الموجز في أصول الفقه

الشيخ جعفر السبحاني

الموجز في أصول الفقه

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١٤
ISBN: 978-964-357-324-9
الصفحات: ٢٤٨

وقد استدلّ القوم على وجود دليل يقدّم على الإطلاق بوجوه نذكر بعضها :

الأوّل : انّ الموافقة القطعية في الشبهة غير المحصورة أمر موجب للعسر والحرج ، ومعه لا يكون التكليف فعليا ، فيجوز ارتكاب الأطراف جميعها أو بعضها.

الثاني : الروايات الواردة حول الجبن وغيرها المحمولة على الشبهة غير المحصورة ، الدالة على عدم وجوب الاجتناب ، منها :

١. روى إسحاق بن عمّار عن الرجل يشتري من العامل وهو يظلم ، قال : «يشتري منه ما لم يعلم أنّه ظلم فيه أحدا». (١)

٢. ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، قال : سألته عن الرجل أيشتري من العامل وهو يظلم؟ فقال : «يشتري منه». (٢)

وقد وردت روايات في أخذ جوائز الظالم. (٣)

إلى غير ذلك من الروايات المورثة لليقين بعدم وجوب الموافقة القطعية.

تنبيه

إذا كان المردّد في الشبهة غير المحصورة أفرادا كثيرة نسبة مجموعها إلى المشتبهات كنسبة الشيء إلى الأمور المحصورة ، كما إذا علم بوجود مائة شاة محرّمة في ضمن ألف شاة ، فإنّ نسبة المائة إلى الألف نسبة الواحد إلى العشرة ، وهذا ما يسمّى بشبهة الكثير في الكثير ، فالعلم الإجمالي هنا منجز ، والعقلاء يتعاملون معه معاملة الشبهة المحصورة ، ولا يعد احتمال الحرمة في كلّ طرف احتمالا ضئيلا.

__________________

(١ و ٢). الوسائل : ١٢ ، الباب ٥٣ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٢ و ٣ ، ولاحظ الباب ٥٢ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١ و ٣.

(٣) لاحظ الوسائل : ١٢ ، الباب ٥١ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١.

٢٠١

المقام الثاني : الشبهة الوجوبية

إنّ الشبهة الوجوبية في المكلّف به تنقسم إلى قسمين ، تارة يكون الشك مردّدا بين المتباينين كتردّد الأمر بين وجوب الظهر أو الجمعة ، وأخرى بين الأقل والأكثر كتردّد الواجب بين الصلاة مع السورة أو بدونها ، وبذلك يقع الكلام في موضعين.

الموضع الأوّل : الشبهة الوجوبية الدائرة بين متباينين

إذا دار الواجب بين أمرين متباينين ، فمنشأ الشك إمّا فقدان النص أو إجماله ، أو تعارض النصّين ، أو الشبهة الموضوعية ، فهناك مسائل أربع : وإليك البحث فيها بوجه موجز :

١. إذا تردّد الواجب بغيره لأجل فقدان النصّ ، كتردّده بين الظهر والجمعة.

٢. إذا تردّد الواجب بغيره لأجل إجمال النص بأن يتعلّق التكليف الوجوبي بأمر مجمل، كقوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (البقرة / ٢٣٨) حيث إنّ الصلاة الوسطى مردّدة بين عدّة منها.

٣. إذا تردّد الواجب بغيره لأجل تعارض النصّين وتكافؤهما ، كما إذا دار الأمر بين القصر والإتمام.

٤. إذا تردّد الواجب بغيره من جهة اشتباه الموضوع ، كما في صورة اشتباه الفائتة بين العصر والمغرب.

إنّ الخلاف في هذه المسائل كالخلاف في الشبهة التحريمية ، والمختار هو المختار طابق النعل بالنعل ، فيجب الاحتياط في الأولى والثانية والرابعة ، وأمّا الثالثة ، فالمشهور فيها التخيير ، لأخبار التخيير السليمة عن المعارض.

٢٠٢

الموضع الثاني : الشبهة الوجوبية الدائرة بين الأقل والأكثر

إنّ الأقل والأكثر ينقسمان إلى استقلاليين وارتباطيين والفرق بينهما ، هو انّ وجوب الأقل وامتثاله في الاستقلالي يغاير وجوب الأكثر ـ على فرض وجوبه ـ وامتثاله ، فلكل وجوب وامتثال ، كالدين المردّد بين الدينار والدينارين ، والظاهر وجوب امتثال الأقل ، وعدم لزوم امتثال الأكثر لعدم ثبوت وجوبه ، بخلاف الأقل في الارتباطي فانّه على فرض وجوب الأكثر يكون واجبا بنفس وجوب الأكثر فلهما وجوب واحد وامتثال فارد ، ولذلك اختلفوا في جواز الاقتصار بالأقل ، أو لزوم الإتيان بالأكثر.

ونقتصر بالبحث هنا على الأقل والأكثر الارتباطيين ، ويبحث عنه ضمن مسائل أربع:

المسألة الأولى : دوران الأمر بين الأقل والأكثر لأجل فقدان النص

إذا شككنا في جزئية السورة ، أو جلسة الاستراحة ، أو شرطية إباحة ثوب المصلّي فيكون الواجب مردّدا بين الأقل كالصلاة بلا سورة وبلا جلسة الاستراحة ... ، أو الأكثر كالصلاة مع السورة ومع جلسة الاستراحة ، فهل الإتيان بالأكثر مجرى للبراءة ، أو مجرى للاحتياط؟ والمختار هو البراءة.

واعلم أنّه يعتمد في تقرير البراءة العقلية على مسألة قبح العقاب بلا بيان ، فيقال في المقام انّ الجزء المشكوك لم يرد في وجوبه بيان ، فلو تركه العبد وكان واجبا في الواقع فالعقاب على تركه عقاب بلا بيان وهو قبيح على الحكيم.

كما أنّه يعتمد في تقرير البراءة الشرعية لأجل رفع الوجوب الشرعي ، على حديث الرفع ، فيقال انّ وجوب الأكثر بعد «مما لا يعلمون» وكلّ ما كان كذلك فهو مرفوع.

٢٠٣

استدلال القائلين بالاحتياط

إنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية ، فذمّة المكلّف مشغولة بالواجب المردّد بين الأقل والأكثر ، ولا يحصل اليقين بالبراءة إلاّ بالإتيان بالأكثر نظير ما إذا دار أمر الصلاة الفائتة بين إحدى الصلاتين : المغرب أو العشاء ، فيجب الإتيان بالأقل والأكثر كما يجب الإتيان بكلتا الصلاتين.

يلاحظ عليه : وجود الفرق بين المشبّه (دوران الواجب بين الأقل والأكثر) والمشبّه به (دوران الواجب بين المتباينين) فانّ العلم الإجمالي في الثاني باق على حاله حيث إنّ الواجب مردد بين شيئين مختلفين غير متداخلين كصلاتي المغرب والعشاء.

وهذا بخلاف المقام فانّ الترديد زائل بأدنى تأمّل حيث يعلم وجوب الأقل على كلّ حال ، بنحو لا يقبل الترديد ، وإنّما الشك في وجوب الزائد أي السورة ، ففي مثله يكون وجوب الأقل معلوما على كلّ حال ، ووجوب الزائد مشكوكا من رأس ، فيأخذ بالمتيقن وتجري البراءة في المشكوك.

ومن ذلك يعلم أنّ عدّ الشكّ في الأقل والأكثر الارتباطيين من باب العلم الإجمالي إنّما هو بظاهر الحال وبدء الأمر ، وأمّا بالنسبة إلى حقيقة الأمر فوجوب الزائد داخل في الشبهة البدوية التي اتفق الأخباري والأصولي على جريان البراءة فيها.

المسألة الثانية : دوران الأمر بين الأقل والأكثر لأجل إجمال النص

إذا دار الواجب بين الأقل والأكثر لأجل إجمال النصّ ، كما إذا علّق الوجوب في الدليل اللفظي بلفظ مردّد معناه بين مركبين يدخل أقلّهما تحت الأكثر بحيث يكون إتيان الأكثر إتيانا للأقل ، ولا عكس ، كما إذا دلّ الدليل على غسل

٢٠٤

ظاهر البدن ، فيشك في أنّ الجزء الفلاني كداخل الأذن من الظاهر أو من الباطن ، والحكم فيه كالحكم في السابق ، ونزيد هنا بيانا :

إنّ الملاك في جريان البراءة الشرعية هو رفع الكلفة المشكوكة ، فكلّ شيء فيه كلفة زائدة وراء الكلفة الموجودة في الأقل ، يقع مجرى للبراءة الشرعية.

المسألة الثالثة : دوران الأمر بين الأقل والأكثر لأجل تعارض النصّين

إذا تعارض نصّان متكافئان في جزئية شيء ، كأن يدل أحد الدليلين على جزئية السورة ، والآخر على عدمها ، ولم يكن لأحدهما مرجح ، فالحكم فيه هو التخيير ، لما عرفت من تضافر الروايات العديدة على التخيير عند التعارض.

المسألة الرابعة : دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الشبهة الموضوعية

إذا شكّ في جزئية شيء للمأمور به من جهة الشبهة في الموضوع الخارجي ، كما إذا أمر بمفهوم مبيّن مردّد مصداقه بين الأقل والأكثر ، وهذا كما إذا أمر المولى بإكرام العلماء على نحو العام المجموعي بحيث تكون للجميع إطاعة واحدة وعصيان واحد ، فالشكّ في كون زيد عالما أو غير عالم شكّ في كون الواجب هو الأقل أو الأكثر ومنشأ الشكّ هو خلط الأمور الخارجية وبما انّ عنوان المجموع ، عنوان طريقي إلى الواجب ففي الحقيقة يتردّد الواجب بين الأقل والأكثر فتجري البراءة.

حكم الشكّ في المانعية والقاطعية

المراد من المانع ما اعتبره الشارع بما أنّ وجوده مخلّ بتأثير الأجزاء في الغرض

٢٠٥

المطلوب كنجاسة الثوب في حال الصلاة.

والمراد من القاطع ما اعتبره الشارع بما انّه قاطع للهيئة الاستمرارية كالفعل الماحي للصورة الصلاتية.

فإذا شككنا في مانعية شيء أو قاطعيته ، فمرجع الشك إلى اعتبار أمر زائد على الواجب ـ وراء ما علم اعتباره ، فيحصل هنا علم تفصيلي ، بوجوب الأجزاء وشك بدوي في مانعية شيء أو قاطعيته ـ فالأصل عدم اعتبارهما إلى أن يعلم خلافه ، فالشكّ فيهما كالشكّ في جزئية شيء أو شرطيته في أنّ المرجع في الجميع هو البراءة.

والحمد لله ربّ العالمين

٢٠٦

الفصل الرابع

الاستصحاب

لإيضاح الحال نذكر أمورا :

الأوّل : تعريف الاستصحاب وهو في اللغة أخذ الشيء مصاحبا أو طلب صحبته ، وفي الاصطلاح «إبقاء ما كان على ما كان» مثلا إذا كان المكلف متيقنا بأنّه متطهّر من الحدث ، ولكن بعد فترة شك في حصول حدث ناقض طهارته ، فيبني على بقائها ، وأنّه بعد متطهر ، فتكون النتيجة : «إبقاء ما كان على ما كان» ويختلف عن الأصول الثلاثة السابقة باختلاف المجرى ، فانّ مجرى الأصول الثلاثة هو الشكّ في الشيء من دون لحاظ الحالة السابقة ، إمّا لعدمها أو لعدم لحاظها ، وهذا بخلاف الاستصحاب فانّ مجراه هو لحاظ الحالة السابقة.

الثاني : أركان الاستصحاب

إنّ الاستصحاب يتقوم بأمور منها :

١. اليقين بالحالة السابقة والشكّ (١) في بقائها.

٢. اجتماع اليقين والشكّ في زمان واحد عند المستصحب ، أي فعلية اليقين في ظرف الشكّ.

٣. تعدد زمان المتيقن والمشكوك.

__________________

(١) المراد بالشكّ هو اللاحجّة فيعم الظن غير المعتبر والاحتمال المساوي والوهم.

٢٠٧

٤. سبق زمان المتيقّن على زمان المشكوك.

٥. وحدة متعلّق اليقين والشكّ.

الثالث : تطبيقات

ألف : استصحاب الكرية إذا كان الماء مسبوقا بها فيترتب عليه عدم نجاسة الماء بالملاقاة بالنجس.

ب : استصحاب عدم الكرية إذا كان الماء مسبوقا به فيترتّب عليه نجاسة الماء بالملاقاة بالنجس.

ج : استصحاب حياة زيد فيترتب عليه حرمة قسمة أمواله وبقاء علقة الزوجية بينه وبين زوجته.

الرابع : الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين

وهناك قاعدة أخرى تسمّى في مصطلح الأصوليين بقاعدة اليقين، وهذا كما إذا تيقّن بعدالة زيد يوم الجمعة ثم طرأ عليه الشكّ يوم السبت في عدالة زيد في نفس يوم الجمعة (لا السبت) وممّا ذكرنا يظهر انّه تختلف عن الاستصحاب في الأمرين التاليين :

أ. عدم فعلية اليقين لزواله بالشك.

ب. وحدة متعلّقي اليقين والشكّ جوهرا وزمانا.

والمعروف بين الأصحاب انّ الاستصحاب حجّة دون قاعدة اليقين. وانّ روايات الباب منطبقة على الأوّل دون الثانية كما سيوافيك.

٢٠٨

أدلّة حجّية الاستصحاب

اختلف الأصوليون في كيفيّة حجّية الاستصحاب ، فذهب القدماء إلى أنّه حجّة من باب الظن ، واستدلوا عليه بالوجوه التالية :

١. بناء العقلاء على العمل على وفق الحالة السابقة ، ولم يثبت الردع عنه من جانب الشارع.

يلاحظ عليه ـ مضافا إلى عدم كلّيتها ، فانّ العقلاء لا يعملون في الأمور الخطيرة على وفق الاستصحاب وإن أفاد الظن ـ : أنّه يكفي في الردع ما دلّ من الكتاب والسنّة على النهي عن اتّباع غير العلم ، وقد مرّت تلك الآيات عند البحث عن حجّية خبر الواحد.

٢. ما استند إليه العضدي في شرح المختصر ، فقال : إنّ استصحاب الحال :انّ الحكم الفلاني قد كان ولم يظن عدمه ، وكلّ ما كان كذلك فهو مظنون البقاء.

يلاحظ عليه : أوّلا : بمنع كلية الكبرى ، لمنع إفادة الاستصحاب الظن في كلّ مورد ، وثانيا سلّمنا لكن الأصل في الظنون عدم الحجّية إلاّ أن يدلّ دليل قاطع عليها.

٣. الاستدلال بالإجماع ، قال العلاّمة : الاستصحاب حجّة لإجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكم ، ثمّ وقع الشكّ في طروء ما يزيله ، وجب الحكم على ما كان أوّلا ، ولو لا القول بأنّ الاستصحاب حجّة لكان ترجيحا لأحد طرفي الممكن من غير مرجّح.

يلاحظ عليه : عدم حجّية الإجماع المنقول ، خصوصا إذا علم مستند المجمعين. أضف إلى ذلك مخالفة عدّة من الفقهاء مع الاستصحاب.

وأمّا المتأخرون فقد استدلّوا بالأخبار ، وأوّل من استدلّ بها الشيخ الجليل

٢٠٩

الحسين بن عبد الصمد والد الشيخ بهاء الدين العاملي (٩١٨ ـ ٩٨٤ ه‍) في كتابه المعروف ب «العقد الطهماسبي» وهي عدّة روايات :

١. صحيحة زرارة الأولى

روى الشيخ الطوسي بإسناده ، عن الحسين بن سعيد عن حمّاد ، عن حريز ، عن زرارة قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : «يا زرارة : قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن ، فإذا نامت العين والأذن والقلب وجب الوضوء».

قلت : فإن حرّك على جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال : «لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ ، وإنّما تنقضه بيقين آخر». (١)

وجه الدلالة : أنّ المورد وإن كان هو الوضوء ، لكن قوله : «ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ» إلى آخره ظاهر في أنّه قضية كلّية طبّقت على مورد الوضوء ، فلا فرق بين الشكّ في الوضوء وغيره. وانّ اللاّم في قوله : «اليقين» لام الجنس لا العهد ، ويدلّك على هذا ، أنّ التعليل بأمر ارتكازيّ وهو عدم نقض مطلق اليقين بالشك ، لا خصوص اليقين بالوضوء.

٢. صحيحة زرارة الثانية

روى الشيخ في التهذيب (٢) عن زرارة رواية مفصّلة تشتمل على أسئلة وأجوبة ، ونحن ننقل مقاطع منها :

أصاب ثوبي دم رعاف ، أو غيره ، أو شيء من مني ، فعلّمت أثره إلى أن

__________________

(١) الوسائل : ١ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١.

(٢) رواه عن زرارة بنفس السند السابق.

٢١٠

أصيب له الماء ، فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئا وصلّيت ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك.

قال : «تعيد الصلاة وتغسله».

قلت : فإنّي لم أكن رأيت موضعه ، وعلمت أنّه قد أصابه فطلبته فلم أقدر عليه ، فلما صلّيت وجدته؟

قال : «تغسله وتعيد».

قلت : فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا ، ثمّ صلّيت فرأيت فيه؟

قال : «تغسله ولا تعيد الصلاة» ، قلت : لم ذلك؟

قال : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا». (١)

وجه الاستدلال : يركّز الراوي في سؤاله الثالث على أنّه ظن ـ قبل الدخول في الصلاةـ بإصابة الدم بثوبه ولكن لم يتيقن ذلك فنظر فلم ير شيئا فصلّى فلما فرغ عنها رأى الدم ـ الذي ظن به قبل الصلاة ـ فأجاب الإمام عليه‌السلام بأنّه يغسل ثوبه للصلوات الأخرى ولكن لا يعيد ما صلّى. فسأل الراوي عن سببه مع أنّه صلّى في الثوب النجس ، كالصورتين الأوليين فأجاب عليه‌السلام : بوجود الفرق ، وهو علمه السابق بنجاسة ثوبه في الصورتين فدخل في الصلاة بلا مسوّغ شرعي ، وشكّه فيها بعد الإذعان بطهارته في الصورة الثالثة فدخل فيها بمجوز شرعي وهو عدم نقض اليقين بالطهارة ، بالشك في النجاسة ومنه يعلم أنّ ظرف الاستصحاب هو قبيل الدخول فيها.

__________________

(١) الوسائل : ٢ ، الباب ٤١ من أبواب النجاسات ، الحديث ١ ، وقد تركنا نقل الأسئلة الباقية للاختصار.

٢١١

ثم إنّ للاستصحاب دورا فقط في إحراز الصغرى : أعني : طهارة الثوب ، ويترتب عليه أمر الشارع بجواز الصلاة فيه ، ومن المعلوم أنّ امتثال الأمر الشرعي واقعيا كان أو ظاهريا مسقط للتكليف ، كما مرّ في مبحث الاجزاء.

٣. حديث الأربعمائة (١)

روى أبو بصير ، ومحمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أنّه قال : «من كان على يقين ثمّ شكّ فليمض على يقينه ، فانّ الشكّ لا ينقض اليقين». (٢)

والرواية صالحة للاستدلال بها على حجية قاعدة اليقين إذا كان متعلّق اليقين والشك واحدا ذاتا وزمانا ، بأن يكون مفادها ، من كان على يقين (من عدالة زيد يوم الجمعة) ثم شك (في عدالته في نفس ذلك اليوم وبالتالي شك في صحة الطلاق الذي طلق عنده) فليمض على يقينه.

كما هي صالحة للاستدلال بها على حجية الاستصحاب إذا كان متعلّق الشك غير متعلّق اليقين زمانا ففي المثال : إذا أيقن بعدالته يوم الجمعة وشك في بقائها يوم السبت فليمض على يقينه (مثلا ليطلق عنده).

لكنّها في الاستصحاب أظهر لوجهين :

١. انّ الصحاح السابقة تشكل قرينة منفصلة على تفسير هذه الرواية فتحمل إلى ما حملت عليه الروايات السابقة.

٢. انّ التعليل في الحديث تعليل بأمر ارتكازي وهو موجود في الاستصحاب دون قاعدة اليقين لفعلية اليقين في الأوّل دون الآخر.

__________________

(١) المراد من حديث الأربعمائة ، الحديث الذي علّم فيه أمير المؤمنين عليه‌السلام أصحابه أربعمائة كلمة تصلح للمسلم في دينه ودنياه ، رواه الصدوق بسند صحيح ، عن أبي بصير ، ومحمد بن مسلم ، في كتاب الخصال في أبواب المائة وما فوقها. لاحظ ص ٦١٩.

(٢) الوسائل : ٧ ، باب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ١٣.

٢١٢

في تنبيهات الاستصحاب

التنبيه الأوّل : في فعلية الشك

يشترط في الاستصحاب فعلية الشكّ فلا يفيد الشكّ التقديريّ ، فلو تيقن الحدث من دون أن يشكّ ثمّ غفل وصلّى ثمّ التفت بعدها فشكّ في طهارته من حدثه السابق فلا يجري الاستصحاب ، لأنّ اليقين بالحدث وإن كان موجودا قبل الصلاة لكنّه لم يشك لغفلته ، ولأجل عدم جريانه يحكم عليه بصحّة الصلاة أخذا بقاعدة الفراغ ، لاحتمال أنّه توضّأ قبل الصلاة ، وهذا المقدار من الاحتمال كاف لجريان قاعدة الفراغ ، ولكن يجب عليه التوضّؤ بالنسبة إلى سائر الصلوات ، لأنّ قاعدة الفراغ لا تثبت إلاّ صحّة الصلاة السابقة ، وأمّا الصلوات الآتية فهي رهن إحراز الطهارة.

وهذا بخلاف ما إذا كان على يقين من الحدث ثمّ شكّ في وضوئه ومع ذلك غفل وصلّى والتفت بعدها فالصلاة محكومة بالبطلان لتماميّة أركان الاستصحاب وإن احتمل انّه توضّأ بعد الغفلة.

التنبيه الثاني : في استصحاب الكلّي

المراد من استصحاب الكلّي هو استصحاب الجامع بين الفردين ، كاستصحاب الإنسان المشترك بين زيد وعمرو ، وكاستصحاب الطلب الجامع بين الوجوب والندب ، وله أقسام ثلاثة :

القسم الأوّل من استصحاب الكلّي

إذا علم بتحقّق الكلّي في ضمن فرد ثمّ شكّ في بقائه وارتفاعه ، فلا محالة

٢١٣

يشك في بقاء الكلّي وارتفاعه ، فإذا علم بوجود زيد في الدار فقد علم بوجود الإنسان فيها، فإذا شكّ في بقائه فيها يجري هناك استصحابان :

أ. استصحاب بقاء الفرد ـ أعني : زيدا ـ.

ب. استصحاب بقاء الكلّي ـ أعني : الإنسان ـ.

وهكذا إذا صار محدثا بالحدث الأكبر ـ أعني : الجنابة ـ وشكّ في ارتفاعها بالرافع فيجوز له استصحاب الجنابة ، فيترتب عليه جميع آثار الجنابة كحرمة المكث في المساجد وعبور المسجدين الشريفين.

كما يجوز استصحاب الكلّي ، أي أصل الحدث الجامع بين الجنابة وسائر الأحداث، فيترتب عليه أثر نفس الحدث الجامع كحرمة مس كتابة القرآن.

القسم الثاني من استصحاب الكلّي

إذا علم إجمالا أنّ في الدار حيوانا مردّدا بين قصير العمر كالبق ، وطويله كالفيل ، فقد علم تفصيلا بوجود حيوان فيها ـ وإن كانت المشخّصات مجهولة ثمّ مضى زمان يقطع بانتفاء الفرد القصير فيشكّ في بقاء الحيوان في الدار ـ فلا يصحّ استصحاب الفرد مثل البقّ أو الفيل ، لعدم الحالة المتيقّنة للفرد ، لافتراض كون المشخّصات مجهولة ، ولكن يصحّ استصحاب الكلي.

ومثاله من الأمور الشرعية ما إذا كان متطهّرا وخرج بلل مردّد بين البول والمني ، فعندئذ حصل له علم تفصيلي بالحدث الكليّ. ثمّ إذا توضّأ بعده فلو كان البلل بولا ارتفع الحدث الأصغر قطعا ، ولو كان منيّا فهو باق ، وعندئذ لا يقطع بارتفاع الحدث الجامع لاحتمال كون الحادث هو المني.

فلا يجوز استصحاب أيّ فرد من أفراد الحدث لعدم العلم بالحالة السابقة ، لكن يصحّ استصحاب الجامع أي مطلق الحدث الجامع بين الأصغر والأكبر.

٢١٤

القسم الثالث من استصحاب الكلّي

إذا تحقّق الكلّي (الإنسان) في الدار في ضمن فرد كزيد ، ثمّ علم بخروجه من الدار قطعا ، ولكن يحتمل مصاحبة عمرو معه عند ما كان زيد في الدار ، أو دخوله فيها مقارنا مع خروجه.

ففي هذا المقام لا يجري استصحاب الفرد أصلا ، لأنّ الفرد الأوّل مقطوع الارتفاع والفرد الثاني مشكوك الحدوث من رأس ، ولكن يجري استصحاب الكلّي أي وجود الإنسان في الدار الذي هو الجامع بين الفردين.

مثاله في الأحكام الشرعية ما إذا علمنا بكون الشخص كثير الشك وعلمنا أيضا ارتفاع كثرة شكه إجمالا ، ولكن احتملنا ارتفاعها من رأس أو انقلابها إلى مرتبة ضعيفة ، فلا يجوز استصحاب المرتبة الشديدة لأنّها قطعية الارتفاع ، ولا المرتبة الضعيفة لأنّها مشكوكة الحدوث ، لكن يمكن استصحاب الجامع بين المرتبتين وهو كونه كثير الشكّ غير مقيد بالشدة والضعف.

التنبيه الثالث : عدم حجّية الأصل المثبت

يشترط في الاستصحاب أن يكون المستصحب إمّا حكما شرعيّا كاستصحاب أحد الأحكام الشرعية ـ كليّة أو جزئية ـ أو موضوعا لحكم شرعي كاستصحاب حياة زيد ، فانّها موضوعة لأحكام كثيرة ، مثل بقاء علقة الزوجية وحرمة تقسيم أمواله ، إلى غير ذلك من الآثار الشرعيّة.

فلو افترضنا أنّ زيدا غاب وله من العمر اثنا عشر عاما ، فشككنا في حياته بعد مضيّ ثلاثة أعوام من غيبته ، فلا يصحّ استصحاب حياته لغاية إثبات أثره العقلي ـ بلوغه ـ حتى يترتب عليه آثاره الشرعيّة من وجوب الإنفاق من ماله على والديه فالمراد من الأصل المثبت هو إجراء الاستصحاب لإثبات الأثر العقلي أو

٢١٥

العادي للمستصحب.

ذهب المحقّقون إلى عدم صحّته لأنّ الآثار العقلية وإن كانت أثرا لنفس المتيقّن، ولكنّها ليست آثارا شرعيّة ، بل آثار تكوينية غير خاضعة للجعل والاعتبار ، والآثار الشرعية المترتبة على تلك الأمور العادية والعقلية وإن كانت خاضعة للجعل لكنّها ليست آثارا للمتيقّن (الحياة) الذي أمرنا الشارع بإبقائه وتنزيل مشكوكه منزلة المتيقّن.

وإليك مثالا آخر :

مثلا إذا تعبّدنا الشارع بإبقاء شهر رمضان ، أو عدم رؤية هلال شوال في يوم الشك فإذا ضمّ هذا التعبد إلى العلم القطعي بمضيّ تسعة وعشرين يوما من أوّل الشهر قبل هذا اليوم ، يلازمه الأثر العادي وهو كون اليوم التالي هو عيد الفطر ، فهل يترتب على ذلك الأثر العادي ـ الملازم للاستصحاب ـ الأثر الشرعي من صحّة صلاة الفطر ولزوم إخراج الفطرة بعد الهلال ونحوهما؟

فالتحقيق : انّه لا يترتب على الاستصحاب ، الأثر العادي حتى يترتب عليه الأثر الشرعي ، لأنّ الذي تعبدنا الشارع بإبقائه هو بقاء شهر رمضان أو عدم رؤية هلال شوال ، فلصيانة تعبد الشارع عن اللغوية يترتب كل أثر شرعي على هذين المستصحبين ، لا الأثر العادي ، لأنّه غير خاضع للجعل والاعتبار ، فإنّ الأمور التكوينية تدور مدار الواقع.

وأمّا الآثار الشرعيّة المرتبة على ذلك الأثر العادي ، فهي وإن كانت خاضعة للجعل والاعتبار ، لكنّها ليست أثرا مترتبا على ما تعبدنا الشارع بإبقائه وهو كون اليوم شهر رمضان أو عدم كونه من شوال.

نعم استثنى بعض المحقّقين من الأصل المثبت موارد تطلب من الدراسات العليا.

٢١٦

التنبيه الرابع : تقدّم الأصل السببي على المسببي

إذا كان في المقام أصلان متعارضان ، غير أنّ الشك في أحدهما مسبب عن الشكّ في الآخر ، مثلا إذا كان ماء قليل مستصحب الطهارة ، وثوب متنجس قطعا ، فغسل الثوب بهذا الماء ، فهنا يجري بعد الغسل استصحابان :

أ. استصحاب طهارة الماء الذي به غسل الثوب النجس ، ومقتضاه طهارة الثوب المغسول به.

ب. استصحاب نجاسة الثوب وبقائها حتى بعد الغسل.

وعندئذ يقدّم الاستصحاب الأوّل على الاستصحاب الثاني ، لأنّ الشكّ في بقاء النجاسة في الثوب ـ بعد الغسل ـ ناشئ عن الشكّ في طهارة الماء الذي غسل به ، فإذا تعبدنا الشارع ببقاء طهارة الماء ظاهرا يكون معناه ترتيب ما للماء الطاهر الواقعي من الآثار على مستصحب الطهارة ، ومن جملة آثاره طهارة الثوب المغسول به ، فالتعبد ببقاء الأصل السببي يرفع الشك ، في جانب الأصل المسببي بمعنى انّ النجاسة هناك مرتفعة غير باقية فيكون الأصل السببي مقدّما على الأصل المسببي.

ويمكن أن يقال إنّ الأصل السببي ـ استصحاب طهارة الماء ـ ينقّح موضوع الدليل الاجتهادي ، فيكون الدليل الاجتهاديّ مقدّما على الأصل المسببي ، لأنّ استصحاب طهارة الماء يثبت موضوعا ، وهو أنّ هذا الماء طاهر ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر دلّ الدليل الاجتهادي أنّ كلّ نجس غسل بماء طاهر فهو طاهر ، فبضم الصغرى إلى الكبرى لا يبقى شكّ في طهارة الثوب وارتفاع نجاسته.

٢١٧

التنبيه الخامس : تقدّم الاستصحاب على سائر الأصول

يقدّم الاستصحاب على سائر الأصول ، لأنّ التعبّد ببقاء اليقين السابق وجعله حجّة في الآن اللاحق يوجب ارتفاع موضوعات الأصول ، أو حصول غاياتها ، وإليك البيان :

أ. إنّ موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان ، فإذا كان الشيء مستصحب الحرمة أو الوجوب ، فالأمر بالتعبّد بإبقاء اليقين السابق بيان من الشارع ، فلا يبقى موضوع للبراءة العقلية.

ب. كما أنّ موضوع البراءة الشرعية هو «ما لا يعلمون» والمراد من العلم هو الحجّة الشرعيّة ، والاستصحاب كما قرّرناه حجّة شرعيّة على بقاء الوجوب والحرمة في الأزمنة اللاحقة ، فيرتفع موضوع البراءة الشرعية.

ج. إنّ موضوع التخيير هو تساوي الطرفين من حيث الاحتمال ، والاستصحاب بحكم الشرع هادم لذلك التساوي.

د. إنّ موضوع الاشتغال هو احتمال العقاب في الفعل أو الترك ، والاستصحاب بما أنّه حجّة مؤمّنة ، فالاستصحاب بالنسبة إلى هذه الأصول رافع لموضوعها. وإن شئت فسمّه واردا عليها.

وربّما يكون الاستصحاب موجبا لحصول غاية الأصل كما هو الحال في أصالتي الطهارة والحليّة ، فإنّ الغاية في قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» ، وفي قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام» وإن كان هو العلم ، لكن المراد منه هو الحجّة ، وبما انّ الاستصحاب حجّة ، فمع جريانه تحصل الغاية ، فلا يبقى للقاعدة مجال.

تمّ الكلام في الأصول العملية ،

ويليه البحث في تعارض الأدلّة الشرعية إن شاء الله

والحمد لله ربّ العالمين

٢١٨

المقصد الثامن

في تعارض الأدلّة الشرعية

وفيه فصلان :

الفصل الأوّل : في التعارض غير المستقر.

الفصل الثاني : في التعارض المستقر.

خاتمة المطاف : في التعارض على نحو العموم والخصوص من وجه.

٢١٩

في تعارض الأدلّة الشرعيّة

يعدّ البحث عن تعارض الأدلّة الشرعية ، وكيفيّة علاجها ، من أهمّ المسائل الأصوليّة، وذلك لانّه قلّما يتفق في باب أن لا توجد فيه حجّتان متعارضتان ، على نحو لا مناص للمستنبط من علاجهما بالقواعد المذكورة في باب تعارض الأدلّة ولأجل تلك الأهميّة أفردوا له مقصدا.

إنّ التعارض من العرض وهو في اللغة بمعنى الإراءة قال سبحانه : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) (البقرة / ٣١).

وامّا اصطلاحا فقد عرّف بتنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض كما إذا قال:يحرم العصير العنبي قبل التثليث ، وقال أيضا : لا يحرم ، أو التضاد كما إذا قال : تستحب صلاة الضحى وقال أيضا «تحرم».

ثمّ إنّ التعارض بين الدليلين تارة يكون أمرا زائلا بالتأمل واللازم فيه هو الجمع بين الدليلين ، وأخرى يكون باقيا غير زائل فالمرجع فيه ، هو الترجيح أوّلا ثمّ التخيير ثانيا. فصار ذلك سببا لعقد فصلين يتكفّلان لبيان حكم القسمين فنقول :

٢٢٠