الموجز في أصول الفقه

الشيخ جعفر السبحاني

الموجز في أصول الفقه

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١٤
ISBN: 978-964-357-324-9
الصفحات: ٢٤٨

ثمّ كنّي به عن فضلة الإنسان ، إلى أن صار حقيقة فيها مع عدم هجر المعنى الأوّل.

نعم ربّما يذكر أهل اللغة للفظ واحد معاني عديدة ، ولكنّها ربما تكون من قبيل المصاديق المختلفة لمعنى واحد ، وهذا كثير الوقوع في المعاجم. (١)

وقد اشتمل القرآن على اللّفظ المشترك ، كالنجم المشترك بين الكوكب والنبات الذي لا ساق له ، قال سبحانه : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) (النجم / ١).

وقال سبحانه : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) (الرحمن / ٦).

هذا كلّه في المشترك اللفظي.

وأمّا المشترك المعنوي ، فهو عبارة عن وضع اللّفظ لمعنى جامع يكون له مصاديق مختلفة ، كالشجر الذي له أنواع كثيرة.

تنبيه

إنّ فهم المعنى المجازيّ بحاجة إلى قرينة ، كقولك «يرمي» أو «في الحمام» في «رأيت أسدا يرمي أو في الحمّام» كما أنّ تعيين المعنى المراد من بين المعاني المتعددة للّفظ المشترك يحتاج إلى قرينة كقولنا : «باكية» أو «جارية» في عين باكية ، أو عين جارية، لكن قرينة المجاز قرينة صارفة ومعيّنة ، وقرينة اللفظ المشترك قرينة معيّنة فقط ، والأولى آية المجازية دون الثانية.

__________________

(١) ذكر الفيروزآبادي في كتاب «القاموس المحيط» للقضاء معاني متعددة كالحكم ، الصنع ، الحتم ، البيان ، الموت ، الإتمام وبلوغ النهاية ، العهد ، الإيصاء ، الأداء مع أنّ الجميع مصاديق مختلفة لمعنى فارد ، ولذلك أرجعها صاحب المقاييس إلى أصل واحد ، فلاحظ.

٢١

الأمر التاسع : استعمال المشترك في أكثر من معنى

إذا ثبت وجود اللّفظ المشترك ، يقع الكلام حينئذ في جواز استعماله في أكثر من معنى واحد في استعمال واحد ، بمعنى أن يكون كل من المعنيين مرادا باستقلاله ، كما إذا قال : اشتريت العين ، واستعمل العين في الذهب والفضة.

فخرج ما إذا استعمله في معنى جامع صادق على كلا المعنيين ، كما إذا استعمل العين في «المسمّى بالعين» فإنّ الذهب والفضة داخلان تحت هذا العنوان ، فهذا النوع من الاستعمال ليس من قبيل استعمال المشترك في أكثر من معنى.

إذا علمت ذلك ، فاعلم أنّه اختلف في جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد على أقوال أربعة :

أ. الجواز مطلقا.

ب. المنع مطلقا.

ج. التفصيل بين المفرد وغيره والتجويز في الثاني.

د. التفصيل بين الإثبات والنفي والتجويز في الثاني.

والحق جوازه مطلقا ، وأدلّ دليل على إمكانه وقوعه ، ويجد المتتبع في كلمات الأدباء نماذج من هذا النوع في الاستعمال : يقول الشاعر في مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

المرتمي في الدجى ، والمبتلى بعمى

والمشتكي ظمأ والمبتغي دينا

يأتون سدّته من كلّ ناحية

ويستفيدون من نعمائه عينا

فاستخدم الشاعر لفظ «العين» في الشمس ، والبصر ، والماء الجاري والذهب ؛ حيث إنّ المرتمي في الدجى ، يطلب الضياء ؛ والمبتلى بالعمى ، يطلب العين الباصرة ؛ والإنسان الظمآن يريد الماء ؛ والمستدين يطلب الذهب.

٢٢

الأمر العاشر : الحقيقة الشرعية

ذهب أكثر الأصوليين إلى أنّ ألفاظ العبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج كانت عند العرب قبل الإسلام مستعملة في معانيها اللغوية على وجه الحقيقة ، أعني : الدعاء ، والإمساك ، والنمو ، والقصد ، وهذا ما يعبّر عنه بالحقيقة اللغوية.

وإلى أنّ تلك الألفاظ في عصر الصادقين عليهما‌السلام وقبلهما بقليل ، كانت ظاهرة في المعاني الشرعية الخاصة بحيث كلّما أطلقت الصلاة والصوم والزكاة تتبادر منها معانيها الشرعية.

إنّما الاختلاف في أنّه كيف صارت هذه الألفاظ حقيقة في المعاني الشرعية في عصر الصادقين عليهما‌السلام وقبلهما بقليل؟ فهنا قولان :

أ. ثبوت الحقيقة الشرعية في عصر النبوّة.

ب. ثبوت الحقيقة المتشرّعية بعد عصر النبوة.

أمّا الأوّل : فحاصله : أنّ تلك الألفاظ نقلت في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من معانيها اللغوية إلى معانيها الشرعية بالوضع التعييني أو التعيّني حتى صارت حقائق شرعية في تلك المعاني في عصره ، لأنّ تلك الألفاظ كانت كثيرة التداول بين المسلمين لا سيّما الصلاة التي يؤدّونها كلّ يوم خمس مرّات ويسمعونها كرارا من فوق المآذن.

ومن البعيد أن لا تصبح حقائق في معانيها المستحدثة في وقت ليس بقليل.

وأما الثاني فحاصله : أنّ صيرورة تلك الألفاظ حقائق شرعية على لسان

٢٣

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تتوقف على الوضع وهو إمّا تعييني أو تعيّني ، والأوّل بعيد جدا ، وإلاّ نقل إلينا، والثاني يتوقف على كثرة الاستعمال التي هي بحاجة إلى وقت طويل ، وأين هذا من قصر مدّة عصر النبوّة؟!

يلاحظ عليه : أنّ عصر النبوّة استغرق ٢٣ عاما ، وهي فترة ليست قصيرة لحصول الوضع التعيّني على لسانه ، وإنكاره مكابرة.

ثمرة البحث

وأمّا ثمرة البحث بين القولين ، فتظهر في الألفاظ الواردة على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا قرينة ، فتحمل على الحقيقة الشرعية بناء على ثبوتها وعلى الحقيقة اللغوية بناء على إنكارها.

والظاهر انتفاء الثمرة مطلقا ، لعدم الشكّ في معاني الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة لكي يتوقف فهم معانيها على ثبوت الحقيقة الشرعية أو نفيها إلاّ نادرا.

الأمر الحادي عشر : الصحيح والأعم

هل أسماء العبادات والمعاملات موضوعة للصحيح منهما ، أو لأعمّ منه؟

تطلق الصحّة في اللغة تارة على ما يقابل المرض ، فيقال : صحيح وسقيم.

وأخرى على ما يقابل العيب ، فيقال : صحيح ومعيب.

وأمّا الصحة اصطلاحا في العبادات فقد عرّفت تارة بمطابقة المأتي به للمأمور به ، وأخرى بما يوجب سقوط الإعادة والقضاء ، ويقابلها الفساد. وأمّا في المعاملات فقد عرّفت بما يترتّب عليه الأثر المطلوب منها ، كالملكية في البيع ، والزوجية في النكاح وهكذا.

٢٤

والمراد من وضع العبادات للصحيح هو أنّ ألفاظ العبادات وضعت لما تمّت أجزاؤها وكملت شروطها ، أو لأعمّ منه ومن الناقص.

المعروف هو القول الأوّل ، واستدلّ له بوجوه (١) مسطورة في الكتب الأصولية أوضحها : إنّ الصلاة ماهية اعتبارية جعلها الشارع لآثار خاصّة وردت في الكتاب والسنّة ، منها : كونها ناهية عن الفحشاء والمنكر ، أو معراج المؤمن ، وغيرهما ، وهذه الآثار إنّما تترتب على الصحيح لا على الأعمّ منه ، وهذا (أي ترتّب الأثر على الصحيح) ممّا يبعث الواضع إلى أن يضع الألفاظ لما يحصّل أغراضه ويؤمّن أهدافه ، وليس هو إلاّ الصحيح. لأنّ الوضع للأعمّ الذي لا يترتّب عليه الأثر ، أمر لغو.

استدلّ القائل بالأعم بوجوه أوضحها صحّة تقسيم الصلاة إلى الصحيحة والفاسدة.

وأجيب عنه بأنّ غاية ما يفيده هذا التقسيم هو استعمال الصلاة في كلّ من الصحيح والفاسد ، والاستعمال أعمّ من الحقيقة.

وأمّا المعاملات فهنا تصويران :

الأوّل : أنّ ألفاظ العقود ، كالبيع والنكاح ؛ والإيقاعات ، كالطلاق والعتق، موضوعة للأسباب التي تسبّب الملكية والزوجية والفراق والحرية ، ونعني بالسبب إنشاء العقد والإيقاع، كالإيجاب والقبول في العقود ، والإيجاب فقط كما في الإيقاع.

وعليه يأتي النزاع في أنّ ألفاظها هل هي موضوعة للصحيحة التامّة الأجزاء

__________________

(١) التبادر وصحّة الحمل وصحّة السلب عن الأعمّ وغيرها.

٢٥

والشرائط المؤثرة في المسبب ، أو لأعمّ من التام والناقص غير المؤثر في المسبب؟

الثاني : أن تكون الألفاظ موضوعة للمسببات ، أي ما يحصل بالأسباب كالملكية والزوجية والفراق والحرية ، وبما أنّ المسببات من الأمور البسيطة ، التي يدور أمرها بين الوجود والعدم ، فلا يأتى على هذا الفرض ، النزاع السابق لأنّ الملكية إمّا موجودة وإمّا معدومة كما أنّ الزوجية إمّا متحقّقة أو غير متحقّقة ، ولا تتصوّر فيهما ملكية أو زوجة فاسدة.

الأمر الثاني عشر : هل المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ بالفعل أو أعمّ منه وممّا انقضى عنه المبدأ

إنّه اتّفقت كلمتهم على أنّ المشتق حقيقة في المتلبّس بالمبدإ بالفعل ومجاز فيما يتلبّس به في المستقبل ، واختلفوا فيما انقضى عنه التلبّس ، مثلا إذا ورد النهي عن التوضّؤ بالماء المسخّن بالشمس ، فتارة يكون الماء موصوفا بالمبدإ بالفعل ، وأخرى يكون موصوفا به في المستقبل ، وثالثة كان موصوفا به لكنّه زال وبرد الماء ، فإطلاق المشتق على الأوّل حقيقة، ودليل الكراهة شامل له ، كما أنّ إطلاقه على الثاني مجاز لا يشمله دليلها ، وأمّا الثالث فكونه حقيقة أو مجازا وبالتالي شمول دليلها له وعدمه مبنيّ على تحديد مفهوم المشتق ، فلو قلنا بأنّه موضوع للمتلبّس بالمبدإ بالفعل يكون الإطلاق مجازيا والدليل غير شامل له ، ولو قلنا بأنّه موضوع لما تلبّس به ولو آناً ما فيكون الإطلاق حقيقيّا والدليل شاملا له.

والمشهور انّه موضوع للمتلبس بالفعل.

وقبل الخوض في المقصود نقدم أمورا :

٢٦

١. الفرق بين المشتق النحويّ والأصولي

المشتق عند النحاة يقابل الجامد ، فيشمل الماضي والمضارع والأمر والنهي واسم الفاعل ومصادر أبواب المزيد.

وأمّا المشتق عند الأصوليّين ، فهو عبارة عمّا يحمل على الذات باعتبار اتصافها بالمبدإ واتحادها معه بنحو من الاتحاد ، ولا تزول الذات بزواله فخرجت الأفعال قاطبة والمصادر لعدم صحّة حملهما على الذوات على نحو الهوهوية ، والأوصاف التي تزول الذات بزوالها كالناطق فلم يندرج فيه إلاّ اسم الفاعل والمفعول وأسماء الزمان والمكان والآلات والصفات المشبهة وصيغ المبالغة وأفعل التفضيل ويشمل حتى الزوجة والرق والحر لوجود الملاك المذكور في جميعها ، فإذن النسبة بين المشتق النحوي والمشتق الأصولي عموم وخصوص من وجه. (١)

٢. اختلاف أنحاء التلبّسات حسب اختلاف المبادئ

ربّما يفصل بين المشتقات فيتوهم انّ بعضها حقيقة في المتلبس وبعضها في الأعمّ ، نظير الكاتب والمجتهد والمثمر ، فما يكون المبدأ فيه حرفة أو ملكة أو قوّة تصدق فيه هذه الثلاثة وإن زال التلبّس ، فهي موضوعة للأعم بشهادة صدقها مع عدم تلبّسها بالكتابة والاجتهاد والإثمار بخلاف غيرها ممّا كان المبدأ فيه أمرا فعليا ، كالأبيض والأسود.

__________________

(١) فيجتمعان في أسماء الفاعلين والمفعولين وأمثالهما ، ويفترقان في الفعل الماضي والمضارع ، فيطلق عليهما المشتق النحوي دون الأصولي ؛ وفي الجوامد كالزوج والرق ، فيطلق عليهما المشتق الأصولي دون النحوي.

٢٧

يلاحظ عليه : أنّ المبدأ يؤخذ تارة على نحو الفعلية كقائم ، وأخرى على نحو الحرفة كتاجر ، وثالثة على نحو الصناعة كنجّار ، ورابعة على نحو القوّة كقولنا : شجرة مثمرة ، وخامسة على نحو الملكة كمجتهد.

فإذا اختلفت المبادئ جوهرا ومفهوما لاختلفت أنحاء التلبّسات بتبعها أيضا ، وعندئذ يختلف بقاء المبدأ حسب اختلاف المبادئ ، ففي القسم الأوّل يشترط في صدق التلبّس تلبّس الذات بالمبدإ فعلا ، وفي القسم الثاني والثالث يكفي عدم إعراضه عن حرفته وصناعته وإن لم يكن ممارسا بالفعل ، وفي الرابع يكفي كونه متلبّسا بقوة الإثمار وإن لم يثمر فعلا، وفي الخامس يكفي حصول الملكة وإن لم يمارس فعلا ، فالكلّ داخل تحت المتلبّس بالمبدإ بالفعل، وبذلك علم أنّ اختلاف المبادئ يوجب اختلاف طول زمان التلبّس وقصره ولا يوجب تفصيلا في المسألة.

فما تخيّله القائل مصداقا لما انقضى عنه المبدأ ، فإنّما هو من مصاديق المتلبّس ومنشأ التخيّل هو أخذ المبدأ في الجميع على نسق واحد ، وقد عرفت أنّ المبادئ على أنحاء.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ مرجع النزاع إلى سعة المفاهيم وضيقها وأنّ الموضوع له هل هو خصوص الذات المتلبّسة بالمبدإ أو أعمّ من تلك الذات المنقضي عنها المبدأ فعلى القول بالأخصّ ، يكون مصداقه منحصرا في الذات المتلبّسة ، وعلى القول بالأعمّ يكون مصداقه أعمّ من هذه وممّا انقضى عنها المبدأ.

* * *

استدلّ المشهور على أنّ المشتق موضوع للمتلبّس بالمبدإ بالفعل بأمرين :

١. التبادر ، إنّ المتبادر من المشتق هو المتلبس بالمبدإ بالفعل ، فلو قيل :

٢٨

صلّ خلف العادل ، أو أدّب الفاسق ، أو قيل : لا يصلين أحدكم خلف المجذوم والأبرص والمجنون ، أو لا يؤم الأعرابي المهاجرين ؛ لا يفهم منه إلاّ المتلبّس بالمبدإ في حال الاقتداء.

٢. صحّة السلب عمّن انقضى عنه المبدأ ، فلا يقال لمن هو قاعد بالفعل انّه قائم إذا زال عنه القيام ، ولا لمن هو جاهل بالفعل ، انّه عالم إذا نسي علمه. وأمّا القائلون بالأعم فاستدلّوا بوجهين :

الأوّل : صدق أسماء الحرف كالنجار على من انقضى عنه المبدأ ، مثل أسماء الملكات كالمجتهد.

وقد عرفت الجواب عنه وأنّ الجميع من قبيل المتلبّس بالمبدإ لا الزائل عنه المبدأ.

الثاني : لو تلبس بالمبدإ في الزمان الماضي يصح أن يقال انّه ضارب باعتبار تلبّسه به في ذلك الزمان.

يلاحظ عليه : أنّ اجراء المشتق على الموضوع في المثال المذكور يتصوّر على وجهين :

أ. أن يكون زمان التلبّس بالمبدإ في الخارج متحدا مع زمان النسبة الكلامية ، كأن يقول زيد ضارب أمس ، حاكيا عن تلبّسه بالمبدإ في ذلك الزمان ، فهو حقيقة ومعدود من قبيل المتلبّس لأنّ المراد كونه ضاربا في ذلك الظرف.

ب. أن يكون زمان التلبّس بالمبدإ في الخارج مختلفا مع زمان النسبة الكلامية ، كأن يقول : زيد ـ باعتبار تلبّسه بالمبدإ أمس ـ ضارب الآن ، فالجري مجاز ومن قبيل ما انقضى عنه المبدأ.

٢٩

تطبيق

١. قال رجل لعليّ بن الحسين عليهما‌السلام : أين يتوضأ الغرباء؟ قال : «تتّقي شطوط الأنهار ، والطرق النافذة ، وتحت الأشجار المثمرة». (١)

فعلى القول بالوضع للمتلبس بالمبدإ يختص الحكم بما إذا كانت مثمرة فعلا ، بخلاف القول بأعم من المتلبس وغيره فيشمل الشجرة المثمرة ولو بالقوة كما إذا فقدت قوّة الإثمار لأجل طول عمرها.

٢. عن أبي عبد الله عليه‌السلام في المرأة ماتت وليس معها امرأة تغسلها ، قال : «يدخل زوجها يده تحت قميصها فيغسلها إلى المرافق». (٢)

فلو قلنا بأنّ المشتق حقيقة في المنقضي أيضا ، فيجوز للزوج المطلّق تغسيلها عند فقد المماثل وإلاّ فلا.

إذا وقفت على تلك الأمور ، فاعلم أنّ كتابنا هذا مرتّب على مقاصد ، وكلّ مقصد يتضمن فصولا :

__________________

(١) الوسائل : ١ ، الباب ١٥ من أبواب أحكام الخلوة ، الحديث ١.

(٢) الوسائل : ٢ ، الباب ٢٤ من أبواب غسل الميت ، الحديث ٨.

٣٠

المقصد الأوّل

في الأوامر وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في مادة الأمر.

الفصل الثاني : في هيئة الأمر.

الفصل الثالث : في إجزاء امتثال الأمر الواقعي والظاهري.

الفصل الرابع : مقدمة الواجب وتقسيماتها.

الفصل الخامس : في تقسيمات الواجب.

الفصل السادس : اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه.

الفصل السابع : إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز.

الفصل الثامن : الأمر بالأمر بفعل ، أمر بذلك الفعل.

الفصل التاسع : الأمر بالشيء بعد الأمر به تأكيد أو تأسيس.

٣١

الفصل الأوّل

في مادّة الأمر

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل : لفظ الأمر مشترك لفظي

إنّ لفظ الأمر مشترك لفظي بين معنيين هما :

الطلب والفعل ، وإليهما يرجع سائر المعاني التي ذكرها أهل اللغة.

لا خلاف بين الجميع في صحّة استعماله في الطلب كقوله سبحانه : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (النور / ٦٣).

وإنّما الخلاف في المعنى الثاني ، والظاهر صحّة استعماله في الفعل لوروده في القرآن. كقوله سبحانه : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ)(آل عمران / ١٥٤) ، : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (البقرة / ٢١٠) و (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران / ١٥٩).

ثمّ الأمر إن كان بمعنى الطلب ـ أي طلب الفعل من الغير ـ فيجمع على أوامر ، كما أنّه إذا كان بمعنى الفعل فيجمع على أمور والاختلاف في صيغة الجمع دليل على أنّه موضوع لمعنيين مختلفين.

٣٢

المبحث الثاني : اعتبار العلوّ والاستعلاء في صدق مادّة الأمر بمعنى الطلب

اختلف الأصوليون في اعتبار العلو والاستعلاء في صدق الأمر بمعنى الطلب على أقوال:

١. يعتبر في صدق مادة الأمر وجود العلوّ في الآمر دون الاستعلاء ، لكفاية صدور الطلب من العالي وإن كان مستخفضا لجناحه عند العقلاء ، وهوخيرة المحقّق الخراساني قدس‌سره

٢. يعتبر في صدق مادة الأمر كلا الأمرين ، فلا يعدّ كلام المولى مع عبده أمرا إذا كان على طريق الاستدعاء ، وهو خيرة السيد الإمام الخميني قدس‌سره.

٣. يعتبر في صدق مادة الأمر أحد الأمرين : العلو أو الاستعلاء ، أمّا كفاية العلو فلما تقدّم في دليل القول الأوّل ، وأمّا كفاية الاستعلاء ، فلأنّه يصحّ تقبيح الطالب السافل المستعلي ، ممّن هو أعلى منه وتوبيخه بمثل «إنّك لم تأمرني؟».

٤. لا يعتبر في صدق مادة الأمر واحد منهما ، وهو خيرة المحقّق البروجردي قدس‌سره.

الظاهر هو القول الثاني ، فإنّ لفظ الأمر في اللغة العربية معادل للفظ «فرمان» في اللغة الفارسية ، وهو يتضمن علوّ صاحبه ، ولذلك يذم إذا أمر ولم يكن عاليا.

وأمّا اعتبار الاستعلاء فلعدم صدقه إذا كان بصورة الاستدعاء ، ويشهد له قول بريرة(١) لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تأمرني يا رسول الله؟ قال : إنّما أنا شافع» فلو كان

__________________

(١) روى أحمد بن حنبل في مسنده عن ابن عباس : لما خيّرت بريرة (بعد ما أعتقت وخيّرت بين البقاء مع زوجها أو الانفصال عنه) رأيت زوجها يتبعها في سكك المدينة ودموعه تسيل على لحيته ، فكلّم العباس ليكلّم فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبريرة انّه زوجك ، فقالت : تأمرني يا رسول الله؟ قال : «إنّما أنا شافع» ، قال : فخيّرها فاختارت نفسها. (مسند أحمد : ١ / ٢١٥).

٣٣

مجرد العلو كافيا لما انفك طلبه من كونه أمرا.

المبحث الثالث : في دلالة مادة الأمر على الوجوب

إذا طلب المولى من عبده شيئا بلفظ الأمر كأن يقول : آمرك بكذا ، فهل يدل كلامه على الوجوب أو لا؟

الظاهر هو الأوّل ، لأنّ السامع ينتقل من سماع لفظ الأمر إلى لزوم الامتثال الذي يعبّر عنه بالوجوب ، ويؤيّد هذا الانسباق والتبادر بالآيات التالية :

١. قوله سبحانه : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (النور / ٦٣) حيث هدّد سبحانه على مخالفة الأمر ، والتهديد دليل الوجوب.

٢. قوله سبحانه : (ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) (الأعراف / ١٢) حيث ذمّ سبحانه إبليس لمخالفة الأمر ، والذم آية الوجوب.

٣. قوله تعالى : (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ)(التحريم/٦) حيث سمّى سبحانه مخالفة الأمر عصيانا ، والوصف بالعصيان دليل الوجوب.

مضافا إلى ما ورد في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك».(١)ولزوم المشقّة آية كونه مفيدا للوجوب إذ لا مشقّة في الاستحباب.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، كتاب الطهارة ، أبواب السواك ، الباب ٣ ، الحديث ٤.

٣٤

الفصل الثاني

في هيئة الأمر

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل : في بيان مفاد الهيئة

اختلفت كلمة الأصوليين في معنى هيئة افعل على أقوال منها :

١. انّها موضوعة للوجوب.

٢. انّها موضوعة للندب.

٣. انّها موضوعة للجامع بين الوجوب والندب ، أي الطلب إلى غير ذلك.

والحقّ انّها موضوعة لإنشاء البعث إلى إيجاد متعلّقه ويدلّ عليه التبادر والانسباق ، فقول المولى لعبده : اذهب إلى السوق واشتر اللحم عبارة أخرى عن بعثه إلى الذهاب وشراء اللحم.

ثمّ إنّ بعث العبد إلى الفعل قد يكون بالإشارة باليد ، كما إذا أشار المولى بيده إلى خروج العبد وتركه المجلس ، وأخرى بلفظ الأمر كقوله : اخرج ، فهيئة افعل في الصورة الثانية قائمة مقام الإشارة باليد ، فكما أنّ الإشارة باليد تفيد البعث إلى المطلوب ، فهكذا القائم مقامها من صيغة افعل ، وإنّما الاختلاف في كيفية الدلالة ،

٣٥

فدلالة الهيئة على إنشاء البعث لفظية بخلاف دلالة الأولى.

سؤال : انّ هيئة افعل وإن كانت تستعمل في البعث كقوله سبحانه : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (البقرة / ٤٣) أو قوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة /١) ولكن ربما تستعمل في غير البعث أيضا :كالتعجيز مثل قوله سبحانه : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (البقرة / ٢٣).

والتمنّي كقول الشاعر :

ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

إلى غير ذلك من المعاني المختلفة المغايرة للبعث. فيلزم أن تكون الهيئة مشتركة بين المعاني المختلفة من البعث والتعجيز والتمنّي.

الجواب : انّ هيئة افعل قد استعملت في جميع الموارد في البعث إلى المتعلّق والاختلاف إنّما هو في الدواعي ، فتارة يكون الداعي من وراء البعث هو إيجاد المتعلّق في الخارج ، وأخرى يكون الداعي هو التعجيز ، وثالثة التمني ، ورابعة هو الإنذار كقوله : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة / ١٠٥) إلى غير ذلك من الدواعي ، ففي جميع الموارد يكون المستعمل فيه واحدا وإنّما الاختلاف في الدواعي من وراء إنشائه.

ونظير ذلك ، الاستفهام فقد يكون الداعي هو طلب الفهم ، وأخرى أخذ الإقرار مثل قوله : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر / ٩).

والمستعمل فيه في الجميع واحد وهو إنشاء طلب الفهم.

٣٦

المبحث الثاني : دلالة هيئة الأمر على الوجوب

قد عرفت أنّ هيئة افعل موضوعة لإنشاء البعث وأنّها ليست موضوعة للوجوب ولا للندب ، وإنّهما خارجان عن مدلول الهيئة ـ ومع ذلك ـ هناك بحث آخر ، وهو أنّه لا إشكال في لزوم امتثال أمر المولى إذا علم أنّه يطلب على وجه اللزوم إنّما الكلام فيما إذا لم يعلم فهل يجب امتثاله أو لا؟ الحقّ هو الأوّل.

لأنّ العقل يحكم بلزوم تحصيل المؤمّن في دائرة المولوية والعبودية ولا يصحّ ترك المأمور به بمجرّد احتمال أن يكون الطلب طلبا ندبيا وهذا ما يعبّر عنه في سيرة العقلاء بأنّ ترك المأمور به لا بدّ أن يستند إلى عذر قاطع ، فخرجنا بالنتيجة التالية :

١. انّ المدلول المطابقي لهيئة افعل هو إنشاء البعث.

٢. الوجوب ولزوم الامتثال مدلول التزامي لها بحكم العقل.

المبحث الثالث : استفادة الوجوب من أساليب أخرى

إنّ للقرآن والسنّة أساليب أخرى في بيان الوجوب والإلزام غير صيغة الأمر ، فتارة يعبّر عنه بلفظ الفرض والكتابة مثل قوله سبحانه : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ)(التحريم / ٢) ، وقال : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) (البقرة / ١٨٢) ، وقال : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (النساء / ١٠٣).

وأخرى يجعل الفعل في عهدة المكلّف قال : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران / ٩٧).

وثالثة يخبر عن وجود شيء في المستقبل مشعرا بالبعث الناشئ عن إرادة

٣٧

أكيدة ، قال سبحانه : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) (البقرة / ٢٣٣).

وأمّا السنّة فقد تظافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت في أبواب الطهارة والصلاة وغيرهما كقولهم : «يغتسل» ، «يعيد الصلاة» أو «يستقبل القبلة» فالجمل الخبرية في هذه الموارد وإن استعملت في معناها الحقيقي ، أعني : الإخبار عن وجود الشيء في المستقبل ، لكن بداعي الطلب والبعث. وقد عرفت أنّ بعث المولى لا يترك بلا دليل.

المبحث الرابع : الأمر عقيب الحظر

إذا ورد الأمر عقيب الحظر فهل يحمل الأمر على الوجوب أو لا؟

فمثلا قال سبحانه : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ).

ثمّ قال : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ...) (المائدة / ١ و ٢).

فقد اختلف الأصوليون في مدلول هيئة الأمر عقيب الحظر على أقوال :

أ. ظاهرة في الوجوب.

ب. ظاهرة في الإباحة.

ج. فاقدة للظهور.

والثالث هو الأقوى ، لأنّ تقدّم الحظر يصلح لأن يكون قرينة على أنّ الأمر الوارد بعده لرفع الحظر لا للإيجاب ، فتكون النتيجة هي الإباحة ، كما يحتمل أنّ المتكلم لم يعتمد على تلك القرينة وأطلق الأمر لغاية الإيجاب ، فتكون النتيجة هي الوجوب ، ولأجل الاحتمالين يكون الكلام مجملا.

٣٨

نعم إذا قامت القرينة على أنّ المراد هو رفع الحظر فهو أمر آخر خارج عن البحث.

المبحث الخامس : المرّة والتكرار

إذا دلّ الدليل على أنّ المولى يطلب الفعل مرّة واحدة كقوله سبحانه : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (آل عمران / ٩٧) ، أو دلّ الدليل على لزوم التكرار كقوله سبحانه : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة / ١٨٥) فيتبع مدلوله.

وأمّا إذا لم يتبيّن واحد من الأمرين ، فهل تدلّ على المرّة أو على التكرار أو لا تدلّ على واحد منهما؟

الحقّ هو الثالث ، لأنّ الدليل إمّا هو هيئة الأمر أو مادته ، فالهيئة وضعت لنفس البعث ، والمادّة وضعت لصرف الطبيعة ، فليس هناك ما يدلّ على المرّة والتكرار واستفادتهما من اللفظ بحاجة إلى دليل.

المبحث السادس : الفور والتراخي

اختلف الأصوليون في دلالة هيئة الأمر على الفور أو التراخي على أقوال :

١. انّها تدلّ على الفور.

٢. انّها تدلّ على التراخي.

٣. انّها لا تدلّ على واحد منهما.

والحقّ هو القول الثالث لما تقدّم في المرّة والتكرار من أنّ الهيئة وضعت للبعث ، والمادة وضعت لصرف الطبيعة ، فليس هناك ما يدلّ على واحد منهما.

٣٩

استدل القائل بالفور بآيتين :

١. قوله سبحانه : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران / ١٣٣).

وجه الاستدلال : ان المغفرة فعل لله تعالى ، فلا معنى لمسارعة العبد إليها ، فيكون المراد هو المسارعة إلى أسباب المغفرة ومنها فعل المأمور به.

يلاحظ عليه : بأنّ أسباب المغفرة لا تنحصر بالواجبات إذ المستحبات أيضا من أسبابها ، وعندئذ لا يمكن أن تكون المسارعة واجبة مع كون أصل العمل مستحبا.

٢. قوله سبحانه : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) (المائدة / ٤٨).

فظاهر الآية وجوب الاستباق نحو الخير والإتيان بالفرائض ـ الذي هو من أوضح مصاديقه ـ فورا.

يلاحظ عليه : أنّ مفاد الآية بعث العباد نحو العمل بالخير بأن يتسابق كلّ على الآخر مثل قوله سبحانه : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) (يوسف / ٢٥) ولا صلة للآية بوجوب مبادرة كلّ مكلّف إلى ما وجب عليه وإن لم يكن في مظنة السبق.

٤٠