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق الزهري وإن كان مرسلا وعن السلف فلأن ذلك موافق لظاهر الآية إذ كانت تقتضي تحديد تكبير عند إكمال العدة والفطر أولى بذلك من الأضحى وإذا كان ذلك عنده مسنونا في الأضحى فالفطر كذلك لأن

٢٨٠