أحكام القرآن - ج ١

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٤

ما خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطبة إلا أمرنا فيها بالصدقة ونهانا عن المثلة وهذا خبر ثابت قد تلقاه الفقهاء بالقبول واستعملوه وذلك يمنع المثلة بالقاتل وقول مخالفينا فيه المثلة به وهو يثنى عن مراد الآية في إيجاب القصاص واستيفاء المثل فوجب أن يكون القصاص مقصورا على وجه لا يوجب المثلة ويستعمل الآية على وجه لا يخالف معنى الخبر وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل بالعرنيين فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا ثم نسخ سمل الأعين بنهيه عن المثلة فوجب على هذا أن يكون معنى آية القصاص محمولا على ما لا مثلة فيه واحتج مخالفونا في ذلك بحديث همام عن قتادة عن أنس أن يهوديا رضخ رأس صبي بين حجرين فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرضخ رأسه بين حجرين وهذا الحديث لو ثبت كان منسوخا بنسخ المثلة وذلك لأن النهى عن المثلة مستعمل عند الجميع والقود على هذا الوجه مختلف فيه ومتى ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبران واتفق الناس على استعمال أحدهما واختلفوا في استعمال الآخر كان المتفق عليه منهما قاضيا على المختلف فيه خاصا كان أو عاما ومع ذلك فجائز أن يكون قتل اليهودي على وجه الحد كما روى شعبة عن هشام بن زيد عن أنس قال عدا يهودي على جارية فأخذ أوضاحا كانت عليها ورضخ رأسها فأتى بها أهلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي في آخر رمق فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قتلك فلان فأشارت برأسها أى لا ثم قال فلان يعنى اليهودي قالت نعم فأمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرضخ رأسه بين حجرين فجائز أن يكون قتله حدا لما أخذ المال وقتل وقد كان ذلك جائز على وجه المثلة كما سمل العرنيين ثم نسخ بالنهى عن المثلة وقد روى ابن جريج عن معمر عن أيوب عن أبى قلابة عن أنس أن رجلا من اليهود رضخ رأس جارية على حلى لها فأمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرجم حتى قتل فذكر في هذا الحديث الرجم وليس ذلك بقصاص عند الجميع وجائز أن يكون اليهودي نقض العهد ولحق بدار الحرب لقرب محال اليهود كانت حينئذ من المدينة فأخذ بعد ذلك فقتله على أنه حربى ناقض للعهد متهم بقتل صبي لأنه غير جائز أن يكون قتله بايماء الصبية وإشارتها أنه قتلها لأن ذلك لا يوجب قتل المدعى عليه القتل عند الجميع فلا محالة قد كان هناك سبب آخر استحق به القتل لم ينقله الراوي على جهته* ويدل على صحة ما ذكرنا من أن المراد بالقصاص إتلاف نفسه بأيسر الوجوه وهو السيف اتفاق الجميع على أنه لو أوجره خمرا حتى مات لم يجز أن يوجره خمرا وقتل بالسيف* فإن قيل لأن شرب

٢٠١

الخمر معصية قيل له كذلك المثلة معصية والله أعلم.

باب القول في وجوب الوصية

قال الله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) قال أبو بكر لم يختلف السلف ممن روى عنه أن قوله (خَيْراً) أراد به مالا واختلفوا في المقدار المراد بالمال الذي أوجب الله الوصية فيه حين كانت الوصية فرضا لأن قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) معناه فرض عليكم كقوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ـ وقوله ـ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) يعنى فرضا موقتا وروى عن على كرم الله وجهه أنه دخل على مولى له في مرضه وله سبعمائة درهم أو ستمائة درهم فقال ألا أوصى قال لا إنما قال الله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وليس لك كثير مال وروى عن على أنه قال أربعة آلاف درهم وما دونها نفقة وقال ابن عباس لا وصية في ثمان مائة درهم وقالت عائشة رضى الله عنها في امرأة أرادت الوصية فمنعها أهلها وقالوا لها ولد وما لها يسير فقالت كم ولدها قالوا أربعة قالت فكم مالها قالوا ثلاثة آلاف فكأنها عذرتهم وقالت ما في هذا المال فضل وقال إبراهيم ألف درهم إلى خمس مائة درهم وروى همام عن قتادة إن ترك خيرا قال كان يقال خير المال ألف درهم فصاعدا وقال الزهري هي في كل ما وقع عليه اسم المال من قليل أو كثير وكل هؤلاء القائلين فإنما تأولوا تقدير المال على وجه الاستحباب لا على وجه الإيجاب للمقادير المذكورة وكان ذلك منهم على طريق الاجتهاد فيما تلحقه هذه الصفة من المال ومعلوم في العادة إن من ترك درهما لا يقال ترك خيرا فلما كانت هذه التسمية موقوفة على العادة وكان طريق التقدير فيها على الاجتهاد وغالب الرأى مع العلم بأن القدر اليسير لا تلحقه هذه التسمية وأن الكثير تلحقه فكان طريق الفصل فيها الاجتهاد وغالب الرأى مع ما كانوا عرفوا من سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله الثلث والثلث كثير وأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس واختلف الناس في الوصية المذكورة في هذه الآية هل كانت واجبة أم لا فقال قائلون أنها لم تكن واجبة وإنما كانت ندبا وإرشادا وقال آخرون قد كانت فرضا ثم نسخت على الاختلاف منهم في المنسوخ منها واحتج من قال أنها لم تكن واجبة بأن في سياق الآية وفحواها دلالة على نفى وجوبها وهو قوله (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) فلما

٢٠٢

قيل فيها بالمعروف وأنها على المتقين دل على أنها غير واجبة من ثلاثة أوجه أحدهما قوله (بِالْمَعْرُوفِ) لا يقتضى الإيجاب والآخر قوله (عَلَى الْمُتَّقِينَ) وليس يحكم على كل أحد أن يكون من المتقين الثالث تخصيصه للمتقين بها والواجبات لا يختلف فيها المتقون وغيرهم قال أبو بكر ولا دلالة فيما ذكره هذا القائل على نفى وجوبها لأن إيجابها بالمعروف لا ينفى وجوبها لأن المعروف معناه العدل الذي لا شطط فيه ولا تقصير كقوله تعالى (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ولا خلاف في وجوب هذا الرزق والكسوة وقوله تعالى (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) بل المعروف هو الواجب قال الله تعالى (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ـ وقال ـ يأمرون بالمعروف) فذكر المعروف فيما أوجب الله تعالى من الوصية لا ينفى وجوبها بل هو يؤكد وجوبها إذ كان جميع أوامر الله معروفا غير منكر ومعلوم أيضا أن ضد المعروف هو المنكر وأن ما ليس بالمعروف هو منكر والمنكر مذموم مزجور عنه فإذا المعروف واجب وأما قوله (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) ففيه تأكيد لإيجابها لأن على الناس أن يكونوا متقين قال الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) ولا خلاف بين المسلمين أن تقوى الله فرض فلما جعل تنفيذ هذه الوصية من شرائط التقوى فقد أبان عن إيجابها وأما تخصيصه المتقين بالذكر فلا دلالة فيه على نفى وجوبها وذلك لأن أقل ما فيه اقتضاء الآية وجوبها على المتقين وليس فيه نفيها عن غير المتقين كما أنه ليس في قوله (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) نفى أن يكون هدى لغيرهم وإذا وجبت على المتقين بمقتضى الآية وجبت على غيرهم وفائدة تخصيصه المتقين بالذكر أن فعل ذلك من تقوى الله وعلى الناس أن يكونوا كلهم متقين فإذا عليهم فعل ذلك ودلالة الآية ظاهرة في إيجابها وتأكيد فرضها لأن قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) معناه فرض عليكم على ما بينا فيما سلف ثم أكده بقوله (بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) ولا شيء في ألفاظ الوجوب آكد من قول القائل هذا حق عليك وتخصيصه المتقين بالذكر على وجه التأكيد كما بيناه آنفا مع اتفاق أهل التفسير من السلف أنها كانت واجبة بهذه الآية* وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يدل على أنها كانت واجبة وهو ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا سليمان بن الفضل بن جبريل قال حدثنا عبد الله بن أيوب قال حدثنا عبد الوهاب عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا يحل لمؤمن يبيت ثلاثا إلا ووصيته عنده) وحدثنا عبد

٢٠٣

الباقي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا أيوب قال سمعت نافعا عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما حق امرئ مسلم له مال يوصى فيه تمر عليه ليلتان إلا ووصيته عنده مكتوبة) وقد رواه هشام بن الغازي عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (ما ينبغي لمسلم أن يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة) وهذا يدل على أن الوصية قد كانت واجبة ثم اختلف القائلون بوجوبها بديا فقالت منهم طائفة جميع ما في هذه الآية من إيجاب الوصية منسوخ منهم ابن عباس حدثنا أبو محمد جعفر بن محمد بن أحمد الواسطي قال حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في هذه الآية (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) قال نسختها هذه الآية (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) وروى ابن جريج عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) قال نسخ من ذلك من يرث ولم ينسخ من لا يرث فاختلفت الرواية عن ابن عباس في ذلك في إحديهما أن الجميع منسوخ وفي الأخرى أنه منسوخ ممن يرث من الأقربين دون من لا يرث وحدثنا أبو محمد جعفر بن محمد قال حدثنا أبو الفضل المؤدب قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا أبو مهدى عن عبد الله ابن المبارك عن عمارة أبى عبد الرحمن قال سمعت عكرمة يقول في هذه الآية (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) نسختها الفرائض وقال ابن جريج عن مجاهد كان الميراث للولد والوصية للوالدين والأقربين فهي منسوخة* وقالت طائفة أخرى قد كانت الوصية واجبة للوالدين والأقربين فنسخت عمن يرث وجعلت للوالدين والأقربين الذين لا يرثون رواه يونس وأشعث عن الحسن وروى عن الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن يعلى في الرجل يوصى لغير ذي القرابة وله ذو قرابة ممن لا يرثه أن ثلثى الثلث لذي القرابة وثلث الثلث لمن أوصى له وقال طاوس يرد كله إلى ذوى القرابة وقال الضحاك لا وصية إلا لذي قرابة إلا أن لا يكون له ذو قرابة* وقالت طائفة أخرى قد كانت الوصية في الجملة واجبة لذي القرابة ولم يكن على الموصى أن يوصى بها لجميعهم بل كان له الاقتصار على الأقربين منهم فلم تكن واجبة للأبعدين ثم نسخت الوصية للأقربين فبقى الأبعدون

٢٠٤

على ما كانوا عليه من جواز الوصية لهم أو تركها* ثم اختلف القائلون بنسخها فيما نسخت به وقد روينا عن ابن عباس وعكرمة أن آية المواريث نسختها وذكر ابن عباس قوله تعالى (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) وقال آخرون نسخها ما ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا وصية لوارث) رواه شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن عثمان عن عمرو بن خارجة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (لا وصية لوارث) وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (لا يجوز لوارث وصية) وإسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم قال سمعت أبا أمامة يقول سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع (ألا إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) وحجاج بن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا يجوز لوارث وصية إلا أن يجيزها الورثة) وروى ذلك عن جماعة من الصحابة رواه حجاج عن أبى إسحاق عن الحارث عن على قال لا وصية لوارث وعبد الله بن بدر عن ابن عمر قال لا يجوز لوارث وصية وهذا الخبر المأثور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ووروده من الجهات التي وصفنا هو عندنا في حيز التواتر لاستفاضته وشهرته في الأمة وتلقى الفقهاء إياه بالقبول واستعمالهم له وجائز عندنا نسخ القرآن بمثله إذ كان في حيز ما يوجب العلم والعمل من الآيات* فأما إيجاب الله تعالى الميراث للورثة فغير موجب نسخ الوصية لجواز اجتماع الميراث والوصية معا ألا ترى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أجازها للوارث إذا أجازتها الورثة فلم يكن يستحيل اجتماع الميراث والوصية لواحد لو لم يكن إلا آية الميراث على أن الله إنما جعل الميراث بعد الوصية فما الذي كان يمنع أن يعطى قسطه من الوصية ثم يعطى الميراث بعدها* وقال الشافعى في كتاب الرسالة يحتمل أن تكون المواريث ناسخة للوصية ويحتمل أن تكون ثابتة معها فلما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق مجاهد وهو منقطع أنه قال لا وصية لوارث استدللنا بما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك على أن المواريث ناسخة للوصية للوالدين والأقربين مع الخبر المنقطع* قال أبو بكر قد أعطى القول باحتمال اجتماع الوصية والميراث فإذا ليس في نزول آية الميراث ما يوجب نسخ الوصية للوارث فلم تكن الوصية منسوخة بالميراث لجواز اجتماعهما والخبر لم يثبت عنده لأنه ورد من طريق منقطع وهو لا يقبل المرسل ولو ورد من جهة الاتصال والتواتر لما قضى به على حكم الآية إذ غير جائز عنده نسخ

٢٠٥

القرآن بالسنة فواجب أن تكون الوصية للوالدين والأقربين ثابتة الحكم غير منسوخة إذا لم يرد ما يوجب نسخها* قال الشافعى وحكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ستة مملوكين أعتقهم رجل لا مال له غيرهم فجزأهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة أجزاء فأعتق اثنين وأرق أربعة والذي أعتقهم رجل من العرب والعرب إنما تملك من لا قرابة بينه وبينه من العجب فأجاز لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوصية فدل ذلك على أن الوصية لو كانت تبطل لغير قرابة بطلت للعبيد المعتقين لأنهم ليسوا بقرابة للميت وبطلت وصية الوالدين* قال أبو بكر هذا كلام ظاهر الاختلال منتقض على أصله فأما اختلاله فقوله أن العرب إنما تملك من لا قرابة بينه وبينه من العجم وهذا خطأ من قبل أنه جائز أن تكون أمه أعجمية فيكون أقرباؤه من قبل أمه عجما فيكون العتق الذي أوقعه المريض وصية لأقرباؤه ومن جهة أخرى أنه لو ثبت أن آية المواريث نسخت الوصية للوالدين والأقربين فإنما نسختها لمن كان منهم وارثا فأما من لا يرث منهم فليس في إثبات الميراث لغيره ما يوجب نسخ وصيته وأما انتقاضه على أصله فإيجابه نسخ الوصية للأقربين بخبر عمران بن حصين في عتق المريض لعبيده ومن أصله أن السنة لا تنسخ القرآن وقد روى عن جماعة من الصدر الأول والتابعين تجويز الوصية للأجانب وأنها تنفذ على ما أوصى بها وروى أن عمر أوصى لأمهات أولاده لكل امرأة منهن بأربعة آلاف درهم وعن عائشة وإبراهيم وسعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله وعمرو بن دينار والزهري قالوا تنفذ وصيته حيث جعلها وقد حصل الاتفاق من الفقهاء بعد عصر التابعين على جواز الوصايا للأجانب والأقارب* والذي أوجب نسخ الوصية عندنا للوالدين والأقربين قوله تعالى في سياق آية المواريث (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) فأجازها مطلقة ولم يقصرها على الأقربين دون غيرهم وفي ذلك إيجاب نسخها للوالدين والأقربين لأن الوصية لهم قد كانت فرضا وفي هذه إجازة تركها لهم والوصية لغيرهم وجعل ما بقي ميراثا للورثة على سهام مواريثهم وليس يجوز ذلك إلا وقد نسخ تلك الوصية* فإن قيل يحتمل أن يريد بهذه الوصية المذكورة في آية المواريث وإيجاب المواريث بعدها الوصية الواجبة للوالدين والأقربين فيكون حكمها ثابتا لمن لا يرث منهم* قيل له هذا غلط من قبل أنه أطلق الوصية في هذا الموضع بلفظ منكور يقتضى شيوعها في الجنس إذ كان ذلك حكم النكرات والوصية المذكورة

٢٠٦

للوالدين والأقربين لفظها لفظ المعرفة فغير جائز صرفها إليها إذ لو أرادها لقال من بعد الوصية حتى يرجع الكلام إلى المعرف المعهود من الوصية التي قد علمت كما قال تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ) وقال في آية أخرى لما أراد الشهداء المذكورين (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ) فعرفهم بالألف واللام إذ كان المراد أولئك الشهداء فلما أطلق الوصية في آية المواريث بلفظ منكور ثبت أنه لم يرد بها الوصية المذكورة للوالدين والأقربين وأنها مطلقة جائزة لسائر الناس إلا ما خصته السنة أو الإجماع من الوصية للوارث أو للقاتل ونحوهما وفي ثبوت ذلك نسخ الوصية للوالدين والأقربين* قال أبو بكر استدل محمد بن الحسن رحمه الله على أن الوالدين ليسوا من الأقرباء بقوله تعالى (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) ولأنهم لا يدلون بغيرهم ورحمهم بأنفسهم وسائر الأرحام سواهما إنما يدلون بغيرهم فالأقربون من يقرب إليه بغيره وقال إن ولد الصلب ليسوا من الأقربين أيضا لأنه بنفسه يدلى برحمه لا بواسطة بينه وبين والده ولأنه إذا لم يكن الوالدان من الأقربين والولد أقرب إلى والده من الوالد إلى ولده فهو أحرى أن لا يكون من الأقربين ولذلك قال فيمن أوصى لأقرباء بنى فلان أنه لا يدخل فيها ولده ولا والده ويدخل فيها ولد الولد والجد والأخوة ومن جرى مجراهم لأن كلا منهم يدلى إليه بواسطة غير مدل بنفسه وفي معنى الأقرباء خلاف والله أعلم.

باب الوصية للوارث إذا أجازتها الورثة

قال أبو بكر قد بينا نسخ الوصية للورثة بما قدمنا وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (لا وصية لوارث إلا أن يجيزها الورثة) وفيه بيان أن الأخبار الواردة بأن لا وصية لوارث من غير ذكر إجازة الورثة هي محمولة على أن الورثة لم يجيزوها ويدل أيضا على أن إجازة الورثة هي محمولة على أن إجازتهم معتبرة بعد الموت لأنهم في حال حياته ليسوا بورثة وإنما تحصل لهم هذه السمة بعد موت المورث فمتى أجاز وليس بوارث فأجازته باطلة لعموم قوله لا وصية لوارث ودل على أن الورثة متى أجازت الوصية لم يكن ذلك هبة مستأنفة من جهتهم فتحمل على أحكام الهبات في شرط القبض والتسليم ونفى الشيوع فيما يقسم والرجوع فيها بل تكون محمولة على أحكام الوصايا الجائزة دون الهبات من قبل مجيزيها من الورثة ودل أيضا على جواز العقود الموقوفة التي لها مجيز لأن الميت عقد

٢٠٧

الوصية على مال هو للوارث في حال وقوع الوصية وجعلها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم موقوفة على إجازة الوارث فصار ذلك أصلا فيمن عقد عقد بيع أو عتق أو هبة أو رهن أو إجارة على مال الغير أنه يقف على إجازة مالكه إذ كان عقدا له مالك يملك ابتداءه وإيقاعه وقد دل أيضا على أنه إذا أوصى بأكثر من الثلث كانت موقوفة على إجازة الورثة كما وقفها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إجازتهم إذا أوصى بها لوارث فهذه المعاني كلها في ضمن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا وصية لوارث إلا أن يجيزها الورثة) * وقد اختلف الفقهاء فيمن أوصى بأكثر من الثلث فأجازه الورثة قبل الموت فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن صالح وعبيد الله بن الحسن إذا أجازوه في حياته لم يجز ذلك حتى يجيزوه بعد الموت وروى نحو ذلك عن عبد الله بن مسعود وشريح وإبراهيم وقال ابن أبى ليلى وعثمان البتى ليس لهم أن يرجعوا فيه بعد الموت وهي جائزة عليهم وقال ابن القاسم عن مالك إذا استأذنهم فكل وارث بائن عن الميت مثل الولد الذي قد بان عن أبيه والأخ وابن العم الذين ليسوا في عياله فإنهم ليس لهم أن يرجعوا وأما امرأته وبناته اللاتي لم يبن منه وكل من في عياله وإن كان قد احتلم فلهم أن يرجعوا وكذلك العم وابن العم ومن خاف منهم إن لم يجز لحقه ضرر منه في قطع النفقة إن صح فلهم أن يرجعوا وروى ابن وهب عن مالك في المريض يستأذن ورثته في الوصية لبعض ورثته فأذنوا له فليس لهم أن يرجعوا في شيء من ذلك ولو كان استأذنهم في الصحة فلهم أن يرجعوا إن شاءوا وإنما يجوز إذنهم في حال المرض لأنه يحجب عن ماله بحقهم فيجوز ذلك عليهم وقول الليث في ذلك كقول مالك ولا خلاف بين الفقهاء أنهم إذا أجازوه بعد الموت فليس لهم أن يرجعوا فيه وروى عن طاوس وعطاء أنهم إذا أجازوه في الحياة جاز عليهم* قال أبو بكر عموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا وصية لوارث إلا أن يجيزها الورثة) ينفى جواز الوصية في كل حال فلما خص ذلك بقوله إلا أن يجيزها الورثة وهم إنما يكونون ورثة على الحقيقة بعد الموت لا قبله فالمخصوص من الجملة إجازتهم بعد الموت وما عدا ذلك فهو محمول على عموم بقية الوصية والنظر يدل على ذلك إذ ليسوا مالكين للمال في حال الحياة فلا تعمل إجازتهم فيه كما لا تجوز هبتهم ولا بيعهم وإن حدث الموت بعده فالإجازة أبعد من ذلك ولما كان الموصى له إنما تقع الوصية له بعد الموت فكذلك الإجازة حكمها أن يكون في حال وقوع الوصية وأن

٢٠٨

لا تعمل الإجازة قبل وقوعها وأيضا لما كان للميت إبطال الوصية في حال الحياة مع كونه مالكا فالورثة أحرى بجواز الرجوع عما أجازوه وإذا جاز لهم الرجوع فقد علمت أن الإجازة لا تصح فإن قيل لما كان حق الورثة ثابتا في ماله بالمرض ومن أجله منع ذلك في المرض عن التصرف فيه بأكثر من الثلث كما منع بعد الموت وجب أن يكون حال المرض حال الموت في باب لزومهم حكم الإجازة إذا أجازوا قيل له تصرف المريض جائز عندنا في جميع ماله بالهبة والصدقة والعتق وسائر معاني التصرف ووجوهه وإنما نسخ منها بعد الموت ما زاد على الثلث لثبوت حق الورثة بالموت وأما قبل ذلك فلا اعتبار بقول الوارث فيه ألا ترى أن الوارث ليس له أن يفسخ عقوده قبل الموت وإنما ثبت له ذلك بعد الموت عند ثبوت حقه في ماله فكذلك إجازته قبل موته كلا إجازة كما لا يعمل فسخه في عقوده وأما ما فرق به مالك بين من يخشى ضررا من جهته في ترك الإجازة وبين من لا يخشى ذلك منه فلا معنى له من قبل أن خشية الضرر من جهته لا تمنع صحة عقوده وقوله إذ ليس يكسبه ذلك حكم المكره ألا ترى أنه لو باع منه شيئا طلبه منه وقال خشيت أن تقطع عنى نفقته وجرايته بترك إجابته لم يكن ذلك عذرا في إبطال البيع وكذلك لو استوهبه المريض شيئا فوهبه له لم يكن ما يخافه بترك إجابته مؤثرا في هبته فكان ذلك بمنزلة من يخشى من قبله ضررا فإذا لا اعتبار لخوف الضرر في قطع النفقة والجراية في إيجاب العتق بين من هو في عياله أو ليس في عياله والله الموفق بمنه وكرمه.

باب تبديل الوصية

قال الله سبحانه وتعالى (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) قيل إن الهاء التي في قوله (فَمَنْ بَدَّلَهُ) عائدة على الوصية وجائز فيها التذكير لأن الوصية والإيصاء واحد وأما الهاء في قوله (إِثْمُهُ) فإنما هي عائدة على التبديل المدلول عليه بقوله (فَمَنْ بَدَّلَهُ) وقوله (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) يحتمل أن يريد به الشاهد على الوصية فيكون معناه زجره عن التبديل على نحو قوله تعالى (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) ويحتمل أن يريد الوصي لأنه هو المتولى لإمضائها والمالك لتنفيذها فمن أجل ذلك قد أمكنه تغييرها ويبعد أن يكون ذلك عموما في سائر الناس إذ لا مدخل لهم في ذلك ولا تصرف لهم فيه

٢٠٩

وهو عندنا على المعنيين الأولين من الشاهد والوصي لاحتمال اللفظ لهما والشاهد إذا احتيج إليه مأمور بأداء ما سمع على وجهه من غير تغيير ولا تبديل والوصي مأمور بتنفيذها على حسب ما سمعه مما تجوز الوصية به وروى عن عطاء ومجاهد قالا هي الوصية تصيب الولي الشاهد وقال الحسن هي الوصية من سمع الوصية ثم بدلها بعد ما سمعها فإنما إثمها على من بدلها قال أبو بكر وجائز أن يكون الحاكم مرادا بذلك لأن له فيه ولاية وتصرفا إذا رفع إليه فيكون مأمورا بإمضائها إذا جازت في الحكم منهيا عن تبديلها وفيها الأمر بإمضائها وتنفيذها على الحق والصدق وقوله (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) قد اقتضى جواز تنفيذ الوصي ما سمعه من وصية الموصى كان عليها شهودا ولم تكن وهو أصل في كل من سمع شيئا فجائز له إمضاؤه عند الإمكان على مقتضاه وموجبه من غير حكم حاكم ولا شهادة شهود فقد دل على أن الميت متى أقر بدين لرجل بعينه عند الوصي فجائز له أن يقضيه من غير علم وارث ولا حاكم ولا غيره لأن في تركه ذلك بعد السماع تبديلا لوصية الموصى وقوله (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) قد حوى معاني أحدها أنه معلوم أن ذلك عطف على الوصية المفروضة كانت للوالدين والأقربين وهي لا محالة مضمرة فيه لو لا ذلك لم يستقم الكلام لأن قوله (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) غير مستقل بنفسه في إيجاب الفائدة لما انتظم من الكناية والضمير اللذين لا بدلهما من مظهر مذكور وليس في الآية مظهر غير ما تقدم ذكره في أولها وإذا كان كذلك فقد أفادت الآية سقوط الفرض عن الموصى بنفس الوصية وأنه لا يلحقه بعد ذلك من مأثم التبديل شيء بعد موته* وفيه دلالة على بطلان قول من أجاز تعذيب الأطفال بذنوب آبائهم وهو نظير قوله (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وقد دلت الآية أيضا على أن من كان عليه دين فأوصى بقضائه أنه قد برىء من تبعته في الآخرة وإن ترك الورثة قضاءه بعد موته لا يلحقه تبعة ولا إثم وإن إثمه على من بدله دون من أوصى به* وفيه الدلالة على أن من كان عليه زكاة ماله فمات ولم يوص به أنه قد صار مفرطا مانعا مستحقا لحكم مانعي الزكاة لأنها لو كانت قد تحولت في المال حسب تحول الديون لكان بمنزلة من أوصى بها عند الموت فينجو من مأثمها ويكون حينئذ المبدل لها مستحقا لمأثمها وكذلك حكى الله تعالى عن مانع الزكاة عند الموت سؤال الرجعة في قوله

٢١٠

(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) فأخبر بحصول التفريط وفوات الأداء إذ لو كان الأداء باقيا على الوارث أو الوصي من ميراث الميت لكانوا هم المستحقين للوم والتعنيف في تركه وكان الميت خارجا عن حكم التفريط فدل ذلك على صحة ما وصفنا من امتناع وجوب أداء زكاته من ميراثه من غير وصية منه به فإن قيل هل يفترق حكم الموصى عند الله في حال تنفيذ وصيته أو تبديلها وهل يكون ما يستحقه من الثواب في الحالين سواء قيل له أن وصية الموصى قد تضمنت شيئين أحدهما استحقاقه الثواب على الله بوصيته والآخر أن وصول ذلك إلى الموصى له يستوجب منه الشكر لله والدعاء للموصى وذلك لا يكون ثوابا للموصى ولكن الموصى يصل إليه من دعاء الموصى له وشكره لله تعالى جزاء له لا للموصى فينتفع الموصى بذلك من وجهين إذا أنفذت الوصية ومتى لم تنفذ كان نفعه مقصورا على الثواب الذي استحقه بوصية دون غيرها فإن قيل فمن كان عليه دين فلم يوص بقضائه وقضاه الورثة هل يبرأ الميت من تبعته قيل له امتناعه من قضاء الدين قد تضمن شيئين أحدهما حق الله تعالى والآخر حق الآدمي فإذا استوفى الآدمي حقه فقد برىء من تبعته وبقي من حق الآدمي ما أدخل عليه من الظلم والضرر بتأخيره فإذا لم يتب منه كان مؤاخذا به في الآخرة وبقي حق الله وهو الظلم الواقع منه في حياته لم تكن توبة منه فيه فهو مؤاخذ به فيما بينه وبين الله تعالى ألا ترى أن من غصب من رجل مالا وأصر على منعه كان مكتسبا بذلك المأثم من وجهين أحدهما حق الله بارتكاب نهيه والآخر حق الآدمي بظلمه له وإضراره به فلو أن الآدمي أخذ حقه منه من غير إرادة الغاصب لذلك لكان قد برىء من حقه وبقي حق الله يحتاج إلى التوبة منه فإذا مات غير تائب كانت تبعته باقية عليه لاحقة به وقوله تعالى (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) إنما هو فيمن بدل ذلك إذا وقع على وجه الصحة والجواز والعدل فأما إذا كانت الوصية جورا فالواجب تبديلها وردها إلى العدل قال الله تعالى (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) فإنما تنفذ الوصية إذا وقعت عادلة غير جائرة وقد بين الله تعالى ذلك في الآية التي تليها.

باب الشاهد والوصي إذا علما الجور في الوصية

قال الله تعالى (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) قال أبو

٢١١

بكر حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً) قال هو الرجل يوصى فيجنف في وصيته فيردها الولي إلى العدل والحق وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال الجنف الخطأ والإثم العمد وروى ابن أبى نجيح عن مجاهد وابن طاوس عن أبيه فمن خاف من موص جنفا أو إثما قال هو الموصى لابن ابنه يريد لبنيه وروى المعتمر بن سليمان عن أبيه عن الحسن في الرجل يوصى للأباعد ويترك الأقارب قال يجعل وصيته ثلاثة أثلاث للأقارب الثلثين وللأباعد الثلث وروى عن طاوس في الرجل يوصى للأباعد قال ينزع منهم فيدفع للأقارب إلا أن يكون فيهم فقير قال أبو بكر الجنف الميل عن الحق وقد حكينا عن الربيع بن أنس أنه قال الجنف الخطأ ويجوز أن يكون مراده الميل عن الحق على وجه الخطأ والإثم ميله عنه على وجه العمد وهو تأويل مستقيم وتأوله الحسن على الوصية للأجنبى وله أقرباء أن ذلك جنف وميل عن الحق لأن الوصية كانت عنده للأقارب الذين لا يرثون وتأوله طاوس على معنيين أحدهما الوصية للأباعد فترد إلى الأقارب والآخر أن يوصى لابن ابنته يريد ابنته وقد نسخ وجوب الوصية للوالدين والأقربين فمن خاف من موص جنفا أو إثما غير موجب أن يكون هذا الحكم مقصورا على الوصية المذكورة قبلها لأنه كلام مستقل بنفسه يصح ابتداء الخطاب به غير مضمن بما قبله فهو عام في سائر الوصايا إذا عدل بها عن جهة العدل إلى الجور منتظمة للوصية التي كانت واجبة للوالدين والأقربين في حال بقاء وجوبها وشاملة لسائر الوصايا غيرها فمن خاف من سائر الناس من موص ميلا عن الحق وعدولا إلى الجور فالواجب عليه إرشاده إلى العدل والصلاح ولا يختص بذلك الشاهد والوصي والحاكم دون سائر الناس لأن ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر* فإن قيل فما معنى قوله تعالى (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) والخوف إنما يختص بما يمكن وقوعه في المستقبل وأما الماضي فلا يكون فيه خوف* قيل له يجوز أن يكون قد ظهر له من أحوال الموصى ما يغلب معه على ظنه أنه يريد الجور وصرف الميراث عن الوارث فعلى من خاف ذلك منه رده إلى العدل ويخوفه ذميم عاقبة الجور أو يدخل بين الموصى له وبين الورثة على وجه الصلاح وقد قيل إن معنى قوله (فَمَنْ خافَ) أنه علم أن

٢١٢

فيها جورا فيردها إلى العدل وإنما قال تعالى (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ولم يقل فعليه ردها إلى العدل والصلاح ولا ذكر له فيه استحقاق الثواب لأن أكثر أحوال الداخلين بين الخصوم على وجه الإصلاح أن يسألوا كل واحد منهما ترك بعض حقه فيسبق مع هذه الحال إلى ظن المصلح أن ذلك غير سائغ له ولأنه إنما يعمل في كثير منه على غالب ظنه دون الحقيقة فرخص الله تعالى في الإصلاح بينهم وأزال ظن الظان لامتناع جواز ذلك فلذلك قال (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) في هذا الموضع وقد وعد بالثواب على مثله في غيره فقال تعالى (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) وروى في تغليظ الجنف في الوصية ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن الحسن قال حدثنا عبد الصمد بن حسان قال حدثنا سفيان الثوري عن عكرمة عن ابن عباس قال الإضرار في الوصية من الكبائر ثم قرأ (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا القاسم بن زكريا ومحمد بن الليث قالا حدثنا عبد الله بن يوسف قال حدثنا عمر بن المغيرة عن داود بن أبى هند عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الإضرار في الوصية من الكبائر) وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا طاهر بن عبد الرحمن بن إسحاق القاضي حدثنا يحيى بن معين قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أشعث عن شهر بن حوشب عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة) وحدثنا محمد ابن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدة بن عبد الله قال حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال حدثنا نصر بن على الحدانى قال حدثني الأشعث بن جابر قال حدثني شهر ابن حوشب أن أبا هريرة حدثه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (إن الرجل والمرأة ليعملان بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار) ثم قرأ على أبو هريرة من هاهنا (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) ـ حتى بلغ ـ ذلك الفوز العظيم] فهذه الأخبار مع ما قدمنا توجب على من علم جنفا في الوصية من موص أن يرده إلى العدل إذا أمكنه ذلك فإن قيل على ماذا يعود الضمير الذي في قوله (بَيْنَهُمْ) قيل

٢١٣

له لما ذكر الله الموصى أفاد بفحوى الخطاب أن هناك موصى له ووارثا تنازعوا فعاد الضمير إليهم بفحوى الخطاب في الإصلاح بينهم وأنشد الفراء :

وما أدرى إذا يممت أرضا

أريد الخير أيهما يليني

أالخير الذي أنا أبتغيه

أم الشر الذي هو يبتغينى

فكنى في البيت الأول عن الشر بعد ذكر الخير وحده لما في فحوى اللفظ من الدلالة عليه عند ذكر الخير وغيره وقد قيل إن الضمير عائدا على المذكورين في ابتداء الخطاب وهم الوالدان والأقربون وقد أفادت هذه الآية على أن على الوصي والحاكم والوارث وكل من وقف على جور في الوصية من جهة الخطأ أو العمد ردها إلى العدل ودل على أن قوله تعالى (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) خاص في الوصية العادلة دون الجائرة وفيها الدلالة على جواز اجتهاد الرأى والعمل على غالب الظن لأن الخوف من الميل يكون في غالب ظن الخائف وفيها رخصة في الدخول بينهم على وجه الإصلاح مع ما فيه من زيادة أو نقصان عن الحق بعد أن يكون ذلك بتراضيهم والله الموفق.

باب فرض الصيام

قال الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فالله تعالى أوجب علينا فرض الصيام بهذه الآية لأن قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) معناه فرض عليكم كقوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) وقوله (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) يعنى فرضا موقتا* والصيام في اللغة هو الإمساك قال الله تعالى (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) يعنى صمتا فسمى الإمساك عن الكلام صوما ويقال خيل صيام إذا كانت ممسكة عن العلف وصامت الشمس نصف النهار لأنها ممسكة عن السير والحركة فهذا حكم هذا اللفظ في اللغة وهو في الشرع اسم للكف عن الأكل والشرب وما في معناه وعن الجماع في نهار الصوم مع نية القرابة أو الفرض وهو لفظ مجمل مفتقر إلى البيان عند وروده لأنه اسم شرعي موضوع لمعان لم تكن معقولة في اللغة إلا أنه بعد ثبوت الفرض واستقرار أمر الشريعة قد عقل معناه الموضوع له فيها بتوقيف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأمة عليها* وقوله تعالى (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يعتوره معان ثلاثة كل واحد منها مروى عن السلف قال الحسن والشعبي وقتادة أنه كتب على

٢١٤

الذين من قبلنا وهم النصارى شهر رمضان أو مقدار من عدد الأيام وإنما حولوه وزادوا فيه وقال ابن عباس والربيع بن أنس والسدى كان الصوم من العتمة إلى العتمة ولا يحل بعد النوم مأكل ولا مشرب ولا منكح ثم نسخ وقال آخرون معناه أنه كتب علينا صيام أيام كما كتب عليهم صيام أيام ولا دلالة فيه على مساواته في المقدار بل جائز فيه الزيادة والنقصان وروى عن مجاهد وقتادة الذين من قبلكم أهل الكتاب وروى عبد الرحمن بن أبى ليلى عن معاذ بن جبل قال أحيل الصيام ثلاثة أحوال فقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فجعل الصوم كل شهر ثلاثة أيام ويوم عاشوراء ثم أن الله تعالى فرض الصيام بقوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) وذكر نحو قول ابن عباس الذي قدمنا* قال أبو بكر لما لم يكن في قوله (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) دلالة على المراد في العدد أو في صفة الصيام أو في الوقت كان اللفظ مجملا ولو علمنا وقت صيام من قبلنا وعدده كان جائزا أن يكون مراده صفة الصيام وما حظر على الصائم فيه بعد النوم فلم يكن لنا سبيل إلى استعمال ظاهر اللفظ في احتداء صوم من قبلنا وقد عقبه تعالى بقوله (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) وذلك جائز وقوعه على قليل الأيام وكثيرها فلما قال تعالى في نسق التلاوة (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) بين بذلك عدد الأيام المعدودات ووقتها وأمر بصومها وقد روى هذا المعنى عن ابن أبى ليلى وروى عن ابن عباس وعطاء أن المراد بقوله تعالى (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) صوم ثلاثة أيام من كل شهر قبل أن ينزل رمضان ثم نسخ برمضان* قوله تعالى (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) قال أبو بكر ظاهره يقتضى جواز الإفطار لمن لحقه الاسم سواء كان الصوم يضره أولا إلا أنا لا نعلم خلافا أن المريض الذي لا يضره الصوم غير مرخص له في الإفطار فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إذا خاف أن تزداد عينه وجعا أو حماه شدة أفطر وقال مالك في الموطأ من أجهده الصوم أفطر وقضى ولا كفارة عليه والذي سمعته أن المريض إذا أصابه المرض شق عليه فيه الصيام فيبلغ منه ذلك فله أن يفطر ويقضى قال مالك وأهل العلم يرون على الحامل إذا اشتد عليها الصيام الفطر والقضاء ويرون ذلك مرضا من الأمراض وقال الأوزاعى أى مرض إذا مرض الرجل حل له الفطر فإن لم يطق أفطر فأما إذا أطاق وإن شق عليه فلا يفطر وقال الشافعى إذا

٢١٥

أزداد مرض المريض شدة زيادة بينة أفطر وإن كانت زيادة محتملة لم يفطر فثبت باتفاق الفقهاء أن الرخصة في الإفطار للمريض موقوفة على زيادة المرض بالصوم وأنه ما لم يخش الضرر فعليه أن يصوم* ويدل على أن الرخصة في الإفطار للمريض متعلقة بخوف الضرر ما روى أنس بن مالك القشيري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم وعن الحامل والمرضع) ومعلوم أن رخصتهما موقوفة على خوف الضرر على أنفسهما أو على ولديهما فدل ذلك على أن جواز الإفطار في مثله متعلق بخوف الضرر إذ الحامل والمرضع صحيحتان لا مرض بهما وأبيح لهما الإفطار لأجل الضرر* وأباح الله تعالى للمسافر الإفطار وليس للسفر حد معلوم في اللغة يفصل به بين أقله وبين ما هو دونه فإذا كان ذلك كذلك وقد اتفقوا على أن للسفر المبيح للإفطار مقدارا معلوما في الشرع واختلفوا فيه فقال أصحابنا مسيرة ثلاثة أيام ولياليها وقال آخرون مسيرة يومين وقال آخرون مسيرة يوم ولم يكن للغة في ذلك حظ إذ ليس فيها حصر أقله بوقت لا يجوز النقصان منه لأنه اسم مأخوذ من العادة وكل ما كان حكمه مأخوذا من العادة فغير ممكن تحديده بأقل القليل وقد قيل إن السفر مشتق من السفر الذي هو الكشف من قولهم سفرت المرأة عن وجهها وأسفر الصبح إذا أضاء وسفرت الريح السحاب إذا قشعته والمسفرة المكنسة لأنها تسفر عن الأرض بكنس التراب وأسفر وجهه إذا أضاء وأشرق ومنه قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) يعنى مشرقة مضيئة فسمى الخروج إلى الموضع البعيد سفرا لأنه يكشف عن أخلاق المسافر وأحواله ومعلوم أنه إذا كان معنى السفر ما وصفنا أن ذلك لا يتبين في الوقت اليسير واليوم واليومين لأنه قد يتصنع في الأغلب لمثل هذه المسافة فلا يظهر فيه ما يكشفه البعيد من أخلاقه فإن اعتبر بالعادة علمنا أن المسافة القريبة لا تسمى سفرا والبعيدة تسمى إلا أنهم اتفقوا على أن الثلاثة سفر صحيح فيما يتعلق به من أحكام الشرع فثبت أن الثلاث سفر وما دونها لم يثبت لعدم معنى الاسم فيه وفقد التوقيف والاتفاق بتحديده وأيضا قد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبار تقتضي اعتبار الثلاث في كونها سفرا في أحكام الشرع فمنها حديث ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى أن تسافر امرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم واختلف الرواة عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال بعضهم ثلاثة أيام وقال بعضهم يومين فهذه الألفاظ

٢١٦

المختلفة قد رويت في حديث أبى سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واختلف أيضا عن أبى هريرة فروى سفيان عن عجلان عن سعيد بن أبى سعيد عن أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم) وروى كثير بن زيد عن سعيد بن أبى سعيد المقبري عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا نساء المؤمنات لا تخرج امرأة من مسيرة ليلة إلا مع ذي محرم) وكل واحد من أخبار أبى سعيد وأبى هريرة إنما هو خبر واحد اختلفت الرواية في لفظه ولم يثبت أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك في أحوال فالواجب أن يكون خبر الزائد أولى وهو الثلاث لأنه متفق على استعماله وما دونها مختلف فيه فلا يثبت لاختلاف الرواة فيه وأخبار ابن عمر لاختلاف فيها فهي ثابتة وفيها ذكر الثلاث ولو أثبتنا ذكر أخبار أبى سعيد وأبى هريرة على اختلافها لكان أكثر أحوالها أن تتضاد وتسقط كأنها لم ترد وتبقى لنا أخبار ابن عمر في اعتبار الثلاث من غير معارض* فإن قيل أخبار أبى سعيد وأبى هريرة غير متعارضة لأنا نثبت جميع ما روى فيها من التوقيف فنقول لا تسافر يوما ولا يومين ولا ثلاثة* قيل له متى استعملت ما دون الثلاث فقد ألغيت الثلاث وجعلت ورودها وعدمها بمنزلة فأنت غير مستعمل لخبر الثلاث مع استعمالك خبر ما دونها وإذا لم يكن إلا استعمال بعضها وإلغاء البعض فاستعمال خبر الثلاث أولى لما فيه من ذكر الزيادة وأيضا قد يمكن استعمال الثلاث مع إثبات فائدة الخبر في اليوم واليومين وهو أنها متى أرادت سفر الثلاث لم تخرج اليوم ولا اليومين من الثلاث إلا مع ذي محرم وقد يجوز أن يظن ظان أنه لما حد الثلاث فمباح لها الخروج يوم أو يومين مع غير ذي محرم وإن أرادت سفر الثلاث فأبان صلى‌الله‌عليه‌وسلم حظر ما دونها متى أرادتها* وإذا ثبت تقدير الثلاث في حظر الخروج إلا مع ذي محرم ثبت ذلك تقديرا في إباحة الإفطار في رمضان من وجهين أحدهما أن كل من اعتبر في خروج المرأة الثلاث اعتبرها في إباحة الإفطار وكل من قدره بيوم أو يومين كذلك قدره في الإفطار والوجه الآخر أن الثلاث قد تعلق بها حكم وما دونها لم يتعلق به حكم في الشرع فوجب تقديرها في إباحة الإفطار لأنه حكم متعلق بالوقت المقدر وليس فيما دون الثلاث حكم يتعلق به فصار بمنزلة خروج ساعة من النهار وأيضا ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رخص في المسح للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها ومعلوم أن ذلك ورد مورد بيان الحكم لجميع المسافرين لأن ما ورد

٢١٧

مورد البيان فحكمه أن يكون شاملا لجميع ما اقتضى البيان من التقدير فما من مسافر إلا وهو الذي يكون سفره ثلاثا ولو كان ما دون الثلاث سفرا في الشرع لكان قد بقي مسافر لم يتبين حكمه ولم يكن اللفظ مستوعبا لجميع ما اقتضى البيان وذلك يخرجه عن حكم البيان ومن جهة أخرى أن المسافر اسم للجنس لدخول الألف واللام عليه فما من مسافر إلا وقد انتظمه هذا الحكم فثبت أن من خرج عنه فليس بمسافر يتعلق بسفره حكم وفي ذلك أوضح الدلالة على أن السفر الذي يتعلق به الحكم هو سفر ثلاث وأن ما دونه لا حكم له في إفطار ولا قصر ومن جهة أخرى أن هذا الضرب من المقادير لا يؤخذ من طريق المقاييس وإنما طريق إثباته الاتفاق أو التوقيف فلما عد منا فيما دون الثلاث الاتفاق والتوقيف وجب الوقوف عند الثلاث لوجود الاتفاق فيه أنه سفر يبيح الإفطار وأيضا لما كان لزوم فرض الصوم هو الأصل واختلفوا في مدة رخصة الإفطار لم يجز لنا عند الاختلاف ترك الفرض إلا بالإجماع وهو الثلاث لأن الفروض يحتاط لها ولا يحتاط عليها وقد روى عن عبد الله ابن مسعود وعمار وابن عمر أنه لا يفطر في أقل من الثلاث قوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) اختلف الفقهاء من السلف في تأويله فروى المسعودي عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن بي ليلى عن معاذ بن جبل قال أحيل الصيام على ثلاثة أحوال ثم أنزل الله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ـ إلى قوله ـ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا وأجزى عنه ثم أنزل الله الآية الأخرى (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ـ إلى قوله ـ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فأثبت الله تعالى صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام وعن عبد الله بن مسعود وابن عمر وابن عباس وسلمة بن الأكوع وعلقمة والزهري وعكرمة في قوله (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) قال كان من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى وأطعم كل يوم مسكينا حتى نزل (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وروى فيه وجه آخر وهو ما روى عبد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبى إسحاق عن الحرث عن على كرم الله وجهه قال من أتى عليه رمضان وهو مريض أو مسافر فليفطر وليطعم كل يوم مسكينا صاعا فذلك قوله (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) ووجه آخر وهو ما روى منصور عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان يقرأها [وعلى الذين

٢١٨

يطوقونه فدية طعام مسكين] قال الشيخ الكبير الذي كان يطيق الصوم وهو شاب فأدركه الكبر وهو لا يستطيع أن يصوم من ضعف ولا يقدر أن يترك الطعام فيفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا نصف صاع وعن سعيد بن المسيب مثله وكانت عائشة تقرأ [وعلى الذين يطوقونه] وروى خالد الحذاء عن عكرمة أنه كان يقرأ (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) قال أنها ليست بمنسوخة وروى الحجاج عن أبى إسحاق عن الحرث عن على (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) قال الشيخ والشيخة قال أبو بكر فقالت الفرقة الأولى من الصحابة والتابعين وهم الأكثرون عددا أن فرض الصوم بديا نزل على وجه التخيير لمن يطيقه بين الصيام وبين الفدية وأنه نسخ عن المطيق بقوله (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وقالت الفرقة الثانية هي غير منسوخة بل هي ثابتة على المريض والمسافر يفطران ويقضيان وعليهما الفدية مع القضاء وكان ابن عباس وعائشة وعكرمة وسعيد بن المسيب يقرءونها [وعلى الذين يطوقونه] فاحتمل هذا اللفظ معاني منها ما بينه ابن عباس أنه أراد الذين كانوا يطيقونه ثم كبروا فعجزوا عن الصوم فعليهم الإطعام والمعنى الآخر أنهم يكلفونه على مشقة فيه وهم لا يطيقونه لصعوبته فعليهم الإطعام ومعنى آخر وهو أن حكم التكليف يتعلق عليهم وإن لم يكونوا مطيقين للصوم فيقوم لهم الفدية مقام ما لحقهم من حكم تكليف الصوم ألا ترى أن حكم تكليف الطهارة بالماء قائم على التيمم وإن لم يقدر عليه حتى أقيم التراب مقامه ولو لا ذلك لما كان التيمم بدلا منه وكذلك حكم تكليف الصلاة قائم على النائم والناسي في باب وجوب القضاء لا على وجه لزمه بالترك فلما أوجب تعالى عليه الفدية في حال العجز والإياس عن القضاء أطلق فيه اسم التكليف بقوله (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) إذ كانت الفدية هي ما قام مقام غيره فالقراءتان على هذا الوجه مستعملتان إلا أن الأولى وهي قوله (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) لا محالة منسوخة لما ذكره من روينا عنه من الصحابة وأخبارهم عن كيفية الفرض وصفته بديا وأن المطيق للصوم منهم كان مخيرا بين الصيام والإفطار والفدية وليس هذا من طريق الرأى لأنه حكاية حال شاهدوها وعلموا أنها بتوقيف من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم عليها وفي مضمون الخطاب من أوضح الدلالة على ذلك ما لو لم يكن معنا رواية عن السلف في معناه لكان كافيا في الإبانة عن مراده وهو قوله تعالى (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فابتدأ تعالى بيان حكم المريض والمسافر وأوجب عليهما

٢١٩

القضاء إذا أفطرا ثم عقبه بقوله (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) فغير جائز أن يكون هؤلاء هم المرضى والمسافرين إذ قد تقدم ذكر حكمهما وبيان فرضهما بالاسم الخاص لهما فغير جائز أن يعطف عليهما بكناية عنهما مع تقديمه ذكرهما منصوصا معينا ومعلوم أن ما عطف عليه فهو غيره لأن الشيء لا يعطف على نفسه ويدل على أن المراد المقيمون المطيقون للصوم أن المريض المذكور في الآية هو الذي يخاف ضرر الصوم فكيف يعبر عنه بإطاقة الصوم وهو إنما رخص له لفقد الإطاقة وللضرر المخوف منه ويدل على ذلك ما ذكره في نسق التلاوة من قوله تعالى (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) وليس الصوم خيرا للمريض الخائف على نفسه بل هو في هذه الحال منهى عن الصوم ويدل على أن المريض والمسافر لم يرادا بالفدية وأنه لا فدية عليهما أن الفدية ما قام مقام الشيء وقد نص الله تعالى على إيجاب القضاء على المريض والمسافر والقضاء قائم مقام الفرض فلا يكون الإطعام حينئذ فدية وفي ذلك دلالة على أنه لم يرد بالفدية المريض والمسافر بقوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) منسوخ بما قدمنا وهذه الآية تدل على أن أصل الفرض كان الصوم وأنه جعل له العدول عنه إلى الفدية على وجه البدل عن الصوم لأن الفدية ما يقوم مقام الشيء ولو كان الإطعام مفروضا في نفسه كالصوم على وجه التخيير لما كان بدلا كما أن المكفر عن يمينه بما شاء من الثلاثة الأشياء لا يكون ما كفر به منها بدلا ولا فدية عن غيرها وإن حمل معناه على قول من قال المراد به الشيخ الكبير لم يكن منسوخا ولكن يحتاج إلى ضمير وهو وعلى الذين كانوا يطيقونه ثم عجزوا بالكبر مع اليأس عن القضاء وغير جائز إثبات ذلك إلا باتفاق أو توقيف ومع ذلك فيه إزالة اللفظ عن حقيقته وظاهره من غير دلالة تدل عليه وعلى أن في حمله على ذلك إسقاط فائدة قوله (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) لأن الذين كانوا يطيقونه بعد لزوم الفرض والدين لحقهم فرض الصوم وهم عاجزون عنه بالكبر سواء في حكمه ويحمل معناه على أن الشيخ الكبير العاجز عن الصائم المأيوس من القضاء عليه الفدية فسقط فائدة قوله (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) إذ لم يتعلق فيه بذكر الإطاقة حكم ولا معنى وقراءة من قرأ [يطوقونه] يحتمل الشيخ المأيوس منه القضاء من إيجاب الفدية عليه لأن قوله يطوقونه قد اقتضى تكليفهم حكم الصوم مع مشقة شديدة عليهم في فعله وجعل لهم الفدية قائمة مقام الصوم فهذه القراءة إذا كان معناها ما وصفنا فهي غير

٢٢٠