خطى متعثّرة على طريق تجديد النحو العربي

الدكتور عفيف دمشقيّة

خطى متعثّرة على طريق تجديد النحو العربي

المؤلف:

الدكتور عفيف دمشقيّة


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلم للملايين
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٠٣

هذه القضايا من أن نبدأ بها من البداية فنقول بأن اجازة التراكيب الواردة اعلاه لا يسوّغها سوى ميكانيكية الاعراب التي نظرت الى «زيد» في الصيغ الخمس الاولى على أنه مبتدأ ، والى ما يتقدمه من كلام على انه الخبر ، والى انه ما دام اللبس مأمونا ، وما دام ليس فيها ايّ من الشروط التي اشتراطها النحاة لوجوب تقديم المبتدأ ، فلا شيء يمنع من النطق بها قياسا على (تميمي أنا) و (مشنوء من يشنؤك).

ونميل الى الاعتقاد بأن القياس على الصيغتين الاخيرتين قياس مبتسر للاسباب التالية

١ ـ ان قياس «زيد» على «انا» والمقابلة بينهما لمجرد أن كليهما «معرفتان» ، قياس خاطيء في مثل (تميمي أنا) و (تميمي زيد). فضمير المتكلم ، على خصوصيته بالنسبة الى من يمثّل ، فيه من التعميم ما ليس في زيد ، لأن الاول قد يدلّ على كل انسان ، بينما لا يدل الثاني الا على شخص بعينه. و (تميمي) ، على الرغم من تنكيره في اللفظ ، اكثر خصوصية من (أنا) لأنه يحدد انتماء وهوية معيّنين ، بل هو اكثر شهرة من ذلك الذي يعود اليه الضمير ، على الرغم من تعريفه في

١٦١

اللفظ. ولهذا يبدو لنا أن تقديم (تميمي) للعناية والابراز ، وبقصد ابلاغي صرف ، صالح في الصيغة الاولى التي يشعر معها المتكلم بذوبانه في القبيلة وبسند لهويته التي تحددها هذه القبيلة ، بينما هو غير ممكن بالنسبة الى المتكلم الذي يريد ان ينسب زيدا الى تلك القبيلة ويذيبه فيها ، الا اذا استخدم عنصرا آخر من عناصر الكلام يؤكد غرضه ، فيقول : (تميمي هو زيد).

٢ ـ لو حاولنا اعادة صيغة (مشنوء من يشنؤك) الى تركيبها الذي افترض النحاة انه الاصل ، لتعذر ان نجده بغير هذه الصيغة (من يشنؤك فهو مشنوء). وهنا تغدو (من) في المفهوم النحوي التقليدي اسما موصولا متضمنا معنى الشرط كما في مثالهم (الذي يأتيني فله درهم) او (الذي يفعل هذا فهو ظالم) ، ويكون تقديم الجزء الثاني من العبارة كتقديمه في مثل (انت ظالم إن فعلت).

٣ ـ إنّ للصيغتين المقيس عليهما اطارا نصّيا خاصا تدوران فيه ، ولا يمكن أن تؤخذا كما هما وتجعلا ميزانا او انموذجا يصلح أن يصاغ عليه

١٦٢

كل نص لغوي مشابه. فالاولى لا يمكن ان تكون وردت على لسان عربي لمجرد الاخبار ، والا لكان اوردها بصيغتها الطبيعية فيما لو سئل مثلا (من انت؟) او (من تكون؟) ، ولكان قال (انا تميمي) او اكتفى بـ (تميمي) وحدها. ولعله حين قالها كان في موقف مفاخرة : (تميمي أنا ، فمن تظن نفسك لتفاخرني) ، او دفاع عن شرف (تميمي انا فاسأل عن مآثرنا) الخ ... والثانية لا يمكن ان تكون وردت هكذا دون مقدّمات ، من مثل شكوى احدهم من شنآن قوم وحماسة سامعه للدفاع عنه ، او استنكاره ذلك الشنآن يصيب انسانا ارفع من أن يتجرأ على مقامه ، او غير ذلك من المواقف.

٤ ـ ان صيغة (قائم زيد) مقبولة من حيث اطارها الابلاغي شرط ان يرافقها مناخ لغوي معيّن من مثل (قائم زيد يذود عن حوضه) او (قائم زيد بما عهد اليه فلا تقلق) أو غير ذلك. اما ان نجيز هذه الصيغة مثلا جوابا لسؤال سائل : (من قائم؟) ، او لمجرد الاخبار عن قيام زيد ، فأمر ليس له ما يسوّغه.

١٦٣

٥ ـ ان القياس على (تميمي انا) و (مشنوء من يشنؤك) يعود الى احد المنطلقات التأسيسية الخاطئة الى تقعيد النحو ، عنينا الخلط بين مستوى اللغة المحكية واللغة الادبية النموذجية ، او اخذ المحفوظ كالامثال لقياس ما يمكن أن يشبهه في غير مقامه.

٦ ـ ان اعتبار «زيد» في (قائم ابوه زيد) و (قام أبوه زيد) مبتدأ لا يقرّه سوى منطق الإعراب وميكانيكيته. فلو نظرنا الى الجزء الاول من العبارة في كل من الصيغتين ، لوجدناه يشكل بنفسه وحدة كلامية صالحة للاخبار بنفسها ، كأن يسأل مثلا (من قائم باعباء الاسرة؟ زيد ام أبوه؟) او (من قام؟ زيد ام أبوه) فيجاب عن الاول بـ (قائم ابوه) وعن الثاني بـ (قام أبوه). ثم لكي يؤكد المجيب نسبة الأب إلى زيد ، يلجأ إلى ذكره بعد الجواب. وعلى هذا ينتفي ان يكون (زيد) مبتدأ وأن يكون ما قبله خبره لمجرد أن اصل العبارة كان (زيد قائم ـ او قام ـ ابوه). اما اذا نطق المتكلم بهما من غير أن يكون القصد

١٦٤

منهما الاجابة عن سؤال ، فلا بد ان يرافقهما كلام آخر ، ويصبح (زيد) حينئذ من قبيل التوكيد معترضا في الكلام ، كأن يقول مثلا (قائم ابوه ـ زيد ـ فلا تقلق ...) او (قائم ابوه ـ زيد ـ فاكرم بذاك قياما ...) ، إلى ما لا نهاية من الصيغ الممكنة.

٧ ـ ان ما قلناه اعلاه بصدد (قائم ابوه ـ او قام ابوه ـ زيد) ينطبق كذلك على (ضربته زيد) ، وعلى (في داره زيد) وليس من قبيل تقديم خبر المبتدأ عليه لمجرد أن اصل العبارة (زيد ضربته) ، او (زيد في داره)

٨ ـ ان صيغة مثل (في داره قيام زيد) ليست من قبيل تقديم الخبر على المبتدأ ، وان اصلها (قيام زيد في داره) ، وانما سئل مثلا (اين تمّ قيام زيد) فأجيب (في داره) ثم شعر المتكلم بالحاجة الى التوكيد فأضاف (قيام زيد). واما صيغة (في داره عبد زيد) فلا يسوّغها سوى القياس على (في داره قيام زيد) باعتبار ان (عبدا) ، وهو اسم ، قد حل في الاولى مكان (قيام) ، وهو اسم ايضا ، في

١٦٥

الثانية ، مع تجاهل ما في (في داره عبد زيد) من امكان اللبس في ارجاع الضمير في (دار) إلى (العبد) أو إلى (زيد) ، هذا اللبس الذي ترفعه الصيغة التي انطلق منها النحاة ، عنينا (عبد زيد في داره) ، باعتبار عودة الضمير إلى اقرب اسم في العبارة وهو (زيد).

٩ ـ اذا امعنّا النظر في الصيغتين الاخيرتين : (زيدا أبوه ضرب) و (زيدا ابوه ضارب) وجدنا انهما تنتميان إلى ما حدّده السيوطي بقوله : «او المبتدأ مشتمل على ضمير ملابس الخبر». وهنا يكون (ابوه) هو المبتدأ في الصيغتين ويكون الخبر في موضعه الطبيعي ، ويكون المقدّم معمول الخبر وحده وهو (زيد). وهنا لا بدّ من السؤال عما اذا كان اصل الصيغتين في عرف النحاة : (أبوه ضرب زيدا) و (ابوه ضارب زيدا) ، وعمّا اذا كان من الممكن اعتبار لفظة (اب) مبتدأ لغير أنها اضيفت إلى الضمير فأصبحت معرفة ، وعما اذا كانت العربية تسيغ ذكر الضمير قبل ذكر من يعود عليه ، ولا سيما ان الضمير الواقع مضافا إليه

١٦٦

في العبارة ـ حسب منطق الإعراب التقليدي ـ قد عاد إلى اسم واقع مفعولا به للفعل تارة ، ولاسم الفاعل تارة اخرى؟ الحق اننا نقف حيارى تجاه هاتين الصيغتين ، ولا نجد لهما ما يسوّغهما سوى ان تكونا من قبيل ما ذهبنا اليه اعلاه ، اي جوابا على سؤال (من ضرب زيدا؟) او (من ضارب زيدا؟) بالقول في المرتين (ابوه) واضافة ما تبقّى للتوكيد بعد شيء من التوقّف ، وهذا لا يكون في رأينا الاعلى مستوى الكلام المحكي.

والآن بعد أن فرغنا من مناقشة الصيغ المذكورة ، نعود إلى موقف الكوفيين منها فنحمد لهم أولا رفضهم أكثرها ، وان بدا لنا أنهم لم يحاولوا دراستها دراسة موضوعية وابداء الأسباب الجوهرية التي حملتهم على الرفض. ثم نأتي إلى الصيغتين المقبولتين عند جمهورهم وهما : (في داره زيد) و (زيدا أبوه ضارب) ، فنجد أن تسويغهم اياهما لم يخرج عن نطاق المنطق الرياضي البحت ، بغضّ النظر عن روح اللغة التي كان من الممكن أن يستوحوها وحدها. فقد جاء في تسويغ الصيغة الأولى أن :

١٦٧

«الضمير في قولك (في داره زيد) غير معتمد عليه. ألا ترى أن المقصود (في الدار زيد) ، وحصل هذا الضمير بالعرض؟».

والحق أننا لا نعرف كيف حصل هذا الضمير بالعرض ، ولا كيف جاء به المتكلم وهو يقصد (في الدار) ، ولا الداعي إلى حصوله عرضا ما دامت اللغة توفّر للمتكلم ان يقول (في الدار). لا ريب في أنها المعادلة الرياضية التي تجعل من الاسم النكرة مضافا إلى الضمير مساويا للاسم المعرّف بـ (ال) ، أي أن (دار+ ٥) ـ (الدار).

وجاء في تسويغ الصيغة الثانية أن :

«الأصل الاخبار بالمفرد ، وان الاخبار بالفعل خلاف الاصل ، فكأن المبتدأ بالنسبة إليه اجنبي فلا يفصل به بين الفعل ومنصوبه ، بخلاف اسم الفاعل).

وهنا لا بد من تسجيل الملاحظات التالية :

١ ـ إن القول بأن الأصل الاخبار بالمفرد لا يرتكز إلى أي سند علمي ، ما دام المتكلم بالخيار في ان يخبر عما ابتدأ به كلامه بما شاء من وحدات كلامية ، مدفوعا بعوامل عدة ، منها انفعاليته ، والموقف

١٦٨

الذي يملي عليه صيغة النص ، والشعور بضرورة الاختصار أو بضرورة الاسترسال ، وغير ذلك من العوامل. ولا نحسب هذا الحكم الذي أطلقه النحاة إلا من باب وصايتهم على اللغة وجزمهم بأن العرب إنما قالت كذا ، وانما اختارت كذا ، الخ ...

٢ إن القول باجنبية المبتدأ عن الخبر الواقع فعلا ، مصدره في اعتقادنا حكمهم بترافع كل من المبتدأ والخبر ، وعجز المبتدأ عن العمل في الخبر الفعل. ولو لم يكن هذا لوجدوا أن الخبر ملازم للمبتدأ ملازمة عضوية ، مهما كان نوع ذلك الخبر.

٣ ـ إننا لنستغرب ان يرى الكوفيون في المفرد أصلا للاخبار ولا يروا في الفعل أصلا لنصب المفعول به وفي اسم الفاعل فرعا عليه ، إلا أن يكونوا صدروا في ذلك عن تقسيم الفراء للأفعال الذي يطلق على اسم الفاعل تعريف «الفعل الدائم». لكن هذا نفسه يسقط حين نشتم من كلامهم ان لفظ «ضارب» مساو لأي خبر مفرد آخر.

٤ ـ إن قولهم بأنه لا يفصل بالمبتدأ بين الفعل ومنصوبه ، بينما يجوز الفصل به بين اسم الفاعل

١٦٩

ومنصوبه لا يرتكز في رأينا إلى أي سند علمي ، ولا نحسبه إلا من قبيل الأحكام المبنية على الهوى.

بقي أن نقول إننا لا نرى الدافع إلى استخدام المتكلم مثل (زيدا أبوه ضارب) ـ إذا غضضنا النظر عن إجازة هشام بن معاوية الضرير (زيدا أبوه ضرب) ـ وليس فيه أي غرض ابلاغي ، إن لم نقل إن فيه من المعاظلة ما يتنافى والذوق السليم وينبو عن السليقة اللغوية الأصيلة. كما اننا لا نرى بأن إجازة الكسائي كفيلة وحدها أن تحمل المتكلم على استخدام مثل ذلك التركيب ، حتى وإن كان في نفسه من الاجلال للنحوي الكوفي ما لا يوصف.

* المعروف أن «كلا» و «كلتا» قد وضعا في اللغة مضافين إلى معرفة دالّة على اثنين بالحقيقة والاشتراك ، كما في (كلانا نعرف الحقيقة) ، ليعبر بهما المتكلم عن توكيد ما يخبر عنه ، سواء تقدّما ـ كما هي الحال في المثالين المذكورين ـ أو تأخّرا وأضيفا إلى ضمير الاثنين ، كما في (جاء الرجلان كلاهما) ، أو (جاءت المرأتان كلتاهما).

١٧٠

وإذا نحن ضربنا صفحا عن إجازة الكوفيين اضافة «كلا» و «كلتا» إلى النكرة المختصة ، فيقال مثلا (كلا رجلين عندك محسنان) ـ لأن «رجلين» قد تخصصا بالوصف بالظرف «عند» ـ قياسا على ما سمع من قول العرب (كلتا جارتين عندك مقطوعة يدها) ـ أي تاركة للغزل ـ فإننا لا نملك إلا أن نعجب لاجازة ابي بكر محمد بن القاسم بن الأنباري (المتوفى عام ٣٢٨ ه‍) اضافة «كلا» و «كلتا» إلى المفرد بشرط تكريرها ، فيقال (كلاي وكلاك محسنان) (١) ، وذلك للأسباب التالية :

١ ـ ما دام في اللغة ضمير يعبّر عن المتكلمين هو «نا» ، فما حاجة المتكلم إلى سلوك الطريق الأوعر ، والقول (كلاي وكلاك محسنان) بدلا من الطريق الأيسر الأقرب إلى العفوية ، ألا وهو قوله (كلانا محسنان) أو (كلانا محسن)؟

٢ ـ إذا كان الهدف من اجازة ابن الأنباري ما أجاز تقوية التوكيد ، فلن يعدم المتكلم وسيلة إلى ذلك ، كأن يقول مثلا (كلانا ، أنا وأنت ، محسنان).

__________________

(١) مفني اللبيب ١ / ٢٠٣

١٧١

٣ ـ يلجأ الانسان عند التعبير إلى أيسر الصيغ التي تواضع عليها الناطقون بلغة من اللغات ، إلا حين يتطلّع إلى الابلاغ وقوة التأثير ، كأن يقدّم أو يؤخر أو يضيف إلى العبارة شيئا من القيم الانفعالية أو غير ذلك من مقومات الابلاغية المعروفة. ولا نظن أن في (كلاي وكلاك محسنان) ما يوفّر له من الابلاغ قسطا أكبر من الذي توفّره صيغة (كلانا محسن ـ أو محسنان) المنطوية على كثير من ظلال المعاني التي منها :

ـ نفي انفراد المتكلم بالاحسان دون المخاطب.

ـ توكيد اشتراكهما في الاحسان.

ـ رفض المتكلم التفرد به دون المخاطب.

ـ تواضع المتكلم امام مديح المخاطب له عند نعته بالاحسان.

ـ انتفاء «الذاتية» من العبارة ، وهو ما لا توفّره صيغة (كلاي وكلاك) لما فيها من التمييز والفصل بين «الأنا» و «الأنت» ، الخ ...

يضاف إلى ما تقدّم آراء كوفية خاصة بالتقدير والتأويل

١٧٢

والخلاف في المصطلحات نجتزىء عليها بما يلي :

* ذهب الفراء إلى أن فعل الأمر لا وجود له في أصل الوضع اللغوي ، وأن أصله مضارع مجزوم بلام الأمر ، وأن العرب حذفوا اللام كما حذفوا التاء من الفعل المضارع في مثل (لتضرب) ، فبقي منه (ضرب). وبما أن العرب لا تبدأ بساكن ، فقد أحدثوا في أوله همزة فأصبح الفعل (اضرب).

وليس ما يسند هذا الحكم سوى أن الفراء لمس أنه «إذا كان مرفوع فعل الطلب فاعلا مخاطبا استغني عن اللام بصيغة (افعل) غالبا» وان دخول اللام في فعل الفاعل المخاطب اقل من دخولها على فعل المتكلم ، كقراءة جماعة (فبذلك فلتفرحوا) [يونس / ٥٨] ، وفي الحديث (لتأخذوا مصافّكم)» (١). والحق أنه لو صح ما ذهب إليه الفراء لانقرضت صيغة (لتفعل) من اللغة ولم يبق لها أثر ولو قليل.

* ذهب ثعلب إلى ناصب المضارع بعد «الواو» و «الفاء» ليس (أن) مقدّرة كما يرى البصريون ، ولا مصطلح (الصرف) كما يرى الفراء ، وانما لأن تلك

__________________

(١) مغني اللبيب ١ / ٢٢٤.

١٧٣

الحروف تدل على شرط. فمعنى (هلا تزورني فأكرمك) مثلا ، هو (إن تزرني اكرمك) ، فلما نابت عن الشرط ضارعت «كي» فلزمت المستقبل ، وعملت عملها (١) ـ اي عمل «كي».

ونميل إلى الاعتقاد بأن ما دفع ثعلبا إلى هذا الحكم هو أن «الاكرام» في كل من الصيغتين (هلا تزورني فأكرمك) و (إن تزرني أكرمك) نتيجة طبيعية لـ «الزيارة» ، ولا يمكن ان يتمّ إذا لم تتمّ ، وأن الفعل (اكرم) ما دام حاصلا في المستقبل ، فلا بد أن يكون قد انتصب كما ينتصب بعد «كي» لأن هذه تخلص المضارع للمستقبل.

والحق أن كل هذه المعادلات المنطقية لم يكن لها من داع لو أن النحاة نظروا إلى الصيغ اللغوية نظرة موضوعية فقالوا بأن المضارع المقترن بالواو أو الفاء ينتصب بعد استفهام أو نفي أو طلب أو نهي أو تحضيض ، ووقفوا باطار القاعدة العام عند هذه الحدود ، ولم يتجاوزوها الى التعليل والتأويل.

* ذهب الكسائي إلى أن رافع المضارع هو حروف

__________________

(١) همع الهوامع ٢ / ١٤.

١٧٤

المضارعة ، فـ (أقوم) مرفوع بالهمزة ، و (تقوم) مرفوع بالتاء ، و (يقوم) مرفوع بالياء ، و (نقوم) مرفوع بالنون (١).

ولا يملك المرء إلا أن يدهش أمام هذا الرأي وهو يرى ان هذه الحروف نفسها لا تسقط في حالتي نصب المضارع وجزمه.

* أجاز الكوفيون العطف بـ (لكن) في الايجاب ، فيقال : (أتاني زيد لكن عمرو) ، على الرغم من انتفاء هذه الصيغة في الاستعمال ، لا لشيء سوى أن (لكن) و (بل) بمعنى واحد في النفي ، وهو اثبات المجيء لـ «عمرو» دون «زيد» في مثل : (ما جاءني زيد بل عمرو) أو (ما جاءني زيد لكن عمرو) ، وانه ما دام يعطف بـ (بل) في النفي والإيجاب (جاءني زيد بل عمرو) ، فلا شيء يمنع ـ في المعادلة الرياضية طبعا ـ من العطف بـ (لكن) في الإيجاب (٢).

والحق أنه لو أمعن الكوفيون النظر في هذه القضية

__________________

(١) همع الهوامع ١ / ١٦٥.

(٢) الإنصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٦٨.

١٧٥

بمعزل عن المنطق الرياضي البحت ، لوجدوا أن (بل) نفسها لا تستخدم في الإيجاب إلا على مستوى اللغة المحكية ـ أو المقام الشفوي ـ التي قد يقع معها الانسان في الخطأ ، أو ما يعرف بـ (زلة اللسان) ، فيقول (جاءني زيد) وهو يقصد (جاءني عمرو) فيضطر لإصلاح خطأه عن طريق (بل) ، وأن هذه الاداة لا يمكن أن تستخدم على مستوى اللغة النموذجية الأدبية في حال الإيجاب إلا لتسجيل مواقف من نوع واحد تتفاوت صعدا في حدّتها ، كأن يقال (جار زيد على أخيه ، بل قسى عليه قسوة لا يقسوها عدو ... بل ... بل ...) الخ ...

١٧٦

الفصل الثالث

جديد جديد

لا يعني ما قدّمناه في الفصلين السابقين ان الكوفيين لم يأتوا بشيء يستحق ان ينوّه به. فالحق أنهم ، على الرغم من عدم افلاتهم من ربقة المنطق الفلسفي وسلطان القياس النحوي ، بل على الرغم من خضوعهم لهما في اكثر آرائهم ، استطاعوا ان يخرجوا أحيانا بالتماعات جديرة ان يستهدى بها عند التصدّي لاعادة النظر في النحو العربي لتيسيره على طالبيه. وليست تلك الالتماعات بالقليلة. ولسوف نحاول فيما يلي عرض اكبر قدر ممكن منها.

* ذهب الكوفيون الى ان «لام كي» ـ او ما يطلق عليه ايضا «لام التعليل» ـ ناصبة للمضارع بغير تقدير «أن» ، لأنها قامت مقام «كي» فهي تشتمل على معناها ، وكما ان «كي» تنصب الفعل ، فكذلك

١٧٧

ما قام مقامها (١). كما ذهبوا الى ان «لام الجحود» ناصبة للمضارع بنفسها ايضا ، واجازوا تقديم معمول الفعل المنصوب بها عليها ، فيقال (ما كان زيد دارك ليدخل) قياسا على قول الشاعر :

لقد عذلتني امّ عمرو ولم اكن

مقالتها ـ ما كنت حيّا ـ لأسمعا(٢)

واذا نحن ضربنا صفحا عن اجازتهم اظهار «أن» بعد «كي» و «لام الجحود» للتوكيد ، وعن موافقتهم البصريين على عدم تقدّم معمول المضارع المنصوب بـ «أن» عليها ، بحجة ان المضارع صلة لـ (أن) المصدرية ، ومعمول الصلة لا يتقدّم على الموصول ، على الرغم من ورود ذلك في الكلام الفصيح من مثل قول العجاج :

ربّيته حتى اذا تمعددا

كان جزائي بالعصا أن أجلدا

ف (العصا) معمول (أجلد) متقدم عليه وعلى ناصبه (أن)

__________________

(١) الانصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٧٩.

(٢) نفسه ، المسألة ٨٢.

١٧٨

وقول ربيعة بن مقروم :

هلّا سألت ، وخبر قوم عندهم

وشفاء غيّك خابرا أن تسألي

ف (خابر) معمول (تسألي) المنصوب بـ (أن) متقدم عليها (١) ،

نقول : اذا نحن ضربنا صفحا عن هذين الأمرين ، وعن استشهاد الكوفيين ببيت الشاعر (لقد عذلتني امّ عمرو ...) ، المجمع على صحة روايته على الرغم من عدم نسبته ، للاستدلال على ان «لام الجحود» ناصبة بنفسها ، والا لما صحّ ان يتقدم معمول الفعل المنصوب على اللام لو كان النصب بـ (أن) مقدّرة ، لا يسعنا الا ان نسجّل للكوفيين موقفهم من نواصب المضارع عامة واستغناءهم عن تقدير (أن) فيها ـ بعيدا عن كل جدل منطقي مرافق لذلك الموقف طبعا ـ ثم موقفهم من تقدّم معمول المضارع المنصوب بلام الجحود ، هذا الموقف الذي كنا نتمنى تعميمه في غيرها استنادا الى الاستعمال اللغوي ، لأنه موافق لروح اللغة وللقصد الابلاغي الذي يقصده المتكلم من ورائه ، ثم

__________________

(١) راجع حواشي الصفحة ٥٩٤ من «الانصاف في مسائل الخلاف»

١٧٩

لأنه يبعد عن طالب النحو شبح التقدير والتأويل اللذين ارادهما البصريون حينما راحوا يصرون على ان «مقالتها» في بيت الشاعر «مفعول به لفعل مضارع محذوف يدل عليه الفعل المذكور ، واصل الكلام (ولم اكن اسمع مقالتها) ثم بيّن الشاعر هذا الفعل المحذوف الذي أضمره بقوله (لأسمعا).» (١)

* اجاز الكوفيون : (مررت بك وزيد) ، ولم يستوجبوا اعادة الخافض ـ اي حرف الجر ـ لعطف الاسم الظاهر على الضمير المخفوض ، استنادا الى قراءة حمزة الزيات (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [النساء / ١] بخفض «الارحام» عطفا على «الهاء» في «به» ، والى قوله : (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة / ٢١٧] ، على اساس عطف «المسجد» بالخفض على «الهاء» في «به» ، والى قول مسكين الدارمي (٢) :

تعلّق في مثل السواري سيوفنا

وما بينها والكعب غوط نفانف

__________________

(١) راجع حواشي الصفحة ٥٩٤ من «الانصاف في مسائل الخلاف».

(٢) هكذا نسبه الجاحظ في «الحيوان».

١٨٠