خطى متعثّرة على طريق تجديد النحو العربي

الدكتور عفيف دمشقيّة

خطى متعثّرة على طريق تجديد النحو العربي

المؤلف:

الدكتور عفيف دمشقيّة


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلم للملايين
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٠٣

بعطف «الكعب» بالخفض على «الهاء» في «بينها» (١).

ومما لا ريب فيه ان من شأن هذه الاجازة ان تيسّر على المتكلم أمره ، وتجعله بالخيار بين ان يكرر حرف الجر : (سلمت عليك وعلى زيد) ، (مررت بك وبزيد) ، الخ ... أو أن يستغني عن تكريره تخفيفا اذا أمن في عبارته اللبس : (سلمت عليك وزيد) ، (مررت بك وزيد) ، الخ ...

* يرى الكوفيون جواز العطف على الضمير المرفوع المتّصل او المستتر ، كأن يقال (قمت وزيد) ، و (قام وزيد) ـ برفع «زيد» فيهما ـ دون اللجوء الى توكيد الضمير المتّصل أو المستتر بضمير منفصل كما يشترط البصريون. ومن شواهدهم على جواز ذلك قول عمر بن ابي ربيعة :

قلت إذ اقبلت وزهر تهادى

كنعاج الملا تعسفن رملا

بعطف (زهر) بالرفع على الضمير المرفوع المستكنّ في (اقبلت). وقول جرير :

__________________

(١) الانصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٦٥.

١٨١

ورجا الاخيطل من سفاهة رأيه

ما لم يكن ، وأب له ، لينالا

بعطف (اب) بالرفع على الضمير المرفوع المستكنّ في (يكن) (١). وهناك الى جانب هذين البيتين بيت راعي الابل النميري :

فلمّا لحقنا والجياد عشيّة

دعوا يا لكلب فاعتزينا لعامر

بعطف (الجياد) بالرفع على (نا) في (لحقنا).

وهناك ايضا ما ورد في صحيح البخاري من قول عمر : (كنت وجار لي) ، بعطف (جار) بالرفع على (التاء) في (كنت) ، وقول عليّ : (كنت وابو بكر وعمر) ، بعطف (ابو) بالرفع على (التاء) في (كنت) ، وقوله في الآية ١٤٨ من سورة الانعام (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) ، بعطف (آباء) بالرفع على (نا) في (اشركنا).

وقد زعم البصريون ان الكلام في الآية طال بذكر (لا) ، ولو ان ذكرها جاء بعد حرف العطف ،

__________________

(١) الانصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٦٦.

١٨٢

فساغ ترك التوكيد بالضمير المنفصل. وكلام البصريين «كلام لا يقضى العجب منه ، ان يجدوا في كلام الله تعالى ـ وهو أفصح الكلام وادقّه رعاية للصحيح البالغ الغاية ـ دليلا يشهد لخصومهم فيتمحّلون ويتعللون» (١).

والواقع أنه لو درست مثل هذه التراكيب دراسة موضوعية وظيفية ، لتبيّن ان اللغة اباحت للمتكلم ثلاثة انماط من التعبير يتضمّن كل منها لطيفة معنوية ليست في الآخرين ، وهي :

١ ـ (خرجت وزيد) ، برفع «زيد». ويفيد هذا التركيب اشتراك المتكلم ـ التاء ـ والمعطوف ـ زيد ـ في الخروج ، مع تساويهما في المبادرة اليه.

٢ ـ (خرجت وزيدا) ، بنصب «زيد» ، بعد تحويله من الفاعلية الى المفعولية (يعرب «زيد» هنا مفعولا معه كما هو معروف). ويفيد هذا التركيب

__________________

(١) من تعليق لمحمد محيي الدين عبد الحميد في حاشية الصفحة ٤٧٦ من كتاب «الانصاف في مسائل الخلاف». وانظر في هذه المسألة ايضا همع الهوامع ٢ / ١٣٨ ـ ١٣٩.

١٨٣

كالسابق اشتراك المتكلم والمعطوف في الخروج ، لكنه يختلف عنه في ان فيه ظلا معنويا يوحي باحتمال انتفاء مبادرة «زيد» الشخصية الى الخروج ، ومطاوعته المتكلم فيه بغرض مصاحبته او بقصد ارضاء رغبته.

٣ ـ (خرجت انا وزيد) ، برفع «زيد» بعد الفصل بينه وبين «تاء المتكلم» بالضمير المنفصل «انا». ويفيد هذا التركيب الى جانب ما افاده السابقان من معنى الاشتراك في الخروج ، رغبة المتكلّم في توكيد قيامه بالعمل ـ وهو المعنى الاقرب الذي يمثّله الإعراب التقليدي في (أنا) ، اذ يعرب الضمير المنفصل «توكيدا» للضمير المتصل ـ ورغبته ايضا في التعبير عن نسبة المبادرة بالخروج الى نفسه ثم موافقة «زيد» عليها ، كما انه قد يفيد خوف المتكلم من أن تبهت شخصيته المكنّى عنها بـ (التاء) امام شخصية (زيد) المعبّر عنها بالعلمية ، وهو خوف لا يطامنه الا تلك ال (أنا) التي تضاهي اسم العلم في تحديد الهويّة الشخصية.

١٨٤

* ذهب الكوفيون إلى أن الاسم المفرد النكرة المنفي بـ (لا) ـ المقصود بها لا النافية للجنس ـ معرب منصوب بها ، نحو (لا رجل في الدار) (١). وقد وافقهم على ذلك من البصريين السيرافي (المتوفى عام ٣٦٨ ه‍) والزجّاج (المتوفى عام ٣١١ ه‍) ، فقالا بأن اسم (لا) غير العامل معرب ، وان ترك تنوينه للتخفيف (٢). واصرّ جمهور البصريين على ان اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب ، بحجة أن «أصل (لا رجل في الدار) هو (لا من رجل في الدار) ، لأنه جواب من قال : (هل من رجل في الدار؟). فلما حذفت (من) من اللفظ وركّبت اللفظة مع (لا) تضمّنت معنى الحرف فوجب ان تبنى. وانما بنيت على حركة لأنّ لها حالة تمكّن قبل البناء [المقصود ان الاسم كان قبل معربا ولذا بني على حركة لا على السكون] وبنيت على الفتح لأنه اخفّ الحركات». (٣)

واذا نحن ضربنا صفحا عن حجج البصريين لأنها من

__________________

(١) الانصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٥٣.

(٢) مغني اللبيب ١ / ٢٣٨

(٣) الانصاف في مسائل الخلاف ، ص ٣٦٧.

١٨٥

قبيل الغيبيات ولا تستند إلى اي سند علمي ، (اذ من ادرانا ان أصل (لا رجل في الدار)) هو (لا من رجل في الدار)؟ واذا كان الامر كذلك فلماذا لم تبح اللغة كلا النمطين؟ ولماذا تكون صيغة (لا رجل في الدار) جوابا لمن يسأل (هل من رجل في الدار؟). أفلا يحق للمتكلم ان يبادر بنفسه إلى الاخبار عن عدم وجود «رجل» في الدار دون ان يكون قد سئل عن ذلك؟) ، بادرنا إلى القول انه من الافضل والايسر على المعرب ـ ان لم يكن من الإعراب التقليدي بدّ ـ ان يجاهر بنصب اسم (لا) النافية للجنس كيفما وقع ، بدلا من أن يلجأ إلى التقعّر والتعقيد فيقول ببنائه على الفتح ، او على الياء (في حال التثنية او جمع المذكر السالم) ، أو على الألف (في حال كونه من الاسماء الخمسة) ، أو على الكسر بدلا من الفتح (في حال كونه جمعا مؤنثا سالما) ، وبنصبه محلا لأن (لا) تعمل النصب كما تعمله (إنّ).

ثم ان «اعراب» اسم (لا) النافية للجنس أعمّ واشمل من «بنائه» ، اذ هو معرب في نظر النحاة في الحالات التالية :

ـ اذا وليه مضاف إليه : (لا صاحب جود ممقوت).

١٨٦

ـ اذا كان اسم (لا) رافعا لما بعده : (لا حسنا فعله مذموم).

ـ اذا كان اسم (لا) ناصبا لما بعده : لا طالعا جبلا حاضر).

ـ اذا كان اسم (لا) شبيها بالمضاف : (لا خيرا من زيد عندنا) (١).

وهناك اكثر من دليل على «اعراب» اسم (لا) النافية للجنس اذا كان مفردا (٢)

ـ اذا وصف اسم (لا) فالمتكلّم بالخيار في ان ينصب الصفة وينوّنها على الاصل ـ وهو الوجه ـ فيقول (لا رجل ظريفا عندك) ، او لا ينوّنها فيقول : (لا رجل ظريف عندك) (٣).

ـ اذا عطف على اسم (لا) اسم دون تكرار (لا) ،

__________________

(١) مغني اللبيب ١ / ٢٣٧.

(٢) ابن الخشاب ، المرتجل ، ص ١٨٠ ـ ١٨١.

(٣) هذا إلى جانب اجازة النحويين رفع الصفة منوّنة فيقال (لا رجل ظريف عندك) وهو رأي قابل للنقاش في غير هذا الموضع.

١٨٧

نصب هذا الاسم ، فتقول : (لا رجل وغلاما في الدار). (١)

ـ اذا عطف على اسم (لا) اسم مع تكرار (لا) ، كان المتكلم بالخيار في ان ينوّن المعطوف او لا ينوّنه ، فيقول : (لا رجل ولا امرأة في الدار) ، أو (لا رجل ولا امرأة في الدار) (٢).

وبعد ، أليس من التعسّف الذي لا مسوّغ له الاصرار على بناء اسم (لا) النافية للجنس واكراه المعرب على القول بأنه «مبني» في محل «نصب»؟

* اجاز الكوفيون تقديم اداة الاستثناء إلى اول الكلام ، فيقال : (إلّا طعامك ما أكل زيد) ، (٣) مستندين إلى عدّة شواهد منها قول العجاج بن رؤبة :

__________________

(١) هذا إلى جانب اجازة النحويين رفع المعطوف منونا ، فيقال (لا جل وغلام في الدار) وهو رأي قابل للنقاش في غير هذا الموضع.

(٢) هذا إلى جانب اجازة النحويين رفع المعطوف منونا ، فيقال (لا رجل ولا امرأة في الدار) وهو رأي قابل للنقاش في غير هذا الموضع.

(٣) الانصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٣٦.

١٨٨

وبلدة ليس بها طوريّ (١)

ولا خلا الجنّ بها إنسيّ

وقول الكميت :

فما لي إلّا آل احمد شيعة

وما لي إلّا مشعب الحقّ مشعب (٢)

وقول كعب بن مالك :

الناس ألب علينا فليس لنا

إلّا السيوف واطراف القنا وزر

وهناك إلى جانب شواهد الكوفيين هذه شواهد اخرى مثل قول حسان بن ثابت :

لأنّهم يرجون منه شفاعة

اذا لم يكن إلّا النبيّون (٣) شافع

وقول الاعشى :

__________________

(١) المقصود بـ «ليس بها طوري» انه ليس بها أحد.

(٢) مشعب الحق : طريقه.

(٣) ضبطت «النبيين» بالنصب في ديوان حسان (طبعة صادر ١٩٦١ م) ، لان العرب حين تقدم المستثنى على المستثنى منه تنصبه. واذا ـ ـ

١٨٩

خلا الله لا أرجو سواك وإنما

أعدّ عيالي شعبة من عيالكا

والحقّ أن لهذه الاجازة النابعة من صميم الاستعمال اللغوي قيمتها الابلاغية إلى جانب النمط الآخر الذي وافق عليه البصريون ، عنينا تقديم المستثنى منه في الكلام المنفيّ ، كما في (ما جاءني إلا زيدا احد) ، مع السماح ـ على مضض ـ برفع (زيد) على البدلية ، اذ هم يذهبون إلى أن رفعه جائز عند بعض العرب ، و «إن كانت اللغة الفصيحة العالية النصب» (١). فلا ريب ان في تقديم اداة الاستثناء والمستثنى منه على المستثنى من المفاجأة للمخاطب ، ولفت انتباهه ، وشدّه إلى العبارة ، الشيء الكثير. وما منعه من قبل البصريين ، على الرغم من تعدّد الشواهد على صحته في الاستعمال ، إلا تزمّت فرضه مبدأ «العامل» الذي لا يجيز ـ منطقيا ـ تقديم المعمول (لا ننس ان المستثنى مفعول للفعل المذكور في الجملة) على العامل الذي نصبه ، اي الفعل.

__________________

صحت رواية الرفع في «النبيين» ، كان ذلك على الاتباع ، اي على البدلية من المستثنى منه ، اي «شافع» ، مع تقديم البدل على المبدل منه ، وهو ما لا يجيزه الكوفيون.

(١) الانصاف في مسائل الخلاف ١ / ٢٧٧

١٩٠

* اجاز بعض الكوفيين تقديم التمييز على الفعل اذا كان متصرّفا ، فيقال : (عرقا تصبّب زيد) و (شحما تفقّأ الكبش) ، بدليل قول الشاعر : (١)

أتهجر سلمى بالعراق حبيبها

وما كان نفسا بالفراق تطيب (٢)

والبصريون ـ ما خلا المازني (المتوفى عام ٢٤٨ ه‍ ـ) والمبرد (المتوفى عام ٢٨٥ ه‍) ـ يمنعون ذلك بحجة ان التمييز في مثل هذه الصيغ فاعل بالمعنى (اي ان الاصل في «تصبّب زيد

__________________

(١) نسب إلى المخبّل السعدي ، ربيع بن ربيعة بن مالك ، كما نسب إلى اعشى همدان ، عبد الرحمن بن عبد الله. اما ابن سيده فقد نسبه في كتابه «المخصص» إلى قيس بن معاذ المعروف بمجنون ليلى.

(٢) الانصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ١٢٠. ويروي البصريون هذا البيت :

«وما كان نفسي بالفراق تطيب».

وهناك إلى جانب البيت المذكور ، بيت ربيعة بن مقروم الضبّي :

رددت بمثل السيد نهد مقلّص

كميش اذا عطفاه ماء تحلّبا

بتقديم التمييز (ماء) على الفعل (نحلبا). وانظر في هذا امالي ابن الشجري ، ج ١ ، ص ٣٣ وما بعدها.

١٩١

عرقا» هو «تصبّب عرق زيد») ولا يجوز تقدّم الفاعل على فعله.

وفي اعتقادنا ان لا شيء يمنع تقديم التمييز في مثل الصيغة التي اجازها الكوفيون اذا احسّ المتكلم رغبة في ابرازه لقصد ابلاغي ، ولا سيما أن في الاستعمال اللغوي ما يؤيده ويدعمه.

* لعلّ من أعجب ما ذهب إليه البصريون اهمالهم إعراب ما سمّوه «ضمير الفصل» في مثل (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ) [الانفال / ٣٢] ، و (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) [المائدة / ١١٧] ، و (لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) [آل عمران / ١٨٠] ، و (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) [الكهف / ٣٩] ، مع حرصهم على ملاحقة «الإعراب» في ادق اجزاء الجملة ، ولجوئهم إلى التقدير والتأويل حين يستعصي عليهم ، وعلى الرغم من اعترافهم بأن «ضمير الفصل» هذا «يفيد ضربا من التوكيد». (١)

__________________

(١) المفصّل ، ص ١٣٣. واننا لنستغرب لماذا لا يعربون هذا الضمير توكيدا ، فيكون في مثل «زيد هو الظريف» توكيدا لـ «زيد» ، وفي مثل ـ

١٩٢

وقد ذهب الكوفيون الى ان هذا الضمير «عماد» ، اي أنه ركن اساسي من اركان الجملة. ولا يعني هذا بالطبع انهم ينكرون قراءة الآيات المتضمّنة «ضمير الفصل» كما هو المشهور في قراءتنا اليوم. لكنهم ، باستنادهم الى السماع عن كثير من العرب ممن يجعلون هذا الضمير مبتدأ ، وما بعده مبنيا عليه ، كأن يقول العجّاج بن رؤبة (اظن زيدا هو خير منك) ، وكأن تقرأ الآية ٧٦ من سورة الزخرف «وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمون» ، والآية ٣٩ من سورة الكهف (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ ...)(١) ، ازالوا عن المتكلم القسر البصري المتمثل في ضرورة نصب ما بعد ضمير الفصل في الجمل الاسمية الداخل عليها «كان» وما يعمل عملها من النواسخ ، وجعلوه بالخيار في ان ينصب او يرفع حسبما يمليه مزاجه. ومن هنا كان لنا قول ابي نواس :

وداوني بالتي كانت هي الداء.

* فيما ذهب البصريون الى أن الاسم الواقع بين اداة

__________________

(كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) توكيدا للتاء في «كنت» ، وهلم جرا.

(١) المفصل ، ص ١٣٣.

١٩٣

الشرط وفعله في مثل (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً) [النساء / ١٢٨] ، و (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) [التوبة / ٦] ، و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق / ١] مرفوع بفعل محذوف يفسره الفعل المذكور (اي أنّ «امرأة» فاعل لـ «خافت» محذوف ، والتقدير «وإن خافت امرأة خافت») ، قال الكوفيون بأن مثل هذا الاسم مرفوع بما عاد اليه من غير تقدير فعل ، لان المكنّي المرفوع في الفعل ، (اي الضمير المستتر الذي يذهب النحاة الى اعرابه فاعلا للفعل) هو الاسم الاول (١) ، (اي ان الضمير «هي» المقدّر فاعلا لـ «خافت» هو نفسه «امرأة») ، الأمر الذي حدا بابن هشام الى القول : «واجاز الكوفيون ان يكون فاعلا للفعل المذكور على التقديم والتأخير» (٢) ، وحمل ابن مضاء القرطبي على القول في مثل (زيد قام) انه ليس من داع يدعو الى تقدير ضمير في (قام) إلا قول النحويين : الفاعل لا يتقدم ، ولا بد للفعل من فاعل ؛ وأنه إذا قيل (زيد قام) ودلّ لفظ (قام) على الفاعل

__________________

(١) الانصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٨٥.

(٢) مغني اللبيب ٢ / ٥٨١.

١٩٤

دلالة قصد فلا يحتاج الى أن يضمر شيء ، لأنه زيادة لا فائدة فيها (١).

ولقد اثبت السيوطي للكوفيين إجازة تقديم الفاعل على الفعل حين قال : «وجوّز الكوفية تقديمه ، نحو (زيد قام) ، مستدلّين بنحو قوله (ما للجمال مشيها وئيدا؟) ، اي (وئيد مشيها)» (٢).

وكم كنا نودّ لو أن الكوفيين كسروا طوق «العوامل والمعمولات» فأعادوا النظر في دراسة الجملة وجاهروا صراحة بان مثل (زيد قام) داخل في باب الجملة الفعلية. فالحق انه ليس في ما وصل الينا من كتب اللغة ما يجزم بذلك ، وانما هي اشارات عابرة الى تجويزهم تقديم الفاعل على الفعل ، كما يستدل من قول السيوطي اعلاه.

كما كنا نودّ لو انهم كانوا اكثر جرأة فلم يحصروا

__________________

(١) كتاب الرد على النحاة ، ص ١٠٣.

(٢) همع الهوامع ١ / ١٥٩. وقد نسب ابن هشام البيت الى الزبّاء ، وتمامه : اجندلا يحملن ام جديدا. وشاهد الكوفيين فيه ان «مشيها» وهو فاعل للصفة المشبهة «وئيد» قد قدّم عليها. اما البصريون فذهبوا الى ان «مشيها» مبتدأ حذف خبره وبقي معمول الخبر ، اي «مشيها يكون وئيدا» او ما شاكله.

١٩٥

جواز تقدّم الفاعل على الفعل في الجملة الشرطية المصدّرة بـ «إن» وحدها لأنها «الاصل في باب الجزاء دون غيرها من الاسماء والظروف التي يجازى بها» (١) ، على ان يكون فعل الشرط ماضيا ، كما في (ان زيد اتاني آته).

فلقد ورد في الاستعمال ما يخالف هذا كله. قال عديّ بن زيد :

فمتى واغل ينبهم يحيّو

ه وتعطف عليه كأس الساقي (٢)

وقال كعب بن جعيل بن قمير بن عجرة احد بني تغلب (٣) :

صعدة نابتة في حائر

أينما الريح تميّلها تمل (٤)

__________________

(١) الانصاف في مسائل الخلاف ، ص ٦١٦.

(٢) الواغل : الداخل. ينوبهم : يطرقهم ، يدخل عليهم.

(٣) شاعر اسلامي كان في عهد معاوية بن ابي سفيان.

(٤) الصعدة : القناة. الحائر : القرارة من الارض يستقر فيها السيل فيتحيّر ماؤه ، اي يستدير ولا يجري قدما. وهذا البيت وسابقه من شواهد سيبويه ، (الكتاب ، ج ٣ ، ص ١١٣).

١٩٦

مع العلم ان لا عبرة بقول من قال : «فهو ضعيف في الكلام ، لأنّه قدّر الفعل بعد «متى» و «أينما» و «من» ، وهي فرع على «إن» ، ولأنه فعل مضارع يظهر فيه عمل حرف الجزم ، وذلك ضعيف في «إن» في الكلام ، فانما يجوز في الشعر ، واذا كان ذلك ضعيفا في «إن» وهي الاصل ، ففيما هو فرع عليه أولى ، ولو كان فعلا ماضيا لكان في هذه المواضع اسهل» (١) ، إلا اذا كان «الشعر» ليس «كلاما» ، وهذا لعمر الحق منتهى العنت.

__________________

(١) الانصاف في مسائل الخلاف ، ص ٦١٩.

١٩٧

خاتمة

وبعد ، فلقد ضرب الأخفش الأوسط والكوفيون بسهم في محاولة لمسايرة روح اللغة واستقرائها استقراء وصفيا بما ملكت ايديهم من مقاييس العصر. وقد كان من الممكن أن تأتي محاولتهم تلك أجدى على العربية مما أتت ، لو أنهم نفضوا عنهم إلى غير رجعة نير المنطق ، وكسروا إلى الأبد طوق الاقيسة العقلية.

فلئن كانت اقيسة البصريين النظرية البحت قد الجأتهم في كثير من الأحيان إلى التأويل والتقدير بشكل صارخ ، وحملتهم على رفض كثير من الشواهد العربية الصحيحة ، فإن الأخفش والكوفيين لم يستطيعوا ـ على ما في مذهبهم من محاولة للبعد عن التكلف ـ أن يتخلصوا نهائيا من التأويل والتقدير ، بل لربما وقعوا فيهما أحيانا بشرّ مما وقع فيه البصريون. كما أن تسامحهم في كثير من الشواهد

١٩٨

التي ربما سيقت إليهم من بقايا لهجة قديمة ، أو من مستوى غير مستوى اللغة النموذجية ، وتجويزهم في الظاهرة اللغوية الواحدة اكثر من وجه أحيانا ، من شأنهما الايقاع في الاضطراب والفوضى والانحراف عن الهدف المنشود في رسم ضوابط اللغة.

واننا لنذكّر بأنه لا يهمنا في كثير أو قليل أن يبهر صنيع البصريين بعض المشتغلين بأمور العربية ، لأنه «ينبغي أن نعرف أن المدرسة البصرية حين نحّت الشواذ عن قواعدها ، لم تحذفها ولم تسقطها ، بل أثبتتها ، أو على الأقل اثبتت جمهورها ، نافذة في كثير منها إلى تأويلها ، حتى تنحّي عن قواعدها ما قد يتبادر إلى بعض الأذهان من أن خللا يشوبها ، وحتى لا يغمض الوجه الصحيح في النطق على أوساط المتعلمين ، إذ قد يظنون الشاذ صحيحا مستقيما ، فينطقون به ويتركون المطّرد في لغة العرب الفصيحة وتصاريف عباراتهم وألفاظهم» (١) ، وان ينظر إلى صنيع الكوفيين على أنه «يعرّض الالسنة للبلبلة ، لما يعترضها من تلك القواعد التي قد تخنق القواعد

__________________

(١) المدارس النحوية ، ص ١٦٢.

١٩٩

العامة. وقد ينجذب إليها بعض من لم يفقه الفرق بين القاعدة الدائرة على كثرة الأفواه ، بل على كثيرها الأكثر ، والقاعدة التي لم يرد فيها الا شاهد واحد ، مما قد يؤول إلى اضطراب شديد في الألسنة» (١) ، ولا يهمنا أن يطعن بعضهم على البصريين تشددهم في النقل والقياس ، وأن يحمد للكوفيين أنهم كانوا أدق من البصريين في فقه طبيعة العربية.

نقول إنه لا يهمنا كل ذلك ، لأن الهدف من دراستنا إنما كان ولا يزال البحث عن أفضل الطرق لتيسير النحو على طلابه من أبناء العروبة وغيرهم. ولقد كان في موقف الأخفش والكوفيين شيء من تطلع إلى التجديد ارادوا التعبير عنه بمقاييس عصرهم فحالفهم الصواب في أمور ، وجانبهم في أخرى. ولعل من الممكن اتخاذ بعض ما التمع في ثنايا بحثهم نقاط انطلاق تساعد على تحقيق هدفنا الأخير ، وهو بالضبط ما حاولنا الكشف عنه في أثناء هذا الكتاب ، بعيدا عن أية غاية أخرى.

__________________

(١) المدارس النحوية ، ص ١٦٢.

٢٠٠