الموجز في أصول الفقه

الشيخ جعفر السبحاني

الموجز في أصول الفقه

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١٤
ISBN: 978-964-357-324-9
الصفحات: ٢٤٨

القيد في موضوعيّتها ، وتخالفه رقبة في قولنا «أعتق رقبة مؤمنة» فهي مقيّدة بالإيمان لعدم كونها تمام الموضوع وعدم إرسالها عن القيد.

وبذلك يظهر أنّه لا يشترط في المطلق أن يكون مفهوما كليّا ، بل يمكن أن يكون جزئيا حقيقيا ومرسلا عن التقيد بحالة خاصة ، فإذا قال : أكرم زيدا فزيد مطلق ، لأنّه تمام الموضوع للوجوب ومرسل عن القيد ، بخلاف ما إذا قال : أكرم زيدا إذا سلّم ، فهو مقيد بحالة خاصة ، أعني : «إذا سلّم» ، فإطلاق الكلي ـ في مقام الموضوعية للحكم ـ باعتبار الأفراد ، وإطلاق الجزئي في ذلك المقام بالنسبة إلى الحالات.

ويترتب على ما ذكرنا أمور :

الأوّل : لا يشترط في المطلق أن يكون أمرا شائعا في جنسه بل يجوز أن يكون جزئيا ذا أحوال ، فلو كان موضوعا للحكم بلا قيد فهو مطلق وإلاّ فهو مقيّد فمثلا إذا شكّ في جواز الطواف بالبيت مع خلو البيت عن الستر ، فيصح له التمسّك بقوله سبحانه : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج / ٢٩) إذ لو كان الستر شرطا للصحّة كان عليه البيان إذا كانت الآية في ذلك المقام.

الثاني : إنّ الإطلاق والتقييد من الأمور الإضافية ، فيمكن أن يكون الموضوع مطلقا من جهة ومقيدا من جهة أخرى ، كما إذا قال : أطعم إنسانا جالسا في المسجد ، فهو مطلق من جهة كون الموضوع هو الإنسان لا الإنسان العالم ، ومقيّد من جهة تقييد مكانه بالمسجد.

الثالث : يظهر من التعريف المشهور أنّ الإطلاق من المداليل اللفظية كالعموم ، والحقّ أنّ الإطلاق من المداليل العقلية ، فإذا كان المتكلّم حكيما غير ناقض لغرضه وجعل الشيء بلا قيد موضوعا للحكم كشف ذلك انّه تمام

١٢١

الموضوع وإلاّ لكان ناقضا لغرضه وهو ينافي كونه حكيما.

الرابع : إذا كانت حقيقة الإطلاق دائرة مدار كون اللفظ تمام الموضوع من دون اشتراط أن يكون الموضوع اسم الجنس أو النكرة أو معرفا باللام ، فنحن في غنى عن إفاضة القول في حقائق تلك الأسماء.

نعم من فسّر الإطلاق بالشيوع أو نظيره فلا محيص له عن التكلّم في حقائق تلك الأسماء ، وحيث إنّها ذكرت في الكتب الأصولية نشير إليها على سبيل الإجمال.

الفصل الثاني

ألفاظ المطلق

١. اسم الجنس

كان الرأي السائد بين الأصوليّين قبل سلطان العلماء انّ المطلق كاسم الجنس موضوع للماهية بقيد الإطلاق والسريان والشيوع على نحو كان الشيوع بين الأفراد والحالات من مداليل اللّفظ ، فالرقبة في (أعتق رقبة) موضوعة للرقبة المطلقة على وجه يكون الإطلاق قيدا ، نظير المفعول المطلق.

ولكن صار الرأي السائد بعد تحقيق سلطان العلماء هو أنّه موضوع للماهية المعرّاة عن كلّ قيد حتى الإطلاق نظير مطلق المفعول.

وعلى ذلك فأسماء الأجناس كأسد وإنسان وبقر كلّها موضوعة للماهية المعرّاة عن كلّ قيد.

١٢٢

٢. علم الجنس

إنّ في لغة العرب أسماء ترادف أسماء الأجناس ، لكن تعامل معها معاملة المعرفة بخلاف أسماء الأجناس فيعامل معها معاملة النكرة ، فهناك فرق بين ثعلب وثعالة ، وأسد وأسامة ، حيث يقع الثاني منهما مبتدأ وذا حال بخلاف الأوّلين ، وهذا ما دعاهم إلى تسمية ذلك بعلم الجنس.

٣. المعرّف بالألف واللام

اللام تنقسم إلى : لام الجنس ولام الاستغراق ، ولام العهد. ولام الاستغراق تنقسم إلى : استغراق الأفراد ، واستغراق خصائصها. ولام العهد تنقسم إلى : ذهني ، وذكريّ ، وحضوري.

فصارت الأقسام ستة والمقصود منه هاهنا المحلى بلام الجنس مثل قولهم : التمرة خير من جرادة.

٤. النكرة

اختلفت كلمة الأصوليّين في أنّ النكرة هل وضعت للفرد المردّد بين الأفراد ، أو موضوعة للطبيعة المقيّدة بالوحدة؟

والتحقيق هو الثاني ، لأنّها عبارة عن اسم الجنس الذي دخل عليه التنوين ، فاسم الجنس يدلّ على الطبيعة والتنوين يدلّ على الوحدة.

وأمّا القول بأنّها موضوعة للفرد المردّد بين الأفراد ، فغير تام ، إذ لازم ذلك أن لا يصحّ امتثاله إذا وقع متعلّقا للحكم ، لأنّ الفرد الممتثل به ، فرد متعيّن مع أنّ المأمور به هو الفرد المردّد ، فإذا قال : جئني بإنسان ، فأيّ إنسان أتيت به فهو هو وليس مردّدا بينه وبين غيره.

١٢٣

الفصل الثالث

في أنّ تقييد المطلق لا يوجب المجازية

اختلفت كلمة الأصوليّين في أنّ تقييد المطلق يستلزم المجازية أو لا على أقوال ، نذكر منها قولين :

الأوّل : انّه يستلزم المجازية مطلقا سواء كان القيد متصلا أم منفصلا ، وهو المشهور قبل سلطان العلماء.

الثاني : إنّه لا يستلزم المجازية مطلقا ، وهو خيرة سلطان العلماء.

حجة القول الأوّل هو أنّ مقوّم الإطلاق هو الشيوع والسريان ، وقد قيل في تعريفه ما دلّ على شائع في جنسه وبالتقييد يزول الشمول والسريان فينتج المجازية.

وحجّة القول الثاني : انّ المطلق موضوع للحقيقة المعرّاة من كلّ قيد حتى الشيوع والسريان ، فالتقييد لا يحدث أيّ تصرف في المطلق.

والحقّ انّ التقييد لا يوجب مجازية المطلق ، سواء كان المطلق موضوعا للشائع ، أو لنفس الماهية المعراة عن كلّ قيد كما مرّ من أنّ تخصيص العام بالتخصيص المتصل والمنفصل، لا يستلزم مجازيته.

لأنّ كل لفظ مستعمل في معناه ، فلو قلنا بأنّ المطلق موضوع للشائع في جنسه ، فهو مستعمل في معناه ، وتقييده بقيد لا يوجب استعماله في غير ما وضع له ، لما عرفت من تعدّد الدالّ والمدلول ، فلاحظ.

١٢٤

الفصل الرابع

مقدّمات الحكمة

الاحتجاج بالإطلاق لا يتم إلاّ بعد تمامية مقدّمات الحكمة الحاكمة على أنّ ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع للحكم ، وهذا هو السرّ لحاجة المطلق إلى تلك المقدّمات.

فنقول : إنّ مقدّمات الحكمة عبارة عن :

١. كون المتكلّم في مقام بيان تمام مراده لا في مقام الإهمال ولا الإجمال.

٢. انتفاء ما يوجب التقييد. وإن شئت قلت : عدم نصب القرينة على القيد.

٣. انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب.

أمّا المقدّمة الأولى : فالمتكلّم قد يكون في مقام بيان أصل الحكم من دون نظر إلى الخصوصيات والشرائط ، مثل قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) (المائدة / ٥) وقوله : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) (المائدة / ٩٦) وقول الفقيه : الغنم حلال ، فالجميع في مقام بيان أصل الحكم لا في مقام بيان خصوصياته ، فلا يصحّ التمسك بأمثال هذه الإطلاقات عند الشكّ في الجزئية والشرطية.

وقد يكون في مقام بيان كلّ ما له دخل في الموضوع من الأجزاء والشرائط ، فإذا سكت عن بيان جزئية شيء أو شرطيته نستكشف انّه غير دخيل في الموضوع.

١٢٥

وعلى ذلك إنّما يصحّ التمسّك في نفي الجزئية والشرطية بالإطلاقات الواردة لبيان الموضوع بأجزائه وشرائطه دون ما كان في مقام الإجمال والإهمال ، فإن ترك بيان ما هو الدخيل في الغرض قبيح في الأوّل دون الثاني.

مثل قوله سبحانه : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (المائدة / ٤).

فالآية بصدد بيان أنّ ما أمسكه الكلب بحكم المذكّى إذا ذكر اسم الله عليه وليس بميتة ، فهي في مقام بيان حليّة ما يصيده الكلب وإن مات الصيد قبل أن يصل إليه الصائد.

وهل يصحّ التمسّك بإطلاق قوله : (فَكُلُوا) على طهارة موضع عضّه وجواز أكله بدون غسله وتطهيره ، أو لا؟

الظاهر ، لا لأنّ الآية بصدد بيان حلّيته وحرمته لا طهارته ونجاسته ، فقوله تعالى : (فَكُلُوا) لرفع شبهة حرمة الأكل ، لأجل عدم ذبحه بالشرائط الخاصة ، لا بصدد بيان طهارته من أجل عضّه.

وأمّا المقدّمة الثانية أي انتفاء ما يوجب التقييد ، والمراد منه عدم وجود قرينة على التقييد لا متصلة ولا منفصلة ، لأنّه مع القرينة المتصلة لا ينعقد للكلام ظهور إلاّ في المقيد ومع المنفصلة وإن كان ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق ولكن يسقط عن الحجّية بالقرينة المنفصلة.

وأمّا المقدّمة الثالثة ، أي انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب والمحاورة ، فمرجعه إلى أنّ وجود القدر المتيقن في مقام المحاورة بمنزلة القرينة الحالية المتصلة ، فلا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق.

تتميم : الأصل في كلّ متكلّم أن يكون في مقام البيان ، فلو شكّ أنّ المتكلّم

١٢٦

في مقام بيان تمام مراده ، فالأصل كونه كذلك إلاّ أن يدلّ دليل على خلافه كما أنّه يمكن أن يكون للكلام جهات مختلفة ، كأن يكون واردا في مقام البيان من جهة وفي مقام الإهمال من جهة أخرى ، كما في الآية السابقة ، فقد كان في مقام البيان من جهة الحلية لا في مقام بيان طهارة موضع العض.

الفصل الخامس

المطلق والمقيد المتنافيان

إذا ورد مطلق كقول الطبيب : إذا استيقظت من النوم اشرب لبنا ، وورد مقيّد مناف له كقوله في كلام آخر : إذا استيقظت من النوم اشرب لبنا حلوا. فهذان الحكمان متنافيان،لأنّ الأوّل يدلّ على كفاية شرب مطلق اللبن بخلاف الثاني فإنّه يخصه بالحلو منه.

فعلاج هذا التنافي يحصل بأحد أمرين :

أ. التصرف في المطلق بحمله على المقيد فيصير اللازم هو شرب اللبن الحلو.

ب. التصرف في المقيد مثل حمله على الاستحباب.

والرائج في الخطابات الشرعية هو حمل المطلق على المقيد لا حمل المقيد على الاستحباب ، وقد عرفت وجهه من أنّ التشريع تمّ تدريجا ومثله يقتضي جعل الثاني متمما للأوّل.

ثمّ إنّ إحراز التنافي فرع إحراز وحدة الحكم ، وإلاّ فلا يحصل التنافي كما إذا اختلف سبب الحكمين مثلا إذا قال : إذا استيقظت من النوم فاشرب لبنا حلوا ، وإذا أكلت فاشرب لبنا ، فالحكمان غير متنافيين لاختلافهما في السبب.

١٢٧

فعلى الفقيه في مقام التقييد إحراز وحدة الحكم عن طريق إحراز وحدة السبب وغيرها، وإلاّ فلا داعي لحمل المطلق على المقيد لتعدّد الحكمين.

الفصل السادس

المجمل والمبين

عرّف المجمل بأنّه ما لم تتضح دلالته ، ويقابله المبين.

والمقصود من المجمل ما جهل فيه مراد المتكلّم إذا كان لفظا ، أو جهل فيه مراد الفاعل إذا كان فعلا. وعليه قال المحقّقون : إنّ فعل المعصوم كما لو صلى مع جلسة الاستراحة يدلّ على أصل الجواز ولا يدلّ على الوجوب أو الاستحباب بخصوصهما.

ثمّ إنّ لإجمال الكلام أسبابا كثيرة منها :

١. إجمال مفرداته كاليد الواردة في آية السرقة ، قال سبحانه : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (المائدة / ٣٨) فانّ اليد تطلق على الكف إلى أصول الأصابع ، وعلى الكف إلى الزند ، وعليه إلى المرفق ، وعليه إلى المنكب ، فالآية مجملة ، فتعيين واحد من تلك المصاديق بحاجة إلى دليل.

٢. الإجمال في متعلّق الحكم المحذوف كما في كلّ مورد تعلّق الحكم بالأعيان كقوله سبحانه : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ) (المائدة / ٣). فهل المحرم أكلها ، أو بيعها ، أو الانتفاع منها بكل طريق؟

١٢٨

٣. تردّد الكلام بين الادّعاء والحقيقة كما في قوله : «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» وقوله : «لا صلاة إلاّ بطهور» فهل المراد نفي الصلاة بتاتا ، أو نفي صحّتها ، أو كمالها تنزيلا للموجود بمنزلة المعدوم؟

ويمكن أن يكون بعض ما ذكرنا مجملا عند فقيه ومبيّنا عند فقيه آخر ، وبذلك يظهر أنّ المجمل والمبين من الأوصاف الإضافية.

تمّ الكلام في المقصد الخامس

والحمد لله ربّ العالمين

١٢٩
١٣٠

المقصد السادس

في الحجج والأمارات وفيه مقامان :

المقام الأوّل : القطع وأحكامه وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في حجّية القطع.

الفصل الثاني : في التجرّي وأحكامه.

الفصل الثالث : تقسيم القطع إلى طريقي وموضوعي.

الفصل الرابع : في قطع القطّاع.

الفصل الخامس : في أنّ المعلوم إجمالا كالمعلوم تفصيلا.

الفصل السادس : في حجّية العقل.

الفصل السابع : في حجّية العرف والسيرة.

المقام الثاني : الظنون المعتبرة وإمكان التعبد بها وفيه فصول :

الفصل الأوّل : حجّية ظواهر الكتاب.

الفصل الثاني : حجّية الشهرة الفتوائية.

الفصل الثالث : حجّية السنّة المحكية بخبر الواحد.

الفصل الرابع : حجّية الإجماع المنقول بخبر الواحد.

الفصل الخامس : حجّية قول اللغوي.

١٣١
١٣٢

المقصد السادس

الحجج والأمارات

وهذا المقصد من أهم المقاصد في علم الأصول ، فإنّ المستنبط يبذل الجهد للعثور على ما هو حجّة بينه وبين ربّه ، فيثاب إن أصاب الواقع ، ويعذّر إن أخطأه.

وقد يعبّر عن هذا البحث بمصادر الفقه وأدلّته ، وهي عندنا منحصرة في أربعة:الكتاب ، السنّة ، الإجماع ، والعقل. وهي معتبرة عند كلا الفريقين مع اختلاف بينهم في سعة حجيّة العقل. غير انّ أهل السنّة يفترقون عن الشيعة في القول بحجية أمور أخرى مذكورة في كتبهم.

وقبل الخوض في المقصود نذكر تقسيم المكلّف حسب الحالات ، فنقول :

تقسيم المكلّف باعتبار الحالات

إنّ المكلّف الملتفت إلى الحكم الشرعي له حالات ثلاث :

الأولى : القطع بالحكم الشرعي الواقعي.

الثانية : الظن به.

الثالثة : الشكّ فيه.

فإن حصل له القطع ، فيلزمه العمل به لاستقلال العقل بذلك ، فيثاب عند

١٣٣

الموافقة ، ويعذّر عند المخالفة شأن كلّ حجّة.

وإن حصل له الظن بالحكم الواقعي ، فإن قام الدليل القطعي على حجّية ذلك الظن كخبر الواحد يجب العمل به ، فإنّ الطريق إلى الحكم الشرعي وإن كان ظنيا كما هو المفروض ، لكن إذا قام الدليل القطعي من جانب الشارع على حجّية ذلك الطريق ، يكون هذا الطريق علميّا وحجّة شرعية.

وإن لم يقم ، فهو بحكم الشاك ، ووظيفته العمل بالأصول العملية التي هي حجّة عند عدم الدليل.

فيقع الكلام في مقامات ثلاثة :

الأوّل : في القطع وأحكامه.

الثاني : في الظنون المعتبرة.

الثالث : في الأصول العملية.

غير انّ البحث عن الأصول العملية يأتي في المقصد السابع ، فينحصر الكلام في المقصد السادس بالقطع والظن.

١٣٤

المقام الأوّل

القطع وأحكامه

وفيه فصول

الفصل الأوّل :

حجّية القطع

لا شكّ في وجوب متابعة القطع والعمل على وفقه ما دام موجودا ، لأنّه بنفسه طريق إلى الواقع ، وهو حجّة عقلية ، وهي عبارة عمّا يحتج به المولى على العبد وبالعكس ، وبعبارة أخرى ما يكون قاطعا للعذر إذا أصاب ومعذّرا إذا أخطأ ، والقطع بهذا المعنى حجّة ، حيث يستقل به العقل ويبعث القاطع إلى العمل وفقه ويحذّره عن المخالفة ، وما هذا شأنه ، فهو حجّة بالذات ، غنيّ عن جعل الحجّية له ، لأنّ جعل الحجّية للقطع يتم إمّا بدليل قطعي أو بدليل ظني ، وعلى الأوّل ينقل الكلام إلى ذلك الدليل القطعي ، ويقال : ما هو الدليل على حجّيته ، وهكذا فيتسلسل ، وعلى الثاني يلزم أن يكون القطع أسوأ حالا من الظن ، ولذلك يجب أن ينتهي الأمر في باب الحجج إلى ما هو حجّة بالذات ، أعني : القطع ، وقد تبيّن في محله «أنّ كلّ ما هو بالعرض لا بد وأن ينتهي إلى ما بالذات».

فتبيّن أنّ للقطع خصائص ثلاث :

١. كاشفيته عن الواقع ولو عند القاطع.

١٣٥

٢. منجّزيته عند الإصابة للحكم الواقعي بحيث لو أطاع يثاب ولو عصى يعاقب.

٣. معذّريته عند عدم الإصابة ، فيعذّر القاطع إذا أخطأ في قطعه وبان خلافه.

ثمّ اعلم أنّ المراد بالحجّة هنا ليس الحجّة الأصولية وهي عبارة عمّا لا يستقل العقل بالاحتجاج به غير أنّ الشارع أو الموالي العرفيّة يعتبرونه حجّة في باب الأحكام والموضوعات لمصالح ، فتكون حجّيته عرضيّة مجعولة كخبر الثقة ، لأنّ القطع غنيّ عن إفاضة الحجّية عليه، وذلك لاستقلال العقل بكونه حجّة في مقام الاحتجاج ومعه لا حاجة إلى جعل الحجّية له.

١٣٦

الفصل الثاني

التجرّي

التجرّي في اللغة إظهار الجرأة ، فإذا كان المتجرّى عليه هو المولى فيتحقق التجرّي بالإقدام على خلاف ما دلّ الدليل على وجوبه أو حرمته ، وفي الاصطلاح هو الإقدام على خلاف ما قطع به أو قام الدليل المعتبر عليه بشرط أن يكون مخالفا للواقع ، كما إذا أذعن بوجوب شيء أو حرمته ، فترك الأوّل وارتكب الثاني ، فبان خلافهما وانّه لم يكن واجبا أو حراما.

ويقابله الانقياد في الاصطلاح ، فهو عبارة عمّا إذا أذعن بوجوب شيء أو حرمته ، فعمل بالأوّل وترك الثاني ، فبان خلافهما.

والكلام في التجرّي يقع في موضعين :

الموضع الأوّل : في حكم نفس التجرّي

وفيه أقوال :

منها : استحقاق العقاب.

ومنها : عدم استحقاق العقاب.

ومنها : استحقاق العقاب إلاّ إذا اعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة وأتى به ، فلا يبعد عدم استحقاق العقاب ، وهو خيرة صاحب الفصول.

١٣٧

والصواب هو القول الثاني أي عدم استحقاق العقاب.

وليعلم أنّ موضوع البحث هو مخالفة الحجّة العقلية ، لأجل غلبة الهوى على العقل والشقاء على السعادة. وربما يرتكبه الإنسان مع استيلاء الخوف عليه. وأمّا ضمّ عناوين أخر عليه من الهتك والتمرّد ورفع علم الطغيان فجميعها أجنبية عن المقام ، فلا شكّ في استحقاق العقاب إذا عدّ عمله مصداقا للهتك ورمزا للطغيان وإظهارا للجرأة إلى غير ذلك من العناوين المقبّحة.

نعم انّ التجرّي يكشف عن ضعف الإيمان ، فيستحق اللوم والذم لا العقاب.

الموضع الثاني : في حكم الفعل المتجرّى به (١)

والكلام فيه تارة من حيث كونه قبيحا وأخرى من جهة الحرمة الشرعية.

أمّا الأوّل ، فهو منتف قطعا ، لأنّ الحسن والقبح يعرضان على الشيء بالملاك الواقعي فيه ، والمفروض أنّ الفعل المتجرّى به هو شرب الماء وهو فاقد لملاك القبح.

وأمّا الثاني ، فلا دليل على الحرمة ، لأنّ الحرام هو شرب الخمر ، والمفروض أنّه شرب الماء وليس هناك دليل يدلّ على أنّ شرب ما يقطع الشارب بكونه خمرا حرام ، وذلك لأنّ الحرمة تتعلّق بواقع الموضوعات لا الموضوع المقطوع به فبذلك ظهر عدم حرمة التجرّي ولا المتجرّى به.

غاية الأمر أنّ الفاعل يستحق الذم ، لأنّ عمله يكشف عن سوء سريرته.

__________________

(١) الفرق بين التجرّي والمتجرّى به انّ الأوّل ينتزع من مخالفة المكلّف الحجّة العقلية والشرعية ، بخلاف الثاني فانّه عبارة عن نفس العمل الخارجي كشرب الماء الذي يتحقّق به مخالفة الحجّة.

١٣٨

الفصل الثالث

تقسيم القطع إلى طريقي وموضوعي

إذا كان الحكم مترتبا على الواقع بلا مدخلية للعلم والقطع فيه ، فالقطع طريقي كحرمة الخمر والقمار ، ولا دور للقطع حينئذ سوى تنجيز الواقع عند الإصابة والتعذير عند الخطأ.

وأمّا إذا أخذ القطع في موضوع الحكم الشرعي بحيث يكون الواقع بقيد القطع موضوعا للحكم ، فيعبّر عنه بالقطع الموضوعي ، كما إذا افترضنا أنّ الشارع حرّم الخمر بقيد القطع بحيث لولاه لما كان الخمر محكوما بالحرمة.

ثمّ إنّه ليس للشارع أيّ تصرف في القطع الطريقي فهو حجّة مطلقا. وأمّا القطع المأخوذ في الموضوع ، فبما أنّ لكلّ مقنن ، التصرف في موضوع حكمه بالسعة والضيق، فللشارع أيضا حقّ التصرف فيه ، فتارة تقتضي المصلحة ، اتخاذ مطلق القطع في الموضوع سواء حصل من الأسباب العادية أم من غيرها كما في المثال الثالث الآتي في التطبيقات، وأخرى تقتضي جعل قسم منه في الموضوع كالحاصل من الأسباب العادية ، وعدم الاعتداد بالقطع الحاصل من غيرها كما في المثال الثاني من التطبيقات.

١٣٩

تطبيقات

١. انّ قول العدلين أو الشاهد الواحد فيما يعتبر مع اليمين إنّما يكون حجّة في القضاء إذا استند إلى الحس لا إلى الحدس فلو قطعت البيّنة أو الشاهد عن غير طريق الحس فقطعهما حجّة لهما ولا يصحّ للقاضي الحكم استنادا إلى شهادتهما لأنّ المعتبر في الشهادة هو حصول القطع للبيّنة أو الشاهد من طريق الحس.

فالقطع بالنسبة إلى خصوص البيّنة أو الشاهد قطع طريقي محض لا يمكن التصرف فيه ولكن قطعهما بالنسبة إلى القاضي قطع موضوعي وقد تصرّف الشارع في الموضوع وجعل القسم الخاص موضوعا للحكم (القضاء) لا مطلق القطع وكم له من نظير.

٢. إذا حصل اليقين للمجتهد من غير الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، كالرمل والجفر فقطعه بالحكم حجّة لنفسه دون المقلد وذلك لما ذكرناه في قطع الشاهد أو البيّنة بالنسبة إلى القاضي.

٣. الحكم بوجوب التيمّم لمن أحرز كون استعمال الماء مضرا والحكم بوجوب التعجيل لمن أحرز ضيق الوقت فالقطع فيهما موضوعي ، فلو انكشف الخلاف وأنّ الماء لم يكن مضرا ولا الوقت ضيقا لما ضرّ بالعمل ، لأنّ كشف الخلاف إنّما هو بالنسبة إلى متعلّق القطع لا بالنسبة إلى الموضوع المترتب عليه الحكم.

١٤٠