الموجز في أصول الفقه

الشيخ جعفر السبحاني

الموجز في أصول الفقه

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١٤
ISBN: 978-964-357-324-9
الصفحات: ٢٤٨

الثاني : صحّة البيع ولزومه فيما إذا أمر الوالد ولده الأكبر بأن يأمر ولده الأصغر ببيع متاعه ، فنسي الواسطة إبلاغ أمر الوالد واطّلع الأصغر من طريق آخر على أمر الوالد فباع المبيع.

فإن قلنا بأنّ الأمر بالأمر بفعل ، أمر بنفس ذلك الفعل يكون بيعه صحيحا ولازما ، وإن قلنا بخلافه يكون بيعه فضوليا غير لازم.

الظاهر أنّ الأمر بالأمر بالفعل أمر بذلك أيضا ، لأنّ المتبادر في هذه الموارد تعلّق غرض المولى بنفس الفعل وكان أمر المأمور الأوّل طريقا للوصول إلى نفس الفعل من دون دخالة لأمر المأمور الأوّل.

الفصل التاسع الأمر

بالشيء بعد الأمر به

هل الأمر بالشيء بعد الأمر به قبل امتثاله ظاهر في التأكيد أو التأسيس ، فمثلا إذا أمر المولى بشيء ثم أمر به قبل امتثال الأمر الأوّل فهل هو ظاهر في التأكيد ، أو ظاهر في التأسيس؟

للمسألة صور :

أ. إذا قيّد متعلّق الأمر الثاني بشيء يدلّ على التعدّد والكثرة كما إذا قال : صلّ ، ثم قال : صلّ صلاة أخرى.

ب. إذا ذكر لكل حكم سبب خاص ، كما إذا قال : إذا نمت فتوضّأ ، وإذا مسست ميّتا فتوضّأ.

ج. إذا ذكر السبب ، لواحد من الحكمين دون الآخر ، كما إذا قال : توضأ ، ثم قال : إذا بلت فتوضأ.

٦١

د. أن يكون الحكم خاليا عن ذكر السبب في كلا الأمرين.

لا إشكال في أنّ الأمر في الصورة الأولى للتأسيس لا للتأكيد لأن الأمر الثاني صريح في التعدّد.

وأمّا الصورة الثانية ، فهي كالصورة الأولى ظاهرة في تأسيس إيجاب ، وراء إيجاب آخر.

نعم يقع الكلام في إمكان التداخل بأن يمتثل كلا الوجوبين المتعدّدين بوضوء واحد وعدمه ، فهو مبني على تداخل المسببات وعدمه ، فعلى الأوّل يكفي وضوء واحد ولا يكفي على الثاني وسيأتي الكلام فيه في باب المفاهيم ، فيختص محل البحث بالصورتين الأخيرتين.

ولعل القول بالإجمال وعدم ظهور الكلام في واحد من التأكيد والتأسيس أولى ، لأنّ الهيئتين تدلاّن على تعدّد البعث وهو أعم من التأكيد والتأسيس. وما يقال من أنّ التأسيس أولى من التأكيد ، لا يثبت به الظهور العرفي.

تم الكلام في المقصد الأوّل

والحمد لله

٦٢

المقصد الثاني

في النواهي

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في مادة النهي وصيغته.

الفصل الثاني : في جواز اجتماع الأمر والنهي في عنوان واحد.

الفصل الثالث : في اقتضاء النهي للفساد.

٦٣

الفصل الأوّل

في مادة النهي وصيغته

النهي هو الزجر عن الشيء ، قال سبحانه : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى * عَبْداً إِذا صَلَّى) (العلق / ٩ ـ ١٠).

ويعتبر فيه العلو والاستعلاء. ويتبادر من مادة النهي ، الحرمة بمعنى لزوم الامتثال على وفق النهي. والدليل عليه قوله سبحانه : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) (النساء/٦١). وقوله سبحانه : (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (الأعراف / ١٦٦). وقوله سبحانه : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر / ٧) وقد مرّ نظير هذه المباحث في مادة الأمر فلا نطيل.

وأمّا صيغة النهي فالمشهور بين الأصوليين أنّها كالأمر في الدلالة على الطلب غير أنّ متعلّق الطلب في أحدهما هو الوجود ، أعني : نفس الفعل ؛ وفي الآخر العدم ، أعني : ترك الفعل.

ولكن الحق أنّ الهيئة في الأوامر وضعت للبعث إلى الفعل ، وفي النواهي وضعت للزجر، وهما إمّا بالجوارح كالإشارة بالرأس واليد أو باللفظ والكتابة.

وعلى ضوء ذلك فالأمر والنهي متّحدان من حيث المتعلّق حيث إنّ كلاّ منهما يتعلّق بالطبيعة من حيث هي هي ، مختلفان من حيث الحقيقة والمبادئ والآثار.

٦٤

أمّا الاختلاف من حيث الحقيقة ، فالأمر بعث إنشائي والنهي زجر كذلك.

وأمّا من حيث المبادئ فمبدأ الأمر هو التصديق بالمصلحة والاشتياق إليها ، ومبدأ النهي هو التصديق بالمفسدة والانزجار عنها.

وأمّا من حيث الآثار فإنّ الإتيان بمتعلّق الأمر إطاعة توجب المثوبة ، والإتيان بمتعلّق النهي معصية توجب العقوبة.

ظهور الصيغة في التحريم

قد علمت أنّ هيئة لا تفعل موضوعة للزجر ، كما أنّ هيئة افعل موضوعة للبعث،وأمّا الوجوب والحرمة فليسا من مداليل الألفاظ وإنّما ينتزعان من مبادئ الأمر والنهي فلو كان البعث ناشئا من إرادة شديدة أو كان الزجر صادرا عن كراهة كذلك ينتزع منهما الوجوب أو الحرمة وأمّا إذا كانا ناشئين من إرادة ضعيفة أو كراهة كذلك ، فينتزع منهما الندب والكراهة.

ومع انّ الوجوب والحرمة ليسا من المداليل اللفظية إلاّ انّ الأمر أو النهي إذا لم يقترنا بما يدلّ على ضعف الإرادة أو الكراهة ينتزع منهما الوجوب والحرمة بحكم العقل على أنّ بعث المولى أو زجره لا يترك بلا امتثال ، واحتمال أنّهما ناشئان من إرادة أو كراهة ضعيفة لا يعتمد عليه ما لم يدلّ عليه دليل.

وبعبارة أخرى : العقل يلزم بتحصيل المؤمّن في دائرة المولوية والعبودية ولا يتحقق إلاّ بالإتيان بالفعل في الأمر وتركه في النهي.

النهي والدلالة على المرّة والتكرار

إنّ النهي كالأمر لا يدلّ على المرة ولا التكرار ، لأنّ المادة وضعت للطبيعة الصرفة ، والهيئة وضعت للزجر ، فأين الدال على المرة والتكرار؟!

٦٥

نعم لمّا كان المطلوب هو ترك الطبيعة المنهي عنها ، ولا يحصل الترك إلاّ بترك جميع أفرادها يحكم العقل بالاجتناب عن جميع محققات الطبيعة ، وهذا غير دلالة اللفظ على التكرار.

ومنه يظهر عدم دلالته على الفور والتراخي بنفس الدليل.

الفصل الثاني

اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بعنوانين

اختلفت كلمات الأصوليين في جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، وقبل بيان أدلّة المجوّز والمانع نذكر أمورا :

الأمر الأوّل : في أنواع الاجتماع

إنّ للاجتماع أنحاء ثلاثة :

ألف : الاجتماع الآمري : فهو عبارة عمّا إذا اتحد الآمر والناهي أوّلا والمأمور والمنهيّ (المكلّف) ثانيا ، والمأمور به والمنهى عنه (المكلّف به) ثالثا مع وحدة زمان امتثال الأمر والنهي فيكون التكليف عندئذ محالا ، كما إذا قال : صل في ساعة كذا ولا تصل فيها،ويعبّر عن هذا النوع ، بالاجتماع الآمري ، لأنّ الآمر هو الذي حاول الجمع بين الأمر والنهي في شيء واحد.

ب : الاجتماع المأموري : هو عبارة عمّا إذا اتحد الآمر والناهي ، والمأمور والمنهي ولكن اختلف المأمور به والمنهى عنه ، كما إذا خاطب الشارع المكلّف بقوله : صل ، ولا تغصب ، فالمأمور به غير المنهى عنه ، بل هما ماهيّتان مختلفتان

٦٦

غير أنّ المكلّف بسوء اختياره جمعهما في مورد واحد على وجه يكون المورد مصداقا لعنوانين ومجمعا لهما.

ج الاجتماع الموردي : وهو عبارة عمّا إذا لم يكن الفعل مصداقا لكل من العنوانين بل يكون هنا فعلان تقارنا وتجاورا في وقت واحد يكون أحدهما مصداقا لعنوان الواجب وثانيهما مصداقا لعنوان الحرام ، مثل النظر إلى الأجنبية في أثناء الصلاة ، فليس النظر مطابقا لعنوان الصلاة ولا الصلاة مطابقا لعنوان النظر إلى الأجنبية ولا ينطبقان على فعل واحد ، بل المكلّف يقوم بعملين مختلفين متقارنين في زمان واحد ، كما إذا صلّى ونظر إلى الأجنبية.

تنبيه : إذا عرفت هذا فاعلم انّ النزاع في الاجتماع المأموري لا الآمري والموردي.

الأمر الثاني : ما هو المراد من الواحد في العنوان؟

المراد من الواحد في العنوان هو الواحد وجودا بأن يتعلّق الأمر بشيء والنهي بشيء آخر ، ولكن اتحد المتعلّقان في الوجود والتحقّق ، كالصلاة المأمور بها والغصب المنهي عنه المتحدين في الوجود عند إقامة الصلاة في الدار المغصوبة.

فخرج بقيد الاتحاد في الوجود أمران :

الأوّل : الاجتماع الموردي ، كما إذا صلّى مع النظر إلى الأجنبية وليس وجود الصلاة نفس النظر إلى الأجنبية ، بل لكلّ تحقّق وتشخّص ووجود خاص.

الثاني : الأمر بالسجود لله والنهي عن السجود للأوثان ، فالمتعلّقان مختلفان مفهوما ومصداقا.

الأمر الثالث : الأقوال في المسألة

إنّ القول بجواز الاجتماع هو مذهب أكثر الأشاعرة ، والفضل بن شاذان من

٦٧

قدمائنا ، وهو الظاهر من كلام السيد المرتضى في الذريعة ، وإليه ذهب فحول المتأخّرين من أصحابنا كالمحقّق الأردبيلي وسلطان العلماء والمحقّق الخوانساري وولده والفاضل المدقّق الشيرواني والسيد الفاضل صدر الدين وغيرهم ، واختاره من مشايخنا : السيد المحقّق البروجردي والسيد الإمام الخميني ـ قدّس الله أسرارهم ـ ويظهر من المحدّث الكليني رضاه بذلك حيث نقل كلام الفضل بن شاذان في كتابه ولم يعقبه بشيء من الرد والقبول ، بل يظهر من كلام الفضل بن شاذان (ت ٢٦٠ ه‍) انّ ذلك من مسلّمات الشيعة. (١)

وأمّا القول بالامتناع ، فقد اختاره المحقّق الخراساني في الكفاية وأقام برهانه.

إذا عرفت ذلك ، فلنذكر دليل القولين على سبيل الاختصار وقد استدلوا على القول بالجواز بوجوه منها : أنّ الأمر لا يتعلّق إلاّ بما هو الدخيل في الغرض دون ما يلازمه من الخصوصيات غير الدخيلة ، ومثله النهي لا يتعلّق إلاّ بما هو المبغوض دون اللوازم والخصوصيات.

وعلى ضوء ذلك فما هو المأمور به هو الحيثية الصلاتية وإن اقترنت مع الغصب في مقام الإيجاد ، والمنهي عنه هو الحيثية الغصبية وان اقترنت مع الصلاة في الوجود والتحقّق.

وعلى هذا فالوجوب تعلّق بعنوان الصلاة ولا يسري الحكم إلى غيرها من المشخّصات الاتفاقية كالغصب ، كما أنّ الحرمة متعلّقة بنفس عنوان الغصب ولا تسري إلى مشخصاته الاتفاقية ، أعني : الصلاة ، فالحكمان ثابتان على العنوان لا يتجاوزانه وبالتالي ليس هناك اجتماع.

__________________

(١) لاحظ القوانين ، ج ١ ص ١٤٠.

٦٨

والذي يؤيد جواز الاجتماع هو عدم ورود نص على عدم جواز الصلاة في المغصوب وبطلانها مع عموم الابتلاء به ، فإنّ ابتلاء الناس بالأموال المغصوبة في زمان الدولتين الأموية والعباسية لم يكن أقل من زماننا خصوصا مع القول بحرمة ما كانوا يغنمونه من الغنائم في تلك الأزمان ، حيث إنّ الجهاد الابتدائي حرام بلا إذن الإمام عليه‌السلام على القول المشهور ، فالغنائم ملك لمقام الإمامة ، ومع ذلك لم يصلنا نهي في ذلك المورد ، ولو كان لوصل ، والمنقول عن ابن شاذان هو الجواز ، وهذا يكشف عن صحة اجتماع الأمر والنهي إذا كان المتعلّقان متصادقين على عنوان واحد.

استدلّ القائل بالامتناع بوجوه أتقنها وأوجزها ما أفاده المحقّق الخراساني بترتيب مقدّمات نذكر المهم منها :

المقدّمة الأولى : انّ الأحكام الخمسة متضادة ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامة بين البعث في زمان ، والزجر عنه في ذلك الزمان ، فاجتماع الأمر والنهي في زمان واحد من قبيل التكليف المحال.

المقدّمة الثانية : أنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف وما يصدر عنه في الخارج لا ما هو اسمه وعنوانه ، وإنّما يؤخذ العنوان في متعلّق الأحكام للإشارة إلى مصاديقها وأفرادها الحقيقية.

ثم استنتج وقال : إنّ المجمع حيث كان واحدا وجودا وذاتا يكون تعلّق الأمر والنهي به محالا وإن كان التعلّق به بعنوانين لما عرفت من أنّ المتعلّق الواقعي للتكليف هو فعل المكلّف بحقيقته وواقعيته لا عناوينه وأسمائه.

يلاحظ على ذلك : ـ بعد تسليم المقدّمة الأولى ـ بما قرّر في محلّه من أنّ المتعلّق للتكاليف ليس هو الهوية الخارجية ، لأنّه يستحيل أن يتعلّق البعث والزجر بها ، وذلك لأنّ التعلّق إمّا قبل تحقّقها في الخارج ، أو بعده ، فعلى الأوّل فلا موضوع

٦٩

حتى يتعلّق به الأحكام بل مرجع ذلك إلى تعلّق الحكم بالعناوين ، وعلى الثاني يلزم تحصيل الحاصل وطلب الموجود.

ثمرة النزاع : انّ القائل بجواز الاجتماع يذهب إلى حصول الامتثال والعصيان بعمل واحد ، فهو يتحفّظ على كلا الحكمين بلا تقديم أحدهما على الآخر ، وأما القائل بالامتناع، فهو يقدّم من الحكمين ما هو الأهم ، فربما كان الأهم هو الوجوب فتكون حرمة الغصب إنشائية ، وربما ينعكس فيكون الترك أهم من الإتيان بالواجب.

الفصل الثالث

في اقتضاء النهي للفساد

هذه المسألة من المسائل المهمة في علم الأصول التي يترتب عليها استنباط مسائل فقهية كثيرة ويقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل : في العبادات

وقبل البحث فيها نذكر أمورا :

الأوّل : المقصود من العبادة في عنوان البحث ما لا يسقط أمرها على فرض تعلّقه بها إلاّ إذا أتى بها على وجه قربى ، فخرجت التوصليات من التعريف ، لأنّها أمور يسقط أمرها ولو لم يأت بها كذلك.

الثاني : انّ المراد من الصحة في العبادات هو كون المأتي به مطابقا للمأمور به أو سقوط الإعادة والقضاء كما عرفت (١).

__________________

(١) عند البحث عن وضع أسماء العبادات للصحيح أو للأعم ، ص ٢٤.

٧٠

الثالث : انّ النهي ينقسم إلى تحريمي وتنزيهي ، وإلى نفسي وغيري ، وإلى مولوي وإرشادي.

والظاهر دخول الجميع تحت عنوان البحث. (١)

إذا عرفت ذلك فلندخل في صلب الموضوع ، فنقول : إذا تعلّق النهي بنفس العبادة،فلا شك في اقتضائه للفساد ، كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: «دعي الصلاة أيام أقرائك» (٢) لأنّ الصحة عبارة عن مطابقة المأتي به للمأمور به ، ومع تعلّق النهي بنفس العبادة لا يتعلّق بها الأمر لاستلزامه اجتماع الأمر والنهي في متعلّق واحد ، فلا يصدق كون المأتي به مطابقا للمأمور به لعدم الأمر ، وبالتالي لا يكون مسقطا للإعادة والقضاء.

وبعبارة أخرى : انّ الصحة إمّا لأجل وجود الأمر ، أو لوجود الملاك (المحبوبية) وكلا الأمرين منتفيان ، أمّا الأوّل فلامتناع اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد تحت عنوان واحد، وأمّا الثاني فلأنّ النهي يكشف عن المبغوضية فلا يكون المبغوض مقرّبا.

وهذه هي الضابطة في دلالة النهي على الفساد وعدمها ، ففي كل مورد لا يجتمع ملاك النهي (المبغوضية) مع ملاك الصحّة (الأمر والمحبوبية) يحكم عليها بالفساد. (٣)

__________________

(١) قد يكون النهي رشادا إلى قلّة الثواب كما في قوله : «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد» [الوسائل : ٣ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي ، الحديث ٧] فانّه لا يستلزم الفساد وبالتالي لا يدخل في النزاع.

(٢) المتقي الهندي : كنز العمال : ٦ / ٤٢ و ٢٦٢.

(٣) وأمّا إذا لم تكن صحة الشيء رهن الأمر أو المحبوبية بل دائرا مدار كونه جامعا للأجزاء والشرائط ـ كما في باب المعاملات ـ فلا يكشف ملاك النهي ـ أعني : المبغوضية ـ عن الفساد وبذلك (أي عدم تأثير المبغوضية) يفترق باب المعاملات عن العبادات حيث لا يحكم على المعاملات بالفساد مع تعلّق النهي النفسي بها كما سيوافيك.

٧١

المقام الثاني : في المعاملات

ولإيضاح الحال نذكر أمورا :

الأوّل : المراد من المعاملات في عنوان البحث ما لا يعتبر فيها قصد القربة ، كالعقود والإيقاعات.

الثاني : انّ المراد من الصحيح في المعاملات ما يترتب عليها الأثر المطلوب منها كالملكية في البيع والزوجية في النكاح.

الثالث : إذا تعلّق النهي المولوي التحريمي أو التنزيهي بالمعاملة بما هو فعل مباشريّ ، كالعقد الصادر عن المحرم في حال الإحرام بأن يكون المبغوض صدور عقد النكاح في هذه الحالة ، من دون أن يكون نفس العمل بما هو هو مبغوضا ومزجورا عنه ، فالظاهر عدم اقتضائه الفساد ، لأنّ غاية النهي هي مبغوضية نفس العمل (العقد) في هذه الحالة وهي لا تلازم الفساد وليس العقد أمرا عباديا حتّى لا يجتمع مع النهي.

نعم إذا كان النهي إرشادا إلى فساد المعاملة كما في قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) (النساء / ٢٢) فلا كلام في الدلالة على الفساد.

تنبيه : انّ الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة ـ أعني : مسألة اجتماع الأمر والنهي ـ واضح لوجهين :

١. انّ المسألتين مختلفتان موضوعا ومحمولا فلا قدر مشترك بينهما حتى تبحث في الجهة المائزة ، لأنّ عنوان البحث في المسألة السابقة هو :

هل يجوز تعلّق الأمر والنهي بشيئين مختلفين في مقام التعلّق ، ومتحدين في مقام الإيجاد أو لا؟ كما أنّ عنوان البحث في هذا المقام هو :

٧٢

هل هناك ملازمة بين النهي عن العبادة وفسادها أو لا؟

فالمسألتان مختلفتان موضوعا ومحمولا ، ومع هذا الاختلاف ، فالبحث عن الجهة المائزة ساقط.

٢. انّ المسألة السابقة تبتني على وجود الأمر والنهي ، ولكن هذه المسألة تبتني على وجود النهي فقط سواء أكان هناك أمر كما في باب العبادات ، أم لا كما في باب المعاملات ، فوجود الأمر في المسألة السابقة يعدّ من مقوماتها دون هذه المسألة.

تطبيقات :

لقد مضى أنّ مسألة النهي في العبادات والمعاملات من المسائل المهمة ، لذا استوجب الحال بأن نستعرض تطبيقات لهذه المسألة :

١. الصلاة في خاتم الذهب :

روي عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام : لا يلبس الرجل الذهب ولا يصلّي فيه. (١)

قال شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري : قد دلّت طائفة من الأخبار على اعتبار عدم كون لباس المصلّي من الذهب للرجال ، والنهي في تلك الأخبار قد تعلّق بالصلاة في الذهب ، والنهي المتعلّق بالعبادة يقتضي الفساد كما حرّر في محلّه. (٢)

٢. تفريق الزكاة بين الفقراء مع طلب الإمام :

لو طلب الإمام الزكاة ، ولكن المالك فرّقها بين الفقراء دون أن يدفعها إلى

__________________

(١) الوسائل : ج ٣ ، الباب ٣٠ من أبواب لباس المصلّي ، الحديث ٤.

(٢) الحائري : الصلاة : ٥٧.

٧٣

الإمام ، فهل يجزي مع النهي الصادر من الإمام أو لا؟ (١)

٣. لو تضرّر باستعمال الماء :

لو تضرّر باستعمال الماء في الوضوء ينتقل فرضه إلى التيمم ، فإن استعمل الماء وحاله هذا فهل يبطل الوضوء أو لا؟ (٢)

٤. التيمّم بالتراب أو الحجر المغصوبين :

إذا تيمّم بالتراب أو بالحجر المغصوبين أي الممنوع من التصرف فيه شرعا ، فهل يفسد تيمّمه أو لا؟ (٣)

٥. الاكتفاء بالأذان المنهيّ عنه :

إذا تغنّى بالأذان ، أو أذّنت المرأة متخضعة ، أو أذّن في المسجد وهو جنب ، فهل يصح الأذان منهم ويكتفي به أو لا؟ (٤)

٦. حرمة الاستمرار في الصلاة :

إذا وجب قطع الصلاة لأجل صيانة النفس والمال المحترمين من الغرق والحرق ، ومع ذلك استمرّ في الصلاة فهل تبطل صلاته أو لا؟ (٥)

٧. النهي عن التكفير في الصلاة :

قد ورد النهي عن التكفير في الصلاة ـ أي قبض اليد اليسرى باليمنى ـ كما

__________________

(١) الجواهر : ١٥ / ٤٢١.

(٢) الجواهر : ٥ / ١١١.

(٣) الجواهر : ٥ / ١٣٥.

(٤) الجواهر : ٩ / ٥٣ ـ ٥٩.

(٥) الجواهر : ١١ / ١٢٣.

٧٤

ورد النهي عن إقامة النوافل جماعة في ليالي شهر رمضان (صلاة التراويح) فهل تبطل الصلاة أو لا؟

٨. صوم يوم الشك بنيّة رمضان :

إذا صام آخر يوم من شهر شعبان بنيّة رمضان ، فهل يصح صومه أو لا؟ (١)

٩. القران بين الحج والعمرة :

لو قارن بين الحج والعمرة بنية واحدة ، فهل يبطل عمله لأجل النهي عن القران كما لو نوى صلاتين بنية واحدة أو لا؟ (٢)

١٠. شرط اللزوم في المضاربة :

إذا شرط اللزوم في المضاربة ، فهل تبطل المضاربة للنهي عن شرط اللزوم المنكشف عن طريق الإجماع أو لا؟ (٣)

تمّ الكلام في المقصد الثاني

والحمد لله

__________________

(١) الجواهر : ١٢ / ٣٢٨.

(٢) الجواهر : ١٧ / ٢٠٧.

(٣) مباني العروة الوثقى ، كتاب المضاربة ، ص ١٣.

٧٥
٧٦

المقصد الثالث

في المفاهيم

وفيه أمور :

الأمر الأوّل : تعريف المفهوم والمنطوق.

الأمر الثاني : تقسيم المدلول المنطوقي إلى صريح وغير صريح.

الأمر الثالث : النزاع في باب المفاهيم صغروي.

الأمر الرابع : تقسيم المفهوم إلى موافق ومخالف.

الأمر الخامس : أقسام مفهوم المخالف.

الأوّل : مفهوم الشرط.

الثاني : مفهوم الوصف.

الثالث : مفهوم الغاية.

الرابع : مفهوم الحصر.

الخامس : مفهوم العدد.

السادس : مفهوم اللقب.

٧٧

الأمر الأوّل : تعريف المفهوم والمنطوق :

إنّ مداليل الجمل على قسمين :

قسم يصفه العرف بأنّ المتكلّم نطق به ، وقسم يفهم من كلامه ولكن لا يوصف بأنّ المتكلّم نطق به ، ولأجل اختلاف المدلولين في الظهور والخفاء ليس للمتكلّم إنكار المدلول الأوّل بخلاف المدلول الثاني ، فإذا قال المتكلّم ، إذا جاءك زيد فأكرمه فإنّ هنا مدلولين.

أحدهما : وجوب الإكرام عند المجيء ، وهذا ممّا نطق به المتكلّم وليس له الفرار منه ، ولا إنكاره.

والآخر : عدم وجوب الإكرام عند عدم المجيء ، وهذا يفهم من الكلام وبإمكان المتكلّم التخلّص عنه بنحو من الأنحاء.

فالأوّل مدلول منطوقي ، والثاني مدلول مفهومي ، ولعل ما ذكرناه هو مراد الحاجبي من تعريفه للمنطوق والمفهوم بقوله : المنطوق : ما دلّ عليه اللّفظ في محل النطق.

والمفهوم : ما دلّ عليه اللّفظ في غير محل النطق. (١)

والحاصل انّ ما دل عليه اللفظ في حد ذاته على وجه يكون اللفظ حاملا لذلك المعنى وقالبا له فهو منطوق.

وما دلّ عليه اللّفظ على وجه لم يكن اللّفظ حاملا وقالبا للمعنى ولكن دلّ عليه باعتبار من الاعتبارات فهو مفهوم.

__________________

(١) الحاجبي : منتهى السؤل والأمل : ١٤٧ ، واختصره المؤلف واشتهر بالمختصر الحاجبي وشرحه العضدي ، وكلاهما مطبوعان.

٧٨

الأمر الثاني : تقسيم المدلول المنطوقي إلى صريح وغير صريح :

تنقسم المداليل المنطوقية إلى قسمين : صريح وغير صريح. فالصريح ، هو المدلول المطابقي ؛ وأمّا غير الصريح ، فهو المدلول التضمني والالتزامي.

ثم إنّ الالتزامي على ثلاثة أقسام :

أ. المدلول عليه بدلالة الاقتضاء.

ب. المدلول عليه بدلالة التنبيه.

ج. المدلول عليه بدلالة الإشارة.

أمّا الأوّل فهو ما يتوقف عليه صدق الكلام أو صحته عقلا أو شرعا، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن أمّتي تسعة : الخطأ والنسيان» فإنّ المراد رفع المؤاخذة عنها أو نحوها وإلاّ كان الكلام كاذبا.

وقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) (يوسف / ٨٢) فلو لم يقدّر الأهل لما صحّ الكلام عقلا.

وقول القائل : اعتق عبدك عنّي على ألف ، فإنّ معناه ملّكه لي على ألف ثم اعتقه ، إذ لا يصح العتق شرعا إلاّ في ملك.

وأمّا الثاني ، فهو ما لا يتوقف عليه صدق الكلام ولا صحته عقلا وشرعا ، ولكن كان مقترنا بشيء لو لم يكن ذلك الشيء علة له ، لبعد الاقتران وفقد الربط بين الجملتين فيفهم منه التعليل فالمدلول ، هو علّية ذلك الشيء ، لحكم الشارع كقوله : «بطل البيع» لمن قال له : «بعت السمك في النهر» فيعلم منه اشتراط القدرة على التسليم في البيع.

وأمّا الثالث ، فهو لازم الكلام وإن لم يكن المتكلّم قاصدا له مثل دلالة قوله

٧٩

سبحانه : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (الأحقاف / ١٥) إذا انضم إلى قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) (البقرة / ٢٣٣) على كون أقل الحمل ستة أشهر ، فإنّ المقصود في الآية الأولى بيان ما تتحمّله الأم من آلام ومشاقّ ، وفي الثانية بيان أكثر مدة الرضاع ، غير أنّ لازم هذين المدلولين مدلول ثالث ، وهو أنّ أقل الحمل ستة أشهر.

الأمر الثالث : النزاع في باب المفاهيم صغروي :

إنّ النزاع في باب المفاهيم صغروي لا كبروي وأنّ مدار البحث هو مثلا أنّه هل للقضايا الشرطية مفهوم أو لا؟

وأمّا على فرض الدلالة والفهم العرفي فلا إشكال في حجيته.

وبعبارة أخرى : النزاع في أصل ظهور الجملة في المفهوم وعدم ظهورها ، فمعنى النزاع في مفهوم الجملة الشرطية (إذا سلّم أكرمه) هو أنّ الجملة الشرطية مع قطع النظر عن القرائن الخاصة هل تدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط ، وهل هي ظاهرة في ذلك أو لا؟

وأمّا بعد ثبوت دلالتها على المفهوم أو ظهورها فيه فلا نزاع في حجيته ، ومن خلال هذا البيان يظهر وجود التسامح في قولهم مفهوم الشرط حجة أو لا ، فإنّ ظاهره أنّ وجود المفهوم مفروغ عنه وانّما الكلام في حجيته ، مع أنّ حقيقة النزاع في وجود أصل المفهوم.

الأمر الرابع : تقسيم المفهوم إلى مخالف وموافق :

إنّ الحكم المدلول عليه عن طريق المفهوم إذا كان موافقا في السنخ للحكم الموجود في المنطوق فهو مفهوم موافق ، كما في قوله سبحانه : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)

٨٠