دروس في البلاغة - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٤

كقول البحتري : سلبوا] أي ثيابهم ،

[وأشرقت الدّماء عليهم

محمرّة فكأنّهم لم يسلبوا]

لأنّ الدّماء المشرقة كانت بمنزلة الثّياب لهم (١). [وقول أبي الطّيّب (٢) : يبس النّجيع عليه] أي على السّيف [وهو مجرّد (٣) عن غمده فكأنّما هو مغمّد] لأنّ الدّم اليابس بمنزلة غمد له ، فنقل المعنى من القتلى والجرحى إلى السّيف. [ومنه] أي من غير الظّاهر [أن يكون معنى الثّاني أشمل] من معنى الأوّل [كقول جرير :

إذا غضبت عليك بنو تميم

وجدت النّاس كلّهم غضبانا

لأنّهم يقومون مقام كلّهم (٤) [وقول أبي نوّاس :

وليس على الله بمتنكر

أن يجمع العالم في واحد (٥)

فإنّه يشمل النّاس وغيرهم فهو أشمل من معنى بيت جرير. [ومنه] أي من غير الظّاهر ، [القلب ، وهو أن يكون معنى الثّاني نقيض معنى الأوّل ، كقول أبي الشّيص :

أجد الملامة في هواك لذيذة

حبّا لذكرك فليلمني اللّوم

________________________________________________________

(١) أي ساترة لهم كاللّباس.

(٢) في وصف السّيف يبس النّجيع أي الدّم المائل إلى السّواد.

(٣) أي : والحال أن السّيف خارج عن غمده «فكإنّما هو مغمّد» ، أي مجعول في الغمد ، لأنّ الدّم اليابس صار بمنزلة غمد له ، فنقل المعنى من موصوف ، أعني القتلى والجرحى إلى موصوف آخر ، أعني السّيف.

والشّاهد : في أن أبا الطّيّب سرق المعنى من البحتري لكنّها سرقة خفيّة.

(٤) أي كلّ النّاس ، فمعنى هذا البيت أنّ بني تميم بمنزلة النّاس جميعا في الغضب.

(٥) والشّاهد : في أنّ أبا نواس سرق المعنى من جرير ، ولكنّ الأوّل ، أي بيت جرير يختصّ بعض العالم وهو النّاس ، وبيت أبي نوّاس يشمل النّاس وغيرهم ، وذلك لأنّ العالم اسم لما

٤٢١

وقول أبي الطّيّب : أأحبّه] ، الاستفهام للإنكار (١) ، والإنكار باعتبار القيد الّذي هو الحال أعنى قوله : [وأحبّ فيه ملامة] كما يقال : أتصلى وأنت محدث (٢) على تجويز واو الحال في المضارع المثبت ، كما هو رأي البعض أو على حذف المبتدأ ، أي وأنا أحبّ ، ويجوز أن تكون الواو للعطف ، والإنكار راجع إلى الجمع بين الأمرين ، أعنى محبّته ومحبّة الملامة فيه [أن الملامة فيه من أعدائه] وما يصدر عن عدوّ المحبّوب يكون مبغوضا ، وهذا نقيض معنى بيت أبي شيص ، لكن كلّ منهما باعتبار آخر (٣). ولهذا قالوا : الأحسن في هذا النّوع أن يبيّن السّبب (٤). [ومنه] أي من غير الظّاهر [أن يؤخذ بعض المعنى ويضاف إليه ما يحسنه كقول الأفوه (٥)

________________________________________________________

سوى الباري تعالى ، أي جميع المخلوقات فيشمل النّاس وغيرهم ، فيكون أشمل.

(١) فهو في معنى لا أحبّه ، والشّاهد في أنّ معنى بيت أبي الطّيّب نقيض معنى بيت أبي الشّيص ، لأنّ أبا الطّيّب يدعّي بغض اللّوم في المحبوب ، وأبا الشّيص حبّ اللّوم فيه. إلّا أن التّناقض بينهما بحسب الظّاهر ، وإن شئت قل : إنّ التّناقض عرفي لا منطقي ، لأنّ علّة حبّ اللّوم في كلام أبي الشّيص اشتمال اللّوم على ذكر المحبوب ، وهذا محبوب له ، وعلّة كراهة اللّوم في كلام أبي الطّيّب صدوره من عدوّ المحبوب ، والصّادر من عدوّ المحبوب مبغوض.

(٢) فالمنكر وقوع الصّلوات مع الحدث ، لا وقوع الصّلوات من حيث هي ، كما أنّ المنكر هنا حبّ المحبوب مع حبّ ـ الملامة من أعدائه ، لا حبّ المحبوب من حيث هو.

(٣) هذا إشارة إلى ما ذكرناه من التّناقض هنا ليس حقيقيّا.

(٤) أي يبيّن العلّة في الكلامين المتناقضين بحسب الظّاهر والعرف ، كما في البيتين المذكورين ، وذلك لأجل أن يعلم أنّ التّناقض بينهما ليس منطقيّا ، بل بحسب الظّاهر والعرف ، أي بحسب الصّورة لا بحسب الحقيقة. وذلك لاختلاف العلّة فيهما.

(٥) وهو في اللّغة الواسع الفم ، أو طويل الأسنان بحيث خرجت من الشّفتين ، ومن غير الظّاهر أن يؤخذ بعض المعنى من كلام الشّاعر الأوّل ، ويضاف إلى ذلك البعض المأخوذ ما يحسنه.

وبعبارة أخرى :

يأخذ الشّاعر الثّاني من كلام الشّاعر الأوّل بعض المعنى لا كلّه ، لكن لا يقتصر الشّاعر الثّاني على ذلك البعض المأخوذ من الأوّل ، بل يضيف إليه ما يحسنه.

٤٢٢

وترى الطّير على آثارنا (١) رأي عين (٢)] يعني عيانا [ثقة] حال أي واثقة ، أو مفعول له ممّا يتضمّنه قوله : على آثار ، ـ أي كائنة على آثارنا لوثوقها [أن ستمار] أي ستطعم من لحوم من نقتلهم (٣).

[وقول أبي تمّام : وقد ظللت (٤)] أي ألقي (٥) عليها الظّل وصارت ذوات ظل [عقبان (٦) أعلامه (٧) ضحى (٨) بعقبان طير في الدّماء نواهل] من نهل إذا روى نقيض عطش [أقامت] أي عقبان الطّير [مع الرّايات] أي الأعلام وثوقا بأنّها ستطعم لحوم القتلى (٩)

________________________________________________________

(١) أي تبصر وراءنا تابعة لنا.

(٢) وإنّما أكّد ترى بقوله : رأي عين ، لئلّا يتوهّم أنّ الطّير بحيث ترى لمن أمعن النّظر بتكلّف ، «ثقة» مصدر ، كعدة ، وهو «حال» من الطّير ، أي حال كون تلك الطّير «واثقة» بأنّها ترزق من لحوم من يقتله من الأعداء.

(٣) أي ستطعم تلك الطّير من لحوم قتلى الأعداء.

(٤) بالبناء للمفعول.

(٥) أيضا بالبناء للمفعول ، «الظّل» نائب فاعله.

(٦) بكسر أوّله جمع عقاب ، وهو طير عظيم ، وإضافته إلى «أعلامه» من قبيل إضافة المشبّه به إلى المشبّه ، كما في لجين الماء ، ووجه الشّبه التّلوّن والفخامة.

(٧) أي أعلامه الّتي هي كالعقبان في سرعة وصولها إلى الخصم واصطياده للخصم.

(٨) جمع الضّحوة ، بمعنى امتداد النّهار.

(٩) فعقبان الطّير من شدّة اختلاطها مع الرّايات وقربها منها صارت كأنّها من الجيش إلا أنّها ، أي عقبان الطّير لم تقاتل ، أي لم تباشر القتال ، وهذا استدراك على ما يتوهّم من قوله : «كأنّها من الجيش» ، أنّها قاتلت مع الجيش ، فدفع هذا التوهّم إلا أنّها لم تقاتل.

وكيف كان فكان الكلام إلى هنا في إجمال معنى البيتين ، وأمّا المفاضلة بينهما وبيان الشّاهد فيهما ، وإنّ الثّاني أخذ بعض المعنى من الأوّل ، وأضاف إلى البعض ما يحسنه ما أشار إليه الشّارح ، «فإنّ ابا تمّام لم يلم بشيء من معنى قول الأفوه رأي العين» ، يعني أنّ أبا تمّام لم يأخذ ، أي لم يأت بشيء من معنى قول الأفوه : رأي العين.

والحاصل إنّ أبا تمّام زاد على الأفوه من حيث البلاغة والحسن بثلاثة أشياء :

٤٢٣

حتّى كأنّها من الجيش إلّا أنّها لم تقاتل ، فإنّ أبا تمّام لم يلم بشيء من معنى قول الأفوه : رأي عين] الدّالّ على قرب الطّير من الجيش بحيث ترى عيانا لا تخيّلا ، وهذا مما يؤكّد شجاعتهم وقتلهم الأعادي [و] لا بشيء من معنى [قوله : ـ ثقة أن ستمار] الدّالّ على وثوق الطّير بالميرة (١) لاعتيادها ذلك ، وهذا أيضا مما يؤكّد المقصود (٢) ، قيل : إنّ قول أبي تمّام ـ ظللت ـ إلمام ، بمعنى قوله : رأي عين ـ لأنّ وقوع الظّلّ على الرّايات مشعر بقربها من الجيش ، وفيه نظر (٣) إذ قد يقع ظل الطّير على الرّاية وهو في جو السّماء بحيث لا يرى أصلا. نعم لو قيل : إنّ قوله : حتّى كأنّها من الجيش ، إلمام بمعنى قوله : رأي عين ، ـ فإنّما تكون من الجيش إذا كانت قريبا منهم مختلطا بهم ، لم يبعد الصّواب. [لكن زاد] أبو تمّام [عليه] أي على الأفوه زيادات محسّنة للمعنى المأخوذ من الأفوه ، أعني تساير الطّير على آثارهم [بقوله : إلّا أنّها لم تقاتل ، وبقوله : في الدّماء نواهل ، وبإقامتها مع الرّوايات حتّى كأنّها من الجيش ، وبها] أي وبإقامتها مع الرّايات حتّى كأنّها من الجيش [يتمّ حسن الأوّل (٤)]

________________________________________________________

الأوّل : إلّا أنّها لم تقاتل ، والثّاني : في الدّماء نواهل ، والثّالث : إقامتها مع الرّايات حتّى كأنّها من الجيش.

(١) أي بالطّعام.

(٢) أعني وصفهم بالشّجاعة والاقتدار على قتل الأعادي ، والمشار إليه لقوله : «هذا» ، هو كون الطّير قريبا من الجيش بحيث يرى معاينة ممّا يؤكّد المعنى المقصود للشّاعر ، وهو وصفهم بالشّجاعة والاقتدار على قتل الأعادي.

(٣) حاصله : أنّ وقوع ظلّ الطّير على الرّايات لا يستلزم قربه منها بدليل ظلّ الطّير يمرّ بالأرض ، والحال إنّ الطّير في الجو بحيث لا يرى.

(٤) من الزّيادات الثّلاث في كلام الخطيب ، أعني قوله : إلّا أنّها لم تقاتل ، لا الأوّل في كلام أبي تمّام ، لأنّه في كلامه آخر البيت.

والحاصل إنّ قول أبي تمّام ـ أقامت مع الرّايات حتّى كأنّها من الجيش موجب لتماميّة حسن قوله إلّا أنّها لم تقاتل لأنّه لو ترك أقامت مع الرّايات حتّى كأنّها من الجيش ، وقيل :

ظللت عقبان الرّايات بعقبان الطّير إلّا أنّها لم تقاتل لم يحسن هذا الاستثناء المنقطع ، أي قوله :

إلّا أنّها لم تقاتل «ذلك الحسن» الّذي مع ذكر قوله أقامت مع الرّايات حتّى كأنّها من ـ الجيش ،

٤٢٤

يعني قوله : إلّا أنّها لم تقاتل ، لأنّه لم يحسن الاستدراك الّذي هو قوله : إلّا أنّها لم تقاتل ، ذلك الحسن إلّا بعد أن تجعل الطّير مقيمة مع الرّايات معدودة في عداد الجيش حتّى يتوهّم أنّها أيضا من المقاتلة ، هذا هو المفهوم من الإيضاح (١).

وقد قيل معنى قوله : وبها ، أي بهذه الزّيادات الثّلاث يتمّ حسن معنى البيت الأوّل [وأكثر هذه الأنواع (٢)] المذكورة لغير الظّاهر ، [ونحوها مقبولة (٣)] لما فيها من نوع تصرّف (٤) [بل منها] أي من هذه الأنواع [ما يخرجه حسن التّصرف (٥)

________________________________________________________

لأنّ إقامتها مع الرّايات حتّى كأنّها مع الجيش موهم أنّها أيضا تقاتل مثل الجيش ، فيحسن هذا الاستثناء المنقطع ، لأنّ مفاده الاستدراك الّذي هو في الاصطلاح دفع التوهّم النّاشئ من الكلام السّابق ، وهو من المحسّنات المعنويّة.

(١) أي أنّ المفهوم من الإيضاح أنّ ضمير قوله : «وبها» ، راجع لإقامتها مع الرّايات حتّى كأنّها من الجيش ، والمراد من الأوّل هو الأوّل من الزّيادات ، ويحتمل أن يكون الضّمير راجعا إلى مجموع الزّيادات الثّلاث ، فيكون قوله : «وبها يتمّ حسن الأوّل» أنّ بهذه الزّيادات الثّلاث «يتمّ حسن معنى بيت الأوّل» ، أي المعنى الّذي أخذ أبو تمّام من بيت الأفوه ، وهو تساير الطّير على آثارهم واتّباعها لهم في الزّحف.

(٢) وهي خمسة.

(٣) التّأنيث باعتبار إضافة المرجع ، أعنى أكثر إلى المؤنّث أعنى هذه.

(٤) وهذا التّعليل يقتضي قبول جميع أنواع غير الظّاهر للتّصرّف لاستوائها فيه ، فكان الأولى للمصنّف أن يقول : «وهذه الأنواع مقبولة».

(٥) أي حسن تصرف الشّاعر الثّاني ، بحيث يخرج من الابتذال إلى الغرابة فبهذا الحسن يخرج كلام الشّاعر من قبيل الاتّباع ، أي من كونه تابعا ، أي من كونه سرقة ، ومأخوذا من الشّاعر الأوّل «إلى حيّز الابتداع» إلى الإحداث والابتكار ، فيصير كأنّه غير مأخوذ من الشّاعر الأوّل.

٤٢٥

من قبيل الاتّباع إلى حيز الابتداع ، وكلّ ما كان أشدّ خفاء (١)] ، بحيث لا يعرف كونه مأخوذا من الأوّل إلّا بعد مزيد تأمّل [كان أقرب إلى القبول] لكونه أبعد من الاتّباع ، وأدخل في الابتداع.

[هذا] أي الّذي ذكر في الظّاهر وغيره من ادّعاء سبق أحدهما وأخذ الثّاني منه ، وكونه مقبولا أو مردودا ، وتسمية كلّ بالأسامي المذكورة [كلّه] إنّما يكون [إذا علم أنّ الثّاني أخذ من الأوّل] بأن يعلم أنّه كان يحفظ قول الأوّل حين نظم ، أو بأن يخبر عن نفسه أنّه أخذه منه (٢) وإلّا (٣) فلا يحكم بشيء من ذلك [لجواز أن يكون الاتّفاق (٤)] في اللّفظ والمعنى جميعا ، أو في المعنى وحده [من قبيل توارد الخواطر ، أي مجيئه على سبيل الاتّفاق من غير قصد إلى الأخذ]. كما يحكى عن ابن ميّادة (٥) أنّه أنشد لنفسه.

مفيد ومتلاف (٦) إذا ما أتيته

تهلّل (٧) واهتزّ اهتزاز المهنّد

________________________________________________________

(١) من مأخوذ آخر بأن يتصرّف فيه بحيث لا يعرف أنّ الكلام الثّاني مأخوذ من الكلام الأوّل ، إلّا بعد مزيد تأمّل ، كان أقرب إلى القبول ممّا ليس كذلك ، لكونه بسبب شدّة الخفاء ، والتّصرّف فيه بإدخال اللّطائف المزيدة أبعد من الأخذ والسّرقة وأدخل في الابتداع.

(٢) أي من الشّاعر الأوّل.

(٣) أي وإن لم يعلم ذلك لا يحكم بسرقة الثّاني من الأوّل وأخذه منه.

(٤) أي اتّفاق القائلين في اللّفظ والمعنى جميعا ، أو في المعنى وحده ، من قبيل توارد الخاطر إلى مجيئه على سبيل الاتّفاق من غير قصد من الشّاعر الثّاني إلى الأخذ من الأوّل.

(٥) ميّادة اسم امرأة ، أمة سوداء ، وهي أمّ الشّاعر ، فهو ممنوع من الصّرف للعلميّة والتّأنيث.

(٦) أي هذا الممدوح يفيد الأموال للنّاس أي يعطيها لهم ، ويتلفها على نفسه.

(٧) التّهلّل طلاقة الوجه ، والاهتزاز التّحرّك ، والمهنّد السّيف المصنوع من حديد الهند ، الحطيئة اسم لشاعر معلوم.

والشّاهد :

في اتّفاق البيتين من دون أخذ هذا البيت من بيت الشّاعر الأوّل.

٤٢٦

فقيل له : أين يذهب بك؟ هذا للحطيئة ، فقال : الآن علمت أنّي شاعر ، إذ وافقته على قوله : ولم أسمعه ، [فإذا لم يعلم (١)] أنّ الثّاني أخذ من الأوّل [قيل : قال فلان كذا وسبقه إليه فلان ، فقال كذا] ليغتنم بذلك فضيلة الصّدق ، ويسلم من دعوى علم الغيب ونسبة النّقص إلى الغير. وممّا يتّصل بهذا الرّأي بالقول في السّرقات [القول في الاقتباس والتّضمين والعقد والحل والتّلميح] بتقديم اللّام على الميم من ـ لمحه إذا أبصره ـ وذلك لأنّ في كلّ منها أخذ شيء من الآخر.

[أمّا الاقتباس (٢) فهو أن يضمن الكلام ، نظما كان أو نثرا ، [شيئا من القرآن أو الحديث لا على أنّه منه] أي لا على طريقة أنّ ذلك الشّيء من القرآن أو الحديث ، يعنى على وجه لا يكون فيه (٣) إشعار بأنّه منه ، كما يقال في أثناء الكلام : قال الله تعالى كذا ، وقال النّبي عليه‌السلام كذا ، ونحو ذلك ، فإنّه لا يكون اقتباسا ، ومثّل (٤)

________________________________________________________

(١) أي أنّ الشّاعر الثّاني أخذ من الشّاعر الأوّل «قيل : قال فلان كذا ، وقد سبقه إليه فلان» سواء كان القول الثّاني مخالفا للقول الأوّل من بعض الوجوه أم لا ، وإنّما يقال ذلك ،

ولا يقال :

إنّ الثّاني أخذ وسرق من الأوّل ، «ليغتنم بذلك» القول ، أي بقول : «قال فلان كذا ، وسبقه إليه فلان» فضيلة الصّدق والاحتراز عن الكذب ، لأنّه لو قيل : إنّ الثّاني سرق من الأوّل ، وأخذ منه لم يؤمن أن يخالف الواقع.

(٢) لغة فهو أخذ النّار من معظمها ، وأمّا اصطلاحا «فهو أن يضمن ...».

(٣) أي في تضمين ذلك ـ الشّيء «إشعار بأنّه» أي ذلك الشّيء من القرآن أو الحديث ، وهذا الشّرط احتراز عمّا يقال في أثناء الكلام : قال الله تعالى كذا ، وقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذا ، ممّا يراد به نفس كلام الله أو النّبي أو أحد إلّائمة المعصومين عليهم‌السلام فإنّ شيئا من ذلك لا يكون اقتباسا اصطلاحا.

(٤) أي ومثّل الخطيب في هذا الكتاب بأربعة أمثلة ، لأنّ الاقتباس إمّا من القرآن أو من الحديث ، وعلى التّقديرين فالكلام إما منثور أو منظوم.

٤٢٧

للاقتباس بأربعة أمثلة : لأنّه إمّا من القرآن أو الحديث ، وكلّ منهما إمّا في النّثر ، أو في النّظم.

فالأوّل [كقول الحريري : فلم يكن إلّا كلّمح البصر أو هو أقرب (١) حتّى أنشد فاغرب].

والثّاني (٢) مثل [قول الآخر : إن كنت أزمعت] أي عزمت [على هجرنا ، من غير ما جرم (٣) فصبر جميل].

وإن تبدّلت بنا غيرنا

فحسبنا الله ونعم الوكيل (٤)

[و] الثّالث (٥) مثل [قول الحريري : قلنا شاهت الوجوه] أي قبّحت ، وهو لفظ الحديث على ما روى أنّه لما اشتدّ الحرب يوم حنين أخذ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفّا من الحصباء فرمى به وجوه المشركين ، وقال : شاهت الوجوه ، [وقبّح] على المبني للمفعول ، أي لعن ، من ـ قبحّه الله ـ بالفتح ، أي أبعده عن الخير [اللّكع] ، أي اللّئيم [ومن يرجوه].

________________________________________________________

(١) والشّاهد :

في أنّه اقتبس من قوله تعالى : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)(١).

(٢) أي ما كان من القرآن في الكلام المنظوم.

(٣) أي من غير ذنب صدر منّا إليك ، فصبر جميل ، أي فأمرنا معك صبر جميل.

والشّاهد :

في أنّه اقتبسه من قوله تعالى حكاية عن يعقوب على نبيّنا وعليه أفضل الصّلاة والسّلام : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)(٢)

(٤) قوله :

«فحسبنا الله ونعم الوكيل» ، مقتبس من قوله تعالى : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(٣) والبيتان لأبي القاسم بن الحسن الكاتبي من شعراء الدّولة العباسيّة.

(٥) أي ما كان من الحديث في الكلام المنثور ، والشّاهد : في أنّ «شاهت الوجوه» مقتبس من الحديث ، وهو قول النّبي «شاهت الوجوه».

__________________

(١) سورة النّحل : ٧٧.

(٢) سورة يوسف : ١٨ ، و٨٣.

(٣) سورة آل عمران : ١٧٣.

٤٢٨

[و] الرّابع (١) مثل [قول ابن عبّاد : قال] أي الحبيب [لي إن رقيبي سيّء الخلق فداره] من المداراة ، وهي الملاطفة والمجاملة ، وضمير المفعول للرّقيب. [قلت : دعني وجهك ، الجنّة حفّت بالمكاره] اقتباسا من قوله عليه‌السلام : «حفّت الجنّة بالمكاره ، وحفّت النّار بالشّهوات» ، أي أحيطت ، يعني لا بدّ لطالب جنّة وجهك من ـ تحمّل مكاره الرّقيب ، كما أنّه لا بدّ لطالب الجنّة من مشاقّ التّكاليف. [وهو] أي الاقتباس [ضربان] أحدهما [ما لم ينقل فيه المقتبس عن معناه الأصلي كما تقدّم] من الأمثلة [و] الثّاني [خلافه] أي ما نقل فيه المقتبس عن معناه الأصلي.

[كقول ابن الرّومي :

لئن أخطأت في مدحك

فما اخطأت في منعي

لقد أنزلت حاجاتي

بواد غير ذي زرع]

هذا مقتبس من قوله تعالى : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)(١) ، لكن معناه في القرآن واد لا ماء ولا نبات (٢). وقد نقله ابن الرّومي إلى جناب (٣) لا خير فيه ولا نفع [ولا بأس بتغيير يسير] في اللّفظ المقتبس [للوزن أو غيره ، كقوله :] أي كقول بعض المغاربة (٤)

________________________________________________________

(١) أي ما كان من الحديث في الكلام المنظوم ، والشّاهد : في أنّ لفظ داره مقتبس من الحديث ، إذ هذا اللّفظ يذكر في الأحاديث.

(٢) وهو أرض مكة المشرّفة.

(٣) بالفتح الغناء ، والجانب أيضا كذا في المصباح : لا خير فيه ولا نفع ، وليس هذا معناه في القرآن.

(٤) أي عند وفاة بعض أصحابه قد كان ، أي وقع ما خفت أن يكون ، إنّا إلى الله راجعونا ، وفي القرآن (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) بينه (٢) ، فحذف ممّا في القرآن ثلاثة أشياء :

أحدها : اللّام من (لله) ،

__________________

(١) سورة إبراهيم : ٧٣.

(٢) سورة البقرة : ١٥٦.

٤٢٩

[قد كان] أي وقع [ما خفت أن يكونا* إنّا إلى الله راجعونا] ، وفي القرآن : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

[وأمّا التّضمين فهو أن يضمّن الشّعر (١) شيئا من شعر الغير (٢)] ، بيتا كان أو ما فوقه أو مصراعا ، أو ما دونه ، [مع التّنبيه عليه] أي على أنّه من شعر الغير [إن لم يكن مشهورا عند البلغاء (٣)] وبهذا (٤) يتميّز عن الأخذ والسّرقة. [كقوله :] أي كقول الحريري يحكي ما قاله الغلام الّذي عرضه أبو زيد للبيع :

[على إني سأنشد عند بيعي

أضاعوني وأي فتى أضاعوا (٥)]

المصراع الثّاني للعرجيّ ، وتمامه ليوم كريهة وسداد ثغر. اللّام في ـ ـ ـ ليوم ـ لام التّوقيت ، والكريهة من أسماء الحرب ، وسداد الثّغر بكسر السّين لا غير ، سدّه بالخيل والرّجال ، والثّغر موضع (٦) المخافة من فروج البلدان ، أي أضاعوني في وقت الحرب ، وزمان سدّ الثّغر ، ولم يراعوا حقّي أحوج ما كانوا إليّ ، وأيّ فتى ، أي كاملا من الفتيان أضاعوا ، وفيه تنديم وتخطئة لهم ، وتضمين المصراع بدون التّنبيه لشهرته كقول الشّاعر :

________________________________________________________

والثّاني : (إنّا) من إليه ،

والثّالث : الضّمير المجرور في (إليه) ، وهذا المقدار من الحذف تغيير يسير بالنّسبة إلى مجموع ما في القرآن.

(١) فخرج النّثر ، فلا يجري فيه التّضمين.

(٢) خرج ما إذا ضمّن شيئا من نثر الغير ، فلا يسمّى تضمينا بل عقدا كما يأتي عن قريب.

(٣) أي إن لم يكن ذلك الشّعر المضمّن مشهورا عند البلغاء بأنّه لفلان الشّاعر ، وإن كان ذلك الشّعر المضمّن مشهورا بذلك ، فلا حاجة إلى التّنبيه.

(٤) أي بهذا القيد ، أي باشتراط التّنبيه عليه إذا كان غير مشهور يتميّز التّضمين عن الأخذ والسّرقة.

(٥) فنبّه بقوله : سأنشد على أن «المصراع الثّاني» لغيره ، لأنّه من البيت الأوّل من كلام العرجي ، والعرج بسكون الرّاء ، هو موضع بطريق مكّة.

(٦) وبعبارة أخرى : الموضع الّذي يخاف منه هجوم العدو كذا في المصباح.

٤٣٠

قد قلت لما اطّلعت وجناته

حول الشّقيق الغضّ روضة آس

أعذاره السّاري العجول توقّف

ما في وقوفك ساعة من بأس (١)

المصراع الأخير لأبي تمّام.

[وأحسنه] أي أحسن التّضمين [ما زاد على الأصل] أي شعر الشّاعر الأوّل [بنكتة (٢)] لا توجد فيه [كالتّورية] أي الإيهام [والتّشبيه في قوله : إذا الوهم أبدى] أي أظهر ـ [لي لماها] أي سمرة شفتيها [وثغرها* تذكّرت ما بين العذيب وبارق ، ـ ويذكرني] من الإذكار [من قدّها ومدامعي* مجرّ عوالينا ومجرى السّوابق] انتصب ـ مجرّ ـ على أنّه مفعول ثان ليذكرني ، وفاعله ضمير يعود إلى الوهم وقوله :

تذكّرت ما بين العذيب وبارق

مجرّ عوالينا ومجرى السّوابق (٣)

________________________________________________________

(١) البيتان لأبي خاكان أبي العباس أحمد بن إبراهيم ، وجناته : خدوده ، الشّقيق : ورد أحمر ، استعارة لموطن الحمرة في خدّه. الآس : الرّيحان. وروضة الآس : استعارة للشّعر النّابت في جانبي وجهه. الغضّ : الطّري ، والسّاري : السّاير باللّيل ، وقد وصف بذلك ، لاشتماله على مثل سواده ، والشّاهد في أنّ المصراع الأخير لأبي تمّام ، ولم ينبّه على ذلك بشيء.

(٢) أي يشتمل البيت أو المصراع المضمّن بالفتح في شعر الشّاعر الثّاني على لطيفة لا توجد في شعر الشّاعر الأوّل ، «كالتّوريّة» ، وهي كما تقدّم في المحسّنات المعنويّة أن يذكر لفظ له معينان قريب وبعيد ، ويراد البعيد ، وأنّه يسمّى إيهاما أيضا.

(٣) والشّاهد : في أن المصراع الثّاني من كلّ من البيتين ، أعني هذا البيت والبيت السّابق مأخوذ من أبي الطّيّب ، وأصلهما في كلام أبي الطّيّب هكذا :

إذ الوهم أبدى لي لماها وثغرها

تذكرت ما بين العذيب وبارق

ويذكّرني من قدّها ومدامعي

مجرّ عوالينا ومجرى السّوابق

٤٣١

مطلع قصيدة لأبي الطّيّب ، والعذيب وبارق موضعان ، وـ ما بين ـ ظرف للتّذكّر ، أو للمجر والمجرى اتّساعا في تقديم الظّرف على عامله المصدر أو ـ ما بين ـ مفعول تذكّرت ، ومجر بدل منه ، والمعنى أنّهم كانوا نزولا بين هذين الموضعين ، وكانوا يجرون الرّماح عند مطاردة الفرسان ، ويسابقون على الخيل ، فالشّاعر الثّاني أراد بالعذيب تصغير العذب ، يعني شفة الحبيبة ، وببارق ثغرها التّشبيه بالبرق ، وبما بينهما ريقها ، وهذا توريّة ، وشبه تبختر قدّها بتمائل الرّمح ، وتتابع دموعه بجريان الخيل السّوابق ، [ولا يضرّ] في التّضمين [التّغيير اليسير] لما قصد تضمينه ، ليدخل في معنى الكلام ، وكقول الشّاعر في يهودي به داء الثّعلب (١) :

أقول لمعشر غلطوا وغضوا

من الشّيخ الرّشيد وأنكروه

هو ابن جلا وطلاع الثّنايا

متى يضع العمامة تعرفوه (٢)

البيت لسحيم بن وثيل ، وهو ـ أنا ابن جلا ـ على طريقة التّكلّم ، فغيّره إلى طريقة الغيبة ، ليدخل في المقصود [وربّما سمّي تضمين البيت فما زاد] على البيت (٣) ،

________________________________________________________

وأخذ هذا الشّاعر المصراع الأوّل منه ، وجعله مصراعا ثانيا لبيته الأوّل ، وأخذ المصراع الثّاني منه ، وجعله مصراعا ثانيا لبيته الثّاني ، فاشتمل كلّ من المصراعين على التّوريّة والتّشبيه ، حيثما يأتي في كلام التفتازاني حيث أراد أبو الطّيّب من (العذيب وبارق) معنييهما القريبين ، أي الموضعين المعروفين فهذا الشّاعر أراد في تضمينه بالعذيب وبارق معنييهما البعيدين ، لأنّه جعل العذيب تصغيرا للعذب ، وعنى به شفة الحبيبة ، وببارق ثغرها الشّبيه بالبرق ، وبما بينهما ريقها ، وشبّه تبختر قدّها بتمايل الرّمح ، وجريان دمعة الشّاعر بجريان الخيل السّوابق ، فزاد هذا الشّاعر أبي الطّيّب بهذه النّكتة ، أي التّوريّة والتّشبيه ، فصار أحسن.

(١) هو مرض يسقط الشّعر من الرّأس فيصير أقرع.

(٢) هما لضياء الدّين موسى بن ملهم ، الكاتب من شعراء الدّولة العباسيّة ، واليهودي هو الرّشيد عمر الفوّي ، و «غضّوا» مأخوذ من غضّ البصر. وحاصل المراد : أنّ النّاس غلّطوا ، ولم يعرفوا هذا اليهودي الأقرع الّذي أظهر رأسه الّذي لا شعر عليه ليعرفوه. وأمّا الشّاهد في قول سحيم فبيّنه التفتازاني بقوله : «فغيّره» سحيم إلى طريق الغيبة ليدخل في المقصود ، وقد كان في الأصل بطريق التّكلّم ، في : أنا وأضع.

(٣) كتضمين بيتين أو أكثر استعانة.

٤٣٢

[استعانة ، وتضمين المصراع فما دونه إيداعا (١)] ، كأنّه أودع شعره شيئا قليلا [ورفوا] كأنّه رفا خرق شعره بشيء من شعر الغير. ـ [وأمّا العقد فهو أن ينظّم نثر] قرآنا كان أو حديثا أو مثلا ، أو غير ذلك ، [لا على طريق الاقتباس] يعني إن كان النّثر قرآنا أو حديثا ، فنظّمه إنّما يكون عقدا إذا غيّر تغييرا كثيرا ، أو أشير إلى أنّه من القرآن أو الحديث ، وإن كان غير القرآن والحديث فنظّمه عقد كيفما كان ، إذ لا يدخل فيه للاقتباس [كقوله (٢) :

ما بال من أوّله نطفة

وجيفة آخره يفخر]

الجملة حال أي ما باله مفتخرا [عقد قول علي رضي‌الله‌عنه : وما لابن آدم والفخر ، وإنّما أوّله نطفة وآخره جيفة]. [وأمّا الحلّ فهو أن ينثر نظم] وإنّما يكون مقبولا إذا كان سبكه مختارا لا يتقاصر عن سبك النّظم ، وأن يكون حسن الموقع غير قلق (٣). [كقول بعض المغاربة (٤) فإنّه لما قبّحت فعلاته ، وحنظلت نخلاته] أي صارت ثمار نخلاته كالحنظل في المرارة [لم يزل سوء الظّن يقتاده] أي يقوده إلى تخيّلات فاسدة ، وتوهّمات باطلة [ويصدّق] هو [توهّمه الّذي يعتاده] من الاعتياد [حلّ قول أبي الطّيّب :

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدق ما يعتاده من توهّم (٥)]

________________________________________________________

(١) لأنّ الشّاعر الثّاني قد أودع شعره شيئا من شعر الشّاعر الأوّل ، وهو بالنّسبة إلى شعر الشّاعر الثّاني قليل في ضمن أشعاره الكثيرة ، ويسمّى أيضا رفوا ، لأنّ الشّاعر الثّاني رفا خرق شعره بشعر الشّاعر الأوّل.

(٢) أي قول أبي العتاهية ، والشّاهد : في أنّ أبا العتاهية عقد قول علي عليه‌السلام : وما لابن آدم والفخر ، وإنّما أوّله نطفة ، وآخره جيفة ، يتنفّر عنه أهله وعشيرته.

(٣) وذلك بأن يكون مطابقا لما تجب مراعاته في البلاغة مستقرّا في مكانه الّذي يستعمل فيه من الذّمّ أو المدح ونحوهما.

(٤) في ذمّ شخص له سوء الظّن بالنّاس لقياس غيره بنفسه.

(٥) وحاصل المعنى أن هذا الرّجل الأحمق لما كان قبيحا في نفسه ، وخبيث النّفس في ذاته ، وقاس النّاس على نفسه ، فيظنّ بالنّاس كلّ قبيح ، فصارت هذه الصّفة القبيحة يقوده

٤٣٣

يشكو (١) سيف الدّولة ، واستماعه لقول أعدائه. [وأمّا التّلميح] صحّ بتقديم اللّام على الميم من ـ لمحه إذا أبصر ونظر إليه ـ وكثيرا ما تسمعهم يقولون ـ لمح فلان هذا البيت فقال كذا ، وفي هذا البيت تلميح إلى قول فلان ـ وأمّا التّمليح بتقديم الميم على اللّام بمعنى الإتيان بالشّيء المليح ، كما مرّ في التّشبيه والاستعارة ، فهو ههنا غلط محض ، وإن أخذ مذهبا (٢). [فهو أن يشار] في فحوى الكلام (٣) ، [إلى قصّة أو شعر] أو مثل سائر [من غير ذكره] أي ذكر كلّ واحد من القصّة أو الشّعر ، وكذا المثل ، فالتّلميح إمّا في النّظم أو في النّثر ، والمشار إليه في كلّ منهما إمّا أن يكون قصّة أو شعرا أو مثلا ، وتصير ستّة أقسام ، والمذكور في الكتاب مثال التّلميح في النّظم إلى القصّة والشّعر [كقوله :

فو الله ما أدرى أأحلام نائم

ألمّت بنا أم كان في الرّكب يوشع (٤)]

________________________________________________________

إلى ما لا حاصل له في الخارج من التّخيّلات الفاسدة ، والأفكار الكاسدة ، فيصدق في هذه الأمور ، فيعمل على مقتضى توهّمه وتخيّلاته ، فهذه المعاني الّتي في كلام بعض المغاربة حول قول أبي الطّيّب :

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدق ما يعتاده من توهّم

(١) أي يشكو أبو الطّيّب من سيف الدّولة ، واستماعه لقول أعدائه ، أي إذا قبح فعل الإنسان قبحت ظنونه فيسيء ظنّه بأوليائه ، وصدّق ما يخطر بقلبه من التوهّم على أتباعه.

(٢) أي قيل : إنّه والتّمليح شيء واحد ، وفسر بما هنا.

(٣) أي في أثنائه ، وقيل : إن «في» بمعنى الباء ، والمراد الإشارة بقوّة الكلام وقرائنه الّتي يشتمل عليها.

(٤) هو لأبي تمّام ، و «ألمّت» بمعنى نزلت ، وقبله :

لحقنا بأخراهم وقد حوّم الهوى

قلوبا عهدنا طيرها وهي وقّع

فردّت علينا الشّمس واللّيل راغم

بشمس لهم من جانب الخدر تطلع

٤٣٤

وصف لحوقه بالأحبّة المرتحلين ، وطلوع شمس وجه الحبيب من جانب الخدر في ظلمة اللّيل ، ثمّ استعظم ذلك ، واستغرب وتجاهل تحيّرا وتدلّها ، وقال : أهذا حلم أراه في النّوم ، أم كان في الرّكب يوشع النّبي عليه‌السلام ، فردّ الشّمس [إشارة إلى قصّة يوشع عليه‌السلام واستيقافه الشّمس] على ما روي من أنّه قاتل الجبّارين يوم الجمعة ، فلمّا أدبرت الشّمس خاف أن تغيب قبل أن يفرغ منهم ، ويدخل السّبت ، فلا يحل له قتاله فيه ، فدعا الله تعالى ، فردّ له الشّمس حتّى فرغ من قتالهم. [وقوله : لعمرو] اللّام للابتداء ، وهو مبتدأ [مع الرّمضاء] أي الأرض الحارّة الّتي ترمض فيها القدم ، أي تحترق ، حال من الضّمير في أرقّ [والنّار] مرفوع معطوف على عمرو ـ أو مجرور معطوف على الرّمضاء [تلتظى] حال منها ، وما قيل : إنّها صلة على حذف الموصول ، أي النّار الّتي تلتظى تعسّف لا حاجة إليه [أرقّ] خبر المبتدأ من ـ رقّ له إذا رحمه [وأحفى] من حفي عليه تلطّف وتشفّق [منك في ساعة الكرب ، أشار إلى البيت المشهور] وهو قوله : [المستجير] أي المستغيث [بعمرو عند كربته] الضّمير للموصول ، أي الّذي يستغيث عند كربته بعمرو [كالمستجير من الرّمضاء بالنّار] وعمرو هو جسّاس بن مرّة ، وذلك لأنّه لما رمى كليبا ، ووقف فوق رأسه ، قال له كليب : يا عمرو أغثني بشربة ماء ، فأجهز عليه ، فقيل : المستجير بعمرو ـ البيت.

________________________________________________________

الضّمير في أخراهم ولهم للأحبّة المرتحلين ، وإن لم يجر لهم ذكر في اللّفظ.

والشّاهد : في أنّ أبا تمّام أشار إلى قصّة يوشع بن نون فتى موسى عليه‌السلام واستيقافه الشّمس ، أي طلبه وقوف الشّمس ، فإنّه روي أنّه قاتل الجبّارين يوم الجمعة ، فلمّا أدبرت الشّمس خاف أن تغيب الشّمس ، قبل أن يفرغ منهم ، ويدخل السّبت ، ولا يحلّ قتالهم فيه ، فدعا الله تعالى فردّ له الشّمس حتّى فرغ من قتالهم ، وفي بعض الرّوايات أن الشّمس غربت وردّت له بعد غروبها. هذا تمّام الكلام في التّلميح إلى القصّة. وأمّا التّلميح إلى الشّعر فهو قول أبي تمّام :

لعمرو من الرّمضاء والنّار تلتظى

أرقّ وأحفى منك في ساعة الكرب

والشّاهد أن الشّاعر أشار إلى البيت المشهور :

المستجير بعمرو عند كربته

كالمستجير من الرّمضاء بالنّار

٤٣٥

[فصل] من الخاتمة في حسن الابتداء والتّخلص والانتهاء [ينبغي للمتكلّم] شاعرا كان أو كاتبا [أن يتأنّق] أي يتتبّع الأنق الأحسن ، يقال ـ تأنّق في الرّوضة إذا وقع فيها متتبّعا لما يونقه ، أي يعجبه [في ثلاثة مواضع من كلامه حتّى تكون] تلك المواضع الثّلاث [أعذب لفظا] بأن تكون في غاية البعد عن التّنافر والثّقل (١) ، [وأحسن سبكا] بأن تكون في غاية البعد عن التّعقيد (٢) ، والتّقديم والتّأخير الملبس (٣) ، وأن تكون الألفاظ متقاربة في الجزالة (٤) والمتانة (٥) والرّقّة والسّلاسة (٦) ، وتكون المعاني مناسبة لألفاظها من غير أن يكتسي (٧) اللّفظ الشّريف المعنى السّخيف ، أو العكس ، بل يصاغان صياغة تناسب وتلاؤم [وأصحّ معنى] بأن يسلم من التّناقض والامتناع والابتذال ومخالفة العرف ، ونحو ذلك ، [أحدها (٨) الابتداء] ، لأنّه أوّل ما يقرع السّمع ، فإن كان عذبا حسن السّبك صحيح المعنى أقبل السّامع على الكلام فوعى (٩) جميعه ،

________________________________________________________

المستجير أي المستغيث أي الّذي يستغيث عند كربته بعمرو ، كالمستجير من الرّمضاء بالنّار ، أي كالفارّ من الأرض الرّمضاء إلى النّار.

(١) ومخالفة القياس ، وإنّما قال : «في غاية البعد» ، لأنّ أصل البعد عن ذلك يرجع إلى علم المعاني لا إلى علم البديع.

(٢) المراد به التّعقيد المعنوي ، ولذلك عطف عليه التّقديم والتّأخير الملبس وهو التّعقيد اللّفظي.

(٣) أي الموجب للالتباس والاشتباه ، وهو إشارة إلى ضعف التّأليف المتقدّم في أوّل الكتاب.

(٤) أي لا يكون بعضها ركيكا.

(٥) أي في القوّة.

(٦) تفسير للرّقّة.

(٧) بيان لقوله : «وأن تكون المعاني مناسبة لألفاظها».

(٨) أي أحد المواضع الثّلاثة.

(٩) أي حفظ جميعه لرغبة السّامع فيه واستلذاذه باستماعه.

٤٣٦

وإلّا أعرض (١) عنه ، وإن كان الباقي في غاية الحسن ، فالابتداء الحسن في تذكار الأحبّة والمنازل ، [كقوله :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط (٢) اللّوى بين الدّخول فحومل]

السّقط منقطع الرّمل حيث يدّق ، واللّوى رمل معوج ملتو ، والدّخول وحومل موضعان ، والمعنى بين أجزائه الدّخول (٣) ، [و] في وصف الدّار [كقوله (٤) :

قصر عليه تحيّة وسلام

خلعت عليك جمالها الأيّام (٥)]

خلع عليه ، أي نزع (٦) ثوبه وطرحه عليه ، [وينبغي أن يتجنّب في المديح ما

________________________________________________________

(١) أي أعرض السّامع عنه ورفضه لقبحه ، وإن كان الباقي في غاية الحسن واللطّافة.

(٢) السّقط مثلث السّين بمعنى عند ، وهو منقطع الرّمل ، أي الموضع الّذي ينقطع فيه الرّمل ، واللّوى رمل معوجّ يلتوى ، أي يميل بعضه على بعض ، الدّخول وحومل موضعان معروفان عند العرب.

والشّاهد في المصراع الأوّل من البيت فإنّه أحسن فيه لأنّه أفاد فيه ثلاثة أمور :

أوّلها : أنّه وقف واستوقف.

وثانيها : أنّه بكى واستبكى.

وثالثها : أنّه ذكر الحبيب والمنزل ، كلّ ذلك بلفظ لا تعقيد فيه ، ولا تنافر ولا ركاكة ، ولكنّها مطابق لمقتضى الحال.

(٣) لأنّ ـ بين ـ لا تدخل إلّا على متعدّد.

(٤) أي وحسن الابتداء في وصف الدّار كقول أشجع السّلمي ، قصر عليه البيت ...

(٥) هو لأشجع السّلمي من شعراء الدّولة العباسيّة ، والرّواية ـ نثرت ـ بدل خلعت ، وهو من قصيدة له في مدح هارون الرّشيد.

(٦) هذا التّفسير إشارة إلى أنّه ضمّن خلع معنى طرح ، فعدّاه إلى المفعول الثّاني بعلى ، وفي الأساس خلع عليه إذا انتزع ثوبه ، وطرحه عليه.

٤٣٧

يتطيّر به (١)] ، أي يتشاءم به [كقوله : موعد أحبابك بالفرقة غد] مطلع قصيدة لابن مقاتل الضّرير (٢) ، أنشدها للدّاعي العلوي فقال له الدّاعي : موعد أحبابك يا أعمى ، ولك المثل السّوء (٣) ، [وأحسنه] أي أحسن الابتداء [ما ناسب المقصود] بأن يشتمل على إشارة إلى ما سبق الكلام لأجله [ويسمّى] كون الابتداء مناسبا للمقصود (٤) ، [براعة الاستهلال] من برع الرّجل إذا فاق أصحابه في العلم أو غيره ، كقوله (٥) في التّهنئة ،

بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا]

وكوكب المجد في أفق العلا صعدا

مطلع قصيدة لأبي محمد الخازن يهنّئ الصّاحب بولد لابنته [وقوله (٦) في المرثيّة : هي الدّنيا تقول بملء فيها* حذار حذار] ، أي احذر [من بطشي] أي أخذي

________________________________________________________

والشّاهد في جعل جمال الأيّام لباسا له ، تشبيه له في الشّرف بالكعبة لأنّه الّذي يلبس من بين البيوت.

(١) يستفاد منه ، أي من موجبات حسن الابتداء إيراد ما يتفاءل به.

(٢) هو أحد شعراء الجبال في الدّولة العباسيّة.

(٣) أي لا موعد أحبابي يعني ، والشّاهد : في أنّه قال له الدّاعي حين تشاءم بما ذكر موعد أحبابك : أنت يا أعمى ، ولك المثل السّوء ، أي الحال القبيح.

(٤) أي يسمّى في الاصطلاح براعة الاستهلال ، وهو مأخوذ من برع الرّجل براعة إذا فاق أصحابه في العلم وغيره ، هذا معنى البراعة ، وأمّا الاستهلال فهو في الأصل عبارة عن أوّل ظهور الهلال ، وقيل : أوّل صوت الصّبي حين الولادة وأوّل المطر ، ثمّ استعمل لأوّل كلّ شيء ، وحينئذ فمعنى قولهم للابتداء المناسب للمقصود براعة الاستهلال ، استهلال بارع ، أي ابتداء فائق على غيره من الابتداءات الّتي ليست مشيرة إلى المقصود.

(٥) أي قول أبي محمد الخازن في التّهنئة ، يهنّئ الصّاحب بولد لابنته ، يحتمل أن يريد بكوكب المجد المولود ، فإنّه كوكب سماء المجد ، جعل المجد كالسّماء ، وأثبت له كوكبا هو المولود.

(٦) أي قول أبي الفرج السّاوي «في المرثيّة» أي مرثيّة فخر الدّولة.

٤٣٨

الشّديد ، [وفتكي] أي قتل فجأة ، مطلع قصيدة لأبي الفرج السّاوي يرثي فخر الدّولة.

[وثانيها] أي ثاني المواضع الّتي ينبغي للمتكلّم أن يتأنّق فيها.

[التّخلّص] أي الخروج [ممّا تشبّب الكلام به] أي ابتدئ وأفتح ، قال الإمام الواحدي رحمه‌الله : معنى التّشبيب ذكر أيام الشّباب واللهو والغزل (١).

وذلك يكون (٢) في ابتداء قصائد الشّعر ، فيسمّى ابتداء كلّ أمر تشبيبا ، وإن لم يكن في ذكر الشّباب [من تشبيب] أي وصف للجمال [وغيره] ، كالأدب والافتخار والشّكاية وغير ذلك (٣) ، [إلى المقصود (٤) ، مع رعاية الملاءمة (٥) ، بينهما (٦)] ، أي بين ما تشبّب به الكلام وبين المقصود ، واحترز بهذا (٧) عن الاقتضاب ، وأراد بقوله : التّخلّص (٨) ، معناه اللّغوي ، وإلّا (٩)

________________________________________________________

(١) وسائر ما يعتاده الإنسان في شبابه.

(٢) غالبا في ابتداء قصائد الشّعر ، ثمّ نقل من هذا المعنى الخاصّ فسمّي ابتداء كلّ أمر تشبيبا ، وإن لم يكن في ذكر أيّام الشّباب ، وإلى هذا المعنى العامّ أشار الخطيب بقوله : «من تشبيب».

(٣) كالهجو والمدح والتّوسل.

(٤) متعلّق بالتّخلص إلى المقصود ممّا بدئ به الكلام.

(٥) أي المناسبة.

(٦) أي بين ما شبّب به الكلام ، وبين المقصود الأصلي من الكلام.

(٧) أي بقوله مع رعاية الملاءمة بينهما عن الاقتضاب ، وهو كما يأتي عن قريب الانتقال ممّا شبّب به الكلام إلى ما يلائمه.

(٨) الّذي هو من قبيل المعرّف ، بفتح الرّاء ، أراد به المعنى اللّغوي وهو مطلق الخروج والانتقال.

(٩) أي وإن لم يرد به المعنى اللّغوي بأن أراد المعنى الاصطلاحي ، فالتّخلّص في الاصطلاح هو عين الانتقال ممّا افتتح به الكلام إلى المقصود مع رعاية المناسبة بينهما ، فيلزم شبه تعريف الشّيء بنفسه ، أو التّكرار.

٤٣٩

فالتّخلّص في العرف هو الانتقال ممّا أفتح به الكلام إلى المقصود مع رعاية المناسبة ، وإنّما ينبغي أن يتأنّق في التّخلّص ، لأنّ السّامع يكون مترقّبا للانتقال من الافتتاح إلى المقصود كيف يكون ، فإن كان حسنا متلائم الطّرفين (١) ، حرّك من نشاطه وأعان على إصغاء ما بعده وإلّا (٢) فالبعكس.

فالتّخلّص الحسن [كقوله : يقول في قومس] اسم موضع [قومي وقد أخذت منا السّري] أي أثّر فينا السّير باللّيل ، ونقص من قوانا [وخطا المهريّة] عطف على السّري لا على المجرور في ـ منا ـ كما سبق إلى بعض الأوهام ، وهي جمع خطوة ، وأراد بالمهريّة الإبل المنسوبة إلى مهرة بن حيدان أبي قبيلة [القود] أي الطّويلة الظّهور والأعناق ، جمع أقود ، أي أثّرت فينا مزاولة السّري ، ومسايرة المطايا بالخطا ، ومفعول ـ يقول ـ هو قوله : [أمطلع الشّمس تبغي] أي تطلب [أن تؤمّ] أي تقصد [بنا فقلت كلّا] ردع للقوم وتنبيه [ولكن مطلع الجود].

[وقد ينتقل منه] أي ممّا تشبب به الكلام [إلى ما يلائمه ويسمّى] ذلك الانتقال [الاقتضاب (٣)] ، وهو في اللّغة الاقتطاع والارتحال ، ـ [وهو] أي الاقتضاب [مذهب العرب ومن (٤) يليهم من المخضرمين] ، بالخاء والضّاد المعجمتين ، أي الّذين أدركوا الجاهليّة ، والإسلام مثل لبيد ، قال في الأساس : ناقة مخضرمة أي جدع نصف أذنها ، ومنها المخضرم الّذي أدرك الجاهليّة والإسلام (٥) ،

________________________________________________________

(١) أي متناسب الطّرفين ، وهما المنتقل منه ، أي ما افتتح به الكلام ، والمنتقل إليه ، أي المقصود.

(٢) أي وإن لم يكن الافتتاح حسنا بسبب عدم الملاءمة «فبالعكس» ، أي لا يصغى إلى كلامه في الابتداء ، ولو أتي بعده بكلام حسن.

(٣) وهو في اللّغة الاقتطاع والارتحال ، أي الإتيان بالشّيء استئنافا بغتة ، أطلق على الإتيان بالكلام بعد آخر بلا ربط ، ومناسبة لانقطاع الأوّل عن الثّاني.

(٤) أي ومذهب من يليهم من المخضرمين.

(٥) أي وسمّي بذلك لأنّه لما فات جزء من عمره في الجاهليّة ، فكأنّه قطع نصفه ، أي ما هو كالنّصف من عمره ، لأنّ ما صادف به الجاهليّة ، وكان حاصلا منه فيها ملغى لا عبرة به كالمقطوع.

٤٤٠