دروس في البلاغة - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٤

ثمّ لا يخفى أنّ المراد بقوله (١) : يجيء قبل كذا ما ليس بلازم في السّجع ، أن يكون ذلك في بيتين أو أكثر أو فاصلتين أو أكثر ، وإلّا ففي كلّ بيت أو فاصلة يجيء قبل حرف الرّوي ، أو ما في معناه ما ليس بلازم في السّجع كقوله :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل (٢)

قد جاء قبل اللّام ميم مفتوحة ، وهو ليس بلازم في السّجع ، وقيل : حرف الرّوي أو ما في معناه ، إشارة إلى أنّه يجري في النّثر والنّظم [نحو : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ)(١) (٣)] ،

________________________________________________________

(١) وحاصله : أنّ المراد بقول المصنّف : أن يجيء قبل حرف الرّوي أو قبل ما يجري مجراه ، ما ليس بلازم في السّجع أن يؤتى بما ذكر في بيتين أو في فاصلتين فأكثر ، كما سيأتي في التّمثيل فإنّه لو لم يشترط وجوده في أكثر من بيت أو فاصلة لم يخل بيت ولا فاصلة منه ، لأنّه لا بدّ أن يؤتى قبل حرف الرّوي أو ما يجرى مجراه بحرف لا يلزم في السّجع ، فقوله مثلا :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل

قد جيء قبل الرّوي الّذي هو اللّام في حومل بميم ، وهي حرف لا يلزم في السّجع ، وعليه يكون من هذا النّوع باعتبار الإتيان بما لا يلزم ، وليس كذلك باعتبار كونه في بيت واحد ، وليس في بيتين فحينئذ لو وقع مكان الميم حرف آخر لما تضعضع سجع البيت المذكور ، والسّقط منقطع الرّمل ، حيث يستدقّ من طرفه ، واللّوى رمل يعوج ويلتوي ، والدّخول وحومل موضعان.

(٢) والشّاهد في أن الميم ليست بلازمة في سجع هذا البيت وحده ومنقطعا عن إخواته من سابق أو لاحق ، فلو أبدل بحرف غيره لصحّ أيضا.

(٣) والشّاهد : في أن الرّاء في (تَقْهَرْ) و (تَنْهَرْ) بمنزلة الرّوي جيء قبلها بالهاء المفتوحة في الفاصلتين ، وشيء من الفتحة ، والهاء لا يلزم في السّجع لتحقّق السّجع بين (تظفر وتسخر) وبين (تبصر وتغفر).

وأمّا التزام ما لا يلزم في النّظم فكقوله :

__________________

(١) سورة الضّحى : ٩ و١٠.

٤٠١

فالرّاء بمنزلة حرف الرّوي ، ومجيء الهاء قبلها في الفاصلتين لزوم ما لا يلزم لصحة السّجع بدونها نحو : فلا تقهر ولا تسخر.

[وقوله : سأشكر عمرا إن تراخت منيّتي أيادي] بدل من عمرا [لم تمنن وإن هي جلّت] أي لم تقطع ، أو لم تخلط بمنّة وإن عظمت وكثرت.

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه

ولا مظهر الشّكوى إذ النّعل زلّت

زلّة القدم والنّعل كناية عن نزول الشّرّ والمحنة [رأى خلتي] أي فقري [من حيث يخفى مكانها] لأنّي كنت أسترها عنه بالتّجمّل [فكانت] أي خلتي [قذي عينيه حتّى تجلّت] أي انكشفت وزالت بإصلاحه إياها بأياديه ، يعني من حسن اهتمامه جعله كالدّاء الملازم لأشرف أعضائه حتّى تلاقاه بالإصلاح ، فحرف الرّوي هو التّاء ، وقد جيء به قبله بلام مشدّدة مفتوحة ، وهو ليس بلازم في السّجع لصحّة السّجع بدونها نحو : جلّت ومدّت ومنّت وانشقّت ، ونحو ذلك ، [وأصل الحسن في ذلك كلّه (١)] ،

________________________________________________________

سأشكر عمرا إن تراخت منيّتي

أيادي لم تمنن وإن هي جلّت

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه

ولا مظهر الشّكوى إذ النّعل زلّت

وأمّا الشّاهد في هذه الأبيات فحرف الرّوي فيها هو التّاء ، وقد جيء قبلها بلام مشدّدة مفتوحة ، ومجيء تلك اللّام ليس بلازم في تحقّق السّجع لتحقّق السّجع في نحو : جلّت ومدّت ومنّت وانشقّت ، ونحوها ، مما اختلف الحرف الّذي قبل التّاء ، ولو كانت الحركة في ذلك أيضا مختلفة ، ففي كلّ من الآية والأبيات لزوم ما لا يلزم.

والأبيات لعبد الله بن الزّبير الأسدي في مدح عمرو بن عثمان بن عفّان ، وهو من شعراء الدّولة الأمويّة.

(١) إلى هنا كان الكلام في بيان أقسام اللّفظي من المحسّنات ، فلمّا فرغ الخطيب من ذلك أراد أن يشير إلى وجه الحسن بهذه المحسّنات اللّفظيّة ، أي إلى الشّيء الّذي لا بدّ أن يحصل حتّى يحصل الحسن بهذه المحسّنات اللّفظيّة ، فالمراد من الأصل في

٤٠٢

أي في جميع ما ذكر من المحسّنات اللّفظيّة [أن تكون الألفاظ تابعة للمعاني دون العكس] أي لا أن تكون المعاني توابع للألفاظ ، بأن يؤتى بالألفاظ متكلّفة (١) مصنوعة فيتبعها المعنى كيفما كانت ، كما فعله بعض المتأخّرين الّذين لهم شغف بإيراد المحسّنات اللّفظيّة ، فيجعلون الكلام كأنّه غير مسبوق لإفادة المعنى ، ولا يبالون بخفاء الدّلالات (٢) وركاكة المعنى (٣) ، فيصير كغمد من ذهب على سيف من خشب ، بل الوجه أن تترك المعاني على سجيّتها (٤) ، فتطلب لأنفسها ألفاظا تليق بها ، وعند هذا تظهر البلاغة والبراعة ، ويتميّز الكامل من القاصر.

وحين رتّب الحريري مع كمال فضله في ديوان الإنشاء عجز ، فقال ابن الخشّاب : هو رجل مقاماتيّ ، وذلك لأنّ كتابه (٥) حكاية تجري على حسب إرادته ، ومعاينه تتبّع ما اختاره من الألفاظ المصنوعة ، فأين هذا من كتاب من أمر به في قضيّة ، وما أحسن ما قيل في التّرجيح بين الصّاحب (٦) والصّابي (٧) أنّ الصّاحب كان يكتب كما يريد ، والصّابيّ كان يكتب كما يؤمر ، وبين الحالّتين بون بعيد ، ولهذا قال قاضي قم ـ حين كتب إليه الصّاحب : أيّها القاضي بقم ، قد عزلناك فقم ـ : والله ما عزلتني إلّا هذه السّجعة.

________________________________________________________

قوله : «وأصل الحسن» هو الشّرط ، وإطلاق الأصل على الشّرط جائز ، لتوقّف المشروط على الشّرط ، كتوقّف الفرع على الأصل ، فقال : «وأصل الحسن في ذلك كلّه» ، يعني في الضّرب اللّفظي من المحسّنات ، «أن تكون الألفاظ تابعة للمعاني» ، وذلك بأن تكون المعاني هي المقصودة بالذّات ، والألفاظ تابعة لها ، «دون العكس» ، أي لا أن تكون المعاني توابع الألفاظ ، وذلك لأنّ المعاني إذا تركت على طبيعتها طلبت لأنفسها ألفاظا تليق بها ، فيحسن اللّفظ والمعنى جميعا.

(١) أي متكلّفة فيها غير متروكة على سجيّتها ، أي طبيعتها.

(٢) إذا كانت الألفاظ مجازات أو كنايات.

(٣) إذا كانت الألفاظ حقائق فلا بدّ للمتكلّم أن يجعل مراعاة المعاني أصلا ، ومراعاة الألفاظ فرعا حتّى يتميّز الكامل من القاصر ، والفاضل من الجاهل.

(٤) أي طبيعتها.

(٥) يعني به مقاماته المشهورة وهو اسم الكتاب.

(٦) الصّاحب هو إسماعيل بن عباد وزير آل بويه.

(٧) الصّابي هو اسم إبراهيم بن هلال صاحب ديوان الرّسائل زمن عزّ الدّولة بن بويه ،

٤٠٣

[خاتمة (١)]

للفنّ الثّالث [في السّرقات الشّعريّة وما يتّصل بها] مثل الاقتباس والتّضمين والعقد والحلّ والتّلميح [وغير ذلك] مثل القول في الابتداء والتّخلص والانتهاء ، وإنّما قلنا : إن الخاتمة من الفنّ الثّالث دون أن نجعلها خاتمة للكتاب خارجة عن الفنون الثّلاثة كما توهّمه غيرنا ، لأنّ المصنّف قال في الإيضاح في آخر بحث المحسّنات اللّفظيّة : هذا ما تيسّر لي بإذن الله جمعه وتحريره من أصول الفنّ الثّالث.

وبقيت أشياء يذكرها في علم البديع بعض المصنّفين ، وهو قسمان :

أحدهما : ما يجب ترك التّعرض له لعدم كونه راجعا إلى تحسين الكلام ، أو لعدم الفائدة في ذكره لكونه داخلا فيما سبق من الأبواب.

________________________________________________________

وكلاهما من كتّاب الدّولة العباسيّة.

هذا تمام الكلام في المحسّنات اللّفظيّة.

(١) قبل الخاتمة من الكتاب ، فالكتاب مرتّب على مقدّمة ، وثلاثة فنون وخاتمة ، وقال الشّارح : إنّها من الفنّ الثّالث ، وللكتاب أجزاء أربعة ، وهي المقدّمة والمعاني ، والبيان ، والبديع ، والخاتمة من الرّابع وهو البديع ، وتمسّك في صدق دعواه ، بأنّه قال المصنّف في الإيضاح : هذا ما تيسّر لي بإذن الله تعالى جمعه ، وتحريره من أصول الفن الثّالث.

وبقيت أشياء يذكرها ، أي في علم البديع بعض المصنّفين ، منها ما يتعيّن إهماله ، إمّا لعدم دخوله في فنّ البلاغة ، يعني به ما يشتمل الثّلاثة على خلاف ما يتبادر منه ، نحو ما يرجع إلى التّحسين في الخطّ دون اللّفظ ، مع أنّه لا يخلو عن التّكلّف ، يعني لا يتيسّر بدون تكلفة ، لجعل المعنى تابعا للّفظ ، مثل كون الكلمتين متماثلتين في الخطّ.

ويجري مجرى هذا أن يؤتى بقصيدة أو رسالة حروفها كلّها منقوطة ، أو كلّها غير منقوطة ، أو حرف بنقط وحرف بدونه ، هذا ممّا لا يجب التّعرض به لعدم كونه راجعا إلى تحسين الكلام ، أو لعدم الفائدة في ذكره ، لكونه داخلا فيما سبق من ـ الأبواب كالتّذييل والتّكميل المذكورين في باب الإطناب والإيجاز والمساواة ، والسّرقات الشّعريّة وما يتّصل بها ممّا لا بأس بذكره لاشتماله على فائدة.

٤٠٤

والثّاني : ما لا بأس بذكره لاشتماله على فائدة مع عدم دخوله فيما سبق مثل القول في السّرقات الشّعريّة وما يتّصل بها (١). [اتّفاق القائلين (٢)] ، على لفظ التّثنية [إن كان في الغرض على العموم (٣) كالوصف بالشّجاعة] ، والسّخاء وحسن الوجه والبهاء (٤) ، ونحو ذلك (٥) ، [فلا يعدّ] هذا الاتّفاق (٦) [سرقة] ، ولا استعانة (٧) ، ولا أخذا (٨) ، أو نحو ذلك ممّا يؤدّي هذا المعنى (٩) ،

________________________________________________________

(١) أي بالسّرقات الشّعريّة مثل الاقتباس والتّضمين والحلّ والعقد ، وغير ذلك ، ويأتي بيان كلّ واحد من المذكورات.

(٢) هذا بصيغة التّثنية ، والمراد من أحدهما القائل المأخوذ منه ، ولو كان متعدّدا ، والمراد من الآخر الأخذ ، أعني الّذي أخذ من ذلك القائل ، ولو كان هذا الأخذ متعدّدا.

(٣) أي مشتملا على العموم ، أو بناء على عموم الغرض وشموله للبلغاء غير مختصّ ببليغ دون بليغ. وقوله : «في الغرض» متعلّق ب «اتّفاق» ، وقوله : «إن كان في الغرض على العموم» يتضمّن أمرين أحدهما : كون الاتّفاق في نفس الغرض لا في الدّلالة عليه ، وثانيهما : كون الغرض عامّا وقابل الأوّل بقوله : وإن كان في وجه الدّلالة ، أي وإن كان اتّفاق القائلين في الدّلالة على الغرض.

(٤) وهو الحسن مطلقا ، أي سواء تعلّق بالوجه أو بغيره.

(٥) كرشاقة القدّ ، أي اعتدال القامة ، وكالذّكاء والبلادة ونحو ذلك من الأوصاف الّتي يثبتها عامّة المتكلّمين لمن أرادوا أن يثبتوها له.

(٦) أي فلا يعدّ اتّفاق القائلين في التّوصيف بهذه الأوصاف «سرقة» ، ولو كان كلام القائل المتأخّر مطابقا لكلام القائل المتقدّم.

(٧) أي ولا يعدّ أيضا «استعانة» ، بأن يقال : إنّ المتأخّر من القائلين استعان في التّوصيف بالصّفات المذكورة بالمتقدّم من القائلين.

(٨) أي ولا يعدّ أيضا «أخذا» ، بأن يقال : بأنّ المتأخّر أخذ ذلك من المتقدّم.

(٩) كالانتهاب والإغارة والغضب والمسخ ، ونحو ذلك من الأسماء الّتي يأتي بيانها مفصّلا.

والحاصل إنّ اتّفاق القائلين في توصيف شخص بوصف من الأوصاف المذكورة ـ لا يعدّ سرقة ، ولا غيرها من الأسماء.

٤٠٥

[لتقرّره] أي تقرّر هذا الغرض العامّ (١) ، [في العقول والعادات] فيشترك فيه (٢) الفصيح والأعجم والشّاعر والمفحم. [وإن كان] اتّفاق القائلين [في وجه الدّلالة] أي طريق الدّلالة على الغرض (٣) [كالتّشبيه والمجاز والكناية ، وكذكر هيئات تدلّ على الصّفة لاختصاصها (٤)

________________________________________________________

(١) أي التّوصيف بالأوصاف المذكورة في «العقول والعادات» فلا يختصّ اختراع ذلك بعقل مخصوص حتّى يكون غيره آخذا ذلك منه ، ولا بعادة في زمان مخصوص حتّى يكون أهل زمان آخر أخذا من أهل ذلك الزّمان.

(٢) أي «و» بسبب تقرّر ذلك في العقول والعادات «يشترك فيه» ، أي في الغرض على العموم «الفصيح والأعجم» وهو ضدّ الفصيح و (الشّاعر والمفحم) وهو بفتح الحاء ضد الشّاعر ، أي من لا قدرة له على الشّعر.

والحاصل أنّه إذا كان جميع العقلاء والمتكلّمين متساويين في ذلك الغرض لتقرّره في عقولهم فلا يكون أحدهم أقدم حتّى يقال : إنّ الأخير أخذ منه.

إلى هنا كان الكلام فيما كان اتّفاق القائلين في الغرض على العموم حسبما فصّلنا فيقع الكلام فيما كان اتّفاق القائلين في وجه الدّلالة على الغرض أي في طريقها عليه.

(٣) بأن يكون أحد القائلين دلّ على الغرض بالحقيقة «كالتّشبيه» بالنّسبة لإثبات الغرض الّذي هو ثبوت وجه الشّبه أو فائدته ، والآخر كذلك أو دلّ عليه أحدهما بالتّجوز أو الكناية ، والآخر كذلك ، ثمّ عطف على قوله : «كالتّشبيه» ، قوله : «وكذكر هيئات» ، أي ذكر أوصاف «تدلّ على الصّفة» الّتي هي الغرض.

(٤) أي اختصاص تلك الهيئات «بمن» ، أي بموصوف «هي» ، أي تلك الصّفة الّتي هي الغرض «له» إلى ذلك الموصوف ، فيلزم أن تكون تلك الهيئات مستلزمة للصّفة الّتي هي الغرض والانتقال من الملزوم إلى اللّازم كناية ، فعلم أنّ ذكر الهيئات داخل فيما يقابل الحقيقة الممثّل لها بالتّشبيه ، وذلك المقابل هو مطلق التّجوّز الشّامل ، ثمّ مثّل لذكر الهيئات لينتقل منها إلى الغرض ، فقال : «كوصف الجواد» ، أي ذات الجواد لا من حيث ما يشعر بالجود «بالتّهلل» ، أي يكون الوجه فرحا مسرورا «عند ورود العفاة» جمع عاف ، وهو السّائل ، فإنّ هذه الهيئات ، أعني كون الإنسان متهلّل الوجه ، وكون ذلك التّهلل بسبب ، وكون ذلك السّبب هو ورود السّائلين ينتقل منها إلى الوصف بالجود ، فالوصف بالهيئات لذات الجواد لينتقل

٤٠٦

بمن هي له] أي لاختصاص تلك الهيئات بمن ثبت تلك الصّفة له [كوصف الجواد بالتّهلّل عند ورود العفاة] أي السّائلين جمع عاف [و] كوصف [البخيل بالعبوس] عند ذلك [مع سعة ذات اليد] أي المال ، وأمّا العبوس عند ذلك مع قلّة ذات اليد فمن أوصاف الأسخياء ، [فإن اشترك (١) النّاس في معرفته] أي في معرفة وجه الدّلالة [لاستقراره فيهما (٢)] ، أي في العقول والعادات [كتشبيه الشّجاع بالأسد (٣) والجواد بالبحر فهو كالأوّل] ، أي فالاتّفاق في هذا النّوع من وجه الدّلالة (٤) ،

________________________________________________________

منه إلى وصفه بالجود ، لا بما يشعر بالجود حتّى يكون الانتقال غير مفيد ، ويجري مجرى ذلك ذكر الهيئة الواحدة ، وإنّما جمع باعتبار كون الجمع أظهر كما في مضمون المثال ، أو باعتبار الوقائع ، «و» كوصف «البخيل بالعبوس» وهو تلوّن الوجه تلوّنا يدلّ على الاغتمام عند ورود العفاة «مع سعة ذات اليد» ، أي وصفه بالعبوس لأجل ذلك في وقت وجود سعة ذات اليد ، أي الغنى وكثرة المال ، فإنّ ذكر هذه الهيئات ، أعنى كونه عبوسا ، وكون ذلك عند ورود العفاة ، وكون ذلك عند سعة اليد يدلّ على البخل ، فهذا من الدّلالة الكناية أيضا ، وإنّما قيّد بوجود سعة ذات اليد ، لأنّ العبوس عند ذلك ، هو الدّال على البخل ، وأمّا العبوس عند الفقر فهو يدلّ على الجود ، لأنّ عبوسه يدلّ على تأسّفه على ما فات من مراتب السّخاء بعدم وجدان المال.

وأمّا البخيل فهو يرتاح لذلك العذر ويطمئنّ به فلا يتصوّر منه العبوس.

(١) هذا دليل جواب الشّرط في قوله : «وإن كان في وجه الدّلالة» ، وجواب الشّرط محذوف ، تقديره ففيه تفصيل ، «فإن اشترك ...».

(٢) أي بحيث صار متداولا بين الخاصّة والعامّة.

(٣) أي في الشّجاعة ، وكتشبيه البليد بالحمار في البلادة ، وتشبيه الوجه الجميل بالقمر في الإضاءة ، والمراد بالتّشبيه الكلام الدّالّ عليه ليكون لفظا كما مرّ.

(٤) بيان لهذا النّوع ، أي الّذي هو الاتّفاق في وجه الدّلالة على الغرض.

٤٠٧

كالاتّفاق في الغرض العامّ في أنّه لا يعدّ سرقة ، ولا أخذا [وإلّا] أي وإن لم يكن يشترك النّاس في معرفته (١) ، [جاز (٢) أن يدعى فيه] ، أي في هذا النّوع من وجه الدّلالة [السّبق والزّيادة (٣)] بأن يحكم بين القائلين فيه بالتّفاضل ، وأنّ أحدهما فيه أكمل من الآخر ، وأنّ الثّاني زاد على الأوّل أو نقص عنه. [وهو] أي ما لا يشترك النّاس في معرفته من وجه الدّلالة على الغرض (٤) ، [ضربان] أحدهما [خاصّي في نفسه غريب] لا ينال إلّا بفكر [و] الآخر [عامّي تصرّف فيه بما أخرجه من الابتذال إلى الغرابة كما مرّ (٥)] في باب التّشبيه والاستعارة من تقسيمها إلى الغريب الخاصّي ، والمبتذل العامّي الباقي على ابتذاله ، والمتصرّف فيه بما يخرجه إلى الغرابة. [فالأخذ والسّرقة (٦)] ،

________________________________________________________

(١) أي معرفة طريق الدّلالة على الغرض بأن كان لا يصل إليه كلّ أحد لكونه ممّا لا ينال إلّا بفكر بأن كان مجازا مخصوصا ، أو كناية ، أو تشبيها على وجه لطيف.

(٢) أي صحّ أن يدعى فيه ... ، بخلاف ما تقدّم فإنّه لا يصحّ أن يدعى فيه ذلك.

(٣) يحتمل أنّ المراد بالسّبق التقدّم ، أي جاز أن يدّعى أنّ أحدهما أقدم ، والآخر أخذه من ذلك الأقدم ، وجاز أن يدّعى زيادة أحدهما على الآخر فيه ، وإنّ أحدهما فيه أكمل من الآخر ، وعلى هذا فالعطف مغاير ، وظاهر الشّارح هو الاحتمال الثّاني لأنّ قوله : «بأن يحكم ...» ، يشير إلى أنّه ليس المراد بالسّبق مجرّد التقدّم في الزّمن ، بل السّبق لعلوّ المرتبة والكمال.

(٤) كالدّلالة بالتّشبيه ، والدّلالة بالتّجوّز الخاصّ «ضربان» ، أي نوعان أحدهما «خاصّي في نفسه غريب» لا يدركه من ذاته إلّا الأذكياء كتشبيه الشّمس بالمرآة في كفّ الأشلّ ، فنحو ذلك غريب لا يدرك إلّا بفكر صائب ، وتأمّل صادق ، والآخر «عامّي» يدركه كلّ أحد في أصله لكن «تصرّف فيه بما أخرجه من الابتذال إلى الغرابة كما مرّ» ،

(٥) بيان كلا الضّربين «في باب التّشبيه والاستعارة» ، وقد تقدّم تفصيل ذلك مع الأمثلة المذكورة ثمّة ، فراجع.

(٦) أي الأخذ الّذي هو السّرقة في الجملة من أيّ قسم هو ، أعنى سواء كان من قسم وجه الدّلالة ، أو من دقّة المعنى فقط. «نوعان» ، أي ينقسم أوّلا إلى نوعين «ظاهر» بأن يكون لو عرض الكلامان على أيّ عقل حكم بأنّ أحدهما أصله الآخر بشرطه المعلوم «وغير ظاهر» بأن يكون بين الكلامين تغيير محوج في كون أحدهما أصله الآخر إلى تأمّل.

٤٠٨

نوعاها أي ما يسمّى بهذين الاسمين [نوعان : ظاهر وغير ظاهر ، أمّا الظّاهر (١) فهو أن يؤخذ المعنى كلّه إمّا] ، حال كونه [مع اللّفظ كلّه أو بعضه ، أو] حال كونه [وحده] من غير أخذ شيء من اللّفظ.

[فإن أخذ اللّفظ كلّه من غير تغيير لنظمه] أي لكيفيّة التّرتيب والتّأليف الواقع بين المفردات [فهو مذموم لأنّه سرقة محضة ، ويسمّى نسخا (٢) وانتحالا (٣) ،

________________________________________________________

(١) أي وأمّا الأخذ بالظّاهر من النّوعين «فهو أن يؤخذ المعنى كلّه» مع ظهور أنّ أحدهما من الآخر ، وإنّما زدنا ذلك القيد لأنّ غير الظّاهر منه أخذ المعنى أيضا ، لكن مع خفاء ، والذّوق السّليم يميّز ذلك في الأمثلة ، وهو حينئذ ثلاثة أقسام ، لأنّ أخذ المعنى كلّه إمّا أن يكون مع أخذ اللّفظ كلّه ، أو يكون مع أخذ بعضه ، أي أخذ بعض اللّفظ وترك البعض ، أو يكون مع أخذ المعنى وحده بدون أخذ شيء من اللّفظ أصلا ، بل يبدّل جميع الكلام بتركيب آخر ، ولا يدخل في هذا تبديل الكلمات المرادفة بما يرادفها مع بقاء النّظم ، لأنّه كما سيأتي في حكم أخذ اللّفظ كلّه ، فالمراد بأخذ المعنى وحده تحويله إلى صورة أخرى تركيبا وإفرادا ، كما سيأتي في الأمثلة.

وحاصل الكلام في المقام :

أنّ النّوع الظّاهر ينقسم إلى أقسام التّقسيم الأوّل أن يؤخذ المعنى كلّه إمّا مع اللّفظ كلّه ، أو بعضه ، أو يؤخذ المعنى وحده ، ثمّ الضّرب الأوّل وهو أخذ المعنى مع اللّفظ كلّه أو بعضه قسمان ، لأنّ المأخوذ مع المعنى إمّا كلّ اللّفظ أو بعضه ، إمّا مع تغيير النّظم أو دونه ، فهذه عدّة أقسام أصل الأقسام على ما ذكر خمسة لكن يشعب منها فروع أخر ، ولهذا لم يعيّن عدد الأقسام ، وأشار إليها بقوله : «فإن أخذ اللّفظ كلّه من غير تغيير لنظمه».

(٢) وإنّما سمّى بذلك لأنّ القائل الثّاني نسخ كلام غيره ، أي نقله ونسبه لنفسه ، فهو مأخوذ من قولهم : نسخت الكتاب ، أي نقلت ما فيه إلى كتاب آخر.

(٣) أي يسمّى أيضا «انتحالا» لأنّ الانتحال في اللّغة ادّعاء شيء لنفسك ، أي أن تدّعي أنّ ما لغيرك لك يقال : انتحل فلان شعر غيره ، إذا إدّعاه لنفسه.

٤٠٩

كما حكى عن عبد الله بن الزّبير أنّه فعل ذلك (١) ، بقول معن بن أوس : إذا أنت لم تنصف أخاك] ، أي لم تعطه النّصفة ، ولم توفه حقوقه (٢) ، [وجدته* على طرف الهجران] أي هاجرا لك مبتذلا بك وبأخوتك [إن كان يعقل* ويركب حدّ السّيف] أي يتحمّل الشّدائد تؤثّر فيه تأثير السّيوف وتقطّعه تقطعيهما [من أن تضيمه] أي بدلا (٣) من أن تظلمه [إذا لم يكن عن شفرة السّيف] أي عن ركوب حدّ السّيف وتحمّل المشاقّ (٤) ،

________________________________________________________

(١) أي فعل الأخذ والسّرقة بقول معن بن أوس.

(٢) أي لم تعط أخاك الانصاف وتوفية الحق.

(٣) التّفسير إشارة إلى أن كلمة «من» للبدل ، والحاصل أنّ العاقل يتحمّل الأمور الشّاقّة الّتي تؤثّر فيه تأثير السّيف مخافة أن يلحقه العار والضّيم ، متى لم يجد عن ركوب الأمور الشّاقّة مبعدا ومعدلا ، أي لا طريق للخلاص عن العار والضّيم إلّا ارتكاز تلك الأمور.

ومحلّ الشّاهد يتّضح فيما حكى عن عبد الله بن الزّبير أنّه فعل السّرقة بقول معن بن أوس ، وأمّا تفصيل الحكاية ، فقد حكى أنّ عبد الله بن الزّبير دخل على معاوية فأنشده هذين البيتين :

إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته

على طرف الهجران إن كان يعقل

فقال له معاوية لقد شعرت يا أبا بكر ، أي لقد صرت شاعرا بعدي مع علمي بأنّك غير شاعر ، لأنّك قبل أن أفارقك لم تقل شعرا ، ولم يفارق عبد الله المجلس حتّى دخل معن بن أوس فأنشد قصيدته الّتي أوّلها :

لعمرك ما ادري وإني لأوجل

على أيّنا تغدو المنيّة أوّل

واستمرّ على إنشاد القصيدة حتّى أتمّها وفيها هذان البيتان ، فأقبل معاوية على عبد الله بن زبير ، وقال : ألم تخبرني أنّهما لك فقال : اللّفظ له والمعنى لي ، وبعد فهو أخي من الرّضاعة ، وأنا أحقّ بشعره ، هذا اعتذار من ابن الزّبير في سرقته البيتين ، ونسبتهما لنفسه ، ومعلوم أنّ هذا الاعتذار أبرد من الثّلج.

(٤) عطف تفسيري على ركوب حدّ السّيف يشير بهذا إلى أنّه ليس المراد بركوب حدّ

٤١٠

[مزجل] أي مبعد ، فقد حكى أنّ عبد الله بن الزّبير دخل على معاوية فانشده هذين البيتين ، فقال له معاوية لقد شعرت بعدي يا أبا بكر ، ولم يفارق عبد الله المجلس حتّى دخل معن بن أوس المزنيّ فانشد قصيدته الّتي أوّلها :

لعمرك ما ادري وإني لأوجل (١)

على أيّنا تغدو المنيّة أوّل

حتّى أتمّها وفيها هذان البيتان ، فأقبل معاوية على عبد الله بن الزّبير وقال : ألم تخبرني أنّهما لك ، فقال : اللّفظ له والمعنى لي ، وبعد فهو أخي من الرّضاعة ، وأنا أحقّ بشعره [وفي معناه] أي في معنى ما لم يغيّر فيه النّظم [أن يبدّل بالكلمات كلّها (٢) أو بعضها (٣) ، ما يرادفها] يعني أنّه أيضا مذموم وسرقة محضة ، كما يقال في قول الحطيئة :

دع المكارم (٤) لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنّك أنت الطّاعم الكاسي

ذر المآثر لا تذهب لمطلبها

واجلس فإنّك أنت الآكل اللّابس

________________________________________________________

السّيف معناه الحقيقي ، وإنّما المراد به تحمل ذلك ، فكأنّه قال : ويركب ما هو بمنزلة القتل بالسّيف.

(١) وجملة : وإنّي لأوجل ، معترضة بين أدري ومفعولها وهو قوله : على أيّنا ، وتغدو بالغين بمعنى تصبح.

(٢) أي في بيت الحطيئة ، فإنّه بدلت كلماته كلّها.

(٣) أي كما في بيت امرئ القيس ، فإنّه قد بدلت بعض كلماته.

(٤) البيت مقول قول الحطيئة ، وقوله : «ذر المآثر ..» مقول «يقال» ، وقوله : «دع المكارم» ، أي دع طبلها ، و «المكار «» جمع مكرمة بمعنى الكرامة ، والبغية بكسر الباء وضمّها ، كما في المختار ، بمعنى الحاجة والطّلب ، وقوله : «الطّاعم الكاسي» أي الآكل المكسوّ.

والمعنى لست أهلا للمكارم والمعالي فدعها لغيرك واقنع بالمعيشة ، وهي مطلق الأكل والسّتر باللّباس ، فإنّك تناله بلا طلب يشقّ ، كطلب المعالي.

والشّاهد : في أنّه قد بدّل كلّ لفظ من البيت الأوّل ، بمرادفه ، فذر مرادف لدع ، والمآثر مرادف للمكارم ، ولا تذهب مرادف لقوله : «لا ترحل» ، وقوله : «لمطلبها»

٤١١

وكما قال امرؤ القيس :

وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم

يقولون لا تهلك أسى وتجمّل

فأورده طرفة في داليته (١) ، إلا أنّه أقام ـ تجلّد ـ مقام ـ تجمّل ، [وإن كان] أخذ اللّفظ كلّه [مع تغيير لنظمه (٢)] أي نظم اللّفظ [أو أخذ بعض اللّفظ] لا كلّه [سمّي] هذا الأخذ [إغارة (٣) ومسخا (٤)] ولا يخلو (٥) إمّا أن يكون الثّاني أبلغ من الأوّل ، أو دونه أو مثله [فإن كان الثّاني أبلغ] من الأوّل [لاختصاصه (٦) بفضيلة] لا توجد في الأوّل ، كحسن

________________________________________________________

مرادف لبغيتها ، واجلس مرادف لاقعد ، والآكل مرادف للطّاعم ، واللّابس مرادف للكاسي. وأمّا قوله : «فإنّك أنت» فمذكور في البيتين باللّفظ.

(١) وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم

يقولون لا تهلك أسى وتجلّد

والشّاهد : في أنّ هذا البيت بيت امرئ القيس ، ولم يزد فيه على تبديل تجمّل بتجلّد ووقوفا من الوقف الّذي هو الحبس بدليل تعدّيه إلى المطيّ ، لا من الوقوف اللّازم بمعنى اللّبث ، وعلى بمعنى لأجل ، أي قفا نبك في حال وقوف أصحابي مراكبهم لأجلي قائلين لا تهلك أسى ، أي من فرط الحزن وشدّة الجزع ، وتجمّل أي اصبر صبرا جميلا ، أي وادفع عنك الأسى بالتّجمّل ، أي الصّبر الجميل فأورده طرفة قوله ، إلّا أنّه أقام تجلّد مقام تجمّل ، فهذا مثال لتبديل بعض الكلمات بما يرادفه.

(٢) والمراد بتغيير النّظم هنا أن يدلّ على المعنى الأوّل ، أو على بعضه بوجه آخر ، بحيث يقال : هذا تركيب آخر ، والشّاهد : في أنّ هذا هو المراد ما يأتي من الأمثلة ، ثمّ ما يكون بتغيير النّظم إمّا أن يكون مع أخذ كلّ اللّفظ ، أو مع أخذ بعض ذلك اللّفظ.

(٣) وإنّما سمّي بذلك ، لأنّ القائل الثّاني أغار على كلام القائل الأوّل فغيّره عن وجهه.

(٤) ويسمّى أيضا «مسخا» ، لأنّه بدّل صورة كلام الغير بصورة أخرى ، والمسخ في الأصل تبديل صورة بصورة أقبح.

(٥) أي ما يسمّى إغارة ، على ثلاثة أقسام : لأنّ ذلك الكلام الثّاني المسمّى بالإغارة إمّا أن يكون أبلغ من الأوّل فيكون مقبولا غير مذموم ، أو يكون أدنى فهو مذموم غير مقبول ، أو يكون مثل الأوّل فهو أبعد من الذّمّ وأقرب إلى القبول. فأشار الشّارح إلى هذه الأقسام على هذا التّرتيب.

(٦) أي لاختصاص الثّاني عن الأوّل «بفضيلة».

٤١٢

السّبك (١) ، أو الاختصار (٢) أو الإيضاح (٣) أو زيادة معنى [فممدوح (٤)] أي فالثّاني مقبول.

[كقول بشّار : من راقب النّاس (٥)] ، أي حاذرهم [لم يظفر بحاجته* وفاز بالطّيّبات الفاتك (٦) اللهج (٧)] أي الشّجاع القتّال الحريص على القتل ، [وقول سلم] الخاسر (٨) بعده [من راقب النّاس مات غمّا (٩)] أي حزنا وهو مفعول أو تمييز [وفاز باللذّة الجسور] أي الشّديد الجرأة ، فبيت سلم أجود سبكا وأخصر لفظا.

[وإن كان] الثّاني [دونه] أي دون الأوّل في البلاغة لفوات فضيلة توجد في الأوّل [فهو] أي الثّاني [مذموم كقول أبي تمّام] في مرثيّة محمّد بن حميد :

هيهات لا يأتي الزّمان بمثله

إنّ الزّمان بمثله لبخيل

وقول أبي الطّيّب : [أعدى الزّمان سخاؤه (١٠)] يعني تعلّم الزّمان منه السّخاء

________________________________________________________

(١) بأن يكون خاليا عن التّعقيد اللّفظي والمعنوي.

(٢) أي الاختصار المناسب للمقام مثلا.

(٣) أي الإيضاح المحتاج إليه ، أو زيادة معنى ، فالكلام الثّاني ممدوح مقبول ، لأنّ تلك الفضيلة أخرجته إلى نوع من البداعة والتّجديد.

(٤) أي إن اختصّ الثّاني بمثل بعض هذه الفضائل ، فذلك الثّاني ممدوح مقبول.

(٥) أي راعاهم وحاذرهم فيما يكرهون فيتركه ، وفيما يبتغون فيقدم عليه ، «لم يظفر بحاجته» كلّها ، لأنّه ، ربّما كرهها النّاس فيتركها لأجلهم فتفوت مع شدّة شوقه إليها.

(٦) أي الجريء الشّجاع.

(٧) أي الملازم لمطلوبه الحريص عليه من غير مبالاة ، قتلا كان أو غيره.

(٨) وسمّي خاسرا لأنّه ورث مصحفا من أبيه ، فباعه ، فاشترى به عودا يضرب به.

(٩) أي لم يصل لمراده فيبقى مغموما من فوات المراد ، ويشتدّ عليه الغمّ كشدّة الموت.

والشّاهد في أنّ بيت سلم أجود سبكا لكونه في غاية البعد عن موجبات التّعقيد من التّقديم والتّأخير ونحوهما. و «أخصر لفظا» ، لأنّه أقام لفظ الجسور مقام مجموع لفظي «الفاتك اللهج» ، فالسّلم أخذ بعض اللّفظ مع كون كلامه أبلغ من كلام بشّار.

(١٠) وهناك مصراع ثان لبيت أبي الطّيب ، وهو قوله : ولقد يكون به الزّمان بخيلا.

٤١٣

وسرى سخاؤه إلى الزّمان [فسخا به] وأخرجه من العدم إلى الوجود ، ولو لا سخاؤه الّذي استفاده منه لبخل به على الدّنيا واستبقاه لنفسه ، كذا ذكر ابن جنّي. وقال ابن فورجة (١) : هذا تأويل فاسد ، لأنّ سخاء غير موجود لا يوصف بالعدوى ، وإنّما المراد سخا به عليّ وكان بخيلا به عليّ ، فلمّا أعداه سخاؤه أسعدني بضمّي إليه وهدايتي له ، لما أعدى سخاؤه [ولقد يكون به الزّمان بخيلا] ، فالمصراع الثّاني مأخوذ من المصراع الثّاني (٢) لأبي تمّام على كلّ من تفسيري ابن جني وابن فورجة ، إذ لا يشترط (٣) في هذا النّوع من الأخذ عدم تغاير المعنيين أصلا كما توهّمه البعض ، وإلّا لم يكن مأخوذا منه على تأويل ابن جنيّ أيضا ، لأنّ أبا تمّام علّق البخل بمثل المرثي ، وأبا الطّيّب بنفس الممدوح هذا ، ولكن مصراع أبي تمّام أجود سبكا ، لأنّ قول أبي

________________________________________________________

والشّاهد : في أنّ المصراع الثّاني من بيت أبي الطّيّب مأخوذ من المصراع الثّاني لبيت أبي تمّام ، وظاهر أنّ الأوّل أحسن من الثّاني ، لأنّ الثّاني عبّر بصيغة المضارع ، والمناسب صيغة الماضي بأن يقال : ولقد كان به الزّمان بخيلا.

(١) وحاصل الخلاف بين الشّيخين : أن قوله : «فسخا به» معناه على ما قال ابن جنّي : فجاد به على الدّنيا بإيجاده من العدم ، وعلى ما قال ابن فورجة : فجاد به عليّ ، وأظهره لي ، وقد زيّف ابن فورجة ما قاله ابن جنّي : بقوله «هذا تأويل فاسد» ، لأنّ سخاء الشّخص غير موجود لا يوصف بالعدوى ، أي بالسّريان للغير.

فالمعنى أنّه أعدى سخاه بعد وجوده الزّمان فسخا به عليّ وأسعدني بوصاله.

وبعبارة أخرى إنّما المراد أنّ الممدوح كان موجودا سخيّا وإن كان الزّمان بخيلا بالممدوح عليّ ، أي بإظهاره لي وهدايتي له ، فلمّا أعدى سخاؤه الزّمان سخا الزّمان بذلك الممدوح عليّ ، بضمّي إليه وهدايتي له ، فالموصوف بالعدوى ليس سخاء شخص غير موجود ، بل سخاء شخص موجود.

(٢) إشارة إلى محلّ الشّاهد الّذي عرفته.

(٣) جواب عن إشكال ، وحاصل الإشكال أنّ بين المصراعين مغايرة من حيث المعنى ، لأنّ معنى مصراع أبي تمّام ـ أنّ الزّمان بخيل بوجود مثل الممدوح ، ومعنى مصراع أبي الطّيّب أنّ الزّمان بخيل بإيجاد ذلك الممدوح أو بإيصاله إلى الشّاعر ،

فالبخل في الأوّل متعلّق بالمثل ، وفي الثّاني متعلّق بنفس الممدوح ، ومع هذا التّغاير

٤١٤

الطّيّب ـ ولقد يكون ـ بلفظ المضارع لم يقع موقعه ، إذ المعنى على المضيّ.

فإن قيل (١) : المراد لقد يكون الزّمان بخيلا بهلاكه ، أي لا يسمح بهلاكه قطّ لعلمه بأنّه سبب لصلاح العالم ، والزّمان وإن سخا بوجوده وبذله للغير لكن إعدامه وإفناؤه باق بعد في تصرّفه.

قلنا (٢) : هذا تقدير لا قرينة عليه ، وبعد صحّته ، فمصراع أبي تمّام أجود لاستغنائه عن مثل هذا التّكلّف [وإن كان] الثّاني [مثله] ، أي مثل الأوّل [فأبعد] ، أي فالثّاني أبعد [من الذّمّ ، والفضل للأوّل كقول أبي تمّام : لو حار] أي تحيّر في التّوصل إلى إهلاك النّفوس [مرتاد المنيّة] ، أي الطّالب الّذي هو المنيّة على أنّها إضافة بيان [لم يجد* إلّا الفراق على النّفوس دليلا ، وقول أبي الطّيّب :

لو لا مفارقة الأحباب ما وجدت

لها المنايا إلى أرواحنا سبلا (٣)]

________________________________________________________

فكيف يكون أحدهما مأخوذا من الآخر!

وحاصل الجواب :

أنّه لا يشترط في هذا النّوع من الأخذ عدم تغاير المعنيين أصلا ، فلا يشترط في هذا النّوع من الأخذ الاتّحاد من كلّ وجه ، بل يكفي الاتّحاد من بعض الوجوه كما هناك ، لأنّهما مشتركان في أصل البخل وإن اختلفا من جهة متعلّقه.

(١) أي في الجواب عن كون بيت أبي الطّيّب دون بيت أبي تمّام ، وحاصله : أنّا لا نسلّم أنّ بيت أبي الطّيّب دون بيت أبي تمّام ، لأنّ كلام أبي الطّيّب على حذف مضاف ، أي ولقد يكون بهلاكه الزّمان بخيلا ، وهلاكه استقباليّ وحينئذ فالتّعبير بالمضارع واقع في موقعه.

(٢) هذا ردّ للجواب المذكور ، وحاصل الرّدّ أنّ تقدير المضاف لا قرينة عليه.

(٣) والشّاهد : في أنّ أبا الطّيّب قد أخذ من كلام أبي تمّام المعنى كلّه مع بعض الألفاظ كالمنيّة والفراق والوجدان ، وبدّل بالنّفوس الأرواح.

والحاصل من معنى البيتين يرجع إلى شيء واحد ، وهو أنّه لا دليل للمنيّة على النّفوس إلّا الفراق ، أي فراق الأحبة فالثّاني أبعد عن الذّم من الثّاني من القسم الثّاني. قوله : «مرتاد» اسم فاعل من الارتياد بمعنى الطّلب ، وإضافته إلى المنيّة بيانيّة ، فالمنيّة الّتي هي الطّالبة للنّفوس ، كالرّائد الّذي يطلب الماء والكلأ.

٤١٥

الضّمير في ـ لها ـ للمنيّة وهو حال من ـ سبلا ـ والمنايا فاعل ـ وجدت ـ وروى ـ يد المنايا ـ فقد أخذ المعنى كلّه مع لفظ المنيّة والفراق والوجدان ، وبدّل بالنّفوس الأرواح. [وإن أخذ المعنى وحده (١) سمّي] هذا الأخذ [إلماما (٢)] ، من ـ ألمّ إذا قصد ـ وأصله من ألمّ بالمنزل إذا نزل به. [وسلخا (٣)] وهو كشط الجلد عن الشّاة ونحوها ، فكأنّه كشط عن المعنى جلدا وألبسه جلدا آخر ، فإنّ اللّفظ للمعنى بمنزلة اللّباس.

[وهو (٤) ثلاثة أقسام كذلك] أي مثل ما يسمّى إغارة ومسخا ، لأنّ الثّاني إمّا أبلغ من الأوّل ، أو دونه ، أو مثله.

[أوّلها] أي أوّل الأقسام (٥) ، وهو أن الثّاني أبلغ من الأوّل [كقول أبي تمّام : هو] الضّمير للشّأن (٦) [الصّنع] أي الإحسان ، والصّنع مبتدأ خبره الجملة الشّرطيّة ، أعنى قوله : [إن يعجل فخير وإن يرث (٧)] أي يبطؤ [فللرّيث في بعض المواضع أنفع].

________________________________________________________

(١) أي من دون أن يأخذ كلّ الألفاظ أو بعضها.

(٢) مأخوذ من ألمّه إذا قصده ، لأنّ الشّاعر الثّاني يقصد إلى أخذ المعنى من الشّاعر الأوّل.

فقوله : «وإن أخذ المعنى وحده» عطف على قوله : «وإن أخذ اللّفظ».

(٣) وهو نزع الشّيء عن الشّيء ، فكان لفظ الثّاني نزع المعنى من اللّفظ الأوّل.

وقال الشّارح : النّزع هو كشط الجلد عن الشّاة ، واللّفظ للمعنى بمنزلة الجلد ، فكأنّه كشط من المعنى جلدا ، وألبسه جلدا آخر ، هذا والسّلخ جاء بكلا المعنيين.

(٤) أي السّلخ «ثلاثة أقسام كذلك» أي مثل ما سمّي إغارة ومسخا ، يعني أنّ الثّاني إمّا أبلغ من الأوّل ، أو دونه ، أو مثله ، فهذه الأقسام الثّلاثة عين الأقسام الثّلاثة المتقدّمة.

(٥) وهو ما يكون ممدوحا لكون الثّاني أبلغ من الأوّل.

(٦) هو مبتدأ أوّل ، «الصّنع» مبتدأ ثان ، خبره الجملة الشّرطيّة ، أعني قوله : «إن يعجل فخير» ، والمبتدأ الثّاني وخبره خبر ضمير الشّأن.

(٧) مأخوذ من راث ريثا ، أي بطؤ بطئا ، بمعنى تأخّر تأخّرا.

٤١٦

والأحسن أن يكون ـ هو ـ عائدا إلى حاضر في الذّهن (١) ، وهو مبتدأ خبره الصّنع والشّرطيّة ابتداء كلام ، وهذا (٢) كقول أبي العلاء :

هو (٣) الهجر حتّى ما يلمّ خيال (٤)

وبعض صدود الزّائرين وصال

وهذا (٥) نوع من الإعراب لطيف لا يكاد يتنبّه له إلّا الأذهان الرّاضّة (٦) من أئمّة الإعراب ، [وقول أبي الطّيّب : ومن الخير بطء سيبك] أي تأخّر عطائك [عنّي أسرع السّحب في المسير الجهام (٧)]

________________________________________________________

(١) أي الأفضل أن يكون ضمير «هو» راجعا إلى ما هو متعقّل في الذّهن ، يفسّره ما أخبر به عنه ، ولا يصحّ أن يكون للشّأن لأنّ خبره مفرد.

(٢) إشارة إلى الإعراب الثّاني ، وهو عدم كون الضّمير للشّأن.

(٣) والشّاهد في أنّه لا يصحّ أن يكون الضّمير هنا للشّأن ، إذ خبر ضمير الشّأن جملة ، ولا جملة في قوله : «هو الهجر ...».

(٤) يلمّ بمعنى ينزل ، والمعنى حتّى ما ينزل خيال من المهاجر ، وإنّما كان بعض صدود الزّائرين وصالا ، لأنّ فيه لقاء على كلّ حال.

(٥) أي هذا الإعراب ، أعنى جعل الضّمير عائدا على حاضر في الذّهن «لطيف ...».

(٦) أي المرتاضة والممارسة لصناعة الإعراب.

والحاصل إنّ الضّمير في بيت أبي تمّام يحتمل أن يكون ضمير الشّأن ، ويحتمل أن يكون عائدا على متعقّل في الذّهن ، وأمّا في بيت أبي العلاء فيتعيّن أن يكون عائدا على متعقّل في الذّهن ، ولا يجوز أن يكون ضمير الشّأن ، لأنّ ما بعده لا يصلح للخبريّة عنه ، لأنّه مفرد ، وضمير الشّأن إنّما يخبر عنه بجملة ، هذا تمّام الكلام في بيت أبي تمّام ، وأمّا الكلام الثّاني فهو قول أبي الطّيّب ومن الخير بطوء سيبك ، أي تأخّر عطائك «عنّي أسرع السّحب في المسير الجهام».

(٧) بفتح الجيم ، أي السّحاب الّذي لا ماء فيه ، والشّاهد في أنّه قد اشترك البيتان في المعنى ، أي في أن تأخّر العطاء يكون خيرا وأنفع ، ولكن بيت أبي الطّيّب أبلغ وأجود ، لأنّه زاد حسنا بضرب المثل له بالسّحاب ، فكأنّه دعوى ببيّنة وبرهان ، إذ كأنّه يقول : العطاء

٤١٧

أي السّحاب الّذي لا ماء فيه ، وأمّا ما فيه فيكون بطيئا ثقيل المشي ، فكذا حال العطاء ، ففي بيت أبي الطّيّب زيادة بيان لاشتماله على ضرب المثل بالسّحاب. ـ [وثانيها] أي ثاني الأقسام (١) وهو أن يكون الثّاني دون الأوّل (٢) ، [كقول البحتري : وإذا تألّق] أي لمع [في النّدى (٣)] أي في المجلس [كلامه المصقول] المنقّح (٤) ، [خلت] أي حسبت [لسانه من عضبه] أي سيفه القاطع (٥). [وقول أبي الطّيّب (٦)] :

كأنّ ألسنهم في النّطق قد جعلت

على رماحهم في الطّعن خرصانا]

________________________________________________________

كالسّحاب ، فبطء السّحاب في السّير أكثر نفعا ، وسريعها كالجهام أقلّها نفعا ، فكذلك العطاء فكان تأخّر العطاء أفضل من سرعته.

وإلى هذا أشار الشّارح بقوله : «ففي بيت أبي الطّيّب زيادة بيان لاشتماله على ضرب المثل بالسّحاب».

(١) أي ثاني الأقسام الثّلاثة.

(٢) أي دون الأوّل في البلاغة والحسن.

(٣) وهو على وزن فعيل كما في الصّحاح ، وفي القاموس كفتى ، وهو مجلس القوم ما داموا فيه ، فإن تفرّق القوم فليس بندي.

(٤) أي الخالصّ المصفّى من كلّ ما يشينه.

(٥) أي فقد شبّه البحتري لسان الممدوح بالسّيف القاطع ، والجامع بينهما التّأثير.

(٦) هذا هو القول الثّاني ، قوله : «في النّطق» ، أي في حال النّطق ، ففي الكلام حذف مضاف ، قوله : «في الطّعن» ، أي جعلت خرصانا على رماحهم عند الطّعن ، أي الضّرب بالقنا.

وأمّا الشّاهد : فبيت أبي الطّيّب دون بيت البحتري ، لأنّه قد فاته ما أفاده البحتري بلفظ تألّق ، والمصقول من الاستعارة التّخييليّة ، حيث أثبت التّألق والصّقالة للكلام ، أي لكلام الممدوح كإثبات الأظفار للمنيّة ، ويلزم من هذا التّشبيه كلامه في النّفس بالسّيف القاطع ، وهو استعارة بالكناية حسب ما تقدّم في محلّه.

٤١٨

جمع خرص بالضّمّ والكسر ، وهو السّنان ، يعني ـ أن السّنتهم عند النّطق في المضاء والنّفاذ تشابه أسنّتهم عند الطّعن ، فكأنّ ألسنتهم جعلت أسنّة رماحههم ، فبيت البحتري أبلغ لما في لفظي ـ تألّق والمصقول ـ من الاستعارة التّخييليّة ، فإنّ التّألق والصّقالة للكلام بمنزلة الأظفار للمنيّة ، ولزم من ذلك تشبيه كلامه بالسّيف ، وهو استعارة بالكناية. [وثالثها] أي ثالث الأقسام ، وهو أن يكون الثّاني مثل الأوّل (١).

[كقول الإعرابي] أبي زياد :

[ولم يك (٢) أكثر الفتيان (٣) مالا

ولكن أرحبهم ذراعا (٤)]

أي أسخاهم ، ويقال فلان رحب الباع والذّراع ورحيبهما ، أي سخيّ. [وقول أشجع : وليس] أي الممدوح يعني جعفر بن يحيى [بأوسعهم] الضّمير للملوك [في الغنى* ولكن معروفه] أي إحسانه [أوسع] فالبيتان متماثلان ، هذا ولكن لا يعجبني ـ معروفه أوسع (٥) ـ

________________________________________________________

(١) أي في البلاغة والحسن.

(٢) بحذف نون يكون في الجزم لكثرة استعماله.

(٣) وبالكسر جمع فتى ، بمعنى السّخي ، الذّراع بالكسر طرف المرفق إلى طرف الاصبع الوسطى والسّاعد.

(٤) وحاصل المعنى أنّ الممدوح لم يكن أكثر الأقران مالا أو إبلا ، ولكن كان أرحبهم ذراعا ، وفي الأساس فلان رحب الباع والذّراع ، ورحيبهما ، أي سخي ، والكلام الثّاني قول أشجع ، يمدح جعفر بن يحيى :

وليس بأوسعهم في الغنى

ولكن معروفه أوسع

أي إحسانه أوسع من معروفهم وإحسانهم. والشّاهد : في أن القولين متماثلان في الحسن والبلاغة لا فضل لأحدهما على الآخر ، وذلك لاتّفاقهما على إفادة أنّ الممدوح لم يزد على الأقران بالمال ، ولكنّه فاقهم في الكرم والإحسان.

(٥) لأنّه يدلّ على كثرة الكرم بطريق الحقيقة ، أمّا قول البحتري ـ أرحبهم ذراعا ـ فيدلّ عليه بطريق المجاز ، وهو أبلغ من الحقيقة.

٤١٩

[وأمّا غير ظاهر فمنه أن يتشابه المعنيان] أي معنى البيت الأوّل ومعنى البيت الثّاني [كقول جرير : فلا يمنعك من أرب] أي حاجة [لحاهم] جمع لحية يعني كونهم في صورة الرّجال [سواء ذو العمامة والخمار] يعني أن الرّجال منهم والنّساء سواء في الضّعف (١). [وقول أبي الطّيّب (٢) :

ومن في كفّه منهم قناة

كمن في كفّه منهم خضاب]

واعلم أنّه يجوز في تشابه المعنيين اختلاق البيتين نسيبا (٣) ومديحا وهجاء وافتخارا ، ونحو ذلك ، فإنّ الشّاعر الحاذق إذا قصد إلى المعنى المختلس (٤) لينظّمه احتال (٥) في إخفائه فغيّره عن لفظه ونوعه ووزنه وقافيته. وإلى هذا أشار بقوله : [ومنه] أي من غير الظّاهر [أن ينقل المعنى إلى محلّ آخر (٦)

________________________________________________________

(١) أي فلا مقاومة للرّجال منهم على الدّفع عن النّساء منهم.

(٢) في مدح سيف الدّولة بن حمدان ، فتعبير جرير عن الرّجل بذي العمامة كتعبير أبي الطّيّب عنه بمن في كفّه منهم قناة ، وكذا تعبير جرير عن المرأة بذات الخمار ، كتعبير أبي الطّيّب عنها بمن في كفّه منهم خضاب. ومحلّ الشّاهد القولان متشابهان في المعنى من حيث إفادة كلّ منهما أنّ الرّجال منهم في الضّعف كالنّساء.

وهذا المثال مثال لغير الظّاهر ، والذّوق السّليم شاهد بذلك. لأنّ غير الظّاهر أن يكون إدراكه يحتاج إلى تأمّل ، وهذا الضّابط موجود في المثال.

(٣) مأخوذ من نسب ينسب من باب ضرب يضرب ، وهو كما يأتي وصف الجمال أو غيره ، كالأدب والافتخار والشّكاية وغير ذلك.

(٤) أي المعنى الّذي يريد أن يسرقه من الشّاعر الأوّل.

(٥) أي فعل الحيلة في إخفاء الاختلاس والسّرقة ، فغير لفظ المعنى المختلس ، ونقله عن نوعه من النّسيب أو المدح ، أو غير ذلك ، وصرفه عن وزنه وقافيته ، كلّ ذلك لغرض إخفاء الأخذ والسّرقة.

(٦) أي ينقل المعنى من موصوف إلى موصوف آخر.

٤٢٠