الموجز في أصول الفقه

الشيخ جعفر السبحاني

الموجز في أصول الفقه

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١٤
ISBN: 978-964-357-324-9
الصفحات: ٢٤٨

الفصل الثالث

الإجزاء

تصدير

لا نزاع في أنّ المكلّف إذا امتثل ما أمر به مولاه على الوجه المطلوب ـ أي جامعا لما هو معتبر فيه من الأجزاء أو الشرائط ـ يعدّ ممتثلا لذلك الأمر ومسقطا له من دون حاجة إلى امتثال ثان.

دليل ذلك : انّ الهيئة تدلّ على البعث أو الطلب ، والمادة تدلّ على الطبيعة وهي توجد بوجود فرد واحد ، فإذا امتثل المكلّف ما أمر به بإيجاد مصداق واحد منه فقد امتثل ما أمر به ولا يبقى لبقاء الأمر بعد الامتثال وجه.

وإنّما النزاع في إجزاء الأمر الواقعي الاضطراري عن الاختياري وإجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي وهاهنا مبحثان :

المبحث الأوّل : إجزاء الأمر الواقعي الاضطراري عن الاختياريّ

الصلوات اليومية واجبة بالطهارة المائية قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ...) (المائدة / ٦).

وربما يكون المكلّف غير واجد للماء فجعلت الطهارة الترابية مكان الطهارة المائية لأجل الاضطرار ، قال سبحانه : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ

٤١

مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (المائدة / ٦).

فالصلاة بالطهارة المائية فرد اختياري والأمر به أمر واقعي أوّلي ، كما أنّ الصلاة بالطهارة الترابية فرد اضطراريّ والأمر به أمر واقعي ثانوي ، فيقع الكلام في أنّ المكلّف إذا امتثل المأمور به في حال الاضطرار على الوجه المطلوب ، فهل يسقط الأمر الواقعي الأوّلي بمعنى أنّه لو تمكّن من الماء بعد إقامة الصلاة بالتيمم ، لا تجب عليه الإعادة ولا القضاء ، أو لا يسقط؟ أمّا سقوط أمر نفسه فقد علمت أنّ امتثال أمر كلّ شيء مسقط له.

ثمّ إنّ للمسألة صورتين :

تارة يكون العذر غير مستوعب ، كما إذا كان المكلّف فاقدا للماء في بعض أجزاء الوقت وقلنا بجواز البدار فصلّى متيمّما ثمّ صار واجدا له.

وأخرى يكون العذر مستوعبا ، كما إذا كان فاقدا للماء في جميع الوقت فصلّى متيمّما ، ثمّ ارتفع العذر بعد خروج الوقت.

فالكلام في القسم الأوّل في وجوب الإعادة في الوقت ، والقضاء خارجه ، كما أنّ الكلام في الثاني في وجوب القضاء.

والدليل على الإجزاء أنّه إذا كان المتكلم في مقام البيان لما يجب على المكلّف عند الاضطرار ، ولم يذكر إلاّ الإتيان بالفرد الاضطراري من دون إشارة إلى إعادته أو قضائه بعد رفع العذر ، فظاهر ذلك هو الإجزاء فمثلا : انّ ظاهر قوله سبحانه : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (المائدة / ٦) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أبا ذر

٤٢

يكفيك الصعيد عشر سنين». (١) وقول الصادق عليه‌السلام في رواية أخرى : «إنّ ربّ الماء ربّ الصعيد فقد فعل أحد الطهورين». (٢) هو الإجزاء وعدم وجوب الإعادة والقضاء ، وإلاّ لوجب عليه البيان فلا بدّ في إيجاب الإتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص.

ولو افترضنا عدم كون المتكلّم في مقام البيان في دليل البدل وكونه ساكتا عن الإعادة والقضاء ، فمقتضى الأصل أيضا هو البراءة وسيأتي تفصيله.

المبحث الثاني : في إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي

الكلام في إجزاء امتثال الأمر الظاهري عن امتثال الأمر الواقعي يتوقف على توضيح الأمر الظاهري أوّلا ، ثمّ البحث عن الإجزاء ثانيا.

ينقسم الحكم عند الأصوليين إلى واقعي وظاهري.

أمّا الحكم الواقعي : فهو الحكم الثابت للشيء بما هو هو أي من غير لحاظ كون المكلّف جاهلا بالواقع أو شاكّا فيه ، كوجوب الصلاة والصوم والزكاة وغيرها من الأحكام القطعية.

وأمّا الحكم الظاهري ، فهو الحكم الثابت للشيء عند عدم العلم بالحكم الواقعي ، وهذا كالأحكام الثابتة بالأمارات والأصول. (٣)

إذا عرفت ذلك يقع الكلام في أنّ العمل بالأمارة أو الأصول هل يقتضي الإجزاء عن امتثال الأمر الواقعي أو لا؟

فمثلا إذا دلّ خبر الواحد على كفاية التسبيحة الواحدة في الركعتين

__________________

(١ و ٢). الوسائل : ج ٢ ، الباب ١٤ من أبواب التيمم ، الحديث ١٢ و ١٥.

(٣) ما ذكر في المتن أحد الاصطلاحين في الحكم الظاهري ، وربما يخصّ الظاهري بالحكم الثابت بالأصول العملية، ويعطف الحكم الثابت بالأمارات ، إلى الحكم الواقعي.

٤٣

الأخيرتين ، أو دلّ على عدم وجوب السورة الكاملة ، أو عدم وجوب الجلوس بعد السجدة الثانية ، فطبّق العمل على وفق الأمارة ثمّ تبيّن خطؤها ، فهل يجزي عن الإعادة في الوقت والقضاء خارجه أو لا؟

أو إذا صلّى في ثوب مستصحب الطهارة ثمّ تبيّن أنّه نجس ، فهل يجزي عن الإعادة في الوقت والقضاء بعده أو لا؟

فيه أقوال ثالثها الإجزاء مطلقا من غير فرق بين كون الامتثال بالأمارة أو الأصل.

٤٤

الفصل الرابع

مقدّمة الواجب

تعريف المقدّمة

«ما يتوصل بها إلى شيء آخر على وجه لولاها لما أمكن تحصيله» من غير فرق بين كون المقدّمة منحصرة ، أو غير منحصرة ، غاية الأمر أنّها لو كانت منحصرة لانحصر رفع الاستحالة بها ، وإن كانت غير منحصرة لانحصر رفع الاستحالة في الإتيان بها أو بغيرها ، وقد وقع الخلاف في وجوب مقدمة الواجب شرعا بعد اتفاق العقلاء على وجوبها عقلا ، وقبل الدخول في صلب الموضوع نذكر أقسام المقدّمة :

فنقول : إنّ للمقدّمة تقسيمات مختلفة :

الأوّل : تقسيمها إلى داخلية وخارجية

المقدّمة الداخلية : وهي جزء المركب ، أو كلّ ما يتوقف عليه المركّب وليس له وجود مستقل خارج عن وجود المركّب كالصلاة فانّ كلّ جزء منها مقدّمة داخليّة باعتبار أنّ المركّب متوقّف في وجوده على أجزائه ، فكلّ جزء في نفسه مقدّمة لوجود المركّب ، وإنّما سمّيت داخلية لأنّ الجزء داخل في قوام المركّب ، فالحمد أو الركوع بالنسبة إلى الصلاة مقدّمة داخلية.

٤٥

المقدّمة الخارجية : وهي كلّ ما يتوقف عليه الشيء وله وجود مستقل خارج عن وجود الشيء ، كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة.

الثاني : تقسيمها إلى عقلية وشرعية وعادية

المقدّمة العقلية : ما يكون توقّف ذي المقدّمة عليه عقلا ، كتوقف الحج على قطع المسافة.

المقدّمة الشرعية : ما يكون توقّف ذي المقدّمة عليه شرعا ، كتوقّف الصلاة على الطهارة.

المقدّمة العادية : ما يكون توقّف ذي المقدّمة عليه عادة ، كتوقّف الصعود إلى السطح على نصب السلّم.

الثالث : تقسيمها إلى مقدّمة الوجود والصحّة والوجوب والعلم

الملاك في هذا التقسيم غير الملاك في التقسيمين الماضيين ، فانّ الملاك في التقسيم الأوّل هو تقسيم المقدّمة بلحاظ نفسها وفي الثاني تقسيمها بلحاظ حاكمها وهو إمّا العقل أو الشرع أو العادة وفي التقسيم الثالث تقسيمها باعتبار ذيها وإليك البيان.

مقدّمة الوجود : هي ما يتوقف وجود ذي المقدمة عليها كتوقف المسبب على سببه.

مقدّمة الصحّة : هي ما تتوقف صحّة ذي المقدّمة عليها كتوقف صحّة العقد الفضولي على إجازة المالك.

مقدّمة الوجوب : هي ما يتوقف وجوب ذي المقدمة عليها كتوقف وجوب الحجّ على الاستطاعة.

٤٦

مقدّمة العلم : هي ما يتوقّف العلم بتحقّق ذي المقدمة عليها ، كتوقّف العلم بالصلاة إلى القبلة ، على الصلاة إلى الجهات الأربع.

والنزاع في وجوب المقدّمة وعدمه إنّما هو في القسمين الأوّلين أي مقدّمة الوجود والصحّة ، وأمّا مقدّمة الوجوب فهي خارجة عن محطّ النزاع ، لأنّها لو لا المقدّمة لما وصف الواجب بالوجوب ، فكيف تجب المقدّمة بالوجوب الناشئ من قبل الواجب ، المشروط وجوبه بها؟

وأمّا المقدّمة العلمية فلا شكّ في خروجها عن محطّ النزاع ، فإنّها واجبة عقلا لا غير، ولو ورد في الشرع الأمر بالصلاة إلى الجهات الأربع ، فهو إرشاد إلى حكم العقل.

الرابع : تقسيمها إلى السبب والشرط والمعدّ والمانع

ملاك هذا التقسيم هو اختلاف كيفية تأثير كلّ في ذيها ، غير أنّ تأثير كلّ يغاير نحو تأثير الآخر ، وإليك تعاريفها.

السبب : ما يكون منه وجود المسبب وهذا ما يطلق عليه المقتضي ، كالدلوك فانّه سبب لوجوب الصلاة ، وشغل ذمة المكلّف بها لقوله سبحانه : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) (الإسراء / ٧٨).

الشرط : ما يكون مصححا إمّا لفاعلية الفاعل ، أو لقابلية القابل ، وهذا كمجاورة النار للقطن ، أو كجفاف الحطب شرط احتراقه بالنار. ومثاله الشرعي كون الطهارة شرطا لصحّة الصلاة ، والاستطاعة المالية شرطا لوجوب الحج.

المعدّ : ما يقرّب العلّة إلى المعلول كارتقاء السلّم ، فإنّ الصعود إلى كلّ درجة ، معدّ للصعود إلى الدرجة الأخرى.

٤٧

المانع : ما يكون وجوده مانعا عن تأثير المقتضي ، كالقتل حيث جعله الشارع مانعا من الميراث ، والحدث مانعا من صحّة الصلاة.

الخامس : تقسيمها إلى مفوّتة وغير مفوّتة

المقدّمة المفوّتة : عبارة عن المقدّمة التي يحكم العقل بوجوب الإتيان بها قبل وجوب ذيها على وجه لو لم يأت بها قبله لما تمكّن من الإتيان بالواجب في وقته ، كقطع المسافة للحجّ قبل حلول أيّامه بناء على تأخر وجوب الحجّ إلى أن يحين وقته ، فبما أنّ ترك قطع المسافة في وقته يوجب فوت الواجب ، يعبّر عنه بالمقدّمة المفوّتة.

ومثله الاغتسال عن الجنابة للصوم قبل الفجر ، فإنّ الصوم يجب بطلوع الفجر، ولكن يلزم الإتيان بالغسل قبله وإلاّ لفسد الصوم ، ويكون تركه مفوّتا للواجب.

السادس : تقسيمها إلى مقدّمة عبادية وغيرها

إنّ الغالب على المقدّمة هي كونها أمرا غير عبادي ، كتطهير الثوب للصلاة ، وقطع المسافة إلى الحجّ ، وربما تكون عبادة ، ومقدّمة لعبادة أخرى بحيث لا تقع مقدّمة إلاّ إذا وقعت على وجه عبادي ، ومثالها منحصر في الطهارات الثلاث (الوضوء والغسل والتيمم).

الأقوال في المسألة

اختلفت كلمة الأصوليين في حكم المقدمة على أقوال :

١. وجوبها مطلقا وهو المشهور.

٤٨

٢. عدم وجوبها كذلك.

٣. القول بالتفصيل. (١)

والمختار عندنا : عدم وجوب المقدّمة أساسا ، فيصحّ القول بالتفصيل كالسالبة بانتفاء الموضوع ، لأنّها على فرض وجوبها ، وإليك بيان المختار.

وجوب المقدّمة بين اللغوية وعدم الحاجة

إنّ الغرض من الإيجاب هو جعل الداعي في ضمير المكلّف للانبعاث نحو الفعل ، والأمر المقدّمي فاقد لتلك الغاية ، فهو إمّا غير باعث ، أو غير محتاج إليه.

أمّا الأوّل ، فهو فيما إذا لم يكن الأمر بذي المقدّمة باعثا نحو المطلوب النفسي ، فعند ذلك يكون الأمر بالمقدّمة أمرا لغوا لعدم الفائدة في الإتيان بها.

وأمّا الثاني ، فهو فيما إذا كان الأمر بذيها باعثا للمكلّف نحو المطلوب ، فيكفي ذلك في بعث المكلّف نحو المقدّمة أيضا ، ويكون الأمر بالمقدّمة أمرا غير محتاج إليه.

والحاصل : أنّ الأمر المقدّمي يدور أمره بين عدم الباعثية إذا لم يكن المكلّف بصدد الإتيان بذيها ، وعدم الحاجة إليه إذا كان بصدد الإتيان بذيها ، وإذا كان الحال كذلك فتشريع مثله قبيح لا يصدر عن الحكيم.

__________________

(١) ١. التفصيل بين المقتضى (السبب) والشرط فيجب الأوّل دون الثاني.

٢. التفصيل بين الشرط الشرعي كالطهارة للصلاة فيجب والشرط العقلي كالاستطاعة لوجوب الحجّ فلا يجب.

٣. التفصيل بين المقدمة الموصلة فتجب وغير الموصلة فلا تجب إلى غير ذلك من التفاصيل.

٤٩

الفصل الخامس

في تقسيمات الواجب

للواجب تقسيمات مختلفة نشير إليها إجمالا ، ثمّ نأخذ بالبحث عنها تفصيلا :

١. تقسيم الواجب إلى مطلق ومشروط.

٢. تقسيم الواجب إلى المؤقّت وغير المؤقّت.

٣. تقسيم الواجب إلى نفسيّ وغيريّ.

٤. تقسيم الواجب إلى أصلي وتبعي.

٥. تقسيم الواجب إلى عينيّ وكفائيّ.

٦. تقسيم الواجب إلى تعييني وتخييري.

٧. تقسيم الواجب إلى التعبديّ والتوصّلي.

* * *

١. تقسيم الواجب إلى مطلق ومشروط

إذا قيس وجوب الواجب إلى شيء آخر خارج عنه ، فهو لا يخرج عن أحد نحوين :

٥٠

إمّا أن يكون وجوب الواجب غير متوقّف على تحقّق ذلك الشيء ، كوجوب الحجّ بالنسبة إلى قطع المسافة ، فالحجّ واجب سواء قطع المسافة أم لا.

وإمّا أن يكون وجوبه متوقّفا على تحقّق ذلك الشيء ، بمعنى انّه لو لا حصوله لما تعلّق الوجوب بالواجب ، كالاستطاعة الشرعيّة (١) بالنسبة إلى الحجّ ، فلولاها لما تعلّق الوجوب بالحجّ.

ومن هنا يعلم أنّه يمكن أن يكون وجوب الواجب بالنسبة إلى شيء مطلقا ، وبالنسبة إلى شيء آخر مشروطا كوجوب الصلاة ، بل عامة التكاليف بالنسبة إلى البلوغ والقدرة والعقل ، فإنّ الصبي والعاجز والمجنون غير مكلّفين بشيء وقد رفع عنهم القلم ، فوجوب الصلاة مشروط بالنسبة إلى هذه الأمور الثلاثة ، ولكنّه في الوقت نفسه غير مشروط بالنسبة إلى الطهارة الحدثية والخبثية ، فالصلاة واجبة سواء كان المكلّف متطهرا أم لا.

وبذلك يظهر أنّ الإطلاق والاشتراط من الأمور النسبية ، فقد يكون الوجوب بالنسبة إلى شيء مطلقا وإلى شيء آخر مشروطا.

٢. تقسيم الواجب إلى المؤقّت وغير المؤقّت

والمؤقّت إلى الموسّع والمضيّق.

الواجب غير المؤقت : ما لا يكون للزمان فيه مدخلية وإن كان الفعل لا يخلو عن زمان (٢) ، كإكرام العالم وإطعام الفقير.

__________________

(١) خرجت الاستطاعة العقلية كالحجّ متسكّعا فلا يجب معها الحجّ.

(٢) وكم فرق بين عدم انفكاك الفعل عن الزمان ، ومدخليته في الموضوع كسائر الأجزاء ، وغير المؤقت من قبيل القسم الأوّل دون الثاني.

٥١

ثمّ إنّ غير المؤقت ينقسم إلى فوري : وهو ما لا يجوز تأخيره عن أوّل أزمنة إمكانه ، كإزالة النجاسة عن المسجد ، وردّ السّلام ، والأمر بالمعروف.

وغير فوري : وهو ما يجوز تأخيره عن أوّل أزمنة إمكانه ، كقضاء الصلاة الفائتة ، وأداء الزكاة ، والخمس.

الواجب المؤقّت : ما يكون للزمان فيه مدخلية ، وله أقسام ثلاثة :

أ. أن يكون الزمان المعيّن لإتيان الواجب مساويا لزمان الواجب ، كالصوم ، وهو المسمّى بالمضيّق.

ب. أن يكون الزمان المعيّن لإتيان الواجب أوسع من زمان الواجب ، كالصلوات اليومية ، ويعبّر عنه بالموسّع.

ج. أن يكون الزمان المعيّن لإتيان الواجب أضيق من زمان الواجب ، وهو مجرّد تصور، ولكنّه محال لاستلزامه التكليف بما لا يطاق.

تتمة

هل القضاء تابع للأداء؟

إذا فات الواجب المؤقّت في ظرفه من دون فرق بين كونه مضيّقا أو موسّعا ، فقيل يدلّ نفس الدليل الأوّل على وجوب الإتيان خارج الوقت فيجب القضاء ويعبّر عنه بأنّ القضاء تابع للأداء ، وقيل بعدم الدلالة فلا يجب القضاء إلاّ بأمر جديد. ويختص محلّ النزاع فيما إذا لم يكن هناك دليل يدلّ على أحد الطرفين فمقتضى القاعدة سقوط الأمر المؤقّت بانقضاء وقته وعدم وجوب الإتيان به خارج الوقت لأنّه من قبيل الشكّ في التكليف الزائد وسيأتي أنّ الأصل عند الشك في التكليف البراءة.

٥٢

٣. تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري

الواجب النفسي : هو ما وجب لنفسه كالصلاة.

والواجب الغيري : ما وجب لغيره كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة.

٤. تقسيم الواجب إلى أصلي وتبعي

إذا كان الوجوب مفاد خطاب مستقل ومدلولا بالدلالة المطابقية ، فالواجب أصلي سواء كان نفسيا كما في قوله سبحانه : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (النور / ٥٦)،أم غيريا كما في قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (المائدة / ٦).

وأمّا إذا كان بيان وجوب الشيء من توابع ما قصدت إفادته ، كما إذا قال :اشتر اللحم ، الدال ضمنا على وجوب المشي إلى السوق ، فالواجب تبعي لم يسق الكلام إلى بيانه إلاّ تبعا.

٥. تقسيم الواجب إلى العيني والكفائي

الواجب العيني : هو ما تعلّق فيه الأمر بكلّ مكلّف ولا يسقط عنه بفعل الغير ، كالفرائض اليومية.

الواجب الكفائي : هو ما تعلّق فيه الأمر بعامّة المكلّفين لكن على نحو لو قام به بعضهم سقط عن الآخرين كتجهيز الميت والصلاة عليه.

٦. تقسيم الواجب إلى التعييني والتخييري

الواجب التعييني : هو ما لا يكون له عدل ، كالفرائض اليومية.

الواجب التخييري : هو ما يكون له عدل ، كخصال كفّارة الإفطار العمدي

٥٣

في صوم شهر رمضان ، حيث إنّ المكلّف مخير بين أمور ثلاثة : صوم شهرين متتابعين ، إطعام ستين مسكينا ، وعتق رقبة.

٧. تقسيم الواجب إلى التوصّلي والتعبّدي

الواجب التوصّلي : هو ما يتحقّق امتثاله بمجرّد الإتيان بالمأمور به بأي نحو اتفق من دون حاجة إلى قصد القربة ، كدفن الميت وتطهير المسجد ، وأداء الدين ، وردّ السلام.

الواجب التعبّدي : هو ما لا يتحقق امتثاله بمجرّد الإتيان بالمأمور به بل لا بدّ من الإتيان به متقربا إلى الله سبحانه ، كالصلاة والصوم والحجّ.

ثمّ إنّ قصد القربة يحصل بأحد أمور ثلاثة :

أ : الإتيان بقصد امتثال أمره سبحانه.

ب : الإتيان لله تبارك وتعالى مع صرف النظر عن الآخر.

ج : الإتيان بداعي محبوبية الفعل له تعالى دون سائر الدواعي النفسانية.

ثمّ إنّه إذا شكّ في كون واجب توصّليا أم تعبّديا ، نفسيا أم غيريا ، عينيا أم كفائيا،تعيينيا أم تخييريا ، فمقتضى القاعدة كونه توصليا لا تعبّديا ، نفسيا لا غيريا ، عينيا لا كفائيا ، تعيينيا لا تخييريا ، والتفصيل موكول إلى الدراسات العليا.

٥٤

الفصل السادس

اقتضاء الأمر بالشيء ، النهي عن ضدّه

اختلف الأصوليون في أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أو لا؟ على أقوال ، وقبل الورود في الموضوع نقول : الضدّ هو مطلق المعاند والمنافي ، وقسّم الأصوليون الضدّ إلى ضدّ عام وضدّ خاص.

والضدّ العام : هو ترك المأمور به.

والضدّ الخاص : هو مطلق المعاند الوجودي.

وعلى هذا تنحلّ المسألة في عنوان البحث إلى مسألتين موضوع إحداهما الضدّ العام ، وموضوع الأخرى الضدّ الخاص.

فيقال في تحديد المسألة الأولى : هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام أو لا؟ مثلا إذا قال المولى : صلّ صلاة الظهر ، فهل هو نهي عن تركها؟ كأن يقول : «لا تترك الصلاة» فترك الصلاة ضدّ عام للصلاة بمعنى انّه نقيض لها والأمر بها نهي عن تركها.(١)

كما يقال في تحديد المسألة الثانية : إنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن

__________________

(١) كما أنّ ترك الصلاة ضدّ عام لها ، كذلك الصلاة أيضا ضد عام لتركها ؛ وعلى هذا فالضد العام هو النقيض ، ونقيض كلّ شيء إمّا رفعه أو مرفوعه ، فترك الصلاة رفع والصلاة مرفوع وكلّ ، نقيض للآخر وضدّ عام له.

٥٥

ضدّه الخاص أو لا؟ فإذا قال المولى : أزل النجاسة عن المسجد ، فهل الأمر بالإزالة لأجل كونها واجبا فوريّا بمنزلة النهي عن كلّ فعل وجودي يعاندها ، كالصلاة في المسجد؟ فكأنّه قال : أزل النجاسة ولا تصلّ في المسجد عند الابتلاء بالإزالة.

المسألة الأولى : الضدّ العام

إنّ للقائلين باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ العام أقوالا :

الأوّل : الاقتضاء على نحو العينية وانّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه العام ، فيدلّ الأمر عليه حينئذ بالدلالة المطابقية ، فسواء قلت : صلّ أو قلت : لا تترك الصلاة ، فهما بمعنى واحد.

الثاني : الاقتضاء على نحو الجزئية وانّ النهي عن الترك جزء لمدلول الأمر بالشيء ، لأنّ الوجوب الذي هو مدلول مطابقي للأمر ينحلّ إلى طلب الشيء والمنع من الترك ، فيكون المنع من الترك الذي هو نفس النهي عن الضدّ العام ، جزءا تحليليا للوجوب.

الثالث : الاقتضاء على نحو الدلالة الالتزامية ، فالأمر بالشيء يلازم النهي عن الضدّ عقلا.

ومختار المحقّقين عدم الدلالة مطلقا.

المسألة الثانية : الضد الخاص

استدلّ القائلون بالاقتضاء بالدليل التالي وهو مركّب من أمور ثلاثة :

أ. انّ الأمر بالشيء كالإزالة مستلزم للنهي عن ضده العام وهو ترك الإزالة على القول به في البحث السابق.

٥٦

ب. انّ الاشتغال بكل فعل وجودي (الضد الخاص) كالصلاة والأكل ملازم للضد العام ، كترك الإزالة حيث إنّهما يجتمعان.

ج. المتلازمان متساويان في الحكم ، فإذا كان ترك الإزالة منهيا عنه ـ حسب المقدّمة الأولى ـ فالضد الملازم له كالصلاة يكون مثله في الحكم أي منهيّا عنه.

فينتج أنّ الأمر بالشيء كالإزالة مستلزم للنهي عن الضد الخاص.

يلاحظ عليه : أوّلا : بمنع المقدّمة الأولى لما عرفت من أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده العام ، وأنّ مثل هذا النهي المولوي أمر لغو لا يحتاج إليه.

ثانيا : بمنع المقدّمة الثالثة أي لا يجب أن يكون أحد المتلازمين محكوما بحكم المتلازم الآخر فلو كان ترك الإزالة حراما لا يجب أن يكون ملازمه ، أعني : الصلاة حراما ، بل يمكن أن لا يكون محكوما بحكم أبدا في هذا الظرف ، وهذا كاستقبال الكعبة الملازم لاستدبار الجدي ، فوجوب الاستقبال لا يلازم وجوب استدبار الجدي. نعم يجب أن لا يكون الملازم محكوما بحكم يضادّ حكم الملازم ، كأن يكون الاستقبال واجبا واستدبار الجدي حراما ، وفي المقام أن يكون ترك الإزالة محرما والصلاة واجبة.

الثمرة الفقهية للمسألة :

تظهر الثمرة الفقهية للمسألة في بطلان العبادة إذا ثبت الاقتضاء ، فإذا كان الضد عبادة كالصلاة ، وقلنا بتعلّق النهي بها تقع فاسدة ، لأنّ النهي يقتضي الفساد ، فلو اشتغل بالصلاة حين الأمر بالإزالة تقع صلاته فاسدة أو اشتغل بها ، حين طلب الدائن دينه.

٥٧

الفصل السابع

نسخ الوجوب (١)

إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز أو لا؟ ولنقدم مثالا من الكتاب العزيز.

فرض الله سبحانه على المؤمنين ـ إذا أرادوا النجوى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمـ تقديم صدقة،قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المجادلة / ١٢).

فلمّا نزلت الآية كفّ كثير من الناس عن النجوى ، بل كفّوا عن المسألة ، فلم يناجه أحد إلاّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام (٢) ، ثم نسخت الآية بما بعدها ، وقال سبحانه : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (المجادلة / ١٣).

فوقع الكلام في بقاء جواز تقديم الصدقة إذا ناجى أحد مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهناك قولان :

__________________

(١) سيوافيك تفسير النسخ في المقصد الرابع وإجماله رفع الحكم الثابت بدليل شرعي.

(٢) الطبرسي : مجمع البيان : ٥ / ٢٤٥ في تفسير سورة المجادلة.

٥٨

الأوّل : ما اختاره العلاّمة في «التهذيب» من الدلالة على بقاء الجواز.

الثاني : عدم الدلالة على الجواز ، بل يرجع إلى الحكم الذي كان قبل الأمر. وهو خيرة صاحب المعالم.

استدل للقول الأوّل بأنّ المنسوخ لما دلّ على الوجوب ، أعني قوله : (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) فقد دلّ على أمور ثلاثة :

١. كون تقديم الصدقة جائزا.

٢. كونه أمرا راجحا.

٣. كونه أمرا لازما.

والقدر المتيقّن من دليل الناسخ هو رفع خصوص الإلزام ، وأمّا ما عداه كالجواز وكالرجحان فيؤخذ من دليل المنسوخ ، نظيره ما إذا دلّ دليل على وجوب شيء ودلّ دليل آخر على عدم وجوبه ، كما إذا ورد أكرم زيدا وورد أيضا لا بأس بترك إكرامه فيحكم بأظهرية الدليل الثاني على الأوّل على بقاء الجواز والرجحان.

يلاحظ عليه : أنّه ليس للأمر إلاّ ظهور واحد وهو البعث نحو المأمور به ، وأمّا الوجوب فإنّما يستفاد من أمر آخر ، وهو كون البعث تمام الموضوع لوجوب الطاعة والالتزام بالعمل عند العقلاء ، فإذا دلّ الناسخ على أنّ المولى رفع اليد عن بعثه ، فقد دلّ على رفع اليد عن مدلول المنسوخ فلا معنى للالتزام ببقاء الجواز أو الرجحان إذ ليس له إلاّ ظهور واحد ، وهو البعث نحو المطلوب لا ظهورات متعدّدة حتى يترك المنسوخ (اللزوم) ويؤخذ بالباقي (الجواز والرجحان).

وبعبارة أخرى : الجواز والرجحان من لوازم البعث إلى الفعل ، فإذا نسخ الملزوم فلا وجه لبقاء اللازم.

٥٩

الفصل الثامن

الأمر بالأمر بفعل ، أمر بذلك الفعل

إذا أمر المولى فردا ليأمر فردا آخر بفعل ، فهل الأمر الصادر من المولى أمر بذلك الفعل أيضا أو لا؟ ولإيضاح الحال نذكر مثالا : إنّ الشارع أمر الأولياء ليأمروا صبيانهم بالصلاة ، روي بسند صحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام قال : «إنّا نأمر صبياننا بالصلاة إذا كانوا بني خمس سنين ، فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع» (١) ففي هذا الحديث أمر الإمام الأولياء بأمر صبيانهم بالصلاة.

فعندئذ يقع الكلام في أنّ أمر الإمام يتحدّد بالأمر بالأولياء ، أو يتجاوز عنه إلى الأمر بالصلاة أيضا.

فمحصّل الكلام : أنّه لا شك أنّ الصبيان مأمورون بإقامة الصلاة إنّما الكلام في أنّهم مأمورون من جانب الأولياء فقط ، أو هم مأمورون من جانب الشارع أيضا.

وتظهر الثمرة في مجالين :

الأوّل : شرعية عبادات الصبيان ، فلو كان الأمر بالأمر ، أمرا بذلك الفعل تكون عبادات الصبيان شرعية وإلاّ تكون تمرينيّة.

__________________

(١) الوسائل : ٣ / الباب ٣ ، من أعداد الفرائض ، الحديث ٥.

٦٠