أحكام القرآن - ج ١

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٤

نفى الولد بإثبات الملك بقوله تعالى (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعنى ملكه وليس بولده وهو نظير قوله (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) فاقتضى ذلك عتق ولده عليه إذا ملكه وقد حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثل ذلك في الوالد إذ ملكه ولده فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه) فدلت الآية على عتق الولد إذا ملكه أبوه واقتضى خبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عتق الوالد إذا ملكه ولده وقال بعض الجهال إذا ملك أباه لم يعتق عليه حتى يعتقه لقوله فيشتريه فيعتقه وهذا يقتضى عتقا مستأنفا بعد الملك فجهل حكم اللفظ في اللغة والعرف جميعا لأن المعقول منه فيشتريه فيعتقه بالشرى إذ قد أفاد أن شراه موجب لعتقه وهذا كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الناس غاديان فبائع نفسه فموبقها ومشتر نفسه فمعتقها) يريد أنه معتقها بالشرى لا باستئناف عتق بعده* قوله تعالى (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) اختلف المفسرون فقال ابن عباس ابتلاه بالمناسك وقال الحسن ابتلاه بقتل ولده والكواكب وروى طاوس عن ابن عباس قال ابتلاه بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد فالخمسة في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس وفي الجسد تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول بالماء وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال عشرة من الفطرة وذكر هذه الأشياء إلا أنه قال مكان الفرق إعفاء اللحية ولم يذكر فيه تأويل الآية ورواه عمار وعائشة وأبو هريرة على اختلاف منهم في الزيادة والنقصان كرهت الإطالة بذكر أسانيدها وسياقة ألفاظها إذ هي المشهورة وقد نقلها الناس قولا وعملا وعرفوها من سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما ذكر فيه من تأويل الآية مع ما قدمنا من اختلاف السلف فيه فجائز أن يكون الله تعالى ابتلى إبراهيم بذلك كله ويكون مراد الآية جميعه وأن إبراهيم عليه السلام أتم ذلك كله ووفى به وقام به على حسب ما أمره الله تعالى به من غير نقصان لأن ضد الإتمام النقص وقد أخبر الله بإتمامهن وما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن العشر الخصال في الرأس والجسد من الفطرة فجائز أن يكون فيها مقتديا بإبراهيم عليه السلام بقوله تعالى (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) وبقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) وهذه الخصال قد ثبتت من سنة إبراهيم عليه السلام ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي تقتضي أن يكون التنظيف ونفى الأقذار

٨١

والأوساخ عن الأبدان والثياب مأمورا بها ألا ترى أن الله تعالى لما حظر إزالة التفث والشعر في الإحرام أمر به عند الإحلال بقوله (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) ومن نحو ذلك ما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غسل يوم الجمعة أن يستاك وأن يمس من طيب أهله فهذه كلها خصال مستحسنة في العقول محمودة مستحبة في الأخلاق والعادات وقد أكدها التوقيف من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد حدثنا عبد الباقي قال حدثنا محمد بن عمر بن حيان التمار قال حدثنا أبو الوليد وعبد الرحمن بن المبارك قال حدثنا قريش بن حيان العجلى قال حدثنا سليمان فروخ أبو واصل قال أتيت أبا أيوب فصافحته فرأى في أظفارى طولا فقال جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسئله عن خبر السماء فقال (يجيء أحدكم يسئل عن خبر السماء وأظفاره كأنها أظفار الطير يجتمع فيها الخباثة والتفث) وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا أحمد بن سهل بن أيوب قال حدثنا عبد الملك بن مروان الحذاء قال حدثنا الضحاك بن زيد الأهوازى عن إسماعيل بن خالد عن قيس بن أبى حازم عن عبد الله بن مسعود قال قلنا يا رسول الله إنك تهم قال (وما لي لا أهم ورفغ أحدكم بين أظفاره وأنامله) وقد روى عن أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقلم أظفاره ويقص شاربه يوم الجمعة قبل أن يروح إلى الجمعة وحدثنا محمد بن بكر البصري قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبى شيبة عن وكيع عن الأوزاعى عن حسان عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال أتانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرأى رجلا شعثا قد تفرق شعره فقال (أما كان يجد هذا ما يسكن به شعره ورأى رجلا آخر عليه ثياب وسخة فقال أما كان يجد هذا ما يغسل به ثوبه) حدثنا عبد الباقي قال حدثنا حسين بن إسحاق قال حدثنا محمد بن عقبة السدوسي قال حدثنا أبو أمية بن يعلى قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت خمس لم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعهن في سفر ولا حضر المرآة والمكحلة والمشط والمدرى والسواك وقد روى أنه وقت في ذلك أربعين يوما حدثنا عبد الباقي قال حدثنا الحسين بن المثنى عن معاذ قال حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا صدقة الدقيقي قال حدثنا أبو عمران الجونى عن أنس بن مالك قال وقت لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حلق العانة وقص الشارب ونتف الإبط وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يتنور حدثنا عبد الباقي قال حدثنا إدريس الحداد قال حدثنا عاصم بن على قال حدثنا كامل بن العلاء قال حدثنا حبيب بن أبى ثابت عن أم سلمة قالت كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أطلى ولى مغابنه بيده حدثنا

٨٢

عبد الباقي حدثنا مطير حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا معن بن عيسى عمن حدثه عن ابن أبى نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال أطلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فطلاه رجل فستر عورته بثوب وطلى الرجل سائر جسده فلما فرغ قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخرج عنى ثم طلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عورته بيده وقد روى حبيب بن أبى ثابت عن أنس قال كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتنور فإذا كثر شعره حلقه وهذا يحتمل أن يريد به أن عادته كانت الحلق وأن ذلك كان الأكثر الأعم ليصح الحديثان وأما ما ذكر من توقيت الأربعين في الحديث المتقدم فجائز أن تكون الرخصة في التأخير مقدرة بذلك وأن تأخيرها إلى ما بعد الأربعين محظور يستحق فاعله اللوم لمخالفة السنة لا سيما في قص الشارب وقص الأظفار* قال أبو بكر ذكر أبو جعفر الطحاوي أن مذهب أبى حنيفة وزفر وأبى يوسف ومحمد في شعر الرأس والشارب أن الإحفاء أفضل من التقصير عنه وإن كان معه حلق بعض الشعر قال وقال ابن الهيثم عن مالك إحفاء الشارب عندي مثلة قال مالك وتفسير حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إحفاء الشارب الإطار وكان يكره أن يؤخذ من أعلاه وإنما كان يوسع في الإطار منه فقط وذكر عنه أشهب قال وسألت مالكا عمن أحفى شاربه قال رأى أن يوجع ضربا ليس حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإحفاء كان يقول ليس يبدي حرف الشفتين الإطار ثم قال يحلق شاربه هذه بدع تظهر في الناس كان عمر إذا حزبه أمر نفخ فجعل يفتل شاربه وسئل الأوزاعى عن الرجل يحلق رأسه فقال أما في الحضر لا يعرف إلا في يوم النحر وهو في العرف وكان عبدة ابن أبى لبابة يذكر فيه فضلا عظيما وقال الليث لا أحب أن يحلق أحد شاربه حتى يبدو الجلد وأكرهه ولكن يقص الذي على طرف الشارب وأكره أن يكون طويل الشارب وقال إسحاق أبى إسرائيل سألت عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبى داود عن حلق الرأس فقال أما بمكة فلا بأس به لأنه بلد الحلق وأما في غيره من البلدان فلا قال أبو جعفر ولم نجد في ذلك عن الشافعى شيئا منصوصا وأصحابه الذين رأيناهم المزني والربيع كانا يحفيان شواربهما فدل على أنهما أخذا ذلك عن الشافعى وقد روت عائشة وأبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفطرة عشرة منها قص الشارب وروى المغيرة بن شعبة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ من شواربه على سواك وهذا جائز مباح وإن كان غيره أفضل وجائز أن يكون فعله لعدم آلة الإحفاء في الوقت وروى عكرمة عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجز شاربه وهذا يحتمل

٨٣

الإحفاء وروى عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (أحفوا الشارب واعفوا اللحى) وروى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (جزوا الشارب وارخوا اللحى) وهذا يحتمل الإحفاء أيضا وروى عمر بن سلمة عن أبيه عن أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (أحفوا الشارب واعفوا اللحى) وهذا يدل على أن مراده بالخبر الأول الإحفاء والإحفاء يقتضى ظهور الجلد بإزالة الشعر كما يقال رجل حاف إذا لم يكن في رجله شيء ويقال حفيت رجله وحفيت الدابة إذا أصاب أسفل رجلها وهن من الحفا قال وروى عن أبى سعيد الخدري وأبى أسيد ورافع بن خديج وسهل بن سعد وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وأبى هريرة أنهم كانوا يحفون شواربهم وقال إبراهيم ابن محمد بن خطاب رأيت ابن عمر يحلق شاربه كأنه ينتفه وقال بعضهم حتى يرى بياض الجلد* قال أبو بكر ولما كان التقصير مسنونا في الشارب عند الجميع كان الحلق أفضل قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رحم الله المحلقين ثلاثا ودعا للمقصرين مرة فجعل حلق الرأس أفضل من التقصير وما احتج به مالك أن عمر كان يفتل شاربه إذا غضب فجائز أن يكون كان يتركه حتى يمكن فتله ثم يحلقه كما ترى كثيرا من الناس يفعله وقوله تعالى (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) فإن الإمام من يؤتم به في أمور الدين من طريق النبوة وكذلك سائر الأنبياء أئمة عليهم السلام لما ألزم الله تعالى الناس من اتباعهم والائتمام بهم في أمور دينهم فالخلفاء أئمة لأنهم رتبوا في المحل الذي يلزم الناس اتباعهم وقبول قولهم وأحكامهم والقضاة والفقهاء أئمة أيضا ولهذا المعنى الذي يصلى بالناس يسمى إماما لأن من دخل في صلاته لزمه الإتباع له والائتمام به وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إنما جعل الإمام إماما ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا) وقال (لا تختلفوا على إمامكم) فثبت بذلك أن اسم الإمامة مستحق لمن يلزم اتباعه والاقتداء به في أمور الدين أو في شيء منها وقد يسمى بذلك من يؤتم به في الباطل إلا أن الإطلاق لا يتناوله قال الله تعالى (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) فسموا أئمة لأنهم أنزلوهم بمنزلة من يقتدى بهم في أمور الدين وإن لم يكونوا أئمة يجب الاقتداء بهم كما قال الله تعالى (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ) وقال (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) يعنى في زعمك واعتقادك وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أخوف ما أخاف على أمتى أئمة مضلون) والإطلاق إنما يتناول من يجب الائتمام به في دين الله تعالى وفي الحق

٨٤

والهدى ألا ترى أن قوله تعالى (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) قد أفاد ذلك من غير تقييد وأنا لما ذكر أئمة الضلال قيده بقوله يدعون إلى النار وإذا ثبت أن اسم الإمامة يتناول ما ذكرناه فالأنبياء عليهم السلام في أعلى رتبة الإمامة ثم الخلفاء الراشدون بعد ذلك ثم العلماء والقضاة العدول ومن ألزم الله تعالى الاقتداء بهم ثم الإمامة في الصلاة ونحوها فأخبر الله تعالى في هذه الآية عن إبراهيم عليه السلام أنه جاعله للناس إماما وأن إبراهيم سأله أن يجعل من ولده أئمة بقوله (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) لأنه عطف على الأول فكان بمنزلة واجعل من ذريتي أئمة ويحتمل أن يريد بقوله ومن ذريتي مسألته تعريفه هل يكون من ذريتي أئمة فقال تعالى في جوابه (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فحوى ذلك معنيين أنه سيجعل من ذريته أئمة إما على وجه تعريفه ما سأله أن يعرفه إياه وإما على وجه إجابته إلى ما سأل لذريته إذا كان قوله ومن ذريتي مسألته أن يجعل من ذريته أئمة وجائز أن يكون أراد الأمرين جميعا وهو مسألته أن يجعل من ذريته أئمة وأن يعرفه ذلك وأنه إجابة إلى مسألته لأنه لو لم يكن منه إجابة إلى مسألته لقال ليس في ذريتك أئمة أو قال لا ينال عهدي من ذريتك أحد فلما قال (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) دل على أن الإجابة قد وقعت له في أن ذريته أئمة ثم قال (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فأخبر أن الظالمين من ذريته لا يكونون أئمة ولا يجعلهم موضع الاقتداء بهم وقد روى عن السدى في قوله تعالى (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أنه النبوة وعن مجاهد أنه أراد أن الظالم لا يكون إماما وعن ابن عباس أنه قال لا يلزم الوفاء بعهد الظالم فإذا عقد عليك في ظلم فانقضه وقال الحسن ليس لهم عند الله عهد يعطيهم عليه خيرا في الآخرة قال أبو بكر جميع ما روى من هذه المعاني يحتمله اللفظ وجائز أن يكون جميعه مراد الله تعالى وهو محمول على ذلك عندنا فلا يجوز أن يكون الظالم نبيا ولا خليفة لنبي ولا قاضيا ولا من يلزم الناس قبول قوله في أمور الدين من مفت أو شاهد أو مخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبرا فقد أفادت الآية أن شرط جميع من كان في محل الائتمام به في أمر الدين العدالة والصلاح وهذا يدل أيضا على أئمة الصلاة ينبغي أن يكونوا صالحين غير فساق ولا ظالمين لدلالة الآية على شرط العدالة لمن نصب منصب الائتمام به في أمور الدين لأن عهد الله هو أوامره فلم يجعل قبوله عن الظالمين منهم وهو ما أودعهم من أمور دينه وأجاز قولهم فيه وأمر الناس بقوله منهم والاقتداء بهم فيه ألا ترى إلى قوله تعالى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا

٨٥

الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) يعنى أقدم إليكم الأمر به وقال تعالى (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) ومنه عهد الخلفاء إلى أمرائهم وقضاتهم إنما هو ما يتقدم به إليهم ليحملوا الناس عليه ويحكموا به فيهم وذلك لأن عهد الله إذا كان إنما هو أوامره لم يخل قوله (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) من أن يريد أن الظالمين غير مأمورين أو أن الظالمين لا يجوز أن يكونوا بمحل من يقبل منهم أوامر الله تعالى وأحكامه ولا يؤمنون عليها فلما بطل الوجه الأول لاتفاق المسلمين على أن أوامر الله تعالى لازمة للظالمين كلزومها لغيرهم وأنهم إنما استحقوا سمة الظلم لتركهم أوامر الله ثبت الوجه الآخر وهو أنهم غير مؤتمنين على أوامر الله تعالى وغير مقتدى بهم فيها فلا يكونون أئمة في الدين فثبت بدلالة هذه الآية بطلان إمامة الفاسق وأنه لا يكون خليفة وأن من نصب نفسه في هذا المنصب وهو فاسق لم يلزم الناس اتباعه ولا طاعته وكذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ودل أيضا على أن الفاسق لا يكون حاكما وأن أحكامه لا تنفذ إذا ولى الحكم وكذلك لا تقبل شهادته ولا خبره إذا أخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا فتياه إذا كان مفتيا وأنه لا يقدم للصلاة وإن كان لو قدم واقتدى به مقتد كانت صلاته ماضية فقد حوى قوله (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) هذه المعاني كلها ومن الناس من يظن أن مذهب أبى حنيفة تجويز إمامة الفاسق وخلافته وأنه يفرق بينه وبين الحاكم فلا يجيز حكمه وذكر ذلك عن بعض المتكلمين وهو المسمى زرقان وقد كذب في ذلك وقال بالباطل وليس هو أيضا ممن تقبل حكايته ولا فرق عند أبى حنيفة بين القاضي وبين الخليفة في أن شرط كل واحد منهما العدالة وأن الفاسق لا يكون خليفة ولا يكون حاكما كما لا تقبل شهادته ولا خبره لو روى خبرا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكيف يكون خليفة وروايته غير مقبولة وأحكامه غير نافذة وكيف يجوز أن يدعى ذلك على أبى حنيفة وقد أكرهه ابن هبيرة في أيام بنى أمية على القضاء وضربه فامتنع من ذلك وحبس فلج ابن هبيرة وجعل يضربه كل يوم أسواطا فلما خيف عليه قال له الفقهاء فتول شيئا من أعماله أى شيء كان حتى يزول عنك هذا الضرب فتولى له عد أحمال التبن الذي يدخل فخلاه ثم دعاه المنصور إلى مثل ذلك فأبى فحبسه حتى عدله اللبن الذي كان يضرب لسور مدينة بغداد وكان مذهبه مشهورا في قتال الظلمة وأئمة الجور ولذلك قال الأوزاعى احتملنا أبا حنيفة على كل شيء حتى جاءنا بالسيف يعنى قتال الظلمة فلم نحتمله وكان من

٨٦

قوله وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض بالقول فإن لم يؤتمر له فبالسيف على ما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسأله إبراهيم الصائغ وكان من فقهاء أهل خراسان ورواه الأخبار ونساكهم عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فقال هو فرض وحدثه بحديث عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتل) فرجع إبراهيم إلى مرو وقام إلى أبى مسلم صاحب الدولة فأمره ونهاه وأنكر عليه ظلمه وسفكه الدماء بغير حق فاحتمله مرارا ثم قتله وقضيته في أمر زيد بن على مشهورة وفي حمله المال إليه وفتياه الناس سرا في وجوب نصرته والقتال معه وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن وقال لأبى إسحاق الفزاري حين قال له لم أشرت على أخى بالخروج مع إبراهيم حتى قتل قال مخرج أخيك أحب إلى من مخرجك وكان أبو إسحاق قد خرج إلى البصرة وهذا إنما أنكره عليه أغمار أصحاب الحديث الذين بهم فقد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر حتى تغلب الظالمون على أمور الإسلام فمن كان هذا مذهبه في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كيف يرى إمامة الفاسق فإنما جاء غلط من غلط في ذلك إن لم يكن تعمد الكذب من جهة قوله وقول سائر من يعرف قوله من العراقيين أن القاضي إذا كان عدلا في نفسه فولى القضاء من قبل إمام جائر أن أحكامه نافذة وقضاياه صحيحة وأن الصلاة خلفهم جائزة مع كونهم فساقا وظلمة وهذا مذهب صحيح ولا دلالة فيه على أن من مذهبه تجويز إمامة الفاسق وذلك لأن القاضي إذا كان عدلا فإنما يكون قاضيا بأن يمكنه تنفيذ الأحكام وكانت له يد وقدرة على من امتنع من قبول أحكامه حتى يجبره عليها ولا اعتبار في ذلك بمن ولاه لأن الذي ولاه إنما هو بمنزلة سائر أعوانه وليس شرط أعوان القاضي أن يكونوا عدولا ألا ترى أن أهل بلد لا سلطان عليهم لو اجتمعوا على الرضا بتولية رجل عدل منهم القضاء حتى يكونوا أعوانا له على من امتنع من قبول أحكامه لكان قضاؤه نافذا وإن لم يكن له ولاية من جهة إمام ولا سلطان وعلى هذا تولى شريح وقضاة التابعين القضاء من قبل بنى أمية وقد كان شريح قاضيا بالكوفة إلى أيام الحجاج ولم يكن في العرب ولا آل مروان أظلم ولا أكفر ولا أفجر من عبد الملك ولم يكن في عماله أكفر ولا أظلم ولا أفجر من الحجاج وكان عبد الملك أول من قطع ألسنة الناس في الأمر بالمعروف

٨٧

والنهى عن المنكر صعد المنبر فقال إنى والله ما أنا بالخليفة المستضعف يعنى عثمان ولا بالخليفة المصانع يعنى معاوية وإنكم تأمروننا بأشياء تنسونها في أنفسكم والله لا يأمرنى أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه وكانوا يأخذون الأرزاق من بيوت أموالهم وقد كان المختار الكذاب يبعث إلى ابن عباس ومحمد بن الحنفية وابن عمر بأموال فيقبلونها وذكر محمد بن عجلان عن القعقاع قال كتب عبد العزيز بن مروان إلى ابن عمر ارفع إلى حوائجك فكتب إليه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (إن اليد العليا خير من اليد السفلى) وأحسب أن اليد العليا يد المعطى وأن اليد السفلى يد الآخذ وإنى لست سائلك شيئا ولا رادا عليك رزقا رزقنيه الله منك والسلام وقد كان الحسن وسعيد بن جبير والشعبي وسائر التابعين يأخذون أرزاقهم من أيدى هؤلاء الظلمة لا على أنهم كانوا يتولونهم ولا يرون إمامتهم وإنما كانوا يأخذونها على أنها حقوق لهم في أيدى قوم فجرة وكيف يكون ذلك على وجه موالاتهم وقد ضربوا وجه الحجاج بالسيف وخرج عليه من القراء أربعة آلاف رجل هم خيار التابعين وفقهاؤهم فقاتلوه مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بالأهواز ثم بالبصرة ثم بدير الجماجم من ناحية الفرات بقرب الكوفة وهم خالعون لعبد الملك بن مروان لاعنون لهم متبرئون منهم وكذلك كان سبيل من قبلهم مع معاوية حين تغلب على الأمر بعد قتل على عليه السلام وقد كان الحسن والحسين يأخذان العطاء وكذلك من كان في ذلك العصر من الصحابة وهم غير متولين له بل متبرئون منه على السبيل التي كان عليها على عليه السلام إلى أن توفاه الله تعالى إلى جنته ورضوانه فليس إذا في ولاية القضاء من قبلهم ولا أخذ العطاء منهم دلالة على توليتهم واعتقاد إمامتهم* وربما احتج بعض أغبياء الرفضة بقوله تعالى (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) في رد إمامة أبى بكر رضى الله عنه وعمر رضى الله عنه لأنهما كانا ظالمين حين كانا مشركين في الجاهلية وهذا جهل مفرط لأن هذه السمة إنما تلحق من كان مقيما على الظلم فأما التائب منه فهذه السمة زائلة عنه فلا جائز أن يتعلق به حكم لأن الحكم إذا كان معلقا بصفة فزالت الصفة زال الحكم وصفة الظلم صفة ذم فإنما يلحقه ما دام مقيما عليه فإذا زال عنه زالت الصفة عنه كذلك يزول عنه الحكم الذي علق به من نفى نيل العهد في قوله تعالى (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ألا ترى أن قوله تعالى (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) إنما هو نهى عن الركون إليهم ما أقاموا على الظلم

٨٨

وكذلك قوله تعالى (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) إنما هو ما أقاموا على الإحسان فقوله (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) لم ينف به العهد عمن تاب عن ظلمه لأنه في هذه الحالة لا يسمى ظالما كما لا يسمى من تاب من الكفر كافرا ومن تاب من الفسق فاسقا وإنما يقال كان كافرا وكان فاسقا وكان ظالما والله تعالى لم يقل لا ينال عهدي من كان ظالما وإنما نفى ذلك عمن كان موسوما بسمة الظالم والاسم لازم له باق عليه* وقوله تعالى (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) البيت إما فإنه يريد بيت الله الحرام واكتفى بذكر البيت مطلقا لدخول الألف واللام عليه إذ كانا يدخلان لتعريف المعهود أو الجنس وقد علم المخاطبون أنه لم يرد الجنس فانصرف إلى المعهود عندهم وهو الكعبة وقوله (مَثابَةً لِلنَّاسِ) روى عن الحسن أن معناه أنهم يثوبون إليه في كل عام وعن ابن عباس ومجاهد أنه لا ينصرف عنه أحد وهو يرى أنه قد قضى وطرا منه فهم يعودون إليه وقيل فيه أنهم يحجون إليه فيثابون عليه قال أبو بكر قال أهل اللغة أصله من ثاب يثوب مثابة وثوابا إذا رجع قال بعضهم إنما أدخل الهاء عليه للمبالغة لما كثر من يثوب إليه كما يقال نسابة وعلامة وسيارة وقال الفراء هو كما قيل المقامة والمقام وإذا كان اللفظ محتملا لما تأوله السلف من رجوع الناس إليه في كل عام ومن قول من قال أنه لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يحب العود إليه ومن أنهم يحجون إليه فيثابون فجائز أن يكون المراد ذلك كله ويشهد لقول من قال أنهم يحبون العود إليه بعد الانصراف قوله تعالى (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) وقد نص هذا اللفظ على فعل الطواف إذ كان البيت مقصودا ومثابة للطواف ولا دلالة فيه على وجوبه وإنما يدل على أنه يستحق الثواب بفعله وربما احتج موجبو العمرة بهذه الآية فقالوا إذا كان الله تعالى قد جعله مثابة للناس يعودون إليه مرة بعد أخرى فقد اقتضى العود إليه للعمرة بعد الحج وليس هذا بشيء لأنه ليس في اللفظ دليل الإيجاب وإنما فيه أنه جعل لهم العود إليه ووعدهم الثواب عليه وهذا بما يقتضى الندب لا الإيجاب ألا ترى أن القائل لك أن تعتمر ولك أن تصلى لا دلالة فيه على الوجوب وعلى أنه لم يخصص العود إليه بالعمرة دون الحج ومع ذلك فإن الحج فيه طواف القدوم وطواف الزيارة وطواف الصدر ويحصل بذلك كله العود إليه مرة بعد أخرى فإذا فعل ذلك فقد قضى عهدة اللفظ فلا دلالة فيه إذا على وجوب العمرة* وأما قوله تعالى (وَأَمْناً) فإنه وصف البيت بالأمن والمراد

٨٩

جميع الحرم كما قال الله تعالى (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) والمراد الحرم لا الكعبة نفسها لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد وكقوله (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) قال ابن عباس وذلك أن الحرم كله مسجد وكقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) والمراد والله أعلم منعهم من الحج وحضورهم مواضع النسك ألا ترى إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بعث بالبراءة مع على رضى الله عنه وأن لا يحج بعد العام مشرك منبئا عن مراد الآية وقوله تعالى في آية أخرى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) وقال حاكيا عن إبراهيم عليه السلام (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) يدل ذلك على أن وصفه البيت بالأمن اقتضى جميع الحرم ولأن حرمة الحرم لما كانت متعلقة بالبيت جاز أن يعبر عنه باسم البيت لوقوع الأمن به وحظر القتال والقتل فيه وكذلك حرمة الأشهر الحرم متعلقة بالبيت فكان أمنهم فيها لأجل الحج وهو معقود بالبيت* وقوله (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) إنما هو حكم منه بذلك لا خبر وكذلك قوله تعالى (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) كل هذا من طريق الحكم لا على وجه الأخبار بأن من دخله لم يلحقه سوء لأنه لو كان خبرا لوجد مخبره على ما أخبر به لأن أخبار الله تعالى لا بد من وجودها على ما أخبر به وقد قال في موضع آخر (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) فأخبر بوقوع القتل فيه فدل أن الأمر المذكور إنما هو من قبل حكم الله تعالى بالأمن فيه وأن لا يقتل العائذ به واللاجئ إليه وكذلك كان حكم الحرم منذ عهد إبراهيم عليه السلام إلى يومنا هذا وقد كانت العرب في الجاهلية تعتقد ذلك الحرم وتستعظم القتل فيه على ما كان بقي في أيديهم من شريعة إبراهيم عليه السلام حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثنا الأوزاعى قال حدثنا يحيى عن أبى سلمة عن أبى هريرة قال لما فتح الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليه رسوله والمؤمنين وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم هي حرام إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها ولا ينفذ صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشدها فقال العباس يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقبورنا وبيوتنا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا الإذخر حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبى

٩٠

شيبة قال حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد وطاوس عن ابن عباس في هذه القصة ولا يختلى خلاها وقال إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض لم تحل لأحد قبلي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار وروى ابن أبى ذئب عن سعيد المقبري عن أبى شريح الكعبي قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله تعالى حرم مكة ولم يحرمها الناس فلا يسفكن فيها دم وإن الله أحلها لي ساعة من نهار ولم يحلها للناس وأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله حرمها يوم خلق السموات والأرض وحظر فيها سفك الدماء وإن حرمتها باقية إلى يوم القيامة وأخبر أن من تحريمها تحريم صيدها وقطع الشجر والخلا* فإن قال قائل ما وجه استثنائه الإذخر من الحظر عند مسألة العباس وقد أطلق قبل ذلك حظر الجميع ومعلوم أن النسخ قبل التمكين من الفعل لا يجوز قيل له يجوز أن يكون الله تعالى خير نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إباحة الإذخر وحظره عند سؤال من يسئله إباحته كما قال تعالى (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) فخيره في الإذن عند المسألة ومع ما حرم الله تعالى من حرمتها بالنص والتوقيف فإن من آياتها ودلالاتها على توحيدها الله تعالى واختصاصه لها ما يوجب تعظيمها ما يشاهد فيها من أمن الصيد فيها وذلك أن سائر بقاع الحرم مشبهة لبقاع الأرض ويجتمع فيها الظبى والكلب فلا يهيج الكلب الصيد ولا ينفر منه حتى إذا خرجا من الحرم عدا الكلب عليه وعاد هو إلى النفور والهرب وذلك دلالة على توحيد الله سبحانه وتعالى وعلى تفضيل إسماعيل عليه السلام وتعظيم شأنه وقد روى عن جماعة من الصحابة حظر صيد الحرم وشجره ووجوب الجزاء على قتله أو قطعه* قوله تعالى (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) يدل على لزوم ركعتي الطواف وذلك لأن قوله تعالى (مَثابَةً لِلنَّاسِ) لما اقتضى فعل الطواف ثم عطف عليه قوله (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) وهو أمر ظاهره الإيجاب دل ذلك على أن الطواف موجب للصلاة وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يدل على أنه أراد به صلاة الطواف وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن محمد النفيلى قال حدثنا حاتم بن إسماعيل قال حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وذكر حجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قوله استلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) فجعل المقام بينه وبين البيت وصلّى ركعتين فلما تلا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند إرادته الصلاة خلف المقام (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) دل ذلك على أن

٩١

المراد بالآية فعل الصلاة بعد الطواف وظاهره أمر فهو على الوجوب وقد روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صلاهما عند البيت وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن عمر القواريري قال حدثني يحيى بن سعيد قال حدثنا السائب عن محمد المخزومي قال حدثني محمد بن عبد الله بن السائب عن أبيه أنه كان يقود ابن عباس فيقيمه عند الشقة الثالثة مما يلي الركن الذي يلي الحجر مما يلي الباب فيقول ابن عباس أثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى هاهنا فيقوم فيصلى فدلت هذه الآية على وجوب صلاة الطواف ودل فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لها تارة عند المقام وتارة عند غيره على أن فعلها عنده ليس بواجب وروى عبد الرحمن القاري عن عمر أنه طاف بعد صلاة الصبح ثم ركب وأناخ بذي طوى فصلى ركعتي طوافه وعن ابن عباس أنه صلاها في الحطيم وعن الحسن وعطاء أنه إن لم يصل خلف المقام أجزأ وقد اختلف السلف في المراد بقوله تعالى (مَقامِ إِبْراهِيمَ) فقال ابن عباس الحج كله مقام إبراهيم وقال عطاء مقام إبراهيم عرفة والمزدلفة والجمار وقال مجاهد الحرم كله مقام إبراهيم وقال السدى مقام إبراهيم هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم حين غسلت رأسه فوضع إبراهيم رجله عليه وهو راكب فغسلت شقه ثم رفعته من تحته وقد غابت رجله في الحجر فوضعته تحت الشق الآخر فغسلته فغابت رجله أيضا فيه فجعلها الله من شعائره فقال (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) وروى نحوه عن الحسن وقتادة والربيع بن أنس والأظهر أن يكون هو المراد لأن الحرم لا يسمى على الإطلاق مقام إبراهيم وكذلك سائر المواضع التي تأوله غيرهم عليها مما ذكرنا ويدل على أنه هو المراد ما روى حميد عن أنس قال قال عمر قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله تعالى (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) ثم صلّى فدل على أن مراد الله تعالى بذكر المقام هو الحجر ويدل عليه أمره تعالى إيانا بفعل الصلاة وليس للصلاة تعلق بالحرم ولا سائر المواضع الذي تأويله عليها من ذكرنا قوله وهذا المقام دلالة على توحيد الله ونبوة إبراهيم لأنه جعل للحجر رطوبة الطين حتى دخلت قدمه فيه وذلك لا يقدر عليه إلا الله وهو مع ذلك معجزة لإبراهيم عليه السلام فدل على نبوته وقد اختلف في المعنى المراد بقوله (مُصَلًّى) فقال فيه مجاهد مدعى وجعله من الصلاة إذ هي الدعاء لقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) وقال الحسن أراد به قبلة وقال قتادة

٩٢

والسدى أمروا أن يصلوا عنده وهذا هو الذي يقتضيه ظاهر اللفظ لأن لفظ الصلاة إذا أطلق تعقل منه الصلاة المفعولة بركوع وسجود ألا ترى أن مصلى المصر هو الموضع الذي يصلى فيه صلاة العيد وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأسامة بن زيد المصلى أمامك يعنى به موضع الصلاة المفعولة وقد دل عليه أيضا فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد تلاوته الآية وأما قول من قال قبلة فذلك يرجع إلى معنى الصلاة لأنه إنما يجعله المصلى بينه وبين البيت فيكون قبلة له وعلى أن الصلاة فيها الدعاء فحمله على الصلاة أولى لأنها تنتظم سائر المعاني التي تأولوا عليها الآية قوله تعالى (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) قال قتادة وعبيد بن عمير ومجاهد وسعيد بن جبير طهرا من الشرك وعبادة الأوثان التي كانت عليها المشركون قبل أن يصير في يد إبراهيم عليه السلام وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لما كان فتح مكة دخل المسجد فوجدهم قد نصبوا على البيت الأوثان فأمر بكسرها وجعل يطعن فيها بعود في يده ويقول (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) وقيل فيه طهراه من فرث ودم كان المشركون يطرحونه عنده وقال السدى طهرا بيتي ابنياه على الطهارة كما قال الله تعالى (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ) الآية* قال أبو بكر وجميع ما ذكر يحتمله اللفظ غير منافيه فيكون معناه ابنياه على تقوى الله وطهراه مع ذلك من الفرث والدم ومن الأوثان أن تجعل فيه أو تقربه وأما للطائفين فقد اختلف في مراد الآية منه فروى جويبر عن الضحاك قال للطائفين من جاء من الحجاج والعاكفين أهل مكة وهم القائمون وروى عبد الملك عن عطاء قال العاكفون من انتابه من أهل الأمصار والمجاورين وروى أبو بكر الهذلي قال إذا كان طائفا فهو من الطائفين وإذا كان جالسا فهو من العاكفين وإذا كان مصليا فهو من الركع السجود وروى ابن فضيل عن ابن عطاء عن سعيد عن ابن عباس في قوله (طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) قال الطواف قبل الصلاة* قال أبو بكر قول الضحاك من جاء من الحجاج فهو من الطائفين راجع أيضا إلى معنى الطواف بالبيت لأن من يقصد البيت فإنما يقصده للطواف به إلا أنه قد خص به الغرباء وليس في الآية دلالة التخصيص لأن أهل مكة والغرباء في فعل الطواف سواء* فإن قيل فإنما تأوله الضحاك على الطائف الذي هو طارئ كقوله تعالى (فَطافَ عَلَيْها

٩٣

طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ) وقوله (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) * قيل له أنه وإن أراد ذلك فالطواف مراد لا محالة لأن الطارئ إنما يقصده للطواف فجعله هو خاصا في بعضهم دون بعض وهذا لا دلالة له فيه فالواجب إذا حمله على فعل الطواف فيكون قوله والعاكفين من يعتكف فيه وهذا يحتمل وجهين أحدهما الاعتكاف المذكور في قوله (وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) فخص البيت في هذا الموضع الآخر المقيمون بمكة اللائذون به إذا كان الاعتكاف هو اللبث وقيل في العاكفين المجاورون وقيل أهل مكة وذلك كله يرجع إلى معنى اللبث والإقامة في الموضع* قال أبو بكر هو على قول من تأول قوله الطائفين على الغرباء يدل على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة وذلك لأن قوله ذلك قد أفاد لا محالة الطواف للغرباء إذا كانوا إنما يقصدونه للطواف وأفاد جواز الاعتكاف فيه بقوله والعاكفين وأفاد فعل الصلاة فيه أيضا وبحضرته فخص الغرباء بالطواف فدل على أن فعل الطواف للغرباء أفضل من فعل الصلاة والاعتكاف الذي هو اللبث من غير طواف وقد روى عن ابن عباس ومجاهد وعطاء أن الطواف لأهل الأمصار أفضل والصلاة لأهل مكة أفضل فتضمنت الآية معاني منها فعل الطواف في البيت وهو قربة إلى الله تعالى يستحق فاعله الثواب وأنه للغرباء أفضل من الصلاة وفعل الاعتكاف في البيت وبحضرته بقوله والعاكفين وقد دل أيضا على جواز الصلاة في البيت فرضا كانت أو نفلا إذ لم تفرق الآية بين شيء منها وهو خلاف قول مالك في امتناعه من جواز فعل الصلاة المفروضة في البيت وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه صلّى في البيت يوم فتح مكة فتلك الصلاة لا محالة كانت تطوعا لأنه صلاها حين دخل ضحى ولم يكن وقت صلاة وقد دل أيضا على جواز الجوار بمكة لأن قوله والعاكفين يحتمله إذا كان اسما للبث وقد يكون ذلك من المجاز على أن عطاء وغيره قد تأوله على المجاورين ودل أيضا على أن الطواف قبل الصلاة لما تأوله عليه ابن عباس على ما قدمناه* فإن قيل ليس في تقديم الطواف* على الصلاة في اللفظ دلالة على الترتيب لأن الواو لا توجبه* قيل له قد اقتضى اللفظ فعل الطواف والصلاة جميعا وإذا ثبت طواف مع صلاة فالطواف لا محالة مقدم عليها من وجهين أحدهما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والثاني اتفاق أهل العلم على تقديمه عليها* فإن اعترض معترض على ما ذكرنا من دلالة الآية على جواز فعل الصلاة في البيت وزعم أنه لا دلالة

٩٤

في اللفظ عليه لأنه لم يقل والركع السجود في البيت وكما لم يدل على جواز فعل الطواف في جوف البيت وإنما دل على فعله خارج البيت كذلك دلالته مقصورة على جواز فعل الصلاة إلى البيت متوجها إليه* قيل له ظاهر قوله تعالى (طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) قد اقتضى فعل ذلك في البيت كما دل على جواز فعل الاعتكاف في البيت وإنما خرج منه الطواف في كونه مفعولا خارج البيت بدليل الاتفاق ولأن الطواف بالبيت إنما هو بأن يطوف حواليه خارجا منه ولا يسمى طائفا بالبيت من طاف في جوفه والله سبحانه إنما أمرنا بالطواف فيه به لا بالطواف بقوله تعالى (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ومن صلّى داخل البيت يتناوله الإطلاق بفعل الصلاة فيه وأيضا لو كان المراد التوجه إليه لما كان لذكر تطهير البيت للركع والسجود وجه إذ كان حاضروا البيت والناءون عنه سواء في الأمر بالتوجه إليه ومعلوم أن تطهيره إنما هو لحاضريه فدل على أنه لم يرد به التوجه إليه دون فعل الصلاة فيه ألا ترى أنه أمر بتطهير نفس البيت للركع السجود وأنت متى حملته على الصلاة خارجا كان التطهير لما حول البيت وأيضا إذا كان اللفظ محتملا للأمرين فالواجب حمله عليهما فيكونان جميعا مرادين فيجوز في البيت وخارجه* فإن قيل كما قال الله تعالى (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) كذلك قال (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) وذلك يقتضى فعلها خارج البيت فيكون متوجها إلى شطره* قيل له لو حملت اللفظ على حقيقته فعلى قضيتك أنه لا تجوز الصلاة في المسجد الحرام لأنه قال (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ومتى كان فيه فعلى قولك لا يكون متوجها إليه قال فإن أراد بالمسجد الحرام البيت نفسه لاتفاق الجميع على أن التوجه إلى المسجد الحرام لا يوجب جواز الصلاة إذا لم يكن متوجها إلى البيت قيل له فمن كان في جوف البيت هو متوجه شطر البيت لأن شطره ناحية ولا محالة أن من كان فيه فهو متوجه إلى ناحيته ألا ترى أن من كان خارج البيت فتوجه إليه فإنما يتوجه إلى ناحية منه دون جميعه وكذلك من كان في البيت فهو متوجه شطره ففعله مطابق لظاهر الآيتين جميعا من قوله تعالى (طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) وقوله تعالى (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) إذ من كان في البيت فهو متوجه إلى ناحية من البيت ومن المسجد جميعا* قال أبو بكر والذي تضمنته الآية من

٩٥

الطواف عام في سائر ما يطاف من الفرض والواجب والندب لأن الطواف عندنا على هذه الأنحاء الثلاثة فالفرض هو طواف الزيارة بقوله تعالى (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) والواجب هو طواف الصدر ووجوبه مأخوذ من السنة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (من حج البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف) والمسنون والمندوب إليه وليس بواجب طواف القدوم للحج فعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم مكة حاجا فأما طواف الزيارة فإنه لا ينوب عنه شيء يبقى الحاج محرما من النساء حتى يطوفه وأما طواف الصدر فإن تركه يوجب دما إذا رجع الحاج إلى أهله ولم يطفه وأما طواف القدوم فإن تركه لا يوجب شيئا والله تعالى أعلم بالصواب.

باب ذكر صفة الطواف

قال أبو بكر رحمه الله تعالى كل طواف بعده سعى ففيه رمل في الثلاثة أشواط الأول وكل طواف ليس بعده سعى بين الصفا والمروة فلا رمل فيه فالأول مثل طواف القدوم إذا أراد السعى بعده وطواف الزيارة إذا لم يسع بين الصفا والمروة حين قدم فإن كان قد سعى حين قدم عقيب طواف القدوم فلا رمل فيه وطواف العمرة فيه رمل لأن بعده سعيا بين الصفا والمروة وقد رمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم مكة حاجا رواه جابر بن عبد الله وابن عباس في رواية عطاء عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذلك روى ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رمل في الثلاثة الأشواط من الحجر إلى الحجر وروى نحو ذلك عن عمرو ابن مسعود وابن عمر من قولهم مثل ذلك وروى أبو الطفيل عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رمل من الركن اليماني ثم مشى إلى الركن الأسود وكذلك رواه أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والنظر يدل على ما رواه الأولون من قبل اتفاق الأولين جميعا على تساوى الأربع الأواخر في المشي فيهن كذلك يجب أن يستوي الثلاث الأول في الرمل فيهن في جميع الجوانب إذ ليس في الأصول اختلاف حكم جوانبه في المشي ولا الرمل في سائر أحكام الطواف وقد اختلف السلف في بقاء سنة الرمل فقال قائلون إنما كان ذلك سنة حين فعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرائيا به للمشركين إظهار للتجلد والقوة في عمرة القضاء لأنهم قالوا قد أوهنتهم حمى يثرب فأمرهم بإظهار الجلد لئلا يطمع فيهم وقال زيد بن أسلم عن أبيه قال سمعت عمر ابن الخطاب يقول فيم الرملان الآن والكشف عن المناكب وقد أظهر الله الإسلام

٩٦

ونفى الكفر وأهله ومع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال أبو الطفيل قلت لابن عباس إن قومك يزعمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رمل بالبيت وأنه سنة قال صدقوا وكذبوا قد رمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس بسنة قال أبو بكر ومذهب أصحابنا أنه سنة ثابتة لا ينبغي تركها وإن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر به بديا لإظهار الجلد والقوة مراءاة للمشركين لأنه قد روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رمل في حجة الوداع ولم يكن هناك مشركون وقد فعله أبو بكر وعمر وابن مسعود وابن عمر وغيرهم فثبت بقاء حكمه وليس تعلقه بديا بالسبب المذكور مما يوجب زوال حكمه حيث زال السبب ألا ترى أنه قد روى أن سبب رمى الجمار أن إبليس لعنه الله عرض لإبراهيم عليه السلام بموضع الجمار فرماه ثم صار الرمي سنة باقية مع عدم ذلك السبب وروى أن سبب السعى بين الصفا والمروة أن أم إسماعيل عليه السلام صعدت الصفا تطلب الماء ثم نزلت فأسرعت المشي في بطن الوادي لغيبة الصبى عن عينها ثم لما صعدت من الوادي رأت الصبى فمشت على هينتها وصعدت المروة تطلب الماء فعلت ذلك سبع مرات فصار السعى بينهما سنة وإسراع المشي في الوادي سنة مع زوال السبب الذي فعل من أجله فكذلك الرمل في الطواف وقال أصحابنا يستلم الركن الأسود واليماني دون غيرهما وقد روى ذلك عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وروى أيضا عن ابن عباس عنه وقال ابن عمر حين أخبر بقول عائشة إن الحجر بعضه من البيت أنى لا أظن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يترك استلامهما إلا أنهما ليسا على قواعد البيت ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك وقال يعلى بن أمية طفت مع عمر بن الخطاب فلما كنت عند الركن الذي يلي الحجر أخذت أستلمه فقال ما طفت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلت بلى قال فرأيته يستلمه قلت لا قال (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) قوله تعالى (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) الآية يحتمل وجهين أحدهما معنى مأمون فيه كقوله تعالى (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) يعنى مرضية والثاني أن يكون المراد أهل البلد كقوله تعالى (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) معناه أهلها وهو مجاز لأن الأمن والخوف لا يلحقان البلد وإنما يلحقان من فيه وقد اختلف في الأمن المسئول في هذه الآية فقال قائلون سأل الأمن من القحط والجدب لأنه أسكن أهله بواد غير ذي زرع ولا ضرع ولم يسئله الأمن من الخسف والقذف لأنه كان آمنا من ذلك قبل وقد قيل أنه سأل الأمرين جميعا* قال أبو بكر هو كقوله

٩٧

تعالى (مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) وقوله (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) وقوله (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) والمراد والله أعلم بذلك الأمن من القتل وذلك أنه قد سأله مع رزقهم من الثمرات (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ) وقال عقيب مسألة الأمن في قوله تعالى (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) ثم قال في سياق القصة (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) إلى قوله (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) فذكر مع مسألته الأمن وأن يرزقهم من الثمرات فالأولى حمل معنى مسألة الأمن على فائدة جديدة غير ما ذكره في سياق القصة ونص عليه من الرزق* فإن قال قائل إن حكم الله تعالى بأمنها من القتل قد كان متقدما لعهد إبراهيم عليه السلام لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار) يعنى القتال فيها* قيل له هذا لا ينفى صحة مسألته لأنه قد يجوز نسخ تحريم القتل والقتال فيها فسأله إدامة هذا الحكم فيها وتبقيته على ألسنة رسله وأنبيائه بعده ومن الناس من يقول إنها لم تكن حرما ولا أمنا قبل مسألة إبراهيم عليه السلام لما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (إن إبراهيم عليه السلام حرم مكة وإنى حرمت المدينة) والأخبار المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في (أن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض وأنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي) أقوى وأصح من هذا الخبر ومع ذلك فلا دلالة فيه أنه لم تكن حرما قبل ذلك لأن إبراهيم عليه السلام حرمها بتحريم الله تعالى إياها قبل ذلك فاتبع أمر الله تعالى فيها ولا دلالة فيه على نفى تحريمها قبل عهد إبراهيم من غير الوجه الذي صارت به حراما بعد الدعوة والوجه الأول بمنع من اصطلام أهلها ومن الخسف بهم والقذف الذي لحق غيرها وبما جعل في النفوس من تعظيمها والهيبة لها والوجه الثاني بالحكم بأمنها على ألسنة رسله فأجابه الله تعالى إلى ذلك* قوله تعالى (وَمَنْ كَفَرَ) قد تضمن استجابته لدعوته وأخباره أنه يفعل ذلك أيضا بمن كفر منهم في الدنيا وقد كانت دعوة إبراهيم خاصة لمن آمن منهم بالله واليوم الآخر فدلت الواو التي في قوله ومن كفر على إجابة دعوة إبراهيم وعلى استقبال الأخبار بمتعه من كفر قليلا ولو لا الواو لكان كلاما متقطعا من الأول غير دال على استجابة دعوته فيما سأله وقيل في معنى أمتعه أنه إنما يمتعه بالرزق الذي يرزقه

٩٨

إلى وقت مماته وقيل أمتعه بالبقاء في الدنيا وقال الحسن أمتعه بالرزق والأمن إلى خروج محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقتله إن أقام على كفره أو يجليه عنها فتضمنت الآية حظر قتل من لجأ إليه من وجهين أحدهما قوله (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) مع وقوع الاستجابة له والثاني قوله (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) لأنه قد نفى قتله بذكر المتعة إلى وقت الوفاة* (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) الآية قواعد البيت أساسه وقد اختلف في بناء إبراهيم عليه السلام هل بناه على قواعد قديمة أو أنشأها هو ابتداء فروى معمر عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله القواعد من البيت قال القواعد التي كانت قبل ذلك قواعد البيت وروى نحوه عن عطاء وروى منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمر قال خلق الله البيت قبل الأرض بألفى عام ثم دحيت الأرض من تحته وروى عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إن الملائكة كانت تحج البيت قبل آدم ثم حجه آدم عليه السلام وروى عن مجاهد وعمرو بن دينار أن إبراهيم عليه السلام أنشأه بأمر الله إياه وقال الحسن أول من حج البيت إبراهيم واختلف في الباني منهما للبيت فقال ابن عباس كان إبراهيم يبنى وإسماعيل يناوله الحجارة وهذا يدل على جواز إضافة فعل البناء إليهما وإن كان أحدهما معينا فيه ومن أجل ذلك قلنا في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة لو قدمت قبلي لغسلتك ودفنتك يعنى أعنت في غسلك وقال السدى وعبيد بن عمير هما بنياه جميعا وقيل في رواية شاذة أن إبراهيم عليه السلام وحده رفعها وكان إسماعيل صغيرا في وقت رفعها وهو غلط لأن الله تعالى قد أضاف الفعل إليهما وكذلك أطلق عليهما إذ رفعاه جميعا أو رفع أحدهما وناوله الآخر الحجارة والوجهان الأولان جائزان والوجه الثالث لا يجوز ولما قال تعالى (طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) وقال في آية أخرى (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) اقتضى ذلك الطواف بجميع البيت وروى هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن أهل الجاهلية اقتصروا في بناء الكعبة فادخلي الحجر وصلّى عنده ولذلك طاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حول الحجر ليحصل اليقين بالطواف بجميع البيت ولذلك أدخله ابن الزبير في البيت لما بناه حين احترق ثم لما جاء الحجاج أخرجه منه* قوله تعالى (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) معناه يقولان ربنا تقبل فحذف لدلالة الكلام عليه كقوله تعالى (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) يعنى يقولون أخرجوا أنفسكم والتقبل هو إيجاب

٩٩

الثواب على العمل وقد تضمن ذلك كون بناء المساجد قربة لأنهما بنياه لله تعالى فأخبرا باستحقاق الثواب به وهو كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (من بنى مسجدا ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة) * قوله تعالى (وَأَرِنا مَناسِكَنا) يقال إن أصل النسك في اللغة الغسل يقال منه نسك ثوبه إذا غسله وقد أنشد فيه بيت شعر :

ولا ينبت المرعى سباخ عراعر

ولو نسكت بالماء ستة أشهر

وفي الشرع اسم للعبادة يقال رجل ناسك أى عابد وقال البراء بن عازب خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأضحى فقال (إن أول نسكنا في هذا اليوم الصلاة ثم الذبح فسمى الصلاة نسكا والذبيحة على وجه القربة تسمى نسكا) قال الله تعالى(فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) يعنى ذبح شاة ومناسك الحج ما يقتضيه من الذبح وسائر أفعاله قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دخل مكة (خذوا عنى مناسككم) والأظهر من معنى قوله (وَأَرِنا مَناسِكَنا) سائر أعمال الحج لأن الله تعالى أمرهما ببناء البيت للحج وقد روى ابن أبى ليلى عن ابن أبى مليكة عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (أتى جبرئيل إبراهيم عليهما السلام فراح به إلى مكة ثم منى) ذكر أفعال الحج على نحو ما فعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجته قال ثم أوحى الله لى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) وكذلك أرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قوم بعرفات وقوف خلفه وهو واقف بها فقال كونوا على مشاعركم إنكم على إرث من إرث إبراهيم عليه السلام * قوله تعالى (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ بْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) يدل على لزوم اتباع إبراهيم في شرائعه فيما لم يثبت نسخه أفاد بذلك أن من رغب عن ملة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو راغب عن ملة إبراهيم ذ كانت ملة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منتظمة لملة إبراهيم وزائدة عليها.

باب ميراث الجد

قال الله تعالى (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ عْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً) فسمى الجد العم كل واحد منهما أبا وقال تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ بائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) وقد احتج ابن عباس بذلك في توريث الجد دون لأخوة وروى الحجاج عن عطاء عن ابن عباس قال من شاء لاعنته عند الحجر الأسود أن لجدأب والله ما ذكر الله جدا ولا جدة إلا أنهم الآباء (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ

١٠٠