أحكام القرآن - ج ١

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٤

الشبع حتى يكون لاختصاصه الميتة بهذا الوصف وعقده الإباحة بهذه الشريطة فائدة وهو أن لا يتناول منها إلا مقدار زوال خوف الضرورة ويدل على ذلك أيضا أنه لو كان معه من الطعام مقدار ما إذا أكله أمسك رمقه لم يجز له أن يتناول الميتة ثم إذا أكل ذلك الطعام وزال خوف التلف لم يجز له أن يأكل الميتة وكذلك إذا أكل من الميتة ما زال معه خوف الضرر حرم عليه أكلها إذ ليس أكل الميتة بأولى بإباحة الأكل بعد زوال الضرورة من الطعام الذي هو مباح في الأصل وقد روى الأوزاعى عن حسان بن عطية الميثى أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال (إنا نكون بالأرض تصيبنا المخمصة) فمتى تحل لنا الميتة قال (متى ما لم تصطبحوا أو تغتبقوا أو تجدوا بها بقلا فشأنكم بها) فلم يبح لهم الميتة إلا إذا لم يجدوا صبوحا وهو شرب الغداء أو عبوقا وهو شرب العشاء أو يجدوا بقلا يأكلونه لأن من وجد غداء أو عشاء أو بقلا فليس بمضطر وهذا يدل على معنيين أحدهما أن الضرورة هي المبيحة للميتة دون حال المضطر في كونه مطيعا أو عاصيا إذ لم يفرق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للسائل بين حائل المطيع والعاصي في إباحته بل سوى بينهما والثاني أن إباحة الميتة مقصورة على حال خوف الضرر والله أعلم.

باب هل في المال حق واجب سوى الزكاة

قال الله تعالى (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) الآية قيل في قوله تعالى (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ) أنه يريد به اليهود والنصارى حين أنكرت نسخ القبلة فأعلم الله تعالى أن البر إنما هو طاعة الله تعالى واتباع أمره لا في التوجه إلى المشرق والمغرب إذا لم يكن فيه اتباع أمره وأن طاعة الله الآن في التوجه إلى الكعبة إذ كان التوجه إلى غيرها منسوخا* وقوله تعالى (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) قيل أن فيه حذفا ومعناه أن البر بر من آمن بالله وقيل إنه أراد به أن البار من آمن بالله كقول الخنساء :

ترتع ما رتعت حتى إذا أدركت

فإنما هي إقبال وإدبار

يعنى مقبلة ومدبرة وقوله تعالى (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) يعنى أن البار من أتى المال على حبه قيل فيه أنه يعنى حب المال كقوله تعالى (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وقيل إنه يعنى حب الإيتاء وأن لا يكون متسخطا عند الإعطاء ويحتمل أن يكون أراد على حب

١٦١

الله تعالى كقوله تعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) وجائز أن يكون مراده جميع هذه الوجوه وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ما يدل على أنه أراد حب المال وهو ما رواه جرير بن عبد الحميد عن عمارة بن القعقاع عن أبى زرعة عن أبى هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله أى الصدقة أفضل فقال (أن تصدق وأنت صحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان) وحدثنا أبو القاسم عبد الله بن إسحاق المروزى قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع الجرجانى قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا الثوري عن زبيد عن مرة عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) قال أن تؤتيه وأنت صحيح تأمل العيش وتخشى الفقر* وقوله تعالى (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى) يحتمل به أن يريد به الصدقة الواجبة وأن يريد به التطوع وليس في الآية دلالة على أنها الواجبة وإنما فيها حث على الصدقة ووعد بالثواب عليها وذلك لأن أكثر ما فيها أنها من البر وهذا لفظ ينطوى على الفرض والنفل إلا أن في سياق الآية ونسق التلاوة ما يدل على أنه لم يرد به الزكاة لقوله تعالى (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) فلما عطف الزكاة عليها دل على أنه لم يرد الزكاة بالصدقة المذكورة قبلها* ومن الناس من يقول أراد به حقوقا واجبة في المال سوى الزكاة نحو وجوب صلة الرحم إذا وجده ذا ضر شديد ويجوز أن يريد من قد أجهده الجوع حتى يخاف عليه التلف فيلزمه أن يعطيه ما يسد جوعته* وقد روى شريك عن أبى حمزة عن عامر عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (في المال حق سوى الزكاة) وتلا قوله تعالى (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية وروى سفيان عن أبى الزبير عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ذكر الإبل فقال إن فيها حقا فسئل عن ذلك فقال إطراق فحلها وإعارة ذلولها ومنحة سمينها فذكر في هذين الحديثين أن في المال حقا سوى الزكاة وبين في الحديث الأول أنه تأويل قوله تعالى (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) الآية وجائز أن يريد بقوله في المال حق سوى الزكاة ما يلزم من صلة الرحم بالإنفاق على ذوى المحارم الفقراء ويحكم به الحاكم عليه لوالديه وذوى محارمه إذا كانوا فقراء عاجز بن عن الكسب وجائز أن يريد به ما يلزمه من طعام الجائع المضطر وجائز أن يريد به حقا مندوبا إليه لا واجبا إذ ليس قوله في المال حق يقتضى

١٦٢

الوجوب إذ من الحقوق ما هو ندب ومنها ما هو فرض* وحدثنا عبد الباقي حدثنا أحمد ابن حماد بن سفيان قال حدثنا كثير بن عبيد حدثنا بقية عن رجل من بنى تميم يكنى أبا عبد الله عن الضبي الشعبي عن مسروق عن على قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (نسخت الزكاة كل صدقة) وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا حسين بن إسحاق التستري قال حدثنا على بن سعيد قال حدثنا المسيب بن شريك عن عبيد المكتب عن عامر عن مسروق عن على قال نسخت الزكاة كل صدقة * فإن صح هذا الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسائر الصدقات الواجبة منسوخة بالزكاة وإن لم يصح ذلك مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجهالة راويه فإن حديث على عليه السلام حسن السند وهو يوجب أيضا إثبات نسخ الصدقات التي كانت واجبة بالزكاة وذلك لا يعلم إلا من طريق التوقيف فيعلم بذلك أن ما قاله على هو بتوقيف من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياه عليه وحينئذ يكون المنسوخ من الصدقات صدقات قد كانت واجبة ابتداء بأسباب من قبل من يجب عليه تقتضي لزوم إخراجها ثم نسخت بالزكاة نحو قوله تعالى (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) ونحو ما روى في قوله تعالى (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) إنه منسوخ عند بعضهم بالعشر ونصف العشر فيكون المنسوخ بالزكاة مثل هذه الحقوق الواجبة في المال من غير ضرورة وأما ما ذكرنا من الحقوق التي تلزم من نحو الإنفاق على ذوى الأرحام عند العجز عن التكسب وما يلزم من إطعام المضطر فإن هذه فروض لازمة ثابتة غير منسوخة بالزكاة وصدقة الفطر واجبة عند سائر الفقهاء ولم تنسخ بالزكاة مع أن وجوبها ابتداء من قبل الله تعالى غير متعلق بسبب من قبل العبد فهذا يدل على أن الزكاة لم تنسخ صدقة الفطر وقد روى الواقديّ عن عبد الله بن عبد الرحمن عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزكاة الفطر قبل أن تفرض الزكاة فلما فرضت الزكاة لم يأمرهم ولم ينههم وكانوا يخرجونها فهذا الخبر لو صح لم يدل على نسخها لأن وجوب الزكاة لا ينفى بقاء وجوب صدقة الفطر وعلى أن الأولى أن فرض الزكاة متقدم على صدقة الفطر لأنه لا خلاف بين السلف في أن حم السجدة مكية وأنها من أوائل ما نزل منا لقرآن وفيها وعيد تارك الزكاة عند قوله (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) والأمر بصدقة الفطر إنما كان بالمدينة فدل ذلك على أن فرض الزكاة متقدم لصدقة الفطر وقد روى عن ابن عمر

١٦٣

ومجاهد في قوله تعالى (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) أنها محكمة وأنه حق واجب عند القوم غير الزكاة* وأما الحقوق التي تجب بأسباب من قبل العبد نحو الكفارات والنذور فلا* خلاف أن الزكاة لم تنسخها* واليتامى المرادون بالآية هم الصغار الفقراء الذين مات آباؤهم والمساكين مختلف فيه وسنذكر ذلك في سورة براءة إن شاء الله تعالى وابن السبيل* روى عن مجاهد أنه المسافر وعن قتادة أنه الضيف القول الأول أشبه لأنه إنما سمى ابن السبيل لأنه على الطريق كما قيل للطير الأوز ابن ماء لملازمته له قال ذو الرمة :

وردت اعتسافا والثريا كأنها

على قمة الرأس ابن ماء محلق

والسائلين يعنى به الطالبين للصدقة قال الله تعالى (فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان قال حدثنا مصعب بن محمد قال حدثنا يعلى بن أبى يحيى عن فاطمة بنت حسين ابن على رضى الله تعالى عنهم أجمعين قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (للسائل حق وإن جاء على فرس) حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا عبيد بن شريك حدثنا أبو الجماهر قال حدثنا عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (اعطوا السائل وإن أتى على فرس) والله تعالى أعلم.

باب القصاص

قال الله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) هذا كلام مكتف بنفسه غير مفتقر إلى ما بعده ألا ترى أنه لو اقتصر عليه لكان معناه مفهوما من لفظه واقتضى ظاهره وجوب القصاص على المؤمنين في جميع القتلى* والقصاص هو أن يفعل به مثل ما فعل به من قولك اقتص أثر فلان إذا فعل مثل فعله قال الله تعالى (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) وقال تعالى (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) أى ابتغى أثره* وقوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) معناه فرض عليكم كقوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ـ وـ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ) وقد كانت الوصية واجبة ومنه الصلوات المكتوبات يعنى بها المفروضات* فانتظمت الآية إيجاب القصاص على المؤمنين إذا قتلوا لمن قتلوا من سائر المقتولين لعموم لفظ المقتولين والخصوص إنما هو في القاتلين لأنه لا يكون

١٦٤

القصاص مكتوبا عليهم إلا وهم قاتلون فاقتضى وجوب القصاص على كل قاتل عمدا بحديدة إلا ما خصه الدليل سواء كان المقتول عبدا أو ذميا ذكرا أو أنثى لشمول لفظ القتلى للجميع* وليس توجيه الخطاب إلى المؤمنين بإيجاب القصاص عليهم في القتلى بموجب أن يكون القتلى مؤمنين لأن علينا اتباع عموم اللفظ ما لم تقم دلالة الخصوص وليس في الآية ما يوجب خصوص الحكم في بعض القتلى دون بعض فإن قال قائل يدل على خصوص الحكم في القتلى وجهان أحدهما في نسق الآية (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) والكافر لا يكون أخا للمسلم فدل على أن الآية خاصة في قتلى المؤمنين والثاني قوله (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) قيل له هذا غلط من وجهين أحدهما أنه إذا كان أول الخطاب قد شمل الجميع فما عطف عليه بلفظ الخصوص لا يوجب تخصيص عموم اللفظ وذلك نحو قوله تعالى (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) وهو عموم في المطلقة ثلاثا وما دونها ثم عطف قوله تعالى (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) وقوله تعالى (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) وهذا الحكم خاص في المطلق لما دون الثلاث ولم يوجب ذلك تخصيص عموم اللفظ في إيجاب ثلاثة قروء من العدة على جميعهن ونظائر هذا كثير في القرآن والوجه الآخر أن يريد الأخوة من طريق النسب لا من جهة الدين كقوله تعالى (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) وأما قوله (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) فلا يوجب تخصيص عموم اللفظ في القتلى لأنه إذا كان أول الخطاب مكتفيا بنفسه غير مفتقر إلى ما بعده لم يجز لنا أن نقصره عليه* وقوله (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) إنما هو بيان لما تقدم ذكره على وجه التأكيد وذكر الحال التي خرج عليها الكلام وهو ما ذكره الشعبي وقتادة أنه كان بين حيين من العرب قتال وكان لأحدهما طول على الآخر فقالوا لا نرضى إلا أن نقتل بالعبد منا الحر منكم وبالأنثى منا الذكر منكم فأنزل الله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) مبطلا بذلك ما أرادوه مؤكدا عليهم فرض القصاص على القاتل دون غيره لأنهم كانوا يقتلون غير القاتل فنهاهم الله عن ذلك وهو ما روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (من أعتى الناس على الله يوم القيامة ثلاثة رجل قتل غير قاتله ورجل قتل في الحرم ورجل أخذ بذحول الجاهلية) وأيضا فإن قوله تعالى (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) تفسير لبعض ما انتظمه عموم اللفظ ولا يوجب ذلك تخصيص

١٦٥

اللفظ ألا ترى أن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحنطة بالحنطة مثلا بمثل وذكره الأصناف الستة لم يوجب أن يكون حكم الربا مقصورا عليها ولا نفى الربا عما عداها كذلك قوله (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) لا ينفى اعتبار عموم اللفظ في قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) ويدل على أن قوله (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) غير موجب لتخصيص عموم القصاص ولم ينف القصاص عن غير المذكور اتفاق الجميع على قتل العبد بالحر والأنثى بالذكر فثبت بذلك أن تخصيص الحر بالحر لم ينف موجب حكم اللفظ في جميع القتلى* فإن قال قائل كيف يكون* القصاص مفروضا والولي مخير بين العفو وبين القصاص* قيل له لم يجعله مفروضا على الولي وإنما جعله مفروضا على القاتل للولي بقوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) وليس القصاص على الولي وإنما هو حق له وهذا لا ينفى وجوبه على القاتل وإن كان الذي له القصاص مخيرا فيه* وهذه الآية تدل على قتل الحر بالعبد والمسلم بالذمي والرجل بالمرأة لما بينا من اقتضاء أول الخطاب إيجاب عموم القصاص في سائر القتلى وأن تخصصه الحر بالحر ومن ذكر معه لا يوجب الاقتصار بحكم القصاص عليه دون اعتبار عموم ابتداء الخطاب في إيجاب القصاص* ونظيرها من الآي في إيجاب القصاص عاما قوله تعالى (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) فانتظم ذلك جميع المقتولين ظلما وجعل لأوليائهم سلطانا وهو القود لاتفاق الجميع على أن القود مراد بذلك في الحر المسلم إذا قتل حرا مسلما فكان بمنزلة قوله تعالى فقد جعلنا لوليه قودا لأن ما حصل الاتفاق عليه من معنى الآية مراد فكأنه منصوص عليه فيها فلفظ السلطان وإن كان مجملا فقد عرف معنى مراده من طريق الاتفاق وقوله (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) هو عموم يصح اعتباره على حسب ظاهره ومقتضى لفظه* ونظيرها أيضا من الآي قوله تعالى (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) فأخبر أن ذلك كان مكتوبا على بنى إسرائيل وهو عموم في إيجاب القصاص في سائر المقتولين وقد احتج أبو يوسف بذلك في قتل الحر بالعبد وهذا يدل على أن مذهبه أن شريعة من كان قبلنا من الأنبياء ثابتة علينا ما لم يثبت نسخها على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا نجد في القرآن ولا في السنة ما يوجب نسخ ذلك فوجب أن يكون حكمه ثابتا علينا على حسب ما اقتضاه ظاهر لفظه من إيجاب القصاص في سائر الأنفس* ونظيره أيضا قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)

١٦٦

لأن من قتل وليه يكون معتدى وذلك عموم في سائر القتلى* وكذلك قوله (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) يقتضى عمومه وجوب القصاص في الحر والعبد والذكر والأنثى والمسلم والذمي* مسألة في قتل الحر بالعبد* قال أبو بكر وقد اختلف الفقهاء في* القصاص بين الأحرار والعبيد* فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر رضى الله* عنهم لا قصاص بين الأحرار والعبيد إلا في الأنفس ويقتل الحر بالعبد والعبد بالحر* وقال ابن أبى ليلى القصاص واجب بينهم في جميع الجراحات التي نستطيع فيها القصاص* وقال ابن وهب عن مالك ليس بين الحر والعبد قود في شيء من الجراح والعبد يقتل بالحر ولا يقتل الحر بالعبد وقال الليث بن سعد إذا كان العبد هو الجاني اقتص منه ولا يقتص من الحر للعبد وقال إذا قتل العبد الحر فلولى المقتول أن يأخذ بها نفس العبد القاتل فيكون له وإذا جنى على الحر فيما دون النفس فللمجروح القصاص إن شاء* وقال الشافعى من جرى عليه القصاص في النفس جرى عليه في الجراح ولا يقتل الحر بالعبد ولا يقتص له منه فيما دون النفس* وجه دلالة الآية في وجوب القصاص بين الأحرار والعبيد في النفس أن الآية مقصورة الحكم على ذكر القتلى وليس فيها ذكر لما دون النفس من الجراح وسائر ما ذكرنا من عموم آي القرآن في بيان القتلى والعقوبة والاعتداء يقتضى قتل الحر بالعبد ومن حيث اتفق الجميع على قتل العبد بالحر وجب قتل الحر بالعبد لأن العبد قد ثبت أنه مراد الآية والآية لم يفرق مقتضاها بين العبد المقتول والقاتل فهي عموم فيها جميعا* ويدل أيضا على ذلك قوله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) فأخبر أنه أوجب القصاص لأن فيه حياة لنا وذلك خطاب شامل للحر والعبد لأن صفة أولى الألباب تشملهم جميعا فإذا كانت العلة موجودة في الجميع لم يجز الاقتصار بحكمها على بعض من هي موجودة فيه دون غيره* ويدل عليه من جهة السنة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (المسلمون* تتكافأ دماؤهم) وهو عام في العبيد والأحرار فلا يخص منه شيء إلا بدلالة* ويدل عليه من وجه آخر وهو اتفاق الجميع على أن العبد إذا كان هو القاتل فهو مراد به كذلك إذا كان مقتولا لأنه لم يفرق بينه إذا كان قاتلا أو مقتولا* فإن قيل لما قال في سياق الحديث* ويسعى بذمتهم أدناهم وهو العبد يدل على أنه لم يرده بأول الخطاب* قيل له هذا غلط من قبل أنه لا خلاف أن العبد إذا كان قاتلا فهو مراد ولم يمنع قوله ويسعى بذمتهم أدناهم

١٦٧

أن يكون مرادا إذا كان قاتلا كذلك لا يمنع إرادته إذا كان مقتولا على أن قوله ويسعى بذمتهم أدناهم ليس فيه تخصيص العبد من غيره وإنما المراد أدناهم عددا هو كقوله واحد منهم فلا تعلق لذلك في إيجاب اقتصار حكم أول اللفظ على الحر دون العبد وعلى أنه لو قال ويسعى بذمتهم عبدهم لم يوجب تخصيص حكمه في مكافأة دمه لدم الحر لأن ذلك حكم آخر استأنف له ذكرا وخص به العبد ليدل على أن غير العبد أولى بالسعي بذمتهم فإذا كان تخصيص العبد هذا الحكم لم يوجب أن يكون مخصوصا به دون الآخر فلأن لا يوجب تخصيص بالذكر في حكم القصاص أولى* فإن قيل قوله المسلمون تتكافأ دماؤهم يقتضى* التماثل في الدماء وليس العبد مثلا للحر* قيل له فقد جعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثلا له في الدم إذ علق حكم التكافؤ منهم بالإسلام ومن قال ليس بمكاف له فهو خارج على حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخالف بغير دلالة ويدل عليه أيضا ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن عبد الله ابن مسعود قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا يحل دم رجل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وإنى رسول الله إلا في إحدى ثلاث التارك للإسلام المفارق للجماعة والثيب الزاني والنفس بالنفس) فلم يفرق بين الحر والعبد وأوجب القصاص في النفس بالنفس وذلك موافق لما حكى الله مما كتبه على بنى إسرائيل فحوى هذا الخبر معنيين أحدهما أن ما كان على بنى إسرائيل من ذلك فحكمه باق علينا والثاني أنه مكتف بنفسه في إيجاب القصاص عاما في سائر النفوس* ويدل عليه أيضا من جهة السنة ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا موسى بن زكريا التستري قال حدثنا سهل بن عثمان العسكري أبو معاوية عن إسماعيل ابن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العمد قود إلا أن يعفو ولى المقتول فقد دل هذا الخبر على معنيين أحدهما إيجاب القود في كل عمد وأوجب ذلك القود على قاتل العبد والثاني نفى به وجوب المال لأنه لو وجب المال مع القود على وجه التخيير لما اقتصر على ذكر القود دونه* ويدل أيضا عليه من جهة النظر أن العبد محقون الدم حقنا لا يرفعه مضى الوقت وليس بولد للقاتل ولا ملك له فأشبه الحر الأجنبى فوجب القصاص بينهما كما يجب على العبد إذا قتل حرا بهذه العلة كذلك إذا قتله الحر لوجود العلة فيه وأيضا فمن منع أن يقاد الحر بالعبد فإنما منعه لنقصان الرق الذي

١٦٨

فيه ولا اعتبار بالمساواة في الأنفس وإنما يعتبر ذلك فيما دونها والدليل على ذلك أن عشرة لو قتلوا واحدا قتلوا به ولم تعتبر المساواة وكذلك لو أن رجلا صحيح الجسم سليم الأعضاء قتل رجلا مفلوجا مريضا مدنفا مقطوع الأعضاء قتل به وكذلك الرجل يقتل بالمرأة مع نقصان عقلها ودينها وديتها ناقصة عن دية الرجل* فثبت بذلك أن لا اعتبار بالمساواة في إيجاب القصاص في الأنفس وأن الكامل يقاد منه للناقص وليس ذلك حكم ما دون النفس لأنهم لا يختلفون في أنه لا تؤخذ اليد الصحيحة بالشلاء وتؤخذ النفس الصحيحة بالسقيمة وروى الليث عن الحكم أن عليا وابن مسعود قالا من قتل عبدا عمدا فهو قود

باب قتل المولى لعبده

وقد اختلف في قتل المولى لعبده فقال قائلون وهم شواذ يقتل به وقال عامة الفقهاء لا يقتل به فمن قتله احتج بظاهر قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ) على نحو ما احتججنا به في قتل الحر بالحر وقوله (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) وقوله (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (المسلمون تتكافأ دماؤهم) وقد روى حديث عن سمرة ابن جندب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه) أما ظاهر الآي فلا حجة لهم فيها لأن الله تعالى إنما جعل القصاص فيها للمولى بقوله تعالى (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) وولى العبد هو مولاه في حياته وبعد وفاته لأن العبد لا يملك شيئا وما يملكه فهو لمولاه لا من جهة الميراث لكن من جهة الملك فإذا كان هو الولي لم يثبت له القصاص على نفسه وليس هو بمنزلة من قتل وارثه فيجب عليه القصاص ولا يرثه لأن ما يحصل للوارث إنما ينتقل عن ملك المورث إليه والقاتل لا يرث فوجب عليه القصاص لغيره والعبد لا يملك شيئا فينتقل إلى مولاه ألا ترى أنه لو قتل ابن العبد لم يثبت له القصاص على قاتله لأنه لا يملك فكذلك لا يثبت له القصاص على غيره ومتى وجب له القود على قاتله فإنما يستحقه مولاه دونه فلم يجز من أجل ذلك إيجاب القصاص على مولاه بقتله إياه ويدل على أن العبد لا يثبت له ذلك قوله تعالى (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) فنفى بذلك ملك العبد نفيا عاما عن كل شيء فلم يجز أن يثبت له بذلك على أحد شيء وإذا لم يجز أن يثبت له ذلك لأجل أنه ملك لغيره والمولى

١٦٩

إذا استحق ما يجب له فلا يجب له القود على نفسه وليس العبد في هذا كالحر لأن الحر يثبت له القصاص ثم من جهته ينتقل إلى وارثه ولذلك يستحقونه بينهم على قدر مواريثهم فمن حرم ميراثه بالقتل لم يرثه القود فكان القود لمن يرثه* فإن قيل ليس دم العبد في هذا الوجه كماله لأن المولى لا يملك قتله ولا الإقرار عليه بالقتل فهو بمنزلة الأجنبى فيه قيل له إن كان المولى لا يملك قتله ولا الإقرار عليه به ولكنه وليه وهو المستحق للقصاص على قاتله إذا كان أجنبيا من حيث كان مالكا لرقبته لا من جهة الميراث ألا ترى أنه المستحق للقود على قاتله دون أقربائه فدل ذلك على أنه يملك القود به كما يملك رقبته فإذا كان هو القاتل لم يجز أن يستحق القود غيره عليه فاستحال من أجل ذلك وجوب القود له على نفسه* وأيضا فقوله (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) لا يجوز أن يكون خطابا للمولى إذا كان هو المعتدى بقتل عبده لأنه وإن كان معتديا على نفسه بقتل عبده وإتلاف ملكه فغير جائز خطابه باستيفاء القود من نفسه وغير جائز أن يكون غيره مخاطبا باستيفاء القود منه لأنه غير معتد عليه والله تعالى إنما أوجب الحق لمن اعتدى عليه دون غيره* فإن قال قائل يقيد الإمام منه كما يقيد ممن قتل رجلا لا وارث له* قيل له إنما يقوم الإمام بما ثبت من القود لكافة المسلمين إذا كانوا مستحقين لميراثه والعبد لا يورث فيثبت الحق في الاقتصاص من قاتله لكافة المسلمين ولا جائز أن يثبت ذلك للإمام ألا ترى أنه لو قتل العبد خطأ كان المولى هو المستحق لقيمته على قاتله دون سائر المسلمين ودون الإمام وأن الحر الذي لا وارث له لو قتل خطأ كانت ديته لبيت المال فكذلك القود لو ثبت على المولى لما استحقه الإمام ولكان المولى هو الذي يستحقه ويستحيل ثبوت ذلك له على نفسه فبطل* وأما الحديث الذي روى فيه فهو معارض بضده وهو ما حدثنا ابن قانع قال حدثنا المقبري قال حدثنا خالد بن يزيد بن صفوان النوفلي قال حدثنا ضمرة بن ربيعة عن ابن عباس وعن الأوزاعى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به فنفى هذا الخبر ظاهر ما أثبته خبر سمرة بن جندب الذي احتجوا به مع موافقته لما ذكرنا من ظاهر الآي ومعانيها من إيجاب الله تعالى القود للمولى ومن نفيه لملك العبد بقوله (لا يقدر على شيء) ولو انفرد خبر سمرة عن معارضة الخبر الذي قدمناه لما جاز القطع به لاحتماله لغير ظاهره وهو

١٧٠

أنه جائز أن يكون رجل أعتق عبده ثم قتله أو جدعه أو لم يقدم على ذلك ولكنه هدده به فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال من قتل عبده قتلناه يعنى عبده المعتق الذي كان عبده وهذا الإطلاق شائع في اللغة والعادة فقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبلال حين أذن قبل طلوع الفجر إلا أن العبد نام وقد كان حرا في ذلك الوقت وقال على عليه السلام ادعو إلى هذا العبد الأبظر يعنى شريحا حين قضى في ابني عم أحدهما أخ لأم بأن الميراث للأخ من الأم لأنه كان قد جرى عليه رق في الجاهلية فسماه بذلك وقال تعالى (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) والمراد الذين كانوا يتامى وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (تستأمر اليتيمة في نفسها) يعنى التي كانت يتيمة ولا يمتنع أن يكون مراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله من قتل عبده قتلناه ما وصفناه فيمن كان عبدا فأعتق وزال بهذا توهم متوهم لو ظن أن مولى النعمة لا يقاد بمولاه الأسفل كما لا يقاد والد بولده وقد كان جائزا أن يسبق إلى ظن بعض الناس أن لا يقاد به صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جعل حق مولى النعمة كحق الوالد والدليل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لن يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه) فجعل عتقه لأبيه كفاء لحقه ومساويا ليده عنده ونعمته لديه والله أعلم.

باب القصاص بين الرجال والنساء

قال الله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) وقال (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) فظاهر ما ذكر من ظواهر الآي الموجبة للقصاص في الأنفس بين العبيد والأحرار موجب للقصاص بين الرجال والنساء فيها وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن شبرمة لا قصاص بين الرجال والنساء إلا في الأنفس وروى عن ابن شبرمة رواية أخرى أن بينهم قصاصا فيما دون النفس وقال ابن أبى ليلى ومالك والثوري والليث والأوزاعى والشافعى القصاص واقع فيما بين الرجال والنساء في الأنفس وما دونها إلا أن الليث قال إذا جنى الرجل على امرأته عقلها ولم يقتص منه وقال عثمان البتى إذا قتلت امرأة رجلا قتلت به وأخذ من مالها نصف الدية وكذلك إن أصابته بجراحة قال وإن كان هو الذي قتلها أو جرحها فعليه القود ولا يرد عليه شيء* وقد روى عن السلف اختلاف في ذلك فروى قتادة عن سعيد بن المسيب أن عمر قتل نفرا من أهل صنعاء بامرأة أقادهم بها وروى عن عطاء والشعبي ومحمد بن سيرين أنه يقتل بها واختلف عن على عليه السلام فيها فروى ليث عن الحكم عن على وعبد الله

١٧١

قالا إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود وروى عن عطاء والشعبي والحسن البصري أن عليا قال إن شاءوا قتلوه وأدوا نصف الدية وإن شاءوا أخذوا نصف دية الرجل وروى أشعث عن الحسن في امرأة قتلت رجلا عمدا قال تقتل وترد نصف الدية* قال أبو بكر ما روى عن على من القولين في ذلك مرسل لأن أحدا من رواته لم يسمع من على شيئا ولو ثبتت الروايتان كان سبيلهما أن تتعارضا وتسقطا فكأنه لم يرو عنه في ذلك شيء وعلى أن رواية الحكم في إيجاب القود دون المال أولى لموافقتها لظاهر الكتاب وهو قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) وسائر الآي الموجبة للقود ليس في شيء منها ذكر الدية وهو غير جائز أن يزيد في النص إلا بنص مثله لأن الزيادة في النص توجب النسخ* حدثنا ابن قانع قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال حدثنا محمد بن عبد الله الأنصارى قال حدثنا حميد عن أنس بن مالك أن الربيع بنت النضر لطمت جارية فكسرت ثنيتها فعرض عليهم الأرش فأبوا فأتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرهم بالقصاص فجاء أخوها أنس بن النضر فقال يا رسول الله تكسر سن الربيع لا والذي بعثك بالحق فقال يا أنس كتاب الله القصاص فعفا القوم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الذي في كتاب الله القصاص دون المال فلا جائز إثبات المال مع القصاص ومن جهة أخرى أنه إذا لم يجب القصاص بنفس المقتل فغير جائز إيجابه مع إعطاء المال لأن المال حينئذ يصير بدلا من النفس وغير جائز قتل النفس بالمال ألا ترى أن من رضى أن يقتل ويعطى مالا يكون لوارثه لم يصح ذلك ولم يجز أن يستحق النفس بالمال فبطل أن يكون القصاص موقوفا على إعطاء المال* وأما مذهب الحسن وقول عثمان البتى في أن المرأة إذا كانت القاتلة قتلت وأخذ من مالها نصف الدية فقول يرده ظاهر الآي الموجبة للقصاص ويوجب زيادة حكم غير مذكور فيها* وقد روى قتادة عن أنس أن يهوديا قتل جارية وعليها أوضاح لها فأتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقتله بها وروى الزهري عن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إن الرجل يقتل بالمرأة وأيضا قد ثبت عن عمر بن الخطاب قتل جماعة رجال بالمرأة الواحدة من غير خلاف ظهر من أحد من نظرائه مع استفاضة ذلك وشهرته عنه ومثله يكون إجماعا* ومما يدل على قتل الرجل بها من غير بدل مال ما قدمنا من سقوط اعتبار

١٧٢

المساواة بين الصحيحة والسقيمة وقتل العاقل بالمجنون والرجل بالصبي وهذا يدل على سقوط اعتبار المساواة في النفوس وأما ما دون النفس فإن اعتبار المساواة واجب فيه والدليل عليه اتفاق الجميع على امتناع أخذ اليد الصحيحة بالشلاء وكذلك لم يوجب أصحابنا القصاص بين الرجال والنساء فيما دون النفس وكذلك بين العبيد والأحرار لأن ما دون النفس من أعضائها غير متساوية* فإن قال قائل هلا قطعت يد العبد ويد المرأة* بيد الرجل كما قطعت اليد الشلاء بالصحيحة* قيل له إنما سقط القصاص في هذا الموضع لاختلاف أحكامها لا من جهة النقص فصار كاليسرى لا تؤخذ باليمنى وأوجب أصحابنا القصاص بين النساء فيما دون النفس لتساوى أعضائهما من غير اختلاف في أحكامهما ولم يوجبوا القصاص فيما بين العبيد فيما دون النفس لأن تساويهما إنما يعلم من طريق التقويم وغالب الظن كما لا تقطع اليد من نصف الساعد لأن الوصول إلى علمه من طريق الاجتهاد وعندهم أن أعضاء العبد حكمها حكم الأموال في جميع الوجوه فلا يلزم العاقلة منها شيء وإنما يلزم الجاني في ماله وليس كذلك النفس لأنها تلزم العاقلة في الخطأ وتجب فيها الكفارة ففارق الجنايات على الأموال والله أعلم.

باب قتل المؤمن بالكافر

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن أبى ليلى وعثمان البتى يقتل المسلم بالذمي وقال ابن شبرمة والثوري والأوزاعى والشافعى لا يقتل وقال مالك والليث بن سعد إن قتله غيلة قتل به وإلا لم يقتل* قال أبو بكر سائر ما قدمنا من ظواهر الآي يوجب قتل المسلم بالذمي على ما بينا إذ لم يفرق شيء منها بين المسلم والذمي وقوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) عام في الكل وكذلك قوله تعالى (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) وقوله في سياق الآية (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) لا دلالة فيه على خصوص أول الآية في المسلمين دون الكفار لاحتمال الأخوة من جهة النسب ولأن عطف بعض ما انتظمه لفظ العموم عليه بحكم مخصوص لا يدل على تخصيص حكم الجملة على ما بيناه فيما سلف عند ذكرنا حكم الآية وكذلك قوله تعالى (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) يقتضى عمومه قتل المؤمن بالكافر لأن شريعة من قبلنا من الأنبياء ثابتة في حقنا ما لم ينسخها الله تعالى على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتصير حينئذ شريعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٧٣

قال الله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) ويدل عن أن ما في هذه الآية وهو قوله (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) إلى آخرها هو شريعة لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إيجابه القصاص في السن في حديث أنس الذي قدمنا حين قال أنس بن النضر لا تكثر ثنية الربيع كتاب الله القصاص وليس في كتاب الله السن بالسن إلا في هذه الآية فأبان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن موجب حكم الآية علينا ولو لم تلزمنا شريعة من قبلنا من الأنبياء بنفس ورودها لكان قوله كافيا في بيان موجب حكم هذه الآية وأنها قد اقتضت من حكمها علينا مثل ما كان على بنى إسرائيل فقد دل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا على معنيين أحدهما لزوم حكم الآية لنا وثبوته علينا والثاني أخباره أن ظاهر الكتاب قد ألزمنا هذا الحكم قبل أخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك فدل ذلك على ما حكاه الله في كتابه مما شرعه لغيره من الأنبياء فحكمه ثابت ما لم ينسخ وإذا ثبت ما وصفنا وليس في الآية فرق بين المسلم والكافر وجب إجراء حكمها عليهما ويدل عليه قوله عز وجل (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) وقد ثبت بالاتفاق أن السلطان المذكور في هذا الموضع قد انتظم القود وليس فيها تخصيص مسلم من كافر فهو عليهما* ومن جهة السنة ما روى عن الأوزاعى عن يحيى بن أبى كثير عن سلمة عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب يوم فتح مكة فقال (ألا ومن قتل قتيلا فوليه بخير النظرين بين أن يقتص أو يأخذ الدية) وروى أبو سعيد المقبري عن أبى شريح الكعبي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله وحديث عثمان وابن مسعود وعائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير نفس) وحديث ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (العمد قود) وهذه الأخبار يقتضى عمومها قتل المسلم بالذمي وروى ربيعة ابن أبى عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن السلماني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقاد مسلما بذمي وقال أنا أحق من وفي بذمته وقد روى الطحاوي عن سليمان بن شعيب قال حدثنا يحيى بن سلام عن محمد بن أبى حميد المدني عن محمد بن المنكدر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله* وقد روى عن عمر وعلى وعبد الله قتل المسلم بالذمي حدثنا ابن قانع قال حدثنا على بن الهيثم عن عثمان الفزاري قال حدثنا مسعود بن جويرية قال حدثنا عبد الله بن خراش عن واسط عن الحسن بن ميمون عن أبى الجنوب الأسدى قال جاء رجل من أهل الحيرة إلى على كرم الله وجهه فقال يا أمير المؤمنين رجل من المسلمين قتل ابني ولي بينة فجاء الشهود فشهدوا وسأل عنهم

١٧٤

فزكوا فأمر بالمسلم فأقعد وأعطى الحيرى سيفا وقال أخرجوه معه إلى الجبانة فليقتله وأمكناه من السيف فتباطأ الحيرى فقال له بعض أهل هل لك في الدية تعيش فيها وتصنع عندنا يدا قال نعم وغمد السيف وأقبل إلى على فقال لعلهم سبوك وتواعدوك قال لا والله ولكني اخترت الدية فقال على أنت أعلم قال ثم أقبل على على القوم فقال أعطيناهم الذي أعطيناهم لتكون دماؤنا كدمائهم ودياتنا كدياتهم * وحدثنا ابن قانع قال حدثنا معاذ ابن المثنى قال حدثنا عمرو بن مرزوق قال حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال ابن سبرة أن رجلا من المسلمين قتل رجلا من العباديين فقدم أخوه على عمر بن الخطاب فكتب عمر أن يقتل فجعلوا يقولون يا جبير اقتل فجعل يقول حتى يأتى الغيظ فكتب عمر أن لا يقتل ويودى وروى في غير هذا الحديث أن الكتاب ورد بعد أن قتل وأنه إنما كتب أن يسأل الصلح على الدية حين كتب إليه أنه من فرسان المسلمين* وروى أبو بكر بن أبى شيبة قال حدثنا ابن إدريس عن ليث عن الحكم عن على وعبد الله بن مسعود قالا إذا قتل يهوديا أو نصرانيا قتل به * وروى حميد الطويل عن ميمون عن مهران أن* عمر بن عبد العزيز أمر أن يقتل مسلم بيهودي فقتل* فهؤلاء الثلاثة أعلام الصحابة وقد* روى عنهم ذلك وتابعهم عمر بن عبد العزيز عليه ولا نعلم أحدا من نظرائهم خلافه* واحتج مانعو قتل المسلم بالذمي بما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده رواه قيس بن عباد وحارثة بن قدامة وأبو جحيفة وقيل لعلى هل عندكم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد سوى القرآن فقال ما عهدي إلا كتاب في قراب سيفي وفيه المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ولا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده وحديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم فتح مكة(لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده) وقد روى ابن عمر أيضا ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إدريس ابن عبد الكريم الحدار قال حدثنا محمد بن الصباح حدثنا سليمان بن الحكم حدثنا القاسم ابن الوليد عن سنان بن الحارث عن طلحة بن مطرف عن مجاهد عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده) ولهذا الخبر ضروب من التأويل كلها توافق ما قدمنا ذكره من الآي والسنن أحدها أنه قد ذكر أن ذلك كان في خطبته يوم فتح مكة وقد كان رجل من خزاعة قتل رجلا من هذيل بذحل الجاهلية

١٧٥

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أن كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هاتين لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده يعنى والله أعلم بالكافر الذي قتله في الجاهلية وكان ذلك تفسيرا لقوله كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي لأنه مذكور في خطاب واحد في حديث وقد ذكر أهل المغازي أن عهد الذمة كان بعد فتح مكة وأنه إنما كان قبل ذلك بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين المشركين عهود إلى مدد لا على أنهم داخلون في ذمة الإسلام وحكمه وكان قوله يوم فتح مكة لا يقتل مؤمن بكافر منصرفا إلى الكفار المعاهدين إذ لم يكن هناك ذمي ينصرف الكلام إليه ويدل عليه قوله ولا ذو عهد في عهده كما قال تعالى (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) وقال (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) وكان المشركون حينئذ ضربين أحدهما أهل الحرب ومن لا عهد بينه وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والآخر أهل عهد إلى مدة ولم يكن هناك أهل ذمة فانصرف الكلام إلى الضربين من المشركين ولم يدخل فيه من لم يكن على أحد هذين الوصفين وفي فحوى هذا الخبر ومضمونه ما يدل على أن الحكم المذكور في نفى القصاص مقصور على الحربي المعاهد دون الذمي وذلك أنه عطف عليه قوله ولا ذو عهد في عهده ومعلوم أن قوله ولا ذو عهد في عهده غير مستقل بنفسه في إيجاب الفائدة لو انفرد عما قبله فهو إذا مفتقر إلى ضمير وضميره ما تقدم ذكره ومعلوم أن الكافر الذي لا يقتل به ذو العهد المستأمن هو الحربي فثبت أن مراده مقصور على الحربي وغير جائز أن يجعل الضمير ولا يقتل ذو عهد في عهده من وجهين أحدهما أنه لما كان القتل المبدو بذكره قتلا على وجه القصاص وكان ذلك القتل بعينه سبيله أن يكون مضمرا في الثاني لم يجز لنا إثبات الضمير قتلا مطلقا إذ لم يتقدم في الخطاب ذكر قتل مطلق غير مقيد بصفة وهو القتل على وجه القود فوجب أن يكون هو المنفي بقوله ولا ذو عهد في عهده فصار تقديره ولا يقتل مؤمن بكافر ولا يقتل ذو عهد في عهده بالكافر المذكور بديا ولو أضمرنا قتلا مطلقا كنا مثبتين لضمير لم يجر له ذكر في الخطاب وهذا لا يجوز وإذا ثبت ذلك وكان الكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الكافر الحربي كان قوله لا يقتل مؤمن بكافر بمنزلة قوله لا يقتل مؤمن بكافر حربى فلم يثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفى قتل المؤمن بالذمي والوجه الآخر أنه معلوم أن ذكر العهد يحظر قتله ما دام في عهده فلو حملنا قوله ولا ذو عهد في عهده على أنه لا يقتل ذو عهد في عهده لا خلينا اللفظ من الفائدة

١٧٦

وحكم كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمله على مقتضاه في الفائدة وغير جائز إلغاؤه ولا إسقاط حكمه فإن قال قائل قد روى في حديث أبى جحيفة عن على عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقتل مؤمن بكافر ولم يذكر العهد وهذا اللفظ ينفى قتل المؤمن بسائر الكفار قيل هو حديث واحد قد عزاه أبو جحيفة أيضا إلى الصحيفة وكذلك قيس بن عباد وإنما حذف بعض الرواة ذكر العهد فأما أصل الحديث فواحد ومع ذلك فلو لم يكن في الخبر دليل على أنه حديث واحد لكان الواجب حملهما على أنهما وردا معا وذلك لأنه لم يثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك في وقتين مرة مطلقا من غير ذكر ذي العهد وتارة مع ذكر ذي العهد وأيضا فقد وافقنا الشافعى على أن ذميا لو قتل ذميا ثم أسلم لم يسقط عنه القود فلو كان الإسلام مانعا من القصاص ابتداء لمنعه إذا طرئ بعد وجوبه قبل استيفائه ألا ترى أنه لما لم يجب القصاص للابن على الأب إذا قتله كان ذلك حكمه إذا ورث ابنه القود من غيره فمنع ما عرض من ذلك من استيفائه كما منع ابتداء وجوبه وكذلك لو قتل مرتدا لم يجب القود ولو جرحه وهو مسلم ثم ارتد ثم مات من الجراحة سقط القود فاستوى فيه حكم الابتداء والبقاء فلو لم يجب القتل بديا لما وجب إذا أسلم بعد القتل وأيضا لما كان المعنى في إيجاب القصاص ما أراد الله تعالى من بقاء حياة الناس بقوله (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) وكان هذا المعنى موجودا في الذمي لأن الله تعالى قد أراد بقاءه حين حقن دمه بالذمة وجب أن يكون ذلك موجبا للقصاص بينه وبين المسلم كما يوجبه في قتل بعضهم بعضا* فإن قيل يلزمك* على هذا قتل المسلم بالحربى المستأمن لأنه محظور الدم* قيل له ليس كذلك بل هو مباح الدم إباحة مؤجلة ألا ترى أنا لا نتركه في دار الإسلام ونلحقه بمأمنه والتأجيل لا يزيل عنه حكم الإباحة كالثمن المؤجل لا يخرجه التأجيل عن وجوبه* واحتج أيضا من منع القصاص بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمون تتكافأ دماؤهم قالوا وهذا يمنع كون دم الكافر مكافيا لدم المسلم* وهذا لا دلالة فيه على ما قالوا لأن قوله المسلمون تتكافأ دماؤهم لا ينفى مكافأة دماء غير المسلمين وفائدته ظاهرة وهي إيجاب التكافؤ بين الحر والعبد والشريف والوضيع والصحيح والسقيم فهذه كلها فوائد هذا الخبر وأحكامه ومن فوائده أيضا إيجاب القود بين الرجل والمرأة وتكافؤ دمائهما ونفى لأخذ شيء من أولياء المرأة إذا قتلوا القاتل أو إعطاء نصف الدية من مال المرأة مع قتلها إذا كانت هي القاتلة* فإذا كان قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٧٧

المسلمون تتكافأ دماؤهم قد أفاد هذه المعاني فهو حكم مقصور على المذكور ولا دلالة فيه على نفى التكافؤ بينهم وبين غيرهم من أهل الذمة ويدل على ذلك أنه لم يمنع تكافي دماء الكفار حتى يقاد من بعضهم لبعض إذا كانوا ذمة لنا فكذلك لا يمنع تكافي دماء المسلمين وأهل الذمة* ومما يدل على قتل المسلم بالذمي اتفاق الجميع على أنه يقطع إذا سرقه فوجب أن يقاد منه لأن حرمة دمه أعظم من حرمة ماله ألا ترى أن العبد لا يقطع في مال مولاه ويقتل به* واحتج الشافعى بأنه لا خلاف أنه لا يقتل بالحربى المستأمن كذلك لا يقتل* بالذمي وهما في تحريم القتل سواء وقد بينا وجوه الفرق بينهما* والذي ذكره الشافعى من الإجماع ليس كما ظن لأن بشر بن الوليد قد روى عن أبى يوسف أن المسلم يقتل بالحربى المستأمن وأما قول مالك والليث في قتل الغيلة فإنهما يريان ذلك حدا لا قودا والآيات التي فيها ذكر القتل لم تفرق بين قتل الغيلة وغيره وكذلك السنن التي ذكرنا وعمومها يوجب القتل على وجه القصاص لا على وجه الحد فمن خرج عنها بغير دلالة كان محجوجا والله أعلم.

باب قتل الوالد بولده

اختلف الفقهاء في قتل الوالد بولده فقال عامتهم لا يقتل وعليه الدية في ماله قال بذلك أصحابنا والأوزاعى والشافعى وسووا بين الأب والجد وقال الحسن بن صالح بن حي يقاد الجد بابن الإبن وكان يجيز شهادة الجد لابن ابنه ولا يجيز شهادة الأب لابنه وقال عثمان البتى إذا قتل ابنه عمدا قتل به وقال مالك يقتل به وقد حكى عنه أنه إذا ذبحه قتل به وإن حذفه بالسيف لم يقتل به* والحجة لمن أبى قتله حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول (لا يقتل والد بولده) وهذا خبر مستفيض مشهور وقد حكم به عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة من غير خلاف من واحد منهم عليه فكان بمنزلة قوله لا وصية لوارث ونحوه في لزوم الحكم به وكان في حيز المستفيض المتواتر* وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن هاشم بن الحسين قال حدثنا عبد الله بن سنان المروزى قال حدثنا إبراهيم بن رستم عن حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول (لا يقاد الأب بابنه) وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا خلاد بن يحيى قال

١٧٨

حدثنا قيس عن إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا يقاد الوالد بولده) وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لرجل (أنت ومالك لأبيك) فأضاف نفسه إليه كإضافة ماله وإطلاق هذه الإضافة ينفى القود كما ينفى أن يقاد المولى بعبده لإطلاق إضافته إليه بلفظ يقتضى الملك في الظاهر والأب وإن كان غير مالك لابنه في الحقيقة فإن ذلك لا يسقط استدلالنا بإطلاق الإضافة لأن القود يسقطه الشبهة وصحة هذه الإضافة شبهة في سقوطه* ويدل عليه أيضا ما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وأن ولده من كسبه) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إن أولادكم من كسبكم فكلوا من كسب أولادكم) فسمى ولده كسبا له كما أن عبده كسبه فصار ذلك شبهة في سقوط القود به* وأيضا فلو قتل عبد ابنه لم يقتل به لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سماه* كسبا له كذلك إذا قتل نفسه* وأيضا قال الله تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ) الآية فأمر بمصاحبة الوالدين الكافرين بالمعروف وأمره بالشكر لقوله تعالى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) وقرن شكرهما بشكره وذلك ينفى جواز قتله إذا قتل وليا لابنه فكذلك إذا قتل ابنه لأن من يستحق القود بقتل الإبن إنما يثبت له ذلك من جهة الإبن المقتول فإذا لم يستحق ذلك المقتول لم يستحق ذلك عنه وكذلك قوله تعالى (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) ولم يخصص حالا دون حال بل أمره بذلك أمرا مطلقا عاما فغير جائز ثبوت حق القود له عليه لأن قتله له يضاده هذه الأمور التي أمر الله تعالى لها في معاملة والده وأيضا نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حنظلة بن أبى عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركا محاربا لله ولرسوله وكان مع قريش يقاتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد فلو جاز للابن قتل أبيه في حال لكان أولى الأحوال بذلك حال من قاتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مشرك إذ ليس يجوز أن يكون أحد أولى باستحقاق العقوبة والذم والقتل ممن هذه حاله فلما نهاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتله في هذه الحال علمنا أنه لا يستحق قتله بحال وكذلك قال أصحابنا أنه لو قذفه لم يحد له ولو قطع يده لم يقتص منه ولو كان عليه دين له لم يحبس به لأن ذلك كله يضاد موجب الآي التي ذكرنا ومن الفقهاء

١٧٩

من يجعل مال الإبن لأبيه في الحقيقة كما يجعل مال العبد ومتى أخذ منه لم يحكم برده عليه* فلو لم يكن في سقوط القود به إلا اختلاف الفقهاء في حكم ماله على ما وصفنا لكان كافيا في كونه شبهة في سقوط القود به وجميع ما ذكرنا من هذه الدلائل يخص آي القصاص ويدل على أن الوالد غير مراد بها والله أعلم.

باب الرجلين يشتركان في قتل الرجل

قال الله تعالى (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) وقال تعالى (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) ولا خلاف أن هذا الوعيد لا حق بمن شارك غيره في القتل وإن عشرة لو قتلوا رجلا عمدا لكان كل واحد منهم داخلا في الوعيد قاتلا للنفس المؤمنة وكذلك لو قتل عشرة رجلا خطأ كان كل واحد منهم قاتلا في الحكم للنفس يلزمه من الكفارة ما يلزم المنفرد بالقتل ولا خلاف أن ما دون النفس لا يجب فيه كفارة فيثبت أن كل واحد في حكم من أتلف جميع النفس وقال تعالى (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) فالجماعة إذا اجتمعت على قتل رجل فكل واحد في حكم القاتل للنفس ولذلك قتلوا به جميعا وإذا كان كذلك فلو قتل اثنان رجل أحدهما عمدا والآخر خطأ أو أحدهما مجنون والآخر عاقل فمعلوم أن المخطئ في حكم آخذ جميع النفس فيثبت لجميعها حكم الخطأ فانتفى منهما حكم العمد إذ غير جائز ثبوت حكم الخطأ للجميع وحكم العمد للجميع وكذلك المجنون والعاقل والصبى والبالغ ألا ترى أنه إذا ثبت حكم الخطأ للجميع وجبت الدية كاملة وإذا ثبت حكم العمد للجميع وجب القود فيه ولا خلاف بين الفقهاء في امتناع وجوب دية كاملة في النفس ووجوب القود مع ذلك على جهة استيفائهما جميعا فوجب بذلك أنه متى وجب للنفس المتلفة على وجه الشركة شيء من الدية أن لا يثبت معه قود على أحد لأن وجوب يوجب ثبوت حكم العمد في الجميع وثبوت حكم العمد في الجميع ينفى وجوب الأرش لشيء منها* وقد اختلف الفقهاء في الصبى والبالغ والمجنون والعاقل والعمد والمخطئ يقتلان رجلا فقال أبو حنيفة وصاحباه لا قصاص على واحد منهما وكذلك لو كان أحدهما أبا المقتول فعلى الأب والعاقل نصف الدية في ماله والمخطئ والمجنون والصبى على عاقلته وهو قول الحسن بن صالح وقال مالك إذا اشترك الصبى

١٨٠