الموجز في أصول الفقه

الشيخ جعفر السبحاني

الموجز في أصول الفقه

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١٤
ISBN: 978-964-357-324-9
الصفحات: ٢٤٨

الدم حيضا في عشرة أيّام بشرط أن لا تتجاوز العشرة.

كلّ ذلك يعلم بالقرينة وإلاّ فيحمل على التحديد في كلا الجانبين : الزيادة والنقيصة.

تطبيقات

١. هل تكره قراءة أزيد من سبع آيات على الجنب؟ قيل : نعم ، لمفهوم موثقة سماعة سألته عن الجنب هل يقرأ القرآن؟ قال : «ما بينه وبين سبع آيات». (١)

٢. يسقط خيار الحيوان بانقضاء المدة ، وهي ثلاثة أيّام. (٢)

٣. يستحبّ إرغام الأنف في حال السجود ولا يجب لمفهوم ما دلّ على أنّ السجود على سبعة أعظم أو أعضاء. (٣)

٤. لا تنعقد الجمعة بأقل من خمسة ، لقوله عليه‌السلام : «لا تكون الخطبة والجمعة وصلاة ركعتين على أقلّ من خمسة رهط : الإمام وأربعة» فيكون مفهومه ـ لو قلنا بأنّ للعدد مفهوما ـ انعقادها بالخمسة. (٤)

__________________

(١) الجواهر : ٣ / ٦٩ ـ ٧١.

(٢) الجواهر : ٢٣ / ٢٣.

(٣) الجواهر : ١٠ / ١٧٤.

(٤) الجواهر : ١١ / ١٩٩.

١٠١

السادس : مفهوم اللقب

المقصود باللقب كلّ اسم ـ سواء كان مشتقا أو جامدا ـ وقع موضوعا للحكم كالفقير في قولهم : أطعم الفقير ، وكالسارق والسارقة في قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (المائدة : ٣٨) ومعنى مفهوم اللقب نفي الحكم عمّا لا يتناوله عموم الاسم، وبما أنّك عرفت عدم دلالة الوصف على المفهوم ، فعدم دلالة اللقب عليه أولى ، بل غاية ما يفهم من اللقب عدم دلالة الكلام على ثبوته في غير ما يشمله عموم الاسم وأمّا دلالته على العدم فلا ، فمثلا إذا قلنا إنّ محمّدا رسول الله ، فمفاده ثبوت الرسالة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يدلّ على رسالة غيره نفيا وإثباتا

تطبيق

روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى أن يكفّن الرجال في ثياب الحرير ، فلو قلنا بمفهوم اللقب لدلّ على جواز تكفين المرأة به وإلاّ فلا. (١)

تمّ الكلام في المقصد الثالث

والحمد لله ربّ العالمين

__________________

(١) الجواهر : ٤ / ١٧٠.

١٠٢

المقصد الرابع

العموم والخصوص

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في ألفاظ العموم.

الفصل الثاني : هل العام بعد التخصيص حقيقة أو مجاز؟

الفصل الثالث : حجّية العام المخصص في الباقي.

الفصل الرابع : التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص.

الفصل الخامس : في تخصيص العام بالمفهوم.

الفصل السادس : في تخصيص الكتاب بخبر الواحد.

الفصل السابع : تعقيب الاستثناء للجمل المتعدّدة.

الفصل الثامن : في النسخ والتخصيص.

١٠٣

تمهيد

تعريف العام : العام من المفاهيم الواضحة الغنية عن التعريف ، ولكن عرّفه الأصوليّون بتعاريف عديدة وناقشوا فيها بعدم الانعكاس تارة وعدم الاطراد أخرى ، ولنقتصر على تعريف واحد وهو : شمول الحكم لجميع أفراد مدخوله ، ويقابله الخاص.

تقسيم العام : ينقسم العام إلى أقسام ثلاثة :

أ. العام الاستغراقي : وهو لحاظ كلّ فرد فرد من أفراد العام بحياله واستقلاله ، واللّفظ الموضوع له هو لفظ «كل».

ب. العام المجموعي : وهو لحاظ الأفراد بصورة مجتمعة ، واللّفظ الدالّ عليه هو لفظ «المجموع» كقولك : أكرم مجموع العلماء.

ج. العام البدلي : وهو لحاظ فرد من أفراد العام لا بعينه ، واللّفظ الدالّ عليه لفظ «أيّ» كقولك : أطعم أيّ فقير شئت.

وعلى ذلك فالعام مع قطع النظر عن الحكم يلاحظ على أقسام ثلاثة ولكلّ لفظ خاص يعرب عنه.

ولكن الأوفق بالنسبة إلى تعريف العام المذكور هو ما ربما يقال (١) انّ التقسيم إنّما هو بلحاظ تعلّق الحكم ، فمثلا : العام الاستغراقي هو أن يكون الحكم شاملا لكلّ فرد فرد ، فيكون كلّ فرد وحده موضوعا للحكم.

والعام المجموعي هو أن يكون الحكم ثابتا للمجموع بما هو مجموع ، فيكون المجموع موضوعا واحدا.

والعام البدلي هو أن يكون الحكم لواحد من الأفراد على البدل ، فيكون فرد واحد على البدل موضوعا للحكم.

إذا عرفت ذلك ، فيقع الكلام في فصول :

__________________

(١) القائل هو المحقّق الخراساني.

١٠٤

الفصل الأوّل

ألفاظ العموم

لا شكّ انّ للعموم ألفاظا دالّة عليه إمّا بالدلالة اللفظية الوضعية ، أو بالإطلاق وبمقتضى مقدّمات الحكمة. (١)

أمّا الدالّ بالوضع عليه فألفاظ مفردة مثل : كلّ ، جميع ، تمام ، أيّ ، دائما.

والألفاظ الأربعة الأول تفيد العموم في الأفراد ، واللفظ الأخير يفيد العموم في الأزمان، فقولك : أكرم زيدا في يوم الجمعة دائما ، يفيد شمول الحكم لكلّ جمعة. ونظير «دائما» لفظة «أبدا» قال سبحانه : (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) (الأحزاب / ٥٤).

إنّما الكلام في الألفاظ الّتي يستفاد منها العموم بمقتضى الإطلاق ، ومقدّمات الحكمة وهي ثلاثة :

١. النكرة الواقعة في سياق النفي

المعروف انّ «لا» النافية الداخلة على النكرة نحو : «لا رجل في الدار» تفيد العموم ، لأنّها لنفي الجنس وهو لا ينعدم إلاّ بانعدام جميع الأفراد ، أو بعبارة أخرى

__________________

(١) سيأتي تفسيرها مفصلا في مبحث المطلق والمقيد وإجماله أن يكون المتكلّم في مقام البيان ، ولم يأت في كلامه بقرينة دالّة على الخصوص ، فيحكم عليه بالعموم.

١٠٥

تدلّ على عموم السلب لجميع أفراد النكرة عقلا (١) ، لأنّ عدم الطبيعة إنّما يكون بعدم جميع أفرادها.

٢. الجمع المحلّى باللاّم

من أدوات العموم الجمع المحلّى باللاّم كقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة / ١) وقول القائل : جمع الأمير الصاغة.

٣. المفرد المحلّى باللام

قد عدّ من ألفاظ العموم ، المفرد المحلّى باللاّم ، كقوله سبحانه : (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا) (العصر / ١ ـ ٣). وذلك بدليل ورود الاستثناء عليه.

__________________

(١) المراد من العقل هو العقل العرفي ، لا العقل الفلسفي وإلاّ فحسب التحليل الفلسفي أنّ للطبيعة وجودات حسب تعدّد أفرادها ، وأعداما حسب انعدام أفرادها.

١٠٦

الفصل الثاني

هل العام بعد التخصيص حقيقة أو مجاز؟

إذا خصّ العام وأريد به الباقي فهل هو مجاز أو لا؟ فهنا أقوال :

أ. انّه مجاز مطلقا ، وهو خيرة الشيخ الطوسي والمحقّق والعلاّمة الحلّي في أحد قوليه.

ب. انّه حقيقة مطلقا ، وهو خيرة المحقّق الخراساني ومن تبعه.

ج. التفصيل بين التخصيص بمخصص متصل (والمراد منه ما إذا كان المخصص متصلا بالكلام وجزءا منه) كالشرط والصفة والاستثناء والغاية فحقيقة ، وبين التخصيص بمخصص منفصل (والمراد ما إذا كان منفصلا ولا يعدّ جزء منه) من سمع أو عقل فمجاز،وهو القول الثاني للعلاّمة اختاره في التهذيب. والحقّ انّه حقيقة سواء كان المخصص متصلا أو منفصلا.

أمّا الأوّل : أي إذا كان المخصص متصلا بالعام ، ففي مثل قولك : «أكرم كلّ عالم عادل» الوصف مخصص متصل للعام ، وهو «كلّ عالم» غير أنّ كلّ لفظة من هذه الجملة مستعملة في معناها ، فلفظة «كل» استعملت في استغراق المدخول سواء كان المدخول مطلقا كالعالم ، أم مقيدا كالعالم العادل ، كما أنّ لفظة «عالم» مستعملة في معناها سواء كان عادلا أم غير عادل ، ومثله اللّفظ الثالث ، أعني :

١٠٧

عادل ، فالجميع مستعمل في معناه اللغوي من باب تعدّد الدال والمدلول.

فدلالة الجملة المذكورة على إكرام خصوص العالم العادل ، ليس من باب استعمال «العالم» في العالم العادل ، لما قلنا من انّ كلّ لفظ استعمل في معناه بل هي من باب تعدد الدال والمدلول ، ونتيجة دلالة كلّ لفظ على معناه.

نعم لا ينعقد الظهور لكلّ واحد من هذه الألفاظ إلاّ بعد فراغ المتكلّم عن كلّ قيد يتصل به ، ولذلك لا ينعقد للكلام المذكور ظهور إلاّ في الخصوص.

وأمّا الثاني : أي المخصص المنفصل كما إذا قال المتكلّم : «أكرم العلماء» ثمّ قال في كلام مستقل : «لا تكرم العالم الفاسق» ، فالتحقيق أنّ التخصيص لا يوجب المجازية في العام.

ووجهه : أنّ للمتكلّم إرادتين :

الأولى : الإرادة الاستعمالية وهي إطلاق اللّفظ وإرادة معناه ، ويشترك فيها كلّ من يتكلم عن شعور وإرادة من غير فرق بين الهازل والممتحن وذي الجدّ.

ثمّ إنّ له وراء تلك الإرادة إرادة أخرى ، وهي ما يعبّر عنها بالإرادة الجدية ، فتارة لا تتعلّق الإرادة الجدية بنفس ما تعلّقت به الإرادة الاستعمالية ، كما في الأوامر الامتحانية والصادرة عن هزل.

وأخرى تتعلّق الأولى بنفس ما تعلّقت به الثانية بلا استثناء وتخصيص ، كما في العام غير المخصص.

وثالثة تتعلق الإرادة الجدية ببعض ما تعلّقت به الإرادة الاستعمالية ، كما في العام المخصص ، وعند ذاك يشير إلى ذلك البعض بدليل مستقل. ويكشف المخصص عن تضيق الإرادة الجدية من رأس دون الإرادة الاستعمالية.

وعلى ضوء ذلك يكفي للمقنّن أن يلقي كلامه بصورة عامة ، ويقول : أكرم

١٠٨

كلّ عالم ، ويستعمل الجملة في معناها الحقيقي (من دون أن يستعملها في معنى مضيق) ثم يشير بدليل مستقل إلى ما لم تتعلّق به إرادته الجدية كالفاسق مثلا.

وأكثر المخصصات الواردة في الشرع من هذا القبيل حيث نجد أنّه سبحانه يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة / ٢٧٨). ثمّ يرخّص في السنّة الشريفة ويخصّص حرمة الربا بغير الوالد والولد ، والزوج والزوجة.

١٠٩

الفصل الثالث

حجّية العام المخصّص في الباقي

إذا ورد عام وتبعه التخصيص ثمّ شككنا في ورود تخصيص آخر عليه غير ما علم،فهل يكون العام حجّة فيما شك خروجه عنه أو لا؟ وهذا ما يعبّر عنه في الكتب الأصولية ب «هل العام المخصص حجّة في الباقي أو لا؟» : مثلا إذا ورد النص بحرمة الربا ، ثمّ علمنا بخروج الربا بين الوالد والولد عن تحت العموم وشككنا في خروج سائر الأقربين كالأخ والأخت ، فهل العام (حرمة الربا) حجّة في المشكوك أو لا؟

والمختار حجّيته في المشكوك لأنّ العام المخصّص مستعمل في معناه الحقيقي بالإرادة الاستعمالية ، وإن ورد عليه التخصيص فإنّما يخصص الإرادة الجدية ، وإلاّ فالإرادة الاستعمالية باقية على حالها لا تمس كرامتها.

والأصل العقلائي هو تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدية إلاّ ما علم فيه عدم التطابق.

وهذه (أي حجّية العام المخصص في الباقي) هي الثمرة للفصل السابق في كون العام المخصص حقيقة في الباقي وليس مجازا.

١١٠

الفصل الرابع

التمسّك بالعام قبل الفحص عن المخصص

إنّ ديدن العقلاء في المحاورات العرفية هو الإتيان بكلّ ما له دخل في كلامهم ومقاصدهم من دون فرق بين القضايا الجزئية أو الكلية ، ولذا يتمسّك بظواهر كلامهم من دون أيّ تربص.

وأمّا الخطابات القانونية التي ترجع إلى جعل القوانين وسنّ السّنن سواء كانت دولية أو إقليمية ، فقد جرت سيرة العقلاء على خلاف ذلك ، فتراهم يذكرون العام والمطلق في باب ، والمخصص والمقيد في باب آخر ، كما أنّهم يذكرون العموم والمطلق في زمان ، وبعد فترة يذكرون المخصّص والمقيّد في زمان آخر.

وقد سلك التشريع الإسلامي هذا النحو فتجد ورود العموم في القرآن أو كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلموالمخصص والمقيد في كلام الأوصياء مثلا وما هذا شأنه لا يصحّ فيه عند العقلاء التمسك بالعموم قبل الفحص عن مخصصاته أو بالمطلق قبل الفحص عن مقيداته.

١١١

الفصل الخامس

تخصيص العام بالمفهوم

إذا كان هناك دليل عام ودليل آخر له مفهوم ، فهل يقدّم المفهوم على العام أو لا؟

وإنّما عقدوا هذا البحث ـ مع اتّفاقهم على تقديم المخصص على العام ـ لأجل تصوّر أنّ الدلالة المفهومية (وإن كانت أخص) أضعف من الدلالة المنطوقية (العموم) ، ولأجل ذلك بحثوا في انّ المفهوم هل يقدم مع ضعفه على العام أو لا؟ ويقع الكلام في مبحثين :

الأوّل : تخصيص العام بالمفهوم الموافق.

الثاني : تخصيص العام بالمفهوم المخالف.

المبحث الأوّل : تخصيص العام بالمفهوم الموافق

قد نقل الاتفاق على جواز التخصيص بالمفهوم الموافق فمثلا إذا قال : اضرب من في الدار ، ثمّ قال : ولا تقل للوالدين أف. فالدليل الثاني يدلّ على حرمة ضرب الوالدين أيضا إذا كانا في الدار فيخصص العام بهذا المفهوم.

١١٢

المبحث الثاني : هل يخصص العام بالمفهوم المخالف؟

إذا ورد عام كقوله : «الماء كلّه طاهر» فهل يخصص هذا العام بمفهوم المخالف في قوله : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء» ، أم لا؟

فيه أقوال والتفصيل يطلب من الدراسات العليا والظاهر أنّه إذا لم تكن قوّة لأحد الدليلين في نظر العرف على الآخر يعود الكلام مجملا ، وأمّا إذا كان أحدهما أظهر من الآخر فيقدّم الأظهر.

الفصل السادس

تخصيص الكتاب بخبر الواحد

اتّفق الأصوليّون على جواز تخصيص الكتاب بالكتاب وتخصيصه بالخبر المتواتر.

واختلفوا في جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد على أقوال ثلاثة :

القول الأوّل : عدم الجواز مطلقا. وهو خيرة السيد المرتضى في «الذريعة» ، والشيخ الطوسي في «العدّة» ، والمحقّق في «المعارج».

القول الثاني : الجواز مطلقا ، وهو خيرة المتأخّرين.

القول الثالث : التفصيل بين تخصيص الكتاب بمخصص قطعي قبل خبر الواحد فيجوز به أيضا ، وعدمه فلا يجوز به.

استدلّ المتأخّرون على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد بوجهين :

١١٣

الوجه الأوّل : جريان سيرة الأصحاب على العمل بأخبار الآحاد في قبال عمومات الكتاب واحتمال أن يكون ذلك بواسطة القرائن المفيدة للعلم بعيد جدّا ، فمثلا خصصت آية الميراث : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (النساء / ١١) بالسنّة كقوله : لا ميراث للقاتل. (١)

وخصصت آية حلية النساء ، أعني قوله : (أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ)(النساء /٢٤) بما ورد في السنّة من أنّ المرأة لا تزوّج على عمّتها وخالتها. (٢)

وخصصت آية حرمة الربا بما دلّ على الجواز بين الولد والوالد ، والزوج والزوجة.

الوجه الثاني : إذا لم نقل بجواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد لزم إلغاء الخبر بالمرّة إذ ما من حكم مروي بخبر الواحد إلاّ بخلافه عموم الكتاب ولو بمثل عمومات الحلّ ، ولا يخلو الوجه الثاني عن إغراق ، لأنّ كثيرا من الآيات الواردة حول الصلاة والزكاة والصوم وغيرها واردة في مقام أصل التشريع ، ولأجل ذلك تحتاج إلى البيان ، وخبر الواحد بعد ثبوت حجيته يكون مبيّنا لمجملاته وموضحا لمبهماته ولا يعدّ مثل ذلك مخالفا للقرآن ومعارضا له،بل يكون في خدمة القرآن والغاية المهمة من وراء حجّية خبر الواحد هو ذلك.

ثمّ لو قلنا بجواز تخصيص القرآن بخبر الواحد لا نجيز نسخه به ، لأنّ الكتاب قطعي الثبوت وخبر الواحد ظنّي الصدور ، فكيف يسوغ نسخ القطعي بالظنّي خصوصا إذا كان النسخ كليا لا جزئيا ، أي رافعا للحكم من رأسه.

__________________

(١) الوسائل : ١٧ ، الباب ٧ من أبواب موانع الإرث ، الحديث ١.

(٢) الوسائل : ١٤ ، الباب ٣٠ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها.

١١٤

الفصل السابع

تعقيب الاستثناء للجمل المتعدّدة

إذا تعقّب الاستثناء جملا متعدّدة ، كقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ* إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور / ٤ ـ ٥) ففي رجوع الاستثناء إلى الجميع أو إلى الجملة الأخيرة أقوال :

أ. ظهور الكلام في رجوعه إلى جميع الجمل ، لأنّ تخصيصه بالأخيرة فقط بحاجة إلى دليل.

ب. ظهور الكلام في رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة لكونها أقرب.

ج. عدم ظهور الكلام في واحد منهما وإن كان رجوعه إلى الأخيرة متيقّنا على كلّ حال ، لكن الرجوع إليها شيء وظهوره فيها شيء آخر.

لا شكّ في إمكان رجوع الاستثناء إلى خصوص الأخيرة أو الجميع ، وإنّما الكلام في انعقاد الظهور لواحد منهما عند العقلاء ، فالاستثناء كما يحتمل رجوعه إلى الأخيرة كذلك يحتمل رجوعه إلى الجميع ، والتعيين بحاجة إلى دليل قاطع ، وما ذكر من الدلائل للقولين لا يخرج عن كونها قرائن ظنية ، غير مثبتة للظهور.

١١٥

الفصل الثامن

النسخ والتخصيص

النسخ في اللغة : هو الإزالة. وفي الاصطلاح : رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخّر على وجه لولاه لكان ثابتا.

وبذلك علم أنّ النسخ تخصيص في الأزمان ، أي مانع عن استمرار الحكم ، لا عن أصل ثبوته ولنذكر مثالا : قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(المجادلة/١٢) فرض الله سبحانه على المؤمنين إذا أرادوا مناجاة الرسول أن يقدّموا قبله صدقة.

ثمّ لمّا نهوا عن المناجاة حتى يتصدّقوا ، ضنّ كثير منهم من التصدق حتى كفّوا عن المسألة فلم يناجه إلاّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام بعد ما تصدّق.

ثمّ نسخت الآية بما بعدها ، قال سبحانه : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (المجادلة / ١٣).

إنّ النسخ في القرآن الكريم نادر جدّا ، ولم نعثر على النسخ في الكتاب

١١٦

إلاّ في آيتين إحداهما ما عرفت والثانية قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) (البقرة / ٢٤٠).

واللاّم في الحول إشارة إلى الحول المعهود بين العرب قبل الإسلام حيث كانت النساء يعتددن إلى حول ، وقد أمضاه القرآن كبعض ما أمضاه من السنن الرائجة فيه لمصلحة هو أعلم بها.

ثمّ نسخت بقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) (البقرة / ٢٣٤).

وبذلك يعلم أنّه يشترط في النسخ وقوع العمل بالمنسوخ فترة ، ثمّ ورود الناسخ بعده وإلى هذا يشير كلام الأصوليين حيث يقولون يشترط في النسخ حضور العمل.

إنّ النسخ في القوانين العرفية (١) يلازم البداء (٢) ، أي ظهور ما خفي لهم من المصالح والمفاسد ، وهذا بخلاف النسخ في الأحكام الشرعية ، فإنّ علمه سبحانه محيط لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، فالله سبحانه يعلم مبدأ الحكم وغايته غير أنّ المصلحة اقتضت إظهار الحكم بلا غاية لكنّه في الواقع مغيّا.

فقد خرجنا بهذه النتيجة أنّ النسخ في الأحكام العرفية رفع للحكم واقعا ، ولكنه في الأحكام الإلهية دفع لها وبيان للأمد الذي كانت مغيّا به منذ تشريعها ولا مانع من إظهار الحكم غير مغيّا ، وهو في الواقع محدّد لمصلحة في نفس

__________________

(١) المراد ما تقابل الأحكام الإلهية. فالقوانين المجعولة بيد الإنسان تسمّى في اصطلاح الحقوقيين قوانين وضعية.

(٢) البداء بهذا المعنى محال على الله دون الإنسان.

١١٧

الإظهار.

هذا هو النسخ ، وأمّا حدّ التخصيص ، فهو إخراج فرد أو عنوان عن كونه محكوما بحكم العام من أوّل الأمر حسب الإرادة الجدية ، وإن شمله حسب الإرادة الاستعماليّة ، فهو تخصيص في الأفراد لا في الأزمان مقابل النسخ الذي عرفت أنّه هو تخصيص فيها ، ولأجل ذلك يشترط في التخصيص وروده قبل حضور وقت العمل بالعام ، وإلاّ فلو عمل بالعام ثمّ ورد التخصيص يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو قبيح على الحكيم ، فلا محيص من وروده قبل العمل بالعام لو كان مخصّصا ، نعم لو كان ناسخا لحكم العام في مورده يجب تأخيره عن وقت حضور العمل بالعام.

تمّ الكلام في المقصد الرابع

والحمد لله

١١٨

المقصد الخامس

في المطلق والمقيد والمجمل والمبين

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في تعريف المطلق والمقيّد.

الفصل الثاني : في ألفاظ المطلق.

الفصل الثالث : في أنّ المطلق بعد التقييد ليس مجازا.

الفصل الرابع : في مقدمات الحكمة.

الفصل الخامس : في المطلق والمقيّد المتنافيين.

الفصل السادس : في المجمل والمبين والمحكم والمتشابه.

١١٩

الفصل الأوّل

تعريف المطلق

عرّف المطلق : بأنّه ما دلّ على شائع في جنسه ، والمقيّد على خلافه.

والمراد من الموصول في قولهم «ما دلّ» هو اللفظ ، والمراد من الشائع هو المتوفّر وجوده من ذلك الجنس.

ثمّ إنّ ظاهر التعريف أنّ الإطلاق والتقييد عارضان للّفظ بما هو هو سواء تعلّق به الحكم أو لا ، فهنا لفظ مطلق ، ولفظ مقيّد.

ولكن هذا النوع من البحث يناسب البحوث الأدبية ، والذي يهمّ الأصولي الذي هو بصدد تأسيس قواعد تكون مقدّمة للاستنباط هو تعريف المطلق والمقيد بلحاظ تعلّق الحكم بالموضوع ، فنقول : المطلق : عبارة عن كون اللفظ بما له من المعنى ، تمام الموضوع للحكم ، بلا لحاظ حيثية أخرى ، فبما أنّه مرسل عن القيد في مقام الموضوعية للحكم فهو مطلق.

وإن شئت قلت : إنّ الإطلاق والتقييد وصفان عارضان للموضوع باعتبار تعلّق الحكم به ، فلو كان اللفظ في مقام الموضوعية مرسلا عن القيد والحيثية الزائدة كان مطلقا وإلاّ كان مقيّدا.

فالرقبة في «أعتق رقبة» مطلق لكونها تمام الموضوع للحكم ومرسلة عن

١٢٠