خطى متعثّرة على طريق تجديد النحو العربي

الدكتور عفيف دمشقيّة

خطى متعثّرة على طريق تجديد النحو العربي

المؤلف:

الدكتور عفيف دمشقيّة


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلم للملايين
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٠٣

٢ ـ الحمل على المعنى ، والتقدير (هزي الثمرة بالجذع) ، أي (انفضي) (١)

٣ ـ التقدير (وهزي إليك رطبا جنيا كائنا بجذع النخلة) ، فالباء على هذا حال (٢).

٤ ـ التقدير (بهزّ جذع النخلة) (٣).

وفي اعتقادنا أن كل ما قيل في هذه (الباء) لا يعدو نطاق فكرة «العامل» ، وعلى الأخص ما ذهب إليه أبو الحسن الأخفش من زيادتها في المفعول ، وان اصل الكلام «وهزي اليك جذع النخلة» ، اذ ما الداعي والكلام تام ناجز من دونها ، إن لم يكن غرضا إبلاغيا لا يوفره حذفها ، عنينا توكيد فكرة «التمليك» من ناحية (ليس الرطب الذي سيتساقط عليها وقت الهز فقط ملكها ومخلّصها من الجوع ، بل إن النخلة برمتها ملك لها لأنها ستكون مصدر غذائها الوحيد طوال مقامها بعيدا عن قومها) ، وفكرة «التشبّث والملاذ» من ناحية ثانية (كانت النخلة ملجأها وقت المخاض ، وستبقى كذلك مدة غيابها عن أهلها). ولا

__________________

(١) املاء ما منّ به الرحمن ، ٢ / ٦٢.

(١) املاء ما منّ به الرحمن ، ٢ / ٦٢.

(٢) إعراب القرآن ، ٢ / ٦٧١.

٦١

يخفى عن بال ما في (الباء) من معنى «الإلصاق» الذي يغدو معه الفاعل والمفعول وكأنهما واحد.

ه ـ من معاني (ضرب) إذا لحقه الظرف (بين) المباعدة والتفريق. ولا يتم ذلك إلّا بوساطة شيء. وفي قوله (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ، قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً ، فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) ، يعني الفعل (ضرب) التفريق بين المنافقين والمؤمنين (ب) سور ، لا مجرد إقامة سور. وعلى هذا لا يمكن أن تكون (الباء) زائدة في نائب الفاعل الذي أصله مفعول ، وإنما هي أصلية لإفادتها معنى الوساطة المطلوبة في المباعدة والتفريق.

وـ إن الفعل (زوّج) من الأفعال المتعديّة بنفسها (زوّجتك فلانة) وب (الباء) : (زوجتك بفلانة) وهذه الصيغة الأخيرة لغة لأزد شنوءة على ما يبدو ، وقد جاءت بها الآية ٥٤ من سورة الدخان : (كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) وعلى

٦٢

هذا تنتفي زيادتها في قولهم (زوّجتك بفلانة) ، وينتفي أن يكون الأصل فيه (زوّجتك فلانة). ثم إن معنى «الإلصاق» الذي تفيده (الباء) ليعبّر عن أمل المزوّج في علاقة وثيقة تدوم مدى الحياة بين الزوج والزوجة ، الأمر الذي لا توفّره الصيغة الأخرى (زوّجتك فلانة) وإن كانت تؤدي المعنى المطلوب بعيدا عن كل عنصر انفعالي.

٦٣

الفصل الثاني

تجديد يخدم اللغة

إذا كنا عرضنا في الفصل السابق آراء أخفشية نعتقد أنها زادت في تعقيد الدرس النحوي ، فليس معنى ذلك أن اجتهادات الرجل كانت كلها سلبية. ولا شك أنه من الإجحاف بحق هذا العالم الضخم ألا يبرز الباحث الجوانب الإيجابية المضيئة في «نحوه» ، وهي ، لعمر الحق ، غير قليلة. وفيما يلي نماذج منها :

* أوجب النحاة قبل الأخفش اقتران الفعل الماضي المثبت لكي يصلح وقوعه حالا بـ (قد) ظاهرة أو مقدّرة (١). أما هو فلم يوجب ذلك ، وقال بإعرابه

__________________

(١) من حجج البصريين في منع وقوع الفعل الماضي حالا ما لم يقترن بـ (قد) ، أن هذه تقرّب الماضي من الحال ، لأنك إذا قلت (قد قام) استطعت أن تقرن بها (الساعة) أو (الآن) ، فتقول (قد قام الساعة ـ أو الآن) ، بينما لا تستطيع ذلك إذا قلت (قام). [راجع المسألة ٣٢ من كتاب «الإنصاف في مسائل الخلاف»].

٦٤

حالا من غير اقتران قياسا على قول أبي صخر الهذلي :

وإني لتعروني لذكراك هزّة

كما انتفض العصفور بلّله القطر

فـ (بلّله) حال للعصفور من الفعل (انتفض) غير المقترن بـ (قد) وكذلك قياسا على قوله : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النساء / ٩٠] الذي وقع فيه الفعل (حصرت) حالا من (واو الجماعة) في (جاءوكم) ، بدليل قراءة بعضهم (حصرة صدورهم) (١).

والحق أن ما ذهب إليه الأخفش أقرب إلى روح اللغة مما نادى به النحاة بعده ، وما تأوّلوه في الآية من تمحّلات لا طائل تحتها. فقد ذهب الأنباري مثلا في تخريج الآية مذاهب مغرقة في التمحّل فقال في (حصرت) أنه :

ـ صفة لـ (قوم) المجرور في أول الآية : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ)

__________________

(١) هي قراءة حسن البصري ، ويعقوب الحضرمي (وهو من القراء العشرة) ، والمفضّل عن عاصم.

٦٥

وغني عن البيان ما في هذا التخريج من تكلّف ظاهر في تجاهل جملة (بينكم وبينهم ميثاق) ـ وهي الصالحة لأن تكون صفة لـ «قوم» ـ ثم جملة (جاءوكم) التي تفيد استثناء الذين لا يرغبون في مقاتلة المؤمنين ، وهم عاجزون في الوقت نفسه عن مقاتلة قومهم ، من الأمر بالقتل الذي نصت عليه الآية السابقة : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) ، كما استثني الذين يصلون إلى قوم بينهم وبين المؤمنين ميثاق. ثم ما فيه من تبديل في المعنى ، إذ أن الذين حصرت صدورهم عن مقاتلة المؤمنين ليسوا أولئك القوم الذين بينهم وبينهم ميثاق ، وإنما هم أولئك الخائفون من الرجوع عن دين قومهم ولا يريدون قتال المؤمنين في الوقت نفسه.

ـ صفة لـ (قوم) مقدّر ، والتقدير : (أو جاءوكم قوما حصرت صدورهم) ، والماضي إذا وقع صفة لموصوف محذوف جاز أن يقع حالا.

ولا يخفى ما في هذا التخريج من حيلة قانونية.

ـ خبر بعد خبر ، كأنه قال (أو جاءوكم) ثم أخبر قائلا

٦٦

(حصرت صدورهم). والمقصود بقوله (خبر) الإخبار ، وكأنما (حصر) بدل من (جاء).

ـ محمول على الدعاء ، كأنه قال (ضيّق الله صدورهم) ، مثل (جاءني فلان وسّع الله رزقه).

وقد علّق محقق كتاب «الإنصاف في مسائل الخلاف» ، محمد محيي الدين عبد الحميد ، على هذا كله بقوله :

«الإنصاف الاستدلال بالكلام الوارد عن العرب ، وقد رأينا أن فصحاءهم يجيئون بالماضي حالا غير مقرون بـ (قد). فأما التقدير فلا دليل عليه.» (١)

* أجاز دخول (الواو) على خبر (ليس) و (كان المنفية) إذا كان جملة بعد (إلّا) ، تشبيها لها بالجملة الحالية ، مستندا إلى قول أحدهم :

ليس شيء إلّا (و) فيه ، إذا ما

قابلته عين البصير ، اعتبار

__________________

(١) حاشية الصفحة ٢٥٣ من كتاب «الإنصاف».

٦٧

وقول الآخر :

ما كان من بشر إلّا (و) ميتته

محتومة ، لكن الآجال تختلف

وقول الآخر :

إذا ما ستور البيت أرخين لم يكن

سراج لنا إلّا (و) وجهك أنور

وقد أنكر الجمهور مذهب الأخفش وقالوا بأن الخبر في البيتين الأوّلين محذوف «ضرورة» ، أو أن (الواو) زائدة. وقالوا بأن الخبر في البيت الثالث هو (لنا).

كذلك أنكروا مذهبه في جواز دخول (الواو) على أخبار (كان وأخواتها) غير منفيات ، كما في قول الشاعر :

وكانوا أناسا ينفحون فأصبحوا

(و) أكثر ما يعطونه النظر الشزر

وقول الآخر :

فظلّوا (و) منهم سابق دمعه له

وآخر يثني دمعة العين بالمهل

٦٨

وقالوا بأن (أصبح) في البيت الأول ، و (ظل) في البيت الثاني ، فعلان تامّان ، والجملتان المصدّرتان بـ (الواو) بعدهما جملتان حاليتان (١).

وإذا كنا قد أثبتنا للأخفش هذه المسألة ضمن آرائه التجديدية ، فلإيماننا بأن رأيه فيها أقرب متناولا للمعرب من رأي غيره ، للأسباب التالية :

١ ـ إن الطالب حين يقع على كلام يتمّم ما أطلق النحاة عليه اسم (الفعل الناقص) ، كما في (وأكثر ما يعطونه النظر الشزر) بعد (أصبحوا) ، و (ومنهم سابق دمعه له) بعد (فظلوا) ، يتبادر إلى ذهنه أول ما يتبادر أن (أصبح) و (ظل) من أخوات (كان) ، وهو ما اعتاد أن يقرّره حين يصادفه مثل هذه الكلمات ، ويستبعد أن يكونا (فعلين تامّين) ،. لأن ورودهما كذلك في الكلام أندر من ورودهما (ناقصين).

٢ ـ يوفّر على الطالب عناء تقدير خبر لـ (ليس) أو (كان المنفية) ـ على الرغم من إكثار الأخفش

__________________

(١) همع الهوامع ، ١ / ١١٦.

٦٩

التقدير في عدد لا يستهان به من المسائل النحوية ـ ويجعله يستبعد فكرة (الضرورة الشعرية) التي ترى في الشعر كلاما مختلفا عن سائر الكلام ، وتكره المتكلم على إظهار الخبر في ما اصطلح على أنه (اختيار الكلام) ، وتحظّر عليه القول «ما كان من بشر إلّا وهو ميت» ، وتضطره أن يقول : «ما كان من بشر (حيّا) إلّا وهو ميت».

٣ ـ يستبعد فكرة زيادة (الواو) ـ على الرغم من ولع أبي الحسن بها ـ وإلغاء دورها المعنوي في الجملة.

ولا يعني هذا أننا نسلّم تماما بما قاله الأخفش ، وإنما أننا نجده أقرب إلى طبيعة اللغة ومنطق الأشياء من رأي غيره. ولما كان الفريقان متّفقين على جواز مجيء (الواو) في الجملة الواقعة بعد أحد الأفعال الناقصة المثبتة (كان ، أصبح ، أمسى ، أضحى ، ظل ، بات) ، أو بعد (ليس) و (كان المنفية) ، فإن رأي الأخفش في أن هذه الجملة هي الخبر ، وأنها دخلتها (الواو) لشبهها بالجملة الحالية ، يبقى أيسر من مذهب الفريق الآخر بما فيه من تعقيد.

ولعلّ خيرا من المذهبين القول بأن اللغة تبيح للمتكلم

٧٠

نمطين من التعبير في الجمل المصدّرة بـ (كان) أو احدى أخواتها المبيّنة أعلاه ـ أو بـ (كان المنفية) أو (ليس) المنقوض خبرها بـ (إلّا) ـ والتي يكون خبرها جملة :

الأول ـ أن يأتي بالجملة الخبرية من غير (واو) ، فيكون الغرض منها مجرد الإخبار :

(ليس شيء إلّا فيه ...) ، (ما كان من بشر إلّا ميتته ...) ،

(فأصبحوا أكثر ما يعطونه النظر ...) ، الخ ...

الثاني ـ أن يدخل (الواو) على هذه الجملة لإبراز الخبر عن طريق إثارة انتباه المخاطب بهذه (الواو) الشبيهة بواو الحال ، كما في الأبيات الشواهد.

* كان سيبويه يمنع العطف على معمولي عاملين مطلقا ـ في المجرور وغيره ـ فلا يجوز في رأيه أن يقال مثلا : (كان آكلا طعاما زيد وتمرا عمرو) ، ولا (في الدار زيد والحجرة عمرو) ، لأنه بمنزلة تعديتين بمعدّ واحد (١).

__________________

(١) همع الهوامع ، ٢ / ١٣٩. وفي مغني اللبيب ، ٢ / ٣٩٢ أن سيبويه كان يضمر الجارّ في المثال الثاني ، أي (في الدار زيد و «في» الحجرة عمرو).

٧١

أما الأخفش فأجاز العطف على معمولي عاملين ، سواء كان أحدهما جارّا أو لم يكن ، فيقال : (كان آكلا طعامك عمرو وثمرك بكر) ، فيكون العاطف ـ وهو (الواو) ـ قد عطف (بكرا) على معمول (كان) ـ وهو (عمرو) ـ و (تمرا) على معمول (آكل) ـ وهو (طعام) ـ الأمر الذي يأباه منطق النحاة مع وجوده في الاستعمال ، كما في قول أبي دؤاد الهذلي :

أكلّ امريء تحسبين امرأ

ونار توقّد بالليل نارا

إذ جاءت (نار) الأولى معطوفة على (امريء) المجرور بالإضافة ، و (نار) الثانية معطوفة على المفعول به ـ وهو (امرؤ) الثانية ـ بوجه واضح صريح ، ومع ذلك فقد أصر النحاة على تقدير كلمة (كلّ) مضمرة بين (الواو) و (نار) الأولى ، أي (وكل نار توقد ...) (١).

وأجاز كذلك العطف على معمولي عاملين مختلفين ـ بجميع الوجوه الممكنة ـ إذا كان

__________________

(١) مغني اللبيب ، ١ / ٢٩٠.

٧٢

أحدهما جارا ، فيقال :

ـ (زيد في الدار والحجرة عمرو)

ـ (في الدار زيد والحجرة عمرو)

ـ (زيد في الدار وعمرو الحجرة)

ـ (في الدار زيد وعمرو الحجرة) (١)

وإذا كنا لا نوافق الأخفش على إجازة الصيغتين الأخيرتين ـ ولا سيما الثانية منهما ـ لانتفاء السماع والاستعمال ، ولانعدام «تعادل المتعاطفات» كما قال الأعلم (هو يوسف بن سليمان بن عيسى الشنتمري المتوفى عام ٤٧٦ ه‍) ، فإنه لا يسعنا إلّا الإقرار بأن إجازته العطف على معمولي عاملين ـ في غير الموضعين المذكورين أعلاه ـ يدل على قربه من روح اللغة ، ولا سيما أنه «جاء مواضع يدل ظاهرها على خلاف قول سيبويه ، كقوله تعالى : (إِنَّ فِي السَّماواتِ

__________________

(١) كان سيبويه يمنع ذلك كله. وقد ذهب الأعلم الشنتمري إلى إجازة العطف إن ولي المخفوض العاطف ، كما في (في الدار زيد والحجرة عمرو) ، لأنه كذا سمع ، ولأن فيه تعادل المتعاطفات ، ومنع ما عداه ، كما في (في الدار زيد وعمرو الحجرة). مغني اللبيب ، ٢ / ٤٨٦.

٧٣

وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ ، آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الجاثية / ٣ و ٤ و ٥] ، فآيات الأولى منصوبة إجماعا ، لأنها اسم (إنّ) ، والثانية والثالثة ـ أي في الآيتين ٤ و ٥ ـ قرأهما الأخوان بالنصب والباقون بالرفع. وقد استدل بالقراءتين في (آيات) الثالثة على المسألة. أما الرفع فعلى نيابة (الواو) مناب (الابتداء) و (في) [المقصود أن (آيات) الثانية في الآية ٤ مبتدأ مؤخّر خبره (في خلقكم) ، وقد نابت واو العطف الواقعة قبل (تصريف) في الآية ٥ مناب (عامل الابتداء) فجعلت من (آيات) الثالثة (مبتدأ) ومن (تصريف) اسما مجرورا معطوفا على (خلقكم) بتقدير (في)]. وأما النصب فعلى نيابتها مناب (إنّ) و (في) [المقصود أنه حين قرئت (آيات) الثالثة منصوبة ـ وكذلك (آيات) الثانية ـ عطفت بالواو الواقعة قبل (تصريف) على (آيات) الأولى الواقعة اسما لـ (إنّ) في

٧٤

الآية ٣ ، وعطفت (تصريف) بتقدير (في) على (خلقكم)]» (١).

* من الإجازات الأخفشية إلغاء العامل. وهذا ولا شك رأي جدير بالاهتمام لما فيه من ثورة على فكرة العامل إن لم يدفع بها الأخفش إلى غايتها المفترضة ، فهو لم يتورع على كل حال من الجهر بها على صعيد من الصعد ، عنينا إجازته مثل : (ظننت زيد ذاهب) ، وهي إجازة يدعمها الاستعمال اللغوي. فقد قال الشاعر الفزاري :

__________________

(١) مغني اللبيب ، ٢ / ٤٨٦ ـ ٤٨٧. وقد أورد ابن هشام في المسألة ثلاثة أوجه :

أحدها ـ أن (في) مقدّرة ، فالعمل لها ، ويؤيده أن في حرف عبد الله [المقصود ابن مسعود] التصريح بـ (في). وعلى هذا فالواو نائبة مناب عامل واحد ، وهو (الابتداء) [في قراءة الرفع] ، أو (إنّ) [في قراءة النصب].

الثاني ـ أن انتصاب (آيات) هو على التوكيد لـ (آيات) الأولى ، ورفعها على تقدير مبتدأ ، أي (وهي آيات) ، فليست (في) مقدّرة.

الثالث ـ يخص قراءة النصب ، وهو أنه على إضمار (إنّ) و (في) ذكره الشاطبي وغيره ، وإضمار (إنّ) بعيد.

٧٥

كذاك أدّبت حتى صار من خلقي

أني وجدت ملاك الشيمة الأدب

فأتى بعد فعل القلب (وجد) بالمبتدأ والخبر على حالهما من الرفع.

وقال كعب بن زهير في قصيدته المشهورة (بانت سعاد) :

أرجو وآمل أن تدنو مودّتها

وما إخال لدينا منك تنويل

فجاء بالمبتدأ (تنويل) على حاله من الرفع بعد فعل القلب (خال).

وهنا لا بدّ من التذكير بأن النحاة مجمعون على القول بأن (إنّ) واسمها وخبرها تسدّ مسدّ مفعولي فعل القلب ، كما في (ظننت أن زيدا ذاهب). وإذ كانت جملة (أنّ زيدا ذاهب) لا تعدو أن تكون «جملة اسمية» أصلها «مبتدأ وخبر» دخلت عليهما (أنّ) للتوكيد ، فلماذا لا يجوز أن تسد الجملة الاسمية التي لم تؤكد بـ (أنّ) مسدّ المفعولين؟ لا نعتقد أن هناك ما يمنع من ذلك سوى منطق النحاة الذي

٧٦

فرض أن تنصب أفعال القلوب مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر ، بغضّ النظر عن الاستعمال اللغوي الذي يدحض تعميم الفرضية وطرد الحكم في جميع الباب.

ولا يعني هذا أننا موافقون على ما قال به النحاة من الأساس. فمن الواجب في رأينا إعادة النظر في باب أفعال القلوب هذه وتقرير أن اللغة جعلت المتكلم فيه بالخيار بين إنماط ثلاثة :

الأول ـ (فعل القلب+ منصوب+ منصوب) ، كما في (ظننت زيدا ذاهبا).

الثاني ـ (فعل القلب+ أنّ+ منصوب+ مرفوع) ، كما في (ظننت أن زيدا ذاهب) ، ولا حاجة إلى القول بأن (أن) ومعموليها سدّت مسدّ مفعولي فعل القلب ، لأن (الظن) وقع على الجملة برمتها باعتبارها وحدة كلامية تامة.

الثالث ـ (فعل القلب+ مرفوع+ مرفوع) ، كما في (ظننت زيد ذاهب) ، وهنا أيضا يكون (الظن) واقعا على جملة (زيد ذاهب) باعتبارها وحدة كلامية تامة.

٧٧

أما العلاقة اللغوية بين (الظن) وما بعده فواحدة في الأنماط الثلاثة وهي عدم التأكد من ذهاب زيد ، أو التأكد من بقائه بعد توهم ذهابه.

* أجاز الأخفش حذف (الفاء) الرابطة لجواب الشرط وفاقا لما ورد في الاستعمال من مثل : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ) [البقرة / ١٨٠] ، و (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام / ١٢١] ، و (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) [هود / ٩] ، وما جاء في حديث اللقطة : (فإن جاء صاحبها وإلّا استمتع بها) ، وقول حسان بن ثابت :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشرّ بالشرّ عند الله مثلان

وإننا إذ نثبت هذا الرأي للأخفش في باب الآراء التجديدية فلا يعني ذلك أننا نقول بضرورة تقدير (الفاء) في النماذج التي أوردناها أو ما يشابهها ، وإكراه المعرب على القول بحذفها على (الإضمار) ، وإنما نذهب إلى أن اللغة تبيح للمتكلم في حال وقوع جواب الشرط جملة اسمية ـ مصدّرة بـ (إنّ) أو غير مصدّرة :

٧٨

ـ أن يكون بالخيار في أن يقرنها أو لا يقرنها بـ (الفاء) ، فيقول :

ـ (من يفعل خيرا فالله يجزيه) ، أو (من يفعل خيرا الله يجزيه)

ـ (من يفعل خيرا فإن الله يجزيه) ، أو (من يفعل خيرا إن الله ليجزيه) وكذلك إذا وقع الجواب فعلا طلبيا ، كما في :

ـ (إن شئت النجاح فاجتهد) ، أو (إن شئت النجاح اجتهد).

ـ (إن شئت النجاح فلا تهمل) ، أو (إن شئت النجاح لا تهمل).

أما ما تمحّله النحاة في تخريج النصوص المذكورة آنفا فلا مسوّغ له ما دامت تلك النصوص صريحة واضحة. وبعد فلنستمع إلى تأويلاتهم :

قال العكبري (١) :

«وأما قوله (إن ترك خيرا) فجوابه عند الأخفش

__________________

(١) املاء ما منّ به الرحمن ، ١ / ٤٦.

٧٩

(الوصية) ، وتحذف (الفاء) ، أي (فالوصية للوالدين). واحتجّ بقول الشاعر :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشرّ بالشرّ عند الله مثلان

«فالوصية على هذا مبتدأ وللوالدين خبره. وقال غيره : جواب الشرط في المعنى ما تقدم من معنى كتب الوصية ، كما تقول (أنت ظالم إن فعلت) [المقصود أن جواب الشرط معنى الكتابة بتقدير التقديم ، أي (كتب عليكم إن ترك خيرا) بتقدير (المكتوب الوصية للوالدين إن ترك خيرا)]. ويجوز أن يكون جواب الشرط معنى الايصاء لا معنى الكتب ، وهذا مستقيم على قول من رفع (الوصية) بـ (كتب) [المقصود أن (الوصية) نائب عن فاعل (كتب)] ، وهو الوجه [المقصود تقدّم جواب الشرط كذلك ، والتقدير (الايصاء للوالدين إن ترك خيرا)].

وقال صاحب «إعراب القرآن» (١) :

«فقول من قال إن (الفاء) في قوله (إنكم لمشركون) مضمرة ذهاب عن الصواب ، وكذا (إنه ليئوس كفور) ،

__________________

(١) اعراب القرآن ، ٢ / ٦٦٠.

٨٠