خطى متعثّرة على طريق تجديد النحو العربي

الدكتور عفيف دمشقيّة

خطى متعثّرة على طريق تجديد النحو العربي

المؤلف:

الدكتور عفيف دمشقيّة


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلم للملايين
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٠٣

تقديرات لا مسوّغ لها ، ويجعل المتكلم في حلّ من قيود النحاة وأكثر حرّية في التعبير عن مراده إذا كان الموقف يقتضي تقديم جواب الشرط على الأداة.

* قال سيبويه في كتابه : «واعلم أن ناسا من العرب يغلظون فيقولون (إنك وزيد ذاهبان).» (١) ، وتابعه جمهور البصريين في منع هذه الصيغة لأنها تقضي بعطف اسم مرفوع على اسم (إنّ) قبل تمام الخبر.

أما الأخفش فقد أجازها ، سواء أكان العطف على اسم (إنّ) المضمر ، كما في المثال الذي أورده سيبويه ، أم كان على اسمها المظهر ، كما في (إن زيدا وعمرو منطلقان) ، وتابعه في ذلك الكسائي (٢) استنادا إلى قوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [المائدة / ٦٩] ، وإلى قول بشر بن أبي خازم :

وإلّا فاعلموا أنا وأنتم

بغاة ، ما بقينا في شقاق

__________________

(١) الكتاب ، ٢ / ١٥٥.

(٢) الإنصاف في مسائل الخلاف. المسألة ٢٣.

١٠١

والذي نراه أن ما تأوّله سيبويه ومن تابعه من البصريين في مثل هذين الشاهدين من تقدير «التقديم والتأخير» أو تقدير أن المرفوع «مستأنف خبره محذوف يدل عليه الخبر المذكور» هو مما يرهق طالب النحو ، وأن منع المتكلم من صيغة كالمثال الوارد عند سيبويه ـ (إنك وزيد ذاهبان) ـ بحجة أنه غلط من بعض العرب ، يحدّ من حرية هذا المتكلم في التعبير ، لأن الاستعمال اللغوي يبيحها له ، ولأن من التعسّف القول بأن العربي «يغلط» ، خاصة وأن اللغة هي المرجع الأول والأخير لكل العلوم المتعلقة بها ، لا منطق المشتغلين فيها.

ولا ريب في أن ما ذهب إليه الأخفش يتوافق مع روح اللغة التي يبدو جليا أنها تتيح المجال رحبا أمام المتكلم أن يختار في الاسم المعطوف على الاسم المنصوب بعد (إنّ) قبل تمام الخبر بين النصب والرفع حسبما يمليه عليه ذوقه وإحساسه ، لا على أساس ما اختاره له النحاة.

* زعم النحاة أن الحال لا تجيء من المضاف إليه ، وذلك بالرغم من ورودها في الاستعمال ، كما في قوله : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) [الحجر / ٦٦] ، وقوله : (نَزَعْنا ما فِي

١٠٢

صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) [الحجر / ٤٧] ، وقوله : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [البقرة / ١٣٥ ، وآل عمران / ٩٥ ، والنساء / ١٢٥ ، والأنعام / ١٦١ ، والنحل / ١٢١] ، وبالرغم من وضوح الحالية حسب ميكانيكية الإعراب في كل من «مصبحين» ـ وهي حال من «هؤلاء» المضاف إلى «دابر» ـ و «إخوانا» ـ وهي حال من «هم» المضاف إلى «صدور» ـ و «حنيفا» ـ وهي حال من «ابراهيم» المضاف إلى «ملّة».

وقال النابغة الجعدي :

كأنّ حواميه (١) مدبرا

خضبن وإن كان لم يخضب

فجاء بـ (مدبرا) حالا من (الهاء) المضاف إلى (حواميه).

وقد ذهب الأخفش إلى جواز مجيء الحال من المضاف إليه «إذا كان المضاف جزءا مما أضيف إليه أو مثل جزئه ، لأنك لو استغنيت بالمضاف إليه عن

__________________

(١) لحوامي : ميامن حافر الفرس ومياسره.

١٠٣

المضاف لصحّ اعتبار الاسم المنصوب حالا ، كأن تقول (ونزعنا ما فيهم إخوانا) ، و (ابراهيم حنيفا).» (١) [المقصود أنك حين قلت (فيهم) استغنيت بعد (في) بالمضاف إليه (هم) عن المضاف (صدور) ، وحين قلت (ابراهيم) استغنيت بعد (اتّبعوا) بالمضاف إليه (ابراهيم) عن المضاف (ملّة).]

وإذا كنا لا نوافق الأخفش على إباحة الحال من المضاف إليه إلّا بشرط كون المضاف جزءا مما أضيف إليه أو مثل جزئه ، ولا على تعليله لتلك الإباحة ، فإنه لا يسعنا إلّا التنويه بها ، والجزم بأنه لا عبرة بالقول ـ كما فعل أبو حيّان ـ بأن (إخوانا) منصوب على المدح ، أو أن (حنيفا) حال من (ملّة) بمعنى (دين) [المقصود أن (حنيفا) تكون في هذه الحالة حالا من المضاف ـ أي (دين) ـ لا من المضاف إليه (ابراهيم)] ، أو أنه حال من ضمير الرفع في (اتبعوا) ، بحجة أن «العامل» في الحال هو «العامل في صاحبها» ، وعامل المضاف إليه هو (اللام) ـ أي حرف الجر ـ أو (الإضافة) ـ وهو عامل معنوي كما لا يخفى على المشتغلين في النحو ـ وكلاهما لا يصلح أن يعمل في الحال (٢). فكل

__________________

(١ و ٢) همع الهوامع ١ / ٢٤٠.

١٠٤

هذا تعنّت لا مسوّغ له ، بل هو إغراق في التأويل يردّه واقع الأشياء وروح اللغة نفسها.

وبعد ، فهذه طائفة من آراء الأخفش يصحّ القول فيها إنها خطوات تجديدية خيّرة. وقد سقناها على سبيل المثال لا الحصر ، طمعا في الاسترشاد بها يوم ننهد للكلام على تيسير النحو على أبناء العروبة وطلاب العربية. ولا يعني هذا أننا نأخذ بها على علّاتها ، وإنما أننا نراها منطلقات صالحة إلى غرضنا الأساسي ، وأضواء كاشفة لمستقبل للنحو نرجو أن يكون أفضل من ماضيه ، على ما في هذا الماضي من جهود مبرورة لا سبيل إلى إنكارها.

١٠٥
١٠٦

الباب الثاني

الكوفيون

١٠٧
١٠٨

تمهيد

كثيرا ما يتردّد في أثناء التأريخ للنحو بأن نشأة النحو الكوفي كان مردّها خوفهم من أن «تنماع شخصيتهم في البصريين إن لم يكن لهم نحو خاص ، وبينهما ما بينهما من دواغل وإحن ، فدعاهم ذلك إلى تنظيم نحوهم على نمط خاص لا ينتحون فيه إتجاه البصريين» (١) ، وأن البصريين لم يكونوا يعتدّون بكلام الكوفيين لأنهم كانوا ينقلون عن أعراب اختلطوا بالمتحضّرين ولان لسانهم وفسدت سلائقهم (٢) ، وأن الكسائي «كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز

__________________

(١) نشأة النحو ، ص ١٦٦.

(٢) ذكر محمد بن يزيد قال : حدثني المازني عن أبي زيد قال : قدم الكسائي البصرة فأخذ عن أبي عمرو ويونس وعيسى بن عمر علما كثيرا صحيحا ، ثم خرج إلى بغداد فقدم أعراب الحطمة فأخذ عنهم شيئا فاسدا فخلط هذا بذاك فأفسده» (أخبار النحويين البصريين ، ص ٥٦)

وعن الرياشي أنه قال : «إنما أخذنا اللغة عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع ، وهؤلاء (يعني الكوفيين) أخذوا اللغة عن أهل السواد أصحاب

١٠٩

إلّا في الضرورة فيجعله أصلا ويقيس عليه ، فأفسد بذلك النحو» (١).

ثم إنه كثيرا ما يبدو الخلاف البصري الكوفي في النحو نتيجة طبيعية لاختلاف موقع البلدين ، أو نوعا من النكاية السياسية ، أو ضربا من التشفّي والانتقام ، فلا يكاد البصري يقول «أبيض» حتى يسارع الكوفي فيقول «أسود».

ونبادر إلى التأكيد بأنه لا يعنينا في هذا البحث أن نتصدّى لاتساع الكوفة في الرواية ، ولا لقياسها على الشاذ النادر إلى درجة إفساد النحو ، ولا لغير ذلك من الأحكام التي لا ضابط لها إلّا الأهواء ، كما لا يعنينا أن يقول البصري «النعت» فيقول الكوفي «الصفة» ، أو «البدل»

__________________

الكواميخ وأكلة الشواريز» (أخبار النحويين البصريين ، ص ٩٠)

وقال اليزيدي في الكسائي وأصحابه :

كنّا نقيس النحو فيما مضى

على لسان العرب الأوّل

فجاءنا قوم يقيسونه

على لغى أشياخ قطربّل

إن الكسائي وأشياعه

يرقون في النحو إلى أسفل

(أخبار النحويين البصريين ، ص ٤٤ / ٤٥)

(١) بغية الوعاة ١٢ ١٦٤.

١١٠

فيكون المقابل «الترجمة» ، أو «واو المعيّة» ، فيكون المقابل «واو الصرف» ، إلى آخر ما هناك من خلاف في التسميات والمصطلحات.

ولا يهمنا كذلك ما رافق الدرس النحوي الكوفي من خلاف على فروع الأصول التي أصّلها البصريون ، والقواعد الكلية التي أرسوها ، كأن يكون الفعل المضارع منصوبا بأن مضمرة بعد «واو المعية» مثلا ، أو أن يكون منصوبا على «الخلاف» أو «الصرف» ، أو أن يكون المضارع مرفوعا لشبهه الاسم ـ كما قال سيبويه والجمهور ـ أو أن يكون مرفوعا بحروف المضارعة ـ كما زعم الكسائي ـ أو لتجرّده عن النواصب والجوازم ـ كما قال الفراء ـ أو أن يكون فعلا الشرط والجواب مجزومين بأداة الشرط ، أو أن يكون المجزوم بها فعل الشرط وحده ويكون الجواب مجزوما بالجوار ، إلى آخر ما هنالك من فروق تحفل بها كتب النحو.

والذي يهمنا قبل كل شيء هو معرفة ما إذا كان الكوفيون قد أتوا في نحوهم بجديد يمكن أن يخدم هدفنا النهائي ، أي تيسير النحو العربي على طلابه من أبناء العروبة وغيرهم. وهذا ما سنحاول تبيّنه في قابل البحث.

١١١

الفصل الأول

جديد ليس بالجديد

يبدو أن الكوفيين ، بالرغم من حرصهم على الاستقلال استقلالا ناجزا عن النحو البصري ، لم يكونوا قادرين على التخلّص من ربقته بعد أن كان قد رسخ في الأذهان وبسط سلطانه على المتأدبين ، إن لم نقل على الأدباء. لكن ذلك لم يفتّ في عضدهم ، فأقبل روّادهم على نحو البصرة يعلّون من مناهله ، ويحيطون بشوامله ، حتى أتقنوه وعرفوا أدقّ أسراره وخفاياه ، وانكبّوا من ثمّ يبحثون عن كل ثغرة يمكن أن ينفذوا منها إلى نقض أو خلاف.

ولعل اتصال على بن حمزة الكسائي ، شيخ المدرسة الكوفية ، بالأخفش الأوسط ، وروايته عنه كتاب سيبويه ، وملاحظته بأنه يكثر من الخلاف على صاحب الكتاب وعلى الخليل بن أحمد ، قد ساعدت ، كلها على تحقيق أغراض

١١٢

الكوفيين في إنشاء مذهب خاصّ بهم يبدو من أطره العامّة أنه مغاير للمذهب البصري. فهل أفلحوا في ذلك حقا؟

إن نظرة متفحّصة على المذهب الكوفي تثبت أن مغايرته للمذهب البصري لم تكن في صميم الدرس النحوي.

فنحن لا نلمس عند الكوفيين ثورة حقيقية ، أو محاولة ثورة ، على كثير من الأمور الأساسية التي قام عليها علم النحو.

لقد تقبلّوا مثلا نظرية «العامل» كما نادى بها مؤسسو النحو البصري ، وحين أرادوا أن يأتوا فيها بجديد ، لم يكن جديدهم لينصب على جذور النظرية ، بل على فروعها ، كما هي الحال في قضايا عدّة نجتزيء عليها بما يلي :

* يقول البصريون في الظرف الواقع خبرا للمبتدأ ، كما في (أمامك زيد) ، أو (زيد أمامك) ، إنه منصوب بفعل مقدّر ـ (زيد استقرّ أمامك) ـ أو بالخبر المحذوف ـ (زيد مستقرّ أمامك) ـ الذي يعلّقون به هذا الظرف.

ولعله روادت الكوفيين فكرة اعتبار الظرف خبرا للمبتدأ ، لأن منطق اللغة يقضي بذلك. لكنهم لم

١١٣

يتجرأوا ـ على ما نظن ـ أن يبوحوا به ، لأن المبتدأ والخبر يجب أن يكونا «مرفوعين» ، ولأنه لا بد للمنصوب من «ناصب» ، أي عامل يعمل فيه.

إن الذي عمل النصب في الظرف لا يمكن أن يكون المبتدأ نفسه ويكون الظرف في الوقت ذاته خبرا ، لأن المبتدأ والخبر عندهم «مترافعان» ، والخبر هو عين المبتدأ ، فإذا قلت (زيد أخوك) فالأخ هو زيد. فما العمل إذن؟

لقد تفتّقت قريحة الكوفيين عن عامل «معنوي» أطلقوا عليه اسم «الخلاف» وقالوا بأنه هو الذي عمل النصب في الظرف. ومفاد هذه النظرية أن «زيدا» في قولنا (زيد أمامك) ليس «الأمام» ، وأن هذا الخلاف المعنوي بين «زيد» و «أمام» هو الذي عمل النصب في هذا الأخير (١).

* مرّ بنا أن المفعول معه في مثل (جاء البرد والطيالسة) ، و (استوى الماء والخشبة) منصوب عند الأخفش انتصاب الظرف «مع» ، لأن الواو بمعناها ، بينما كان

__________________

(١) الإنصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٢٦. همع الهوامع ١ / ٩٨.

١١٤

البصريون يذهبون إلى أن ناصبه هو الفعل المذكور في العبارة قوّته الواو وعدّته ـ بعد أن كان لازما في الأصل ـ إلى الاسم المنصوب الواقع بعد تلك الواو.

وقد ذهب الكوفيون إلى أن الذي عمل النصب في الاسم الواقع بعد الواو هو «الخلاف» ، لأنه لما كان لا يحسن تكرير الفعل فيقال (استوى الماء واستوت الخشبة) ـ لأن الخشبة لم تكن معوجّة فتستوي ـ كما يحسن في (جاء زيد وعمرو) ـ المقصود أنه يمكن أن يقال (جاء زيد وجاء عمرو) ـ فقد خالف الثاني الأول في الحكم ، وانتصب على «الخلاف» انتصاب الظرف الواقع في خبر المبتدأ ، كما رأينا أعلاه (١).

* ذهب البصريون إلى أن المبتدأ مرفوع بعامل معنوي هو «الابتداء» ، والخبر مرفوع بالمبتدأ لأنه بني عليه ، فارتفع به كما ارتفع هو بالابتداء. وبدلا من أن يحاول الكوفيون التخلص من سيطرة فكرة «العامل» والقول مثلا بأن كلا من المبتدأ والخبر يأتي في اللغة مرفوعا ، ذهبوا إلى أنهما «مترافعان» ، وأن المبتدأ رفع الخبر ، والخبر رفع المبتدأ ، لأن كلا منهما

__________________

(١) الإنصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٣٠.

١١٥

طالب للآخر ومحتاج له وبه صار عمدة (١) ، ولا يمتنع أن يكون كل منهما عاملا ومعمولا. فكون اللفظ عاملا ومعمولا له نظائر في العربية ، كما في قوله (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الإسراء / ١١٠].

فقد انتصب (أيّا) بـ (تدعوا) ، وانجزم (تدعوا) بـ (أيّا) (٢). ولم يفت الكوفيين أن يردوا على البصريين رأيهم في أن رافع المبتدأ هو عامل «الابتداء» ، فقالوا إنه لا يجوز أن يعني «الابتداء» التعرّي من العوامل اللفظية ، لأن ذلك معناه «عدم العوامل» ، وعدم العوامل لا يكون عاملا (٣).

وإن دلّ هذا الكلام الأخير على شيء ، فإنما يدّل على مقدار تعلّق الكوفيين بفكرة «العامل» التي ورثوها عن البصرة فراحوا يزايدون فيها عليها.

* ذهب البصريون ـ وعلى رأسهم الخليل ـ إلى أن أداة الشرط تعمل الجزم في فعل الشرط ، وأنها وفعل

__________________

(١) همع الهوامع ١ / ٩٤.

(٢ و ٣) الإنصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٥.

١١٦

الشرط يعملان الجزم في الجواب. وذهب الأخفش الى أن الجواب مجزوم بفعل الشرط وحده دون الأداة.

أما الكوفيون فرأوا أن الأداة تجزم فعل الشرط وحده ، بينما ينجزم الجواب بمجاورته لفعل الشرط (١).

* ويتضّح مما تقدم كيف أن الكوفيين ، بدلا من أن تراودهم فكرة دراسة الجملة العربية دراسة جديدة قائمة على العلاقات بين مختلف أجزائها (لعل في «الجوار» الذي قالوا به لتعليل جزم جواب الشرط ما يوميء إلى إمكان توفّرهم على مثل تلك الدراسة ، لو لم تكن فكرة «العامل» طاغية عليهم) ، تشبثّوا بنظرية «العامل» ، وأضافوا بضعة عوامل جديدة إلى لائحة العوامل البصرية ، كـ «الخلاف» و «الصرف» و «الجوار» وغيرها ، وناقضوا البصريين في ماهية بعض العوامل ، كما في ترافع المبتدأ والخبر.

وإليك فيما يلي هذه الأمثلة الأخرى التي إن دلت على شيء ، فإنما على مدى اضطراب الكوفيين بإزاء فكرة «العامل» ، ورضاهم بذلك الاضطراب بدلا من التفكير في الخلاص من قيود العوامل :

__________________

(١) همع الهوامع ٢ / ٦١ ، الإنصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٨٤.

١١٧

* علل سيبويه وجمهور البصريين ارتفاع الفعل المضارع بمشابهته الاسم ، أي اسم الفاعل ، لأن «ينطلق» مثلا في (زيد ينطلق) يعادل اسم الفاعل «منطلق» في (زيد منطلق). [لا يسعنا أن نمرّ بهذا التعليل دون الإشارة إلى ما فيه من مغالطة منطقية فرضتها فكرة «العامل». فالذي يمعن النظر في كلمتي «ينطلق» و «منطلق» يلاحظ حتما أن الأولى تقرّر فكرة الانطلاق مقيّدة بزمن محدد هو الحاضر ـ كما في قولنا مثلا (زيد ينطلق مسرعا) ـ أو المستقبل ـ كما في قولنا مثلا ردا على سؤال (من ينطلق؟) بـ (زيد ينطلق) ـ بينما تقرر الثانية فكرة الانطلاق متحرّرة من كل قيد زمني لتضمّنها عنصر الاستمرار في إحداث الحدث.]

وذهب الأخفش إلى أن ارتفاع المضارع نتيجة «لتعرّيه» عن العوامل اللفظية. [ما زال طلابنا حتى اليوم يقولون عند إعراب الفعل المضارع أنه مرفوع لتجرّده عن النواصب والجوازم.]

أما الكسائي الكوفي فقد ذهب إلى أن المضارع مرفوع بحروف المضارعة. وأما تلميذه الفراء فتبنّى

١١٨

رأي الأخفش مستبدلا بكلمة «تجرّد» كلمة «تعرّي» ، وقال بارتفاع المضارع لتجرّده عن النواصب والجوازم. وأما ثعلب ، وهو آخر أقطاب المدرسة الكوفية ، فقد قال بأن المضارع مرفوع بـ «المضارعة».

وإذا كان المرء يدهش لرأي الكسائي حين يرى حروف المضارعة عاجزة عن عمل الرفع في المضارع ، منصوبا أو مجزوما ، على الرغم من ثبوتها فيهما ، فإنه يجد نفسه حائرا أمام كلمة «المضارعة» التي نادى بها ثعلب. فما تراها تعني بالضبط؟ أتكون عاملا معنويا آخر يضاف إلى لائحة العوامل ، أم هي لا تخرج عن كونها العامل الذي قال به سيبويه ، أي مشابهة الاسم ، نظرا لأن مدلول كلمة «المضارعة» هو المشابهة؟ (١).

__________________

(١) همع الهوامع ١ / ١٦٤. لا يفوتنا أن نشير إلى أن السيوطي أورد بعد أن عدّد مختلف الأقوال في رفع المضارع رأي أبي حيّان القائل بأنه «لا فائدة لهذا الخلاف ، ولا ينشأ عنه حكم تطبيقي». وهذا يعني أن الناظر في رفع المضارع لا يحتاج إلى كل التعليلات التي ذهب إليها النحاة ، وأن منطق اللغة يفرض الرفع ما لم يسبق المضارع ما يغيّر معناه التقريري في حال الإثبات. (راجع كذلك ما جاء في المسألة ٧٤ من كتاب «الإنصاف في مسائل الخلاف».)

١١٩

* كان سيبويه والجمهور يرون أن الذي عمل النصب في المستثنى بعد «إلّا» هو الفعل الواقع قبله بواسطة «إلّا». فـ «زيد» في قولنا (حضر القوم إلا زيدا) منصوب بـ «حضر» عبر «إلّا».

وذهب بعض البصريين إلى أن عامل النصب هو «إلّا» نفسها ، وبعضهم الآخر إلى أنه فعل مضمر تقديره «استثني» (١).

أما شيخ المدرسة الكوفية ـ الكسائي ـ فقد قال بأن ناصب المستثنى هو «أنّ» مقدّرة بعد «إلا» محذوفة الخبر ، وأن تقدير الكلام في (حضر القوم إلا زيدا) هو (حضر القوم إلا أن زيدا لم يحضر) (٢).

وذهب تلميذه الفراء إلى أن «إلا» مركبة من «إنّ» و «لا» ، وقد حذفت النون الثانية من «إنّ» للتخفيف ، فأصبحت «إن» ، ثم ادغمت في لام «لا» ، وطرأ على العبارة شيء من التقديم والتأخير ، إذ كان

__________________

(١) همع الهوامع ١ / ٢٢٤.

(٢) يبدو أن للكسائي رأيا آخر في انتصاب المستثنى ، وهو على «المخالفة» للمستثنى منه. (همع الهوامع ١ / ٢٢٤).

١٢٠