خطى متعثّرة على طريق تجديد النحو العربي

الدكتور عفيف دمشقيّة

خطى متعثّرة على طريق تجديد النحو العربي

المؤلف:

الدكتور عفيف دمشقيّة


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلم للملايين
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٠٣

اكتسب حاليته «الحاضرة» مما شعّ عليه من «تحسب» ، لا من «نقلّب».

ولعل ما ذهبنا اليه يتضح اذا استبدلنا بالمضارع اسم الفاعل في مثل (كان زيد ناصحا عمرا ، فاصبح ناصحا أخاه) ، وجعلنا العبارة (كان زيد ينصح عمرا ، فاصبح ينصح اخاه) [لا يفوتنا ان نشير هنا الى اننا نستخدم منطق النحاة نفسه في اعتبار المضارع مساويا في معناه لاسم الفاعل ، على الرغم من مناقضتنا اياهم فيه]. فاسم الفاعل «ناصح» يدل على النصح في الزمن الماضي في الجزء الاول من العبارة ، نظرا لوجود «كان» ، ويدل على النصح في الزمن الحاضر في الجزء الثاني من العبارة ، لوجود «أصبح» ، على الرغم من كون هذا الفعل الاخير في الزمن الماضي.

وقل الأمر نفسه في مثل (كان زيد قد جاء ناصحا عمرا). فليس في العبارة اي عنصر يدل على الزمن الحاضر ، ومع ذلك فقد دل «ناصح» على الحالية وعمل النصب في «عمرو» ؛ وفي مثل (خاطب زيد عمرا ناصحا إياه) التي نصب فيها اسم الفاعل ما بعده ، على الرغم من افادتها خبرا مضى ؛ الى آخر ما هنالك من امثلة لا تحصى.

ولك ان تستخدم عددا من الافعال الماضية (أصبح ـ أضحى ـ أمسى ـ ما زال ـ ما برح ـ ما فتيء ـ ما

١٤١

انفك) مع اسم الفاعل «ناصح» ، فيبقى يعمل النصب في ما بعده ، ويفيد الحالية (اي الآنيّة) مضافا اليها الاستقبال ، لأن هذه الافعال تدل على الاستمرار في العمل على الرغم من صيغتها الماضوية.

اما اضافة الظرف «امس» لتحديد الحدث الذي يدل عليه اسم الفاعل في الزمن الماضي ، كأن يقال (زيد ناصح عمرا امس) ، فأمر يردّه منطق اللغة. ذلك ان في اسم الفاعل ـ كما قلنا آنفا ـ معنى الاستمرار. وحين يقول المتكلم (زيد ناصح) يبدأ هذا المعنى بالتمثّل للمخاطب. فاذا هو قال له بعد ذلك (أمس) ، اهتزّ في ذهنه مفهوم الاستمرار وغدا مشوّشا بفعل الارتداد في الزمن الى وراء ، وتكون النتيجة رفض العبارة لأنها لم تفلح في أداء مدلول واضح.

* العربية تنظر إلى العلاقة بين «المضارع» والأداة الطارئة عليه لنفيه في المستقبل على أنها علاقة تلازم عضوي وثيق ، بمعنى أنها لا تسمح بأن يفصل بينهما فاصل.

ولقد أجاز الكسائي الفصل بين المضارع والأداة في أربع صيغ :

١٤٢

ـ الفصل بينهما بالقسم : (لن والله أزورك).

ـ الفصل بينهما بمعمول الفعل : (لن زيدا أكرم).

ـ الفصل بينهما بـ (الظنّ) : (لن ـ أظنّ ـ أزورك).

ـ الفصل بينهما بالشرط : (لن ـ إن تزرني ـ أزورك) ، بنصب (أزور) ، وبجزمه على أنه جواب الشرط مع إلغاء عمل (لن) : (لن ـ إن تزرني أزورك).

وقد وافق الفراء أستاذه الكسائي على الصيغة الأولى وحدها (١).

وليس لنا بالطبع أن نجزم في ما إذا كان الكسائي قد استقرأ شيئا من اللغة لإجازة ما أجاز في الفصل بين المضارع وأداة النفي. لكن لنا أن نقول بأن جميع الصيغ التي أجازها تبدو متعمّلة للأسباب التالية :

أولا ـ لا تشكّل (لن) بذاتها عنصرا معنويا تاما ، وإنما تهيّيء ذهن المخاطب إلى أن حدثا ما لن يتمّ في

__________________

(١) همع الهوامع ٢ / ٤.

١٤٣

الزمن المستقبل. وطبيعي جدا أن يرفض هذا المخاطب تلقّي أي عنصر من عناصر الكلام قبل تلقّي ذلك الحدث الذي لن يتمّ. وذلك بخلاف تقبّله مثلا ما لا حصر له من عناصر الكلام قبل تلقي خبر المبتدأ ، كما في (زيد والله شاعر) ، أو (زيد الذي تعرفت إليه أمس شاعر) الخ ...

ثانيا ـ إن الفصل بين عنصرين مثلا زمين في الأصل من عناصر الجملة في بعض الصيغ ـ كما هي الحال في المبتدأ والخبر مثلا ـ بالقسم أو بـ (الظنّ) ، داخل في نطاق ما نعرفه اليوم باسم «اللغة الانفعالية» ، ويقصد من ورائه في الحالة الأولى تقوية العبارة في حال مراودة المتكلم الشك في إمكان تصديقها لدى المخاطب ، وإحساسه الشخصي ببرودها أو بقلة حرارتها إذا هو بدأها بالقسم : (والله زيد شاعر) ؛ ويقصد به في الحالة الثانية ـ حالة الظن ـ إما إشعار المخاطب بأن المتكلم ليس على يقين تامّ من الحكم الذي يصدره ، وإما إضفاء شيء من التواضع على العبارة يشعر معه

١٤٤

المخاطب بأن المتكلم لا يريد أن يدّعي لنفسه حكما لا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه. وهو حين فصل بـ (أظنّ) بين المبتدأ وخبره : (زيد ـ أظنّ ـ شاعر) ، بدلا من تصدير العبارة بها : (أظنّ زيدا شاعرا) ، أو (أظن أن زيدا شاعر) ، فإنما فعل ليسبغ على عبارته قدرا أكبر من الإبلاغية يتمثل في عنصر المفاجأة الذي يتيحه ذلك الفصل بين العنصرين المتلازمين في الأصل.

وليس في (لن والله أكرم زيدا) ، ولا في (لن ـ أظنّ ـ أزورك) شيء مما ذكرنا أعلاه. ففي الصيغة الأولى لا يحتاج المتكلم إلى توكيد عبارته. فعنصر التوكيد متضمّن في (لن) ذاتها ، إذ هي تفيد الجزم بعدم حصول العمل. وما على المتكلم إذا ما أراد توكيد ذلك الجزم بشيء من الانفعالية إلا أن يستخدم الصيغة الطبيعية التي تسمح له اللغة بها ، ألا وهي البدء بالقسم الذي من شيمته لفت انتباه المخاطب وضمان المسحة الإبلاغية المرادة.

١٤٥

وأما الصيغة الثانية : (لن ـ أظنّ ـ أزورك) ففيها مغالطة معنوية ظاهرة. إذ بينما يبدأ المتكلم بتوكيد نفي الحدث المتمثل في (لن) ، نراه يتراجع عنه ويضعضعه عن طريق التشكيك المتمثل في (الظن) ، وهذا ما يأباه منطق اللغة وطبيعة الأشياء. بعكس ما هو جار في الاستعمال من إباحة البدء بالظن الذي يضعف مضمون العبارة برمتها ويجعل احتمال حدوث الحدث موازيا لاحتمال حدوثه ، كما في (أظن أني لن أزورك) ، وهو المراد من (لن ـ أظنّ ـ أزورك) بعينه.

ثالثا ـ ان تقديم «معمول» الفعل عليه غايته ابرازه وجعل المخاطب يهتم به قبل اهتمامه بالحدث نفسه. وما دام المتكلم قد بدأ بـ (لن) التي رأينا انها تهيّيء ذهن المخاطب الى أن أمرا ما لن يتمّ ، فقد بات من تحصيل الحاصل تقديم «معمول» الفعل عليه ، لأن المخاطب ليس مستعدا للاهتمام بأي عنصر من عناصر العبارة بعد أن شغله العنصر الأهم فيها.

رابعا ـ ان للجملة الشرطية هدفا ابلاغيا خاصا ، هو

١٤٦

تعليق حصول حدث ، أو عدم حصوله ، على حصول آخر سابق عليه قليلا أو كثيرا في الزمن.

وصيغتها الطبيعية :

ـ (إن تزرني ازرك).

ـ (ازورك إن زرتني).

ـ (إن تزرني فلن ازورك).

ـ (لن ازورك إن زرتني) ، او (لن ازورك وان زرتني) الخ ...

أما صيغة (لن ازورك إن تزرني) فليست واردة في الاستعمال لسبب بسيط وطبيعي ، هو أنه لا يمكن حصر أي من الحدثين في زمن سابق على زمن الآخر. وإذا كانت هذه الصيغة ساقطة من الاستعمال ، فكيف بشكلها المشوّه الآخر : (لن ـ ان تزرني ـ ازورك)؟

واما الغاء عمل (لن) النصب في (ازورك) ، وجزمه على جوابية الشرط ، فانه أغرب من الاول بكثير ، لأن (لن) تغدو معه نافية ، لا لحدوث الفعل كما هي طبيعتها اللغوية ، وانما للجملة الشرطية برمتها ، وهذا ما لا عهد للغة ولا لواضعها به.

١٤٧

* من اعجب قياسات الكسائي والفراء قياسهما بناء (كان) للمفعول (١) ، اي للمجهول. فقد جرهما الى ذلك ان (كان) هذه «فعل» ، وانها ما دامت كذلك فإنه يجب ان ينطبق عليها ما ينطبق على كل فعل. ويبدو لنا انه غاب عن بال هذين النحويين الكبيرين أنه اذا كان لهذا «الفعل» بعض خصائص الافعال الاخرى ، كالتصرّف ، والاتصال بالضمائر ، فانه ليس من المحتمّ أن يكون له جميع خصائصه ، بما في ذلك البناء للمفعول. كما فاتهما أن (كان) تباين الافعال الأخرى في أنها لا تستعمل الا لتحويل مضمون الكلام بعدها من الآنية الى الماضوية ، او من الماضي القريب الى الماضي البعيد ، وأن المتكلم ما دام يريد بها الاخبار فهو ليس بحاجة الى بنائها للمفعول الذي من شأنه غياب محدث الحدث للجهل به ، او للتستّر عليه ، او لأنه أشهر من أن يذكر.

ونميل الى الاعتقاد بأن ما جر الكسائي والفراء الى ما ذهبا اليه هو المنطق النحوي التالي :

ما دام المنصوب (اي المفعول به) يحلّ محل المرفوع (اي

__________________

(١) همع الهوامع ١ / ١٦٤.

١٤٨

الفاعل) في «الجملة الفعلية» ، وما دام المنصوب في «الجملة الاسمية» المصدرة بـ (كان) يقابل المفعول [نذكر بأن النحاة يذهبون الى ان (كان) واخواتها افعال لأنها ترفع وتنصب ، وانهم سموها ناقصة لأنها لا ترفع فاعلا بل اسما ، ولا يتم معناها الا بمنصوب هو الخبر ، كما يذهبون الى أن (إنّ) واخواتها احرف مشبهة بالافعال لأنها تعمل النصب والرفع كالافعال] ، فليكن هذا المنصوب هو الذي يحل محل المرفوع ، وليقل المتكلم في (كان زيد قائما) : (كين قائم) ، كأن هذه الصيغة يمكن ان تفيد المخاطب ان المتكلم اراد اخباره عن قيام (زيد) في زمن ماض ، وأنه لم يرد ذكر (زيد) لغرض في نفسه.

ولقد جرف هذا «القياس» قطبي المدرسة الكوفية الى أدهى من ذلك ، فكان أن طرداه في جميع الصيغ الممكنة في (كان) من مثل (كان زيد يقوم) ، و (كان زيد قام) ، فلم يريا أي بأس في بناء (كان) فيهما للمفعول ، ومن ثمّ بناء الفعلين الآخرين له ، واجازا للمتكلم ان يقول : (كين يقام) و (كين قيم) (١) ، وكأنما يمكن أن تفيد اي من هاتين الصيغتين معنى ما

__________________

(١) همع الهوامع ١ / ١٦٤

١٤٩

ولم يكن موقف الكوفيين من الجملة العربية أفضل من موقف اسلافهم البصريين. فبدلا من ان يدرسوا الجملة التعجبية مثلا دراسة جديدة ، ويعتبروها صيغة خاصة لا تنضوي تحت اي من الجملتين «الاسمية» ، او «الفعلية» ، حصروا جهدهم ـ ما عدا الكسائي ـ في اثبات ان «أفعل» التعجّب اسم لا فعل ، كما قال البصريون ، وان اصل التعجب هو الاستفهام ، وأن العرب فتحوا آخر «أفعل» ونصبوا الاسم بعده ليميّزوا بين الاستفهام (ما أحسن السماء) ، وبين التعجب (ما أحسن السماء) (١) ، وأنه كان يجب أن يكون للتعجب حرف خاص به ، كما للاستفهام والشرط وغيرهما ، ولكن العرب لم تنطق بحرف التعجب وضمّنت «أفعل» معناه ، وبنته كما بنت اسماء الاشارة لتضمّنها معنى حرف الاشارة (٢).

وبدلا من أن يعيدوا النظر في جملة النداء ويدرسوها

__________________

(١) لا بدّ من ملاحظة ما في هذا الحكم من «طفولية». فهو يساوي بين صيغتي الاستفهام والتعجب لمجرد تساويهما في العناصر : (ما+ أفعل+ اسم) ، ثم يخالف بين حركتي (افعل) والاسم الذي بعدها للتفريق بين دلالتي الصيغتين. (راجع ما كتبناه بصدد التمييز بين اسلوبي التعجب والاستفهام حتى في اللهجات المحكية في كتابنا «تجديد النحو العربي» ص ٥٣).

(٢) انظر في هذا المسألة ١٥ من كتاب «الانصاف في مسائل الخلاف».

١٥٠

دراسة موضوعية جديدة ، رأيناهم يقفون من المنادى المعرف المفرد (اي اسم العلم المنادى) موقفين كلاهما يثير الدهشة. فقد ذهب جمهورهم الى انه معرب مرفوع بغير تنوين ، وهو موقف مقبول الى حد كبير لو انهم اكتفوا به ولم يعترفوا بأنه «مفعول في المعنى» وان كان «لا معرب له يصحبه من رافع ولا ناصب ولا خافض» ، ويذهبوا الى انهم ـ اي العرب ـ لم يخفضوه «لئلا يشبه المضاف» ولم ينصبوه «لئلا يشبه ما لا ينصرف» ، ورفعوه بغير تنوين «ليكون بينه وبين ما هو مرفوع برافع صحيح فرق». وتمسّك الفراء بأن «الاصل في النداء ان يقال (يا زيداه) كالندبة ، فيكون الاسم بين صوتين مديدين ، هما (يا) في اول الاسم ، و (الالف) في آخره. والاسم فيه ليس بفاعل ولا مفعول ولا مضاف اليه. فلما كثر في كلامهم استغنوا بالصوت الاول ، وهو (يا) في اوله ، عن الثاني ، وهو (الالف) في آخره ، فحذفوها وبنوا آخر الاسم على الضمّ تشبيها بـ (قبل) و (بعد) لأن الالف لما حذفت ، وهي مرادة معه ، والاسم كالمضاف اليها اذ كان متعلقا بها ، أشبه آخره آخر ما حذف منه المضاف اليه وهو مراد معه ، نحو (جئت من قبل ومن بعد) ، اي من قبل ذلك ، ومن بعد ذلك» (١).

__________________

(١) الانصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٤٥.

١٥١

ولا نظن هذه الاقوال الا دائرة في فلك نظرية العوامل من جهة ، ونطاق التأويل والتقدير من جهة ثانية ، وربقة التحكّم بمقدّرات اللغة على الهوى من جهة ثالثة ، وكلها لا تعود على التجديد بأي نفع.

١٥٢

الفصل الثاني

جديد «زاد الطين بلّة»

كان لمحاولة الكوفيين الاتيان بما يميّز نحوهم عن نحو البصرة انعكاسات سيئة احيانا على الدرس النحوي. فقد عمدوا مثلا عند بحث بعض الصيغ الى التنقيب عن كل ما هو جائز في حيّز الممكن دون حيّز الواقع والاستعمال اللغويين. وبدلا من ان يعيدوا النظر فيها لازالة ما لابسها من تعقيدات منطقية ، راحوا يوغلون في استخدام المنطق ويلبسونها حللا زادتها تعقيدا فوق تعقيد.

وفيما يلي طائفة من ابحاثهم تمثّل ما ذهبنا اليه ، نسوقها على سبيل المثال لا الحصر

* ورث الكوفيون عن نحاة البصرة ما يعرف بـ «المبتدأ المصدر الذي خبره حال سدّت مسدّه» نحو (ضربي زيدا قائما) ، هذا التركيب الذي يبدو غريبا رغم ادعاء كثرة النحاة بأنه يفيد معنى دقيقا خاصا

١٥٣

هو قصر المبتدأ على الحال ، وكأن الناطق به يريد أن ضربه زيدا لا يتم الا في حال كون زيد هذا واقفا ، اما في غيرها من الاحوال فلا يكون (١).

وبدلا من ان يتقبلوه على علّاته ـ ان صحّ في الاستعمال ـ اجازوا فيه شكلين آخرين هما :

ـ (أن ضربت زيدا قائما).

ـ (أن اضرب زيدا قائما) (٢).

ونعتقد أن الذي دفعهم الى ذلك انطلاقهم من أن الفعل المقترن بـ (أن) يؤوّل بالمصدر ، وأن (أن ضربت) و (أن اضرب) يساوي كل منهما (ضربي) ، فلا بأس في ان يسلكوا بالنسبة الى التركيب الوارد اعلاه ، (ضربي زيدا قائما) ، الطريق العكسية ، ويجيزوا ان يحل المركب (أن ضربت) و (ان اضرب) محل البسيط (ضربي) ما دام في معناه ، وما دام المنطق الرياضي يبيح هذا الامكان.

__________________

(١) عباس حسن ، النحو الوافي ، ج ١ ، ص ٥٢٣.

(٢) همع الهوامع ١ / ١٠٦.

١٥٤

ثم ان الكسائي اجاز في هذا التركيب نعت المصدر ، فيقال مثلا (ضربي زيدا الشديد قائما) (١) ، على الرغم من عدم ورود السماع به ، ومع أن المقام مقام اختصار لا مقام اطناب (٢) ، لا لشيء الا لأن زيادة النعت ممكنة في الاحتمال الرياضي والقياس النحوي.

وذهب الى أبعد من ذلك فأجاز تركيبا غريبا فيه من المعاظلة ما يأباه الذوق السليم. فأما التركيب فهو (عبد الله عهدي بزيد قديمين) ، واما تخريجه فهو ، كما عرضه السيوطي ، التالي :

ـ تقدير (العهد) لعبد الله وزيد.

ـ قدّم (عبد الله) ورفعه بما بعده.

ـ ثنّى (قديمين) لأنه لعبد الله وزيد وكانا خبرا لـ (العهد) ، كما تكون الحال خبر المصدر (٣).

* معلوم أنه يعطف بالنصب على أول مفعولي (ظنّ)

__________________

(١ و ٣) همع الهوامع ١ / ١٠٧.

(٢) اذا صح ان مثل هذه الصيغة من شأنها القصر على الضرب في حال قيام زيد ، فان الصيغة الكسائية تبطله فيصبح الضرب الشديد مقصورا على حال القيام ، اما الضرب فيظل ماثلا في كل حال.

١٥٥

فيقال : (اظنّ عبد الله وزيدا قائمين) ، و (أظنّ عبد الله وزيدا قاما).

وقد اجاز الكسائي ـ دون اي سند من سماع على ما يبدو ـ ان يعطف بالرفع على المفعول الاول اذا لم يظهر الاعراب ـ اي النصب ـ في المفعول الثاني ، كما هي الحال في الصيغة الثانية ، فيقال : (اظنّ عبد الله وزيد قاما) (١).

ولسنا ندري في الواقع الداعي الى مثل هذه الاجازة. فإذا كان اغناء اللغة فان هذه الصيغة الجديدة لا تفيد اية لطيفة معنوية. واذا كان التيسير على المتكلم والسماح له بالاختيار بين نمطين من انماط التعبير ، فانها توقعه ـ على العكس من ذلك ـ في حيرة وبلبلة هو في غنى عنهما ما دامت الصيغة الطبيعية ، اي العطف بالنصب على اسم منصوب ، اقرب الى المنطق والواقع اللغويين ، وأسلم في القياس بعد أن نصب «زيدا» في الصيغة الاولى ، اي «اظنّ عبد الله وزيدا قائمين» ، ولم يجز له ان يرفعه فيها.

* اجاز الكسائي والفراء وهشام (هو هشام بن معاوية

__________________

(١) همع الهوامع ٢ / ١٤٥.

١٥٦

الضرير المتوفى عام ٢٠٩ ه‍ ، أنبه تلاميذ الكسائي بعد الفراء) تقديم الجملة الحالية المصدّرة بالواو على صاحب الحال ، فيقال : (والشمس طالعة جاء زيد) (١).

ولعله ليس من سبب لهذه الاجازة سوى امكان احتمالها الرياضي. فالمفروض في تقديم الحال على صاحبها ، كما في (راكبا جاء زيد) مثلا ، ان يحدث غرضا ابلاغيا معيّنا ، هو الاهتمام بتلك الحال التي تم عليها مجيء زيد وابرازها عن طريق نقلها من مركزها الطبيعي في آخر الكلام الى المرتبة الاولى فيه. ومن طبيعة الجملة الحالية المصدّرة بـ «الواو» ان تحدث ذلك الغرض الابلاغي ، لأن «الواو» قد خرجت فيها عن معناها الاصلي في الوضع ، وهو «العطف» ، الى معنى جديد هو «الحالية». ثم ان في اللغة العربية صيغا جاهزة للتعبير عن مثل الموقف الذي اراده الكوفيون الثلاثة ، كقول القائل : (بينا ـ او بينما ـ الشمس طالعة ، جاء زيد) ، او (فيما كانت الشمس طالعة ، جاء زيد) الخ ...

واجاز الكسائي في مثل (زيد الشمس طالعة) [معلوم ان المقصود من هذه الصيغة الإعراب عن «شهرة» زيد عن طريق جعله والشمس شيئا واحدا ، بحذف

__________________

(١) همع الهوامع ١ / ٢٤٢.

١٥٧

اداة التشبيه ، وهو ما يعرف في البلاغة باسم التشبيه البليغ ، اي (زيد هو الشمس) او (زيد الشمس) ، ثم تقوية الابلاغ بالحال «طالعة» لاضافة معنى البروز والسطوع المفضي الى معنى ذيوع الشهرة وطيرانها] ، اجاز تقديم الحال «طالعة» على صاحبها «الشمس» (١) ، فيقال : (زيد طالعة الشمس) ، على الرغم من نبوّ الصيغة في السمع اولا ، وخروجها عن الغرض الابلاغي ثانيا للسببين التاليين :

١ ـ ان الفصل بين المشبّه والمشبّه به ، اي بين «زيد» و «الشمس» يمنع التحامهما العضوي الذي هدف المتكلم من ورائه الى التأثير على المخاطب ، ويفقد التشبيه معناه وابلاغيته.

٢ ـ ان المتكلم حين يزحزح عنصرا من عناصر الجملة عن موضعه الطبيعي ، يهدف اول ما يهدف ان يحدث في نفس المخاطب نوعا من صدمة تجعل بلوغ مراده أسرع ووقعه أشد. وهو حين قال له : (زيد الشمس طالعة) بلغ مراده عن طريق ما نعرفه اليوم باسم «الوقع الاصغر» ، وهو أن يؤتى في

__________________

(١) همع الهوامع ١ / ٢٤٢.

١٥٨

نهاية الكلام بعنصر معنوي أقل حفولا من العنصر الذي يسبقه. فقول المتكلم : (زيد الشمس) هو الاقوى في العبارة ، نظرا لما فيه من التعميم ، بينما (طالعة) هو العنصر الاضعف ، لما فيه من التخصيص ، مع انه أضاف الى العنصر الاول من ظلال المعاني ما قوّى التعبير وشدّ من أزره.

* بعد أن عدّد السيوطي المواضع التي يمنع فيها تأخير الخبر ويجب تقديمه ، عدّد الحالات التي يجوز فيها التقديم والتأخير «سواء كان الخبر رافعا ضمير المبتدأ ، او سببه ، او ناصبا ضميره ، او مشتملا عليه أو على ضمير ما اضيف اليه ، أو المبتدأ مشتمل على ضمير ملابس الخبر» ، واورد على ذلك الامثلة التالية :

الاول نحو (قائم زيد)

الثاني نحو (قائم أبوه زيد) أو (قام ابوه زيد)

الثالث نحو (ضربته زيد)

الرابع نحو (في داره زيد)

الخامس نحو (في داره قيام زيد) و (في داره عبد زيد)

السادس نحو (زيدا ابوه ضرب) و (زيدا ابوه ضارب).

١٥٩

ثم اضاف ان الكوفيين منعوا تقديم الخبر في غير الرابع ، اي (في داره زيد) ، وغير المفرد في الاخير ، اي (زيدا ابوه ضارب) ـ ما عدا هشام بن معاية الضرير الذي قبل التركيب الاخير بصورتيه ، اي (زيدا ابوه ضرب) و (زيدا ابوه ضارب) ـ بحجة أن الاصل الاخبار بالمفرد ، اي بخبر كلمة لا جملة ، وأن الاخبار بالفعل خلاف الاصل ، فكأن المبتدأ بالنسبة اليه اجنبي فلا يفصل به بين الفعل ومنصوبه ، بخلاف اسم الفاعل.

وزاد ان الكسائي اجاز التقديم في الثالث ايضا ، اي (ضربته زيد) ، وأن الكوفيين انما اجازوا التقديم في الرابع ، اي (في داره زيد) ، ولم يجيزوا (قائم زيد) و (ضربته زيد) ، لأن الضمير في قولك (في داره زيد) غير معتمد عليه ، «الا ترى ان المقصود : (في الدار زيد) ، وحصل هذا الضمير بالعرض؟» ، وأن البصريين احتجوا بالسماع ، لأنه حكي : (تميمي انا) و (مشنوء من يشنؤك) (١).

ولا بدّ لنا قبل التعليق على موقف الكوفيين من جميع

__________________

(١) همع الهوامع ١ / ١٠٣

١٦٠