الموجز في أصول الفقه

الشيخ جعفر السبحاني

الموجز في أصول الفقه

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١٤
ISBN: 978-964-357-324-9
الصفحات: ٢٤٨

01

١

03

٢

02

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصّلاة والسّلام على سيّد الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

أمّا بعد : فهذا كتاب وجيز في أصول الفقه يستعرض أهمّ المسائل الأصوليّة الّتي تعدّ أسسا لاستنباط الأحكام الشرعية من مصادرها المعيّنة.

وقد وضعته للمبتدئين في هذا الفن ، والغرض من وراء ذلك ، إيقافهم على أمّهات المسائل من دون إيجاز مخلّ ، ولا إطناب مملّ.

لقد كان كتاب المعالم الذي ألّفه الشيخ حسن بن زين الدين العاملي ـ قدّس الله سرّهما ـ هو الدراج في الحوزات العلمية لهذا الغرض ، وقد أدّى ـ بحق ـ رسالته في العصور السالفة.

غير أنّه لمّا طرحت بعد تأليفه ، أبحاث أصولية جديدة لم يتعرض لها هذا الكتاب، اقتضت الحاجة إلى تأليف كتاب آخر يضمّ في طيّاته الأبحاث الأصولية الجديدة بعبارات واضحة ، ومتلائمة مع اللغة العلمية الدارجة في الحوزة مع تطبيقات تساعده بشكل أفضل على فهم المسائل الأصولية في مختلف الأبواب والإشارة إلى مواضعها في الكتب الفقهية.

٥

ولقد استعرضت فيه ما هو المشهور لدى المتأخرين من أصحابنا الأصوليين إلاّ شيئا نادرا ، وربما كان المختار عندي غيره ، لكن لم أشر إليه لتوخّي الإيجاز ، وصيانة الذهن عن التشويش.

كما تركت الخوض في البحوث المطروحة في الدراسات العليا ، وربما أشرت إلى بعض عناوينها في الهامش ، وأسميته ب «الموجز في أصول الفقه» إيعازا إلى أنّ الكتاب صورة موجزة للمسائل الأصولية المطروحة.

والنهج السائد في الكتب الدراسية هو الاقتصار على أقلّ العبارات بتعابير وافية بالمراد وخالية عن التعقيد وإيكال التفصيل والشرح إلى الأستاذ وإلاّ يخرج عن كونه متنا دراسيا. ورائدنا في تنظيم المقاصد والمباحث هو الكتب المتداولة في الأصول ، نظير الفرائد والكفاية وتقريرات الأعاظم ـ قدّس الله أسرارهم ـ.

والأمل أن يكون الكتاب وافيا بالغاية المنشودة ، واقعا مورد الرضا ونسأل الله سبحانه أن يوفقنا لما فيه الخير والرشاد.

المؤلّف

٦

الفهرس العام لهذا الكتاب

١. المقدمة تتضمّن اثني عشر أمرا.

٢. المقصد الأوّل في الأوامر وفيه تسعة فصول.

٣. المقصد الثاني في النواهي وفيه ستة فصول.

٤. المقصد الثالث في المفاهيم وفيه خمسة أمور وستة فصول.

٥. المقصد الرابع في العموم والخصوص وفيه ثمانية فصول.

٦. المقصد الخامس في المطلق والمقيد والمجمل والمبين وفيه ستة فصول.

٧. المقصد السادس في الحجج والأمارات وفيه مقامان.

٨. المقصد السابع في الأصول العملية وفيه فصول أربعة.

٩. المقصد الثامن في تعارض الأدلّة وفيه أمور أربعة وفصلان.

وقبل الخوض في المباحث الأصوليّة نذكر أمورا كمقدّمة للكتاب :

٧

المقدّمة :

وفيها أمور :

الأمر الأوّل : تعريف علم الأصول وموضوعه وغايته.

الأمر الثاني : تقسيم المباحث الأصولية إلى لفظية وعقلية.

الأمر الثالث : الوضع وأقسامه الأربعة وتقسيمه أيضا إلى شخصي ونوعي.

الأمر الرابع : تقسيم الدلالة إلى تصورية وتصديقية.

الأمر الخامس : الحقيقة والمجاز.

الأمر السادس : علامات الحقيقة والمجاز.

الأمر السابع : الأصول اللفظية.

الأمر الثامن : الاشتراك والترادف وإمكانهما ووقوعهما.

الأمر التاسع : استعمال المشترك في أكثر من معنى.

الأمر العاشر : الحقيقة الشرعية والمتشرعية.

الأمر الحادي عشر : أنّ أسماء العبادات والمعاملات موضوعة للصحيح أو للأعم.

الأمر الثاني عشر : المشتق وأنّه موضوع للمتلبس بالمبدإ أو للأعم.

٨

الأمر الأوّل : تعريف علم الأصول

وموضوعه وغايته

إنّ لفظة أصول الفقه تشتمل على كلمتين تدلاّن على أنّ هنا أصولا وقواعد يتّكل الفقه عليها ، فلا بدّ من تعريف الفقه أوّلا ، ثمّ تعريف أصوله ثانيا.

الفقه ـ على ما هو المعروف في تعريفه ـ : هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلّتها التفصيلية.

فخرج بقيد «الشرعية» العقلية ، وب «الفرعية» الاعتقادية والمسائل الأصولية وب «التفصيلية» علم المقلّد بالأحكام ، فإنّه وإن كان عالما بالأحكام ، لكنّه لا عن دليل تفصيلي ، بل بتبع دليل إجمالي وهو حجّية رأي المجتهد في حقّه في عامة الأحكام ، وأمّا المجتهد فهو عالم بكلّ حكم عن دليله الخاص.

الأصول وإليك بيان أمور ثلاثة فيه :

١. تعريفه : هو علم يبحث فيه عن القواعد التي يتوصّل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية عن الأدلّة.

وعلى ذلك فعلم أصول الفقه من مبادئ الفقه ، ويتكفّل بيان كيفيّة إقامة الدليل على الحكم الشرعي.

٢. موضوعه : كلّ شيء يصلح لأن يكون حجّة في الفقه ومن شأنه أن يقع في طريق الاستنباط.

فإنّه ليس كلّ قاعدة علمية تصلح لأن تكون حجّة في الفقه ، فليس لمسائل العلوم الطبيعية ولا الرياضية ، هذه الصلاحية ، وإنّما هي لعديد من المسائل ،

٩

كظواهر الكتاب وخبر الواحد ، والشهرة الفتوائية ، إلى غير ذلك.

٣. غايته : القدرة على استنباط الأحكام الشرعية عن أدلّتها والعثور على أمور يحتج بها في الفقه على الأحكام الشرعية.

ومما ذكرنا يعلم وجه الحاجة إلى أصول الفقه ، فإنّ الحاجة إليه كالحاجة إلى علم المنطق ، فكما أنّ المنطق يرسم النهج الصحيح في كيفية إقامة البرهان ، فهكذا الحال في علم الأصول ؛ فإنّه يبيّن كيفية إقامة الدليل على الحكم الشرعي.

الأمر الثاني : تقسيم مباحثه

تنقسم المباحث الأصولية إلى أربعة أنواع :

الأوّل : المباحث اللفظية ويقع البحث فيها عن مداليل الألفاظ وظواهرها التي تقع في طريق الاستنباط نظير ظهور صيغة الأمر في الوجوب.

الثاني : المباحث العقلية ويقع البحث فيها عن الأحكام العقلية الكلية التي تقع في طريق الاستنباط نظير البحث عن وجود الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته.

الثالث : مباحث الحجج والأمارات كالبحث عن حجّية خبر الواحد.

الرابع : مباحث الأصول العملية ، وهي تبحث عن مرجع المجتهد عند فقد الدليل على الحكم الشرعي.

ويمكن تقسيمها بملاك آخر وهو تقسيمها إلى مباحث لفظيّة ، وعقليّة وهذا هو الرائج بين المتأخّرين ورتّبنا كتابنا على ترتيب مباحث الكفاية.

الأمر الثالث : الوضع

إنّ دلالة الألفاظ على معانيها دلالة لفظية وضعية والوضع قد عرّف بوجوه

١٠

أوضحها :

جعل اللفظ في مقابل المعنى وتعيينه للدلالة عليه.

وربما يعرّف : انّه نحو اختصاص للّفظ بالمعنى وارتباط خاص بينهما ناشئ من تخصيصه به تارة ، ويسمّى بالوضع التعييني ، وكثرة استعماله فيه أخرى ويسمّى بالوضع التعيّني.

والفرق بين التعريفين واضح ، فإنّ الأوّل لا يشمل إلاّ التعييني بخلاف الثاني فانّه أعمّ منه ومن التعيّني.

أقسام الوضع

ثمّ إنّ للوضع ـ في مقام التصوّر ـ أقساما أربعة :

١. الوضع الخاص والموضوع له الخاص.

٢. الوضع العام والموضوع له العام.

٣. الوضع العام والموضوع له الخاص.

٤. الوضع الخاص والموضوع له العام.

ثمّ إنّ الميزان في كون الوضع خاصّا أو عامّا هو كون المعنى الملحوظ حين الوضع جزئيا أو كلّيا.

فإن كان الملحوظ خاصّا ووضع اللفظ بازائه ، فهو من القسم الأوّل ، كوضع الأعلام الشخصية.

وإن كان الملحوظ عامّا ووضع اللفظ بازائه ، فهو من القسم الثاني ، كأسماء الأجناس.

وإن كان الملحوظ عامّا ولم يوضع اللفظ بازائه بل وضع لمصاديق ذلك

١١

العام ، فهو من القسم الثالث ، كالأدوات والحروف على ما هو المشهور ، فالواضع على هذا القول تصوّر مفهومي الابتداء والانتهاء الكليّين ثمّ وضع لفظة «من» و «إلى» لمصاديقهما الجزئية التي يعبّر عنها بالمعاني الحرفية.

وإن كان الملحوظ خاصّا ، ووضع اللفظ للجامع بين هذا الخاص والفرد الآخر ، فهو من القسم الرابع.

المعروف إمكان الأوّلين ووقوعهما في عالم الوضع ، وإمكان الثالث ، وإنّما البحث في وقوعه. وقد عرفت أنّ الوضع في الحروف من هذا القبيل.

إنّما الكلام في إمكان الرابع فضلا عن وقوعه ، فالمشهور استحالة الرابع فيقع الكلام فيما هو الفرق بين الثالث حيث قيل بإمكانه ، والرابع حيث قيل بامتناعه.

وجهه : انّ الملحوظ العام في القسم الثالث له قابلية الحكاية عن مصاديقه وجزئياته، فللواضع أن يتصوّر مفهوم الابتداء والانتهاء ويضع اللّفظ لمصاديقهما التي تحكي عنها مفاهيمهما.

وهذا بخلاف الرابع فإنّ الملحوظ لأجل تشخّصه بخصوصيات يكون خاصّا ، ليست له قابلية الحكاية عن الجامع بين الأفراد ، حتى يوضع اللّفظ بازائه.

وبالجملة العام يصلح لأن يكون مرآة لمصاديقه الواقعة تحته ، ولكن الخاص لأجل تضيّقه وتقيّده لا يصلح أن يكون مرآة للجامع بينه وبين فرد آخر.

تقسيم الوضع بحسب اللفظ الموضوع

ثمّ إنّ ما مرّ كان تقسيما للوضع حسب المعنى ، وثمة تقسيم آخر له حسب اللفظ الموضوع إلى شخصي ونوعي.

فإذا كان اللفظ الموضوع متصوّرا بشخصه ، فيكون الوضع شخصيّا كتصوّر

١٢

لفظ زيد بشخصه ؛ وأمّا إذا كان متصوّرا بوجهه وعنوانه ، فيكون الوضع نوعيّا ، كهيئة الفعل الماضي التي هي موضوعة لانتساب الفعل إلى الفاعل في الزمان الماضي ، ولكن الموضوع ليس الهيئة الشخصية في ضرب أو نصر مثلا ، بل مطلق هيئة «فعل» ، في أيّ مادة من المواد تحقّقت ، وبذلك يعلم أنّ وضع الهيئة في الفاعل والمفعول والمفعال هو نوعي لا شخصي.

الأمر الرابع : تقسيم الدلالة إلى تصوّرية وتصديقيّة

تنقسم دلالة اللّفظ إلى تصوّرية وتصديقيّة.

فالدلالة التصوّرية : هي عبارة عن انتقال الذهن إلى معنى اللّفظ بمجرّد سماعه وإن لم يقصده اللاّفظ ، كما إذا سمعه من الساهي أو النائم.

وأمّا الدلالة التصديقيّة : فهي دلالة اللّفظ على أنّ المعنى مراد للمتكلّم ومقصود له.

فالدلالة الأولى تحصل بالعلم باللغة ، وأمّا الثانية فتتوقف على أمور :

أ. أن يكون المتكلم عالما باللغة.

ب. أن يكون في مقام البيان والإفادة.

ج. أن يكون جادّا لا هازلا.

د. أن لا ينصب قرينة على خلاف المعنى الحقيقي.

١٣

الأمر الخامس : الحقيقة والمجاز

الاستعمال الحقيقي : هو إطلاق اللّفظ وإرادة ما وضع له ، كإطلاق الأسد وإرادة الحيوان المفترس.

وأمّا المجاز : فهو استعمال اللّفظ في غير ما وضع له ، مع وجود علقة بين الموضوع له والمستعمل فيه بأحد العلائق المسوّغة ، كإطلاق الأسد وإرادة الرجل الشجاع.

ثمّ إذا كانت العلقة هي المشابهة بين المعنيين فيطلق عليه الاستعارة ، وإلاّ فيطلق عليه المجاز المرسل كإطلاق الجزء وإرادة الكلّ كإطلاق العين والرقبة وإرادة الإنسان.

هذا هو التعريف المشهور للمجاز ، وهناك نظر آخر موافق للتحقيق ، وحاصله : إنّ اللّفظ ـ سواء كان استعماله حقيقيّا أو مجازيّا ـ يستعمل فيما وضع له ، غير أنّ اللّفظ في الأوّل مستعمل في الموضوع له من دون أي ادّعاء ومناسبة ، وفي الثاني مستعمل في الموضوع له لغاية ادّعاء انّ المورد من مصاديق الموضوع له ، كما في قول الشاعر :

لدى أسد شاكي السلاح مقذّف

له لبد أظفاره لم تقلّم (١)

فاستعمل لفظ الأسد ـ حسب الوجدان ـ في نفس المعنى الحقيقي لكن بادّعاء انّ الموردـ ـ أي الرجل الشجاع ـ من مصاديقه وأفراده حتّى أثبت له آثار الأسد من اللبد والأظفار، وهذا هو خيرة أستاذنا السيد الإمام الخميني قدس‌سره. (٢)

__________________

(١) البيت لزهير بن أبي سلمى ، وهو في ديوانه ص ٢٤ ؛ ولسان العرب ج ٩ ، ص ٢٧٧ ، قذف.

(٢) تهذيب الأصول : ١ / ٤٤.

١٤

والحاصل : أنّه لو كان تفهيم المعنى الموضوع له هو الغاية من وراء الكلام ، فالاستعمال حقيقي ، وإن كان مقدّمة ومرآة لتفهيم فرد ادّعائي ولو بالقرينة فالاستعمال مجازي.

الأمر السادس : علامات الحقيقة والمجاز

إذا استعمل المتكلم لفظا في معنى معيّن ، فلو علم أنّه موضوع له ، سمّي هذا الاستعمال حقيقيّا ، وأمّا إذا شكّ في المستعمل فيه وأنّه هل هو الموضوع له أو لا؟ فهناك علامات تميّز بها الحقيقة عن المجاز.

١. التبادر :

هو انسباق المعنى إلى الفهم من نفس اللّفظ مجرّدا عن كلّ قرينة ، وهذا يدلّ على أنّ المستعمل فيه معنى حقيقيّ ، إذا ليس لحضور المعنى في الذهن سبب سوى أحد أمرين ، إمّا القرينة ، أو الوضع ، والأوّل منتف قطعا كما هو المفروض ، فيثبت الثاني.

٢. صحّة الحمل والسلب :

إنّ صحّة الحمل دليل على أنّ الموضوع الوارد في الكلام قد وضع للمحمول كما أنّ صحّة السلب دليل على عدم وضعه له.

توضيحه : أنّ الحمل على قسمين :

الأوّل : الحمل الأوّلي الذاتي ، وهو ما إذا كان المحمول نفس الموضوع مفهوما بأن يكون ما يفهم من أحدهما نفس ما يفهم من الآخر ، مع اختلاف بينهما

١٥

في الإجمال والتفصيل كما إذا قلنا : الأسد حيوان مفترس ، والإنسان حيوان ناطق.

الثاني : الحمل الشائع الصناعي ، وهو ما إذا كان الموضوع مغايرا للمحمول في المفهوم ، ومتحدا معه في الخارج ، كما إذا قلنا : زيد إنسان ، فما يفهم من أحدهما غير ما يفهم من الآخر غير أنّهما متحقّقان بوجود واحد في الخارج.

إذا اتّضح ما تلوناه عليك ، فاعلم أنّ المقصود من أنّ صحّة الحمل أو صحّة السلب علامة للحقيقة والمجاز هو القسم الأوّل ، فصحّة الحمل والهوهوية تكشف عن وحدة المفهوم والمعنى وهو عبارة أخرى عن وضع أحدهما للآخر ، كما أنّ صحّة السلب تكشف عن خلاف ذلك ، مثلا إذا صحّ حمل الحيوان المفترس على الأسد بالحمل الأوّلي يكشف عن أنّ المحمول نفس الموضوع مفهوما ، وهو عبارة أخرى عن وضع أحدهما للآخر ، كما أنّه إذا صحّ سلب الحيوان الناطق عن الأسد بالحمل الأوّلي كما إذا قيل : الأسد ليس حيوانا ناطقا يكشف عن التغاير المفهومي بينهما ، وهو يلازم عدم وضع أحدهما للآخر.

٣. الاطّراد :

هي العلامة الثالثة لتمييز الحقيقة عن المجاز وتوضيح ذلك : إذا اطّرد استعمال لفظ في أفراد كليّ بحيثية خاصّة ، كاستعمال «رجل» باعتبار الرجولية ، في زيد وعمرو وبكر ، مع القطع بعدم كونه موضوعا لكلّ واحد على حدة ، يستكشف منه وجود جامع بين الأفراد قد وضع اللّفظ بازائه.

فالجاهل باللغة إذا أراد الوقوف على معاني اللغات الأجنبية من أهل اللغة ، فليس له سبيل إلاّ الاستماع إلى محاوراتهم ، فإذا رأى أنّ لفظا خاصّا يستعمل مع محمولات عديدة في معنى معيّن ، كما إذا قال الفقيه : الماء طاهر ومطهّر ، وقال الكيميائي : الماء رطب سيال ، وقال الفيزيائي : الماء لا لون له ، يقف على أنّ اللّفظ

١٦

موضوع لما استعمل فيه ، لأنّ المصحّح له إمّا الوضع أو العلاقة ، والثاني لا اطّراد فيه ، فيتعيّن الأوّل.

ولنذكر مثالا آخر: إنّ آية الخمس ، أعني قوله سبحانه : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)(الأنفال/٤١) توجب إخراج الخمس عن الغنيمة.

فهل الكلمة (الغنيمة) موضوعة للغنائم المأخوذة في الحرب ، أو تعمّ كلّ فائدة يحوزها الإنسان من طرق شتى؟

يستكشف الثاني عن طريق الاطّراد في الاستعمال ، فإذا تتبعنا الكتاب والسنّة نجد اطّراد استعمالها في كلّ ما يحوزه الإنسان من أيّ طريق كان.

قال سبحانه : (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) (النساء / ٩٤)، والمراد مطلق النّعم والرزق.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مورد الزكاة : «اللهمّ اجعلها مغنما» (١) ، وفي مسند أحمد : «غنيمة مجالس الذكر الجنة» ، وفي وصف شهر رمضان : غنم المؤمن.

فهذه الاستعمالات الكثيرة المطّردة ، تكشف عن وضعها للمعنى الأعم.

وهذا هو الطريق المألوف في اقتناص مفاهيم اللغات ومعانيها وفي تفسير لغات القرآن، ومشكلات السنّة ، وعليه قاطبة المحقّقين ، ويطلق على هذا النوع من تفسير القرآن ، التفسير البياني.

__________________

(١) للوقوف على مصادر الروايات عليك بمراجعة الاعتصام بالكتاب والسنّة ، ص ٩٢.

١٧

٤. تنصيص أهل اللغة

المراد من تنصيص أهل اللغة هو تنصيص مدوّني معاجم اللغة العربية ، فإنّ مدوّني اللغة الأوائل كالخليل بن أحمد الفراهيدي (ت ١٧٠ ه‍) مؤلّف كتاب «العين»، والجوهري (ت ٣٩٨ ه‍) مؤلّف الصحاح قد دوّنوا كثيرا من معاني الألفاظ من ألسن القبائل العربية وسكّان البادية ، فتنصيص مثل هؤلاء يكون مفيدا للاطمئنان بالموضوع له.

هذا وسيأتي (١) تفصيل الكلام في حجّية قول اللغوي فانتظر.

الأمر السابع : الأصول اللفظية

إنّ الشكّ في الكلام يتصوّر على نحوين :

أ. الشكّ في المعنى الموضوع له ، كالشكّ في أنّ الصعيد هل وضع للتراب أو لمطلق وجه الأرض؟

ب. الشكّ في مراد المتكلّم بعد العلم بالمعنى الموضوع له.

أمّا النحو الأوّل من الشكّ فقد مرّ الكلام فيه في الأمر السادس ، وعلمت أنّ هناك علامات يميز بها المعنى الحقيقي عن المجازي.

وأمّا النحو الثاني من الشكّ فقد عقد له هذا الأمر ، فنقول : إنّ الشكّ في المراد على أقسام ، وفي كلّ قسم أصل يجب على الفقيه تطبيق العمل عليه ، وإليك الإشارة إلى أقسام الشكّ والأصول التي يعمل بها :

__________________

(١) لاحظ صفحة ١٧٥ من هذا الكتاب.

١٨

١. أصالة الحقيقة

إذا شكّ في إرادة المعنى الحقيقي أو المجازي من اللفظ ، بأن لم يعلم وجود القرينة على إرادة المعنى المجازيّ مع احتمال وجودها ، كما إذا شك في أنّ المتكلم هل أراد من الأسد في قوله : رأيت أسدا ، الحيوان المفترس أو الجندي الشجاع؟ فعندئذ يعالج الشكّ عند العقلاء بضابطة خاصة ، وهي الأخذ بالمعنى الحقيقي ما لم يدلّ دليل على المعنى المجازي ، وهذا ما يعبّر عنه بأصالة الحقيقة.

٢. أصالة العموم

إذا ورد عام في الكلام كما إذا قال المولى : أكرم العلماء وشكّ في ورود التخصيص عليه وإخراج بعض أفراده كالفاسق ، فالأصل هو الأخذ بالعموم وترك احتمال التخصيص ، وهذا ما يعبّر عنه بأصالة العموم.

٣. أصالة الإطلاق

إذا ورد مطلق وشك في كونه تمام الموضوع أو بعضه ، كما قال سبحانه : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (البقرة / ٢٧٥) واحتمل انّ المراد هو البيع بالصيغة دون مطلقه ، فالمرجع عندئذ هو الأخذ بالإطلاق وإلغاء احتمال التقييد ، وهذا ما يعبّر عنه بأصالة الإطلاق.

٤. أصالة عدم التقدير

إذا ورد كلام واحتمل فيه تقدير لفظ خاصّ ، فالمرجع عند العقلاء هو عدم التقدير إلاّ أن تدلّ عليه قرينة ، كما في قوله سبحانه : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) (يوسف/٨٢) والتقدير أهل القرية ، وهذا ما يعبّر عنه بأصالة عدم التقدير.

١٩

٥. أصالة الظهور

إذا كان اللفظ ظاهرا في معنى خاص دون أن يكون نصّا فيه بحيث لا يحتمل معه الخلاف ، فالأصل الثابت عند العقلاء هو الأخذ بظهور الكلام وإلغاء احتمال الخلاف،وهذا ما يعبّر عنه بأصالة الظهور.

ثمّ إنّ الأصول السابقة مصاديق لأصالة الظهور.

وهذه الأصول ممّا يعتمد عليها العقلاء في محاوراتهم ولم يردع عنها الشارع فهي حجّة.

الأمر الثامن : الاشتراك والترادف

الاشتراك عبارة عن كون اللفظ الواحد موضوعا لمعنيين أو أكثر بالوضع التعييني أو التعيّني.

ويقابله الترادف ، وهو وضع اللفظين أو الأكثر لمعنى واحد كذلك.

واختلفوا في إمكان الاشتراك أوّلا ووقوعه بعد تسليم إمكانه ثانيا فذهب الأكثر إلى الإمكان ، لأنّ أدلّ دليل عليه هو وقوعه ، فلفظة العين تستعمل في الباكية والجارية ، وفي الذهب والفضة.

ومردّ الاشتراك إلى اختلاف القبائل العربية القاطنة في أطراف الجزيرة في التعبير عن معنى الألفاظ ، فقد كانت تلزم الحاجة طائفة إلى التعبير عن معنى بلفظ ، وتلزم أخرى التعبير بذلك اللّفظ عن معنى آخر ، ولمّا قام علماء اللغة بجمع لغات العرب ظهر الاشتراك اللفظي.

وربّما يكون مردّه إلى استعمال اللّفظ في معناه المجازي بكثرة إلى أن يصبح الثاني معنى حقيقيا ، كلفظ الغائط ، فهو موضوع للمكان الذي يضع فيه الإنسان ،

٢٠