خطى متعثّرة على طريق تجديد النحو العربي

الدكتور عفيف دمشقيّة

خطى متعثّرة على طريق تجديد النحو العربي

المؤلف:

الدكتور عفيف دمشقيّة


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلم للملايين
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٠٣

اعتبار (لا) ـ وهي كما رأينا بمعنى «لات» ـ في قول جرير :

فلا حسبا فخرت به لتيم

ولا جدّا إذا ازدحم الجدود

غير عاملة وأن (حسبا) منصوب بفعل قدّره بـ (فلا ذكرت حسبا).

وسواء كان ما ذهب إليه سيبويه جيدا أو لم يكن ، فإن الاكتفاء بوجه واحد في «لات» يظل أيسر من القول فيها بوجهين لم يخلص أي منهما من ضرورة «التقدير» لجزء محذوف من العبارة.

* كان سيبويه يرى أن (أنّ) واسمها وخبرها في مثل قولنا «علمت أنّ زيدا قائم» سدّت مسدّ مفعولي فعل القلب (علم). وذهب الأخفش إلى أن (أنّ) ومعموليها سدّت مسدّ المفعول الأول وحده ، وأما المفعول الثاني فمقدّر. وعلى هذا يكون تأويل الجملة حسب رأي الأخفش : «علمت قيام زيد حاصلا» (١).

__________________

(١) أنظر في هذا «إملاء ما منّ به الرحمن» ، ج ١ ، ص ٩٢.

٢١

وواضح من رأي الأخفش أنه لم يستطع الخروج من دائرة «التقدير» لارتباطه سلفا بضرورة اعتبار الاسمين التاليين لفعل القلب «مفعولين» ، وطرد القاعدة في كل عبارة مصدرة بأحد أفعال القلوب ، على أساس أن الاسمين الواقعين بعده أصلهما «مبتدأ وخبر» ، حتى وإن كان في هذه الرؤية إسقام للمعنى. فما لا شك فيه أن القول بمبتدأ وخبر في كلمتي «الثلج» و «البلّور» قبل دخول «ظننت» ، في عبارة مثل «ظننت الثلج بلّورا» ، قول فاسد ، إذ لا يعقل أن يفيدا معنى من غير فعل القلب ، رغم توفّر «الإسناد» فيهما من الناحية الشكلية.

وإننا لنميل إلى أن «نافعا» في مثل «وجدت العلم نافعا» أقرب إلى (الحال) منه إلى (المفعول) ، على الرغم من كون «العلم نافع» مبتدأ وخبرا قبل دخول فعل القلب.

ثمّ إن المعرب لا يفتئت على حرمة اللغة إذا هو اقتصر في إعرابه «ظننت أن زيدا قائم» على مفعول واحد لـ «ظننت» ، فقال بأن جملة «أن زيدا قائم» المؤولّة بالمصدر «قيام» مفعول به للفعل «ظن» ،

٢٢

لأن هذا هو في الواقع ما قصد إليه المتكلم ، كما فيما لو سئل : «أظننت أن زيدا قائم» ، فقال : «ظننت ذلك» ، وجاء بـ «ذلك» مفعولا به لـ «ظننت» ، وأفاد معنى تاما ، دون حاجة إلى مفعول به ثان يقدّره ضمن المفعول الأول ـ كما في رأي سيبويه. والجمهور ـ أو يقدّره بـ «حاصل» ، أو «واقع» ، أو نحو ذلك ، كما في رأي الأخفش.

* المعروف أن «أيّ» في أسلوب النداء : «يا أيها الناس» هي المنادى ، وأن «الهاء» للتنبيه ، والاسم بعدها وصف لها (١). وقد ذهب الأخفش إلى أن «أيّ» اسم موصول ، والاسم المحلّى بالألف واللام ـ «الناس» ـ خبر لمبتدأ محذوف تقديره «هم» ، لأن تقدير الكلام في نظره : «يا من هم الناس» (٢). وقد وجب حذف المبتدأ للتخفيف نظرا لأننا زدنا على حرف النداء «يا» كلمتين : «أيّ» و «هاء التنبيه».

__________________

(١) سواء اعتبر الاسم بعدها «نعتا» في حال كونه مشتقا ، أو «بدلا» في حال كونه جامدا ، فإنه معتبر في الاصطلاح النحوي «وصفا» ، لأن هذا اللفظ يطلق عليهما كليهما.

(٢) مغني اللبيب ، ٢ / ٤٢١.

٢٣

وعلى الرغم من تحفظاتنا على أسلوب النداء وضرورة إعادة النظر فيه (١) ، وإيماننا بأن المنادى في مثل «يا أيها الناس» هو كلمة «الناس» بالذات ، وبأن طبيعة اللغة شاءت بلوغه عن طريق «أيّها» (٢) ، إذ لا يعرف أنه ولي حرف النداء في الاستعمال منادى معرّف بالألف واللام من غير أن يؤتى بها ، إلّا في قولهم «يا الله» ، بوصل الهمزة وقطعها (٣) ، فأنه لا يمكننا موافقة الأخفش على موصولية «أيّ» لسببين :

الأول ـ أن الاسم الموصول مبهم بطبيعته ، لأنه لا يخصّ مسمى دون آخر. وأنت حين قلت «يا أيها الناس» توجّهت إلى جماعة بعينهم ـ في حال مخاطبتهم المباشرة ، كما في الاحتفالات والمواقف

__________________

(١) راجع في ذلك الفصل المتعلق بدراسة الجملة من كتابنا «المنطلقات التأسيسية والفنية إلى النحو العربي».

(٢) ليس من داع في رأينا لاعتبار «الهاء» للتنبيه ، لأن حرف النداء نفسه يتضمنه ، ولأنه لا يمكن أن يكون نداء بلا تنبيه.

(٣) جاء في هذا أنه جاز نداء هذا الاسم وفيه الالف واللام لأنهما لزمتاه ، إذ كانتا عوضا من همزة «إله» في الأصل ، فلما جاز ان تقول «يا إله» ، جاز ان تقول «يا الله». ابن الخشاب ، المرتجل ، ص ١٩٥.

٢٤

الخطابية ـ أو قصدت جنسهم ـ في حال مخاطبتهم غير المباشرة ، كما في المواعظ والإرشاد ـ فلا يعقل إذن أن تتوسل لمخاطبة من «تقصدهم» اسما مجمعا على أنه «مبهم».

الثاني ـ أن الاسم الموصول لا يكمل معناه بغير «صلة» ، وليس في قولك «الناس» ما يصل «أيّ» إلّا إذا قدّرت مبتدأ محذوفا : «هم» ، كما فعل الأخفش. (كان الأولى به تقدير «أنتم» على الأقل ، ما دام الأسلوب أسلوب نداء ، أي مخاطبة) وأنت بتقديرك هذا المبتدأ تكون إما قد قررت بأن من عنيتهم بقولك ، هم وحدهم الجديرون بأن يسموا «ناسا» ـ وليس ذلك هو المراد من قولك «يا أيها الناس» ـ وإما قد جعلت من تخاطبهم بمثابة «النكرة المقصودة بالنداء» ـ كما في قولك «يا غافلا تنبّه» ـ وهذا يتناقض بالطبع مع «توجهك» إلى أناس بعينهم ، أو إلى جميع الناس ، كما هو الأمر في الآيات القرآنية المتضمنة مثل هذه الصيغة.

بقي أن نقول إن الذي حمل الأخفش على

٢٥

اعتبار «أيّ» الندائية موصولة ، وتقدير مبتدأ محذوف في جملة الصلة ، هو قياسه إياها على «أيّ» في مثل «اكرم أيهم أفضل» التي اعتبرها معاصره سيبويه مبنية على الضم لأنه حذف من صلتها المبتدأ المقدّر بـ «هو» (التقدير : «اكرم أيهم هو أفضل» (١)). فما دامت «أي» في هذه الصيغة الأخيرة اسما موصولا حذف المبتدأ من صلته وبني على الضم ، وما دامت «أيّ» في صيغة النداء قد بنيت على الضم ، فلتكن إذن «اسما موصولا حذف المبتدأ من صلته». ولا يخفى على أريب ما في هذا القياس المنطقي من تعسف قائم على تشبيه وحدة كلامية (أيّ الموصولة) بوحدة كلامية أخرى (أيّ الندائية) لمجرّد تعادلهما في خصيصتين : البناء اللفظي ، والبناء على الضم.

* يرى الأخفش جواز حذف جواب الشرط أو تقديره ، ويضرب على ذلك مثلا : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ. فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً

__________________

(١) المرتجل ، ص ٣٠٨

٢٦

أَوْ رُكْباناً) [البقرة / ٢٣٨ ـ ٢٣٩]. ففي رأيه أن هناك جواب شرط محذوفا هو «صلّوا» ، وأن تأويل الآية : فإن خفتم فصلوا رجالا أو ركبانا. ومثال ذلك أيضا : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) [البقرة / ٢٨٢] وتقديره : «فإن لم يكونا رجلين فليكن من الشهداء رجل وامرأتان».

ويرى كذلك أنه قد يأتي في الكلام ما يدل على جواب الشرط في المعنى دون اللفظ كما في قوله (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) [البقرة / ١٠٣]. فالجزء الثاني من العبارة : (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) لا يصلح أن يكون جوابا للشرط ، لكنه يتضمّن معنى الجواب ، والتقدير «لأثيبوا». وعلى غراره جاء قوله : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [آل عمران / ١٥٧]. ففي قوله «لمغفرة» جواب للشرط متضمّن ، وهو على التقدير : «يغفر لكم ويرحمكم».

وقد يستغنى بجواب شرط واحد لشرطين اثنين ، كما في قوله : (مَنْ كَفَرَ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً

٢٧

فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [النحل / ١٠٦]. ففي زعمه أن (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ) جواب لـ (من شرح بالكفر صدرا) وأنه سدّ مسدّ الجواب لـ (من كفر بالله). ومثاله أيضا : ( ... إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ ...) [البقرة / ١٨٠]. فهو يرى أن (الوصية للوالدين) هي جواب لـ (إن ترك) على تقدير «الفاء» ، أيّ (فالوصية للوالدين) ، وقد سدّ هذا الجواب مسدّ جواب الشرط الأول (إذا حضر).

ونميل إلى الاعتقاد بأن ما حمل الأخفش على مثل هذه التقديرات كان انطلاقه من القاعدة الكلّية التي فرضتها مدرسته للجملة الشرطية ، وهي تقول بأن هذه الجملة مؤلفة من «أداة شرط+ فعل شرط+ جواب شرط» (غني عن البيان ما يستتبع القاعدة من تفريعات ، كوقوع فعلي الشرط والجواب مضارعين أو ماضيين ، أو مضارعا وماضيا ، أو ماضيا ومضارعا ، ووقوع الجواب جملة مربوطة بالفاء ، وغير ذلك) ، بعيدا عن استقراء هذا النوع من الجملة ـ ومن بينها النماذج القرآنية الواردة أعلاه ـ في الاستعمال

٢٨

اللغوي. فلقد كان الأولى بالنحاة أن يدرسوا الجملة الشرطية كما شاءتها اللغة العربية ، لا كما شاءوها هم. لقد فرضوا أنه إذا لم يقع جواب الشرط «فعلا» ، فلا بد أن يكون «جملة». وهكذا لم تكن الحال «رجالا» (وهي هنا بمعنى راجلين) ـ والأخرى «ركبانا» (وهي هنا بمعنى راكبين) ـ لتصلح جوابا للشرط في رأيهم ، على الرغم من تضمنها معنى الفعل وهو القيام للصلاة في حال الترجّل ـ أو في حال الركوب ـ فارهقوا طالب النحو وممارس الإعراب بتقدير «فعل» يكون الجواب ، مع أن الكلام واضح تام ومنسجم مع روح العربية في الميل إلى الإيجاز. ولا نظن أنه تجديف على اللغة وافتئات على قدسيتها أن يقال إن الحال «رجالا» هي جواب الشرط (فَإِنْ خِفْتُمْ) في الآية ٢٣٩ من البقرة.

أما بالنسبة إلى الآية ٢٨٢ من البقرة فلسنا ندري لم لا يكون التقدير «فإن لم يكونا رجلين فالمطلوب رجل وامرأتان» ـ أو ما شاكله ـ وعليه يكون المحذوف هو المبتدأ ويكون (رجل) خبره ، وتكون الجملة الاسمية قد حلّت محلّ جواب الشرط. فلماذا

٢٩

الإصرار على تقدير فعل (فليكن)؟ ثم ألا يكفي أن يقررّ الطالب أن جزء العبارة الأخير (فرجل ...) المرتبط بالفاء هو جواب الشرط؟ أم أن في هذا القول خرقا لمنطق النحاة المقدّس؟

وأما بالنسبة إلى الآية ١٠٣ من البقرة فلسنا ندري سببا لعدم صلاح الجملة الاسمية (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) لأن تكون جوابا للشرط إلا فرض النحاة أن يكون الجواب «فعلا» أو جملة مرتبطة بالفاء ، على الرغم من صراحة الاستعمال. ومن هنا كان طلب الأخفش من المعرب أن يقدّر فعلا متضمّنا في الجملة الاسمية ، هو (الأثيبوا). ولا عبرة في اعتراض معترض بأن (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) لا تشكّل جملة.

فهي ـ مهما قيل ـ جملة اسمية مؤلفة من مبتدأ (وقد أفادت النكرة «مثوبة» لوصفها بـ (مِنْ عِنْدِ اللهِ)) ، وخبر (هو (خَيْرٌ)) ، ارتبطت بـ «اللام» جوابا لأداة الشرط «لو».

وقل الشيء نفسه عن الآية ١٥٧ من آل عمران.

فجملة (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ خَيْرٌ) هي جواب الشرط. ولا عبرة بالاعتراض على عدم ارتباطها بالفاء ، لأنه

٣٠

ثقل ـ في رأينا ـ دخول الفاء على لام التوكيد في «لمغفرة» التي استجابت لأختها في «لئن» ووازتها لغرض إبلاغي ، فكان في ذلك غناء عن الفاء. ثم إن حذف الفاء قد صح في الاستعمال ، وأقرّه الأخفش نفسه في النص القرآني : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ) ـ كما رأينا أعلاه ـ وورد في الشعر في قول حسان بن ثابت :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشرّ بالشرّ عند الله مثلان

فقد جاء جواب الشرط «الله يشكرها» خلوا من فاء الربط.

وأما بالنسبة إلى الآية ١٨٠ من البقرة ففي رأينا أن الجملة المصدرة بـ «إذا» أو بـ «إن» تحتاج إلى جواب إذا جاءت في صدر الكلام كقولنا «إذا أردت الخير فاعمل له» أو «إن أردت الخير فعليك أن تسعى إليه» أو ما شابه ذلك. أما إذا اعترضت الجملة المصدرة بـ «إذا» في أثناء الكلام ، فإنها لا تعود جملة شرطية وتخلص «إذا» فيها للظرفية ـ بمعنى

٣١

«حين» ـ ولا تكون محتاجة إلى جواب. كذلك تسقط الحاجة إلى الجواب في الجملة المصدرة بـ «إن» إذا وقعت في أثناء الكلام ، كما في قولنا «عليك إذا أردت الخير أن تعمل له» أو «عليك إن أردت الخير أن تسعى إليه». وقل الشيء نفسه فيهما إذا وقعتا في آخر الكلام ، كما في قولنا «عليك أن تعمل للخير إذا أردته» أو «عليك أن تسعى إلى الخير إن أردته».

وإننا لنميل إلى موافقة النحاة الذين رأوا في «الوصية» نائب فاعل لـ «كتب» الواقع في أول الآية ، مع الذهاب إلى أن (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ *) قد تحوّلت عن الصيغة الشرطية إلى الصيغة الظرفية ، وأن «إن ترك خيرا» ليست بحاجة إلى جواب.

وأما فيما يتعلق بالآية ١٠٦ من النحل فإننا نميل إلى الاعتقاد بأن الأخفش لم يستقريء كلامها كما يجب أن يستقرأ. ففي رأينا أن (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ ...) واقعة جوابا لـ (مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) وحدها ، وأن (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ) الواقعة في صدر الآية ، بيان لـ «الكاذبين» في نهاية الآية السابقة (إِنَّما يَفْتَرِي

٣٢

الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) أو بدل منهم (١) وعلى هذا تكون «من» في صدر الآية اسما موصولا لا اسم شرط.

ثانيا ـ في العوامل والمعمولات :

مرّ بنا أن الأخفش منع الفصل بين الحال والعامل فيها (أي الفعل) إذا تقدمت عليه ، لأن الفصل بينهما يمنع العامل من العمل ، فلا يجوز في رأيه «راكبا زيد جاء». أما قولنا «راكبا جاء زيد» ، فليس ما يمنع عمل (جاء) النصب في الحال ـ بالرغم من تقدم المعمول على العامل ـ نظرا لا لتصاقهما من ناحية ، وقياسا ـ فيما نظن ـ على جواز تقدّم المنصوب الفضلة (أي المفعول به) على العامل فيه (أي الفعل) ، على أساس أن الحال فضلة ، وأنها والمفعول به سواء. (٢)

__________________

(١) إعراب القرآن ٢ / ٥٩٠ ـ ٥٩١.

(٢) كان من جملة ما احتج به البصريون على جواز تقديم الحال على العامل فيها قياسهم بأن العامل فيها (أي الفعل) متصرّف ، وأن عمله يجب أن يكون متصرفا ، وأنه إذا كان كذلك جاز تقديم معموله عليه مثل (عمرا ضرب زيد) ، والذي يدل على جواز تقديم الحال أنها تشبه بالمفعول ، وكما يجوز تقديم المفعول على الفعل ، فكذلك الحال. (الإنصاف المسألة ٣١).

٣٣

وإذا نحن جارينا الأخفش والنحاة في منطق القياس ، قلنا ان لا شيء يمنع المتكلم من أن يقول «خيرا زيد فعل» كما يقول «خيرا فعل زيد». ذلك أن منطق اللغة يبيح للمتكلم على ما نظن أن يستخدم أحد أساليب ثلاثة تبعا لاهتمامه وعنايته بكل جزء من أجزاء العبارة. فهو يستخدم الأسلوب الأول :

(فعل+ فاعل+ مفعول به)

إذا أراد مجرد الإخبار.

ويستخدم الأسلوب الثاني :

(مفعول به+ فعل+ فاعل)

إذا صب اهتمامه على الحدث (أي الفعل) بعد عنصر «الخير» الذي أولاه عنايته في الدرجة الأولى.

ويستخدم الأسلوب الثالث :

(مفعول به+ فاعل+ فعل) [نؤكد أن الاسم المتقدم على الفعل يظل فاعلا له رغم اعتراض النحاة على ذلك].

إذا وجّه عنايته إلى فاعل «الخير» بعد توجيهه إلى «الخير» نفسه.

وبناء على ما تقدم يبقى «القياس» صحيحا

٣٤

بالنسبة إلى «جاء زيد راكبا» لمجرد الإخبار عن الحال التي تم عليها مجيء زيد ، وإلى «راكبا جاء زيد» عند توجيه المتكلم عنايته واهتمامه إلى الحال التي تم عليها مجيء زيد ثم إلى الحدث بالذات (أي جاء) ، وإلى «راكبا زيد جاء» في حال قصده إلى إبراز عنايته بصاحب الحال (زيد) بعد صبّها على الحال نفسها في الدرجة الأولى ، لأن محدث الحدث (أو فاعل الفعل) أهمّ عنده من الحدث بالذات.

لكن مشكلتنا مع النحاة المتقدمين جميعا أنهم كانوا يرفضون أن يظل الفاعل «فاعلا» إذا هو تقدم على الفعل ـ حتى وإن كان هو الفاعل بالمعنى (١) ـ ويفرضون أن يصبح «مبتدأ». ومن هنا كان أن الذي منع الأخفش من إجازة صيغة «راكبا زيد جاء» ضرورة إعراب «زيد» مبتدأ ، والمبتدأ مرفوع بالإبتداء الذي هو «عامل معنوي» مفاده التعري عن كل لفظ ، أي عدم إمكان سبقه بأي كلام ، وأن ما قال به من عدم جواز الفصل بين

__________________

(١) راجع في هذا رأي ابن مضاء القرطبي في «كتاب الرد على النحاة» ، ص ١٠٣.

٣٥

الحال والعامل فيها بفاصل لأنه يمنع العمل ، ليس إلّا من قبيل التمويه المراد به ستر التمسك بالمنطق الآخر ، عنينا رفض أن يبقى الفاعل فاعلا إذا تقدم على الفعل.

* أورد الأخفش في «لا» النافية للجنس ـ أو «لا» التبرئة كما يسميها الكوفيون ـ رأيين :

الأول مفاده أنها مشبهة بالفعل ، وأن ما بعدها منصوب تشبيها له بالمفعول به ـ مقدّما طبعا ـ وأن خبرها رفع ، تشبيها له بالفاعل ـ مؤخرا طبعا.

والثاني مفاده أنها ركّبت واسمها فصارا بمنزلة اسم واحد ، ولذلك لم ينون الاسم بعدها ، لأن كل شيئين جعلتهما اسما لم يصرفا. وهكذا فإن الفتحة في الاسم بعدها هي لجميع الاسم بني عليها وجعل غير متمكن. أما الاسم بعدها ففي موضع نصب عملت فيه ، ولم يمنع هذا التركيب لـ «لا» واسمها أن تعمل الرفع في خبرها (١).

ومع أننا كنا نتمنى لو اقتصر الأخفش على

__________________

(١) همع الهوامع ، ١ / ١٤٦ ـ اعراب القرآن ، ١ / ١٧٤.

٣٦

الرأي الأول ، بالرغم مما فيه من تعنّت متمثل في تشبيه «لا» بالفعل و «منصوبها» بالمفعول ، و «مرفوعها» بالفاعل ـ إذ لا بد في منطق النحاة من أن يكون العامل الرفع والنصب «فعلا» (١) ـ نقول : مع أننا كنا نتمنى لو اقتصر الأخفش على الرأي الأول ، لا لشيء إلّا لأنه استبعد فكرة «البناء» في اسم «لا» ، فإننا لا نملك إلّا أن نستغرب الرأي الثاني الذي يجعل من «لا» واسمها «مركّبا» ، على غرار «خمسة عشر» مثلا ، ثم يظل الجزء الأول من هذا المركّب ـ وهو «لا» ـ عاملا الرفع في الخبر.

وربما تساءلنا كذلك عما إذا لم يخطر في بال الأخفش أن يقول بأن المركب من «لا» واسمها «مبتدأ» (أو في محل رفع مبتدأ ، كما هي الحال بالنسبة إلى «خمسة عشر» في قولنا «في الدار خمسة عشر شخصا») والمرفوع بعده خبر؟

ومهما يكن من أمر فإن تشبّث الأخفش بفكرة «العامل» منعه ولا شك من دراسة هذا التركيب (لا

__________________

(١) لا ننس ان عامل الرفع الآخر عامل معنوي هو الابتداء.

٣٧

+ منصوب+ مرفوع) دراسة وظيفية خاصة ، وأدى به إلى نتيجتين كلتاهما خاطئة ، وإن كانت الثانية أشد عسرا من الأولى.

* كان سيبويه يرى أن «المفعول معه» في مثل «جاء البرد والطيالسة» منصوب كانتصاب المفعول به ، أي أن عامل النصب فيه هو الفعل الذي في الجملة بواسطة الواو. وذهب الأخفش إلى أن الواو هيّأت الاسم بعدها لأن ينتصب انتصاب الظرف ، لأن أصل «جاء البرد والطيالسة» هو «جاء البرد مع الطيالسة» ، فلما حذفت «مع» وكانت منتصبة على الظرف ، وأقيمت «الواو» مقامها ، انتصب ما بعد هذه «الواو» على انتصاب «مع» التي وقعت «الواو» موقعها ، إذ لا يصح انتصاب الحروف ، كما يرتفع ما بعد «إلّا» الواقعة موقع «غير» بارتفاع «غير» ، نحو قوله (لَوْ) كانت (فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء / ٢٢] ، والأصل «غير الله» (١).

والحق أنه كان ينتظر من الأخفش ـ لو لا تمسكه بفكرة «العامل» ـ أن يعمد إلى المنهج

__________________

(١) همع الهوامع ، ١ / ٢٢٠.

٣٨

الوصفي الذي حاول استخدامه مرارا ، وأن يكتفي بالقول إن الاسم ينصب بعد «الواو» التي تفيد «المصاحبة» (١) ، بدلا من اللجوء إلى تأويلات يتجلى تعقيدها فيما يلي :

١ ـ اعتباره الاسم المنصوب بعد «الواو» شبيها بالظرف. فمعلوم أن «الظرف» ، اصطلاحا ، هو «المكان» أو «الزمان» الذي يتم فيه الحدث. وغني عن البيان أن كلمة «الطيالسة» في قولهم «جاء البرد والطيالسة» ـ أو «الخشبة» في قولهم «استوى الماء والخشبة» ، أو غير ذلك من أمثلة المفعول معه ـ لا تصلح لأن تكون ظرفا لمجيء البرد. وهذا ما دعا صاحب

__________________

(١) كثيرا ما كان يكتفي بالقول مثلا ان الجزم بعد «لا الناهية» جزم لأنه نهي ، وان «هلمّ» قد تكون للواحد وللاثنين وللجمع ، من غير ان يتعرض إلى أنها «اسم فعل» حوى معنى الفعل ، الخ ... كذلك فعل حتى بالنسبة إلى «المفعول معه» حين علق على قوله : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) [التوبة / ١٠٢] بأنه يجوز في العربية ان يكون «بآخر» كما تقول «استوى الماء والخشبة» ، أي «بالخشبة» ، و «خلطت الماء واللبن» أي «باللبن» [مخطوطة معاني القرآن ، ١٢٨ / بـ ، نقلا عن «منهج الاخفش الاوسط» ، ص ٢٢٢ / ٢٢٣]

٣٩

كتاب «الإنصاف» إلى الرد على الأخفش بأن انتصاب المفعول معه انتصاب «مع» ـ الظرفية ـ ضعيف ، لأن «مع» ظرف ، والمفعول معه في «استوى الماء والخشبة» ليس بظرف ولا يجوز أن يجعل منصوبا على الظرف (١).

٢ ـ عدّه «مع» التي أفادت «الواو» معناها في مثل «استوى الماء والخشبة» ظرفا ، مع أنه لا شيء فيها يدل على الظرفية. فقد جاء في تعريف «مع» الظرفية أنها تفيد معنى من ثلاثة :

«أحدها : موضع الاجتماع ، ولهذا يخبر بها عن الذوات نحو (والله معكم)»

«والثاني : زمانه ، نحو (جئتك مع العصر)».

«والثالث : مرادفة «عند» ، كالذي حكاه سيبويه من قولهم : (ذهبت من معه)» (٢).

٣ ـ إن قوله بانتصاب الاسم الواقع بعد «الواو» انتصاب الظرف يؤدي تلقائيا إلى نيابة هذا

__________________

(١) الانصاف ، المسألة ٣٠.

(٢) مغني اللبيب ، ١ / ٣٣٣.

٤٠