دروس في البلاغة - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٤

أي إنما يحمل على خلاف مراده بأن يذكر متعلّق ذلك اللّفظ [كقوله :

قلت ثقلت (١) إذ أتيت مرارا

قال ثقلت كاهلي (٢) بالأيادي (٣)]

فلفظ ـ ـ ثقلت ـ وقع في كلام الغير بمعنى حملتك المؤونة ، فحمله على تثقيل عاتقه بالأيادي والمنن ، بأن ذكر متعلّقه (٤) ، أعني قوله : كاهلي بالأيادي. [ومنه] أي ومن المعنوي :

[الاطّراد (٥) وهو أن تأتي بأسماء الممدوح أو غيره و] أسماء [آبائه (٦) على ترتيب الولادة (٧) من غير تكلّف] في السّبك [كقوله :

إن يقتلوك فقد ثللت (٨) عروشهم

بعتيبة بن الحارث بن شهاب

يقال للقوم إذا ذهب عزّهم وتضعضع حالهم قد ثلّ عرشهم يعني إن تبجّحوا (٩)

________________________________________________________

(١) بتشديد القاف وضم التّاء إذا أتيت مرارا.

(٢) ما بين الكتفين.

(٣) المنن والنّعم ، وحاصل معنى البيت : أنّ الشّاعر يقول لمخاطبه : ثقلت عليك ، وحملتك المشقة بإتياني إليك مرارا ، فقال له المخاطب : صدقت في كونك ثقلت عليّ ، ولكن ثقلت كاهلي بالمنن.

والشّاهد في أنّه قد حمل المخاطب لفظ «ثقلت» على خلاف مراد الشّاعر ، أي على تثقيل عاتقه ، أي كتفه.

(٤) وهو المفعول مع المجرور ، أعني كاهلي بالأيادي.

(٥) أي النّوع المسمّى بالاطّراد ، وهو في الأصل تتابع أجزاء الماء وإطّرادها ، نقل للكلام السّلس المنسبك السّبك الحسن ، فصارت أجزاؤه في حسن تتبّعها وعدم تكلّفها ، كأجزاء الماء في اطّرادها ، ولذا قال في تعريفه : «وهو أن تأتي بأسماء الممدوح».

(٦) والمراد هنا بالأسماء اثنان فما فوق بدليل المثال.

(٧) أي يؤتى بأسماء الآباء على ترتيب الولادة ، بذكر الأب ، ثمّ الأب ، ثمّ كذلك.

(٨) هو بتاء الخطاب ، أي أهلكت ، يقال : ثلّهم ، إذا أهلكهم ، والعروش جمع عرش ، يطلق على المقرّ «بعتيبة» أي بقتل عتيبة.

(٩) أي أن يفتخروا.

٣٦١

بقتلك وفرحوا به فقد أثّرت في عزّهم ، وهدمت أساس مجدهم بقتل رئيسهم (١). فإن قيل : هذا (٢) من تتابع الإضافات ، فكيف يعدّ من المحسنات؟ قلنا : قد تقرّر أنّ تتابع الإضافات إذا سلم من الاستكراه ملح ولطف ، والبيت من هذا القبيل ، كقوله عليه‌السلام : الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ـ الحديث ، هذا تمام ما ذكر من الضّرب المعنوي.

المحسّنات اللّفظيّة

[وأمّا] الضّرب [اللّفظي] من الوجوه المحسنة للكلام [فمنه : الجناس (٣) بين اللّفظين ، وهو تشابههما في اللّفظ (٤)] أي في التّلفظ فيخرج التّشابه في المعنى نحو : أسد وسبع ، أو في مجرّد العدد ، نحو : ضرب وعلم ، أو في مجرّد الوزن ، نحو : ضرب وقتل ، [والتّام من] أي من الجناس [أن يتّفقا] أي اللّفظان [في أنواع الحروف] فكلّ من الحروف التّسعة والعشرين (٥) نوع ، وبهذا (٦) يخرج نحو يفرح ويمرح [و] في

________________________________________________________

(١) وهو عتيبة بن الحارث.

(٢) وحاصل الإشكال : أنّ هذا البيت من تتابع الإضافات ، وهو مخلّ بالفصاحة ، كما تقدّم في أول الكتاب ، فكيف يعدّ من البديع؟!

لأنّا نقول : إنّما يخلّ بالفصاحة إذا كان فيه ثقل واستكراه ، وأمّا إن سلم من الثّقل والاستكراه فهو حسن ولطف ، والبيت من هذا القبيل مع أنّه ليس فيه إلّا إضافتان ، وكيف يخلّ بالفصاحة إذا سلم من الثّقل ، كما في الحديث الشّريف. وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، فإنّه غاية في الحسن والسّلاسة.

هذا تمام الكلام في المحسّنات المعنويّة للكلام.

(٣) أي النّوع المسمّى بالجناس ، وهو في الأصل مصدر جانس كقاتل قتالا.

(٤) أي فقط.

(٥) كالألف والباء والتّاء إلى الآخر ، نوع آخر من أنواع الحروف.

(٦) أي باشتراط الاتّفاق في أنواع الحروف الموجودة في اللّفظين «يخرج» عن الجناس التّام «نحو يفرح ويمرح» ، لأنّهما قد اختلفا في الميم والفاء فليس بينهما جناس تام.

٣٦٢

[أعدادها] ، وبه يخرج نحو السّاق والمساق ، [و] في [هيئاتها] ، وبه يخرج نحو البرد والبرد ، فإنّ هيئة الكلمة هي كيفيّة حاصلة لها باعتبار الحركات والسّكنات (١) فنحو ضرب وقتل ، على هيئة واحدة مع اختلاف الحروف ، بخلاف ضرب وضرب ، مبنيّين للفاعل والمفعول ، فإنّهما على هيئتين مع اتّحاد الحروف. [و] في [ترتيبها] أي تقديم بعض الحروف على بعض وتأخيره عنه (٢) ، وبه (٣) يخرج نحو : الفتح والحتف ، [فإن كانا] أي اللّفظان متّفقان في جميع ما ذكر [من نوع] واحد من أنواع الكلمة [كاسمين] أو فعلين أو حرفين [يسمّى مماثلا] جريا على اصطلاح المتكلّمين ، من أن التّماثل هو الاتّحاد في النّوع ، [نحو : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ)(١)] أي القيامة (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) (٤)] من ساعات الأيّام ،

________________________________________________________

(١) الأولى بل الواجب أن يقول : فإنّ هيئة الحروف كيفيّة حاصلة لها باعتبار حركاتها وسكناتها ، وتقديم بعضها على بعض ، ولا يعتبر في هيئة الحروف حركة الحرف الأخير ، ولا سكونه ، لأنّ الحرف الأخير عرضة للتّغيّر ، إذ هو محلّ الإعراب والوقف ، فلا يشترط اتّفاق الكلمتين في هيئة الحرف الأخير.

(٢) وبعبارة أخرى يكون المقدّم والمؤخّر في أحد اللّفظين هو المقدّم والمؤخّر في الآخر.

(٣) أي باشتراط اتّفاق اللّفظين في التّرتيب «يخرج نحو الفتح والحتف» ، وذلك واضح ، ولا يحتاج إلى البيان ، فقد ظهر من جميع ما تقدّم أنّ الجناس التّام يشترط فيه شروط أربعة : وهي الاتّفاق في أنواع الحروف ، والاتّفاق في أعدادها ، والاتّفاق في هيئتها ، والاتّفاق في ترتيبها.

وجه الحسن في هذا القسم ، أعني التّام حسن الإفادة ، مع أنّ صورته صورة الإعادة ، وظاهر الإعادة أنّها تكرار ، وقد تقدّم في أوّل الكتاب أنّ التّكرار مخلّ بالفصاحة ، والمقام ليس منه إلّا في الصّورة ، فحسن لما فيه من حسن الإفادة.

(٤) في الدّنيا «غير ساعة» ، أي وقتا يسيرا «من ساعات الأيّام» الدّنيويّة ، والسّاعة اصطلاحا : هي جزء من أربعة وعشرين جزء يتجّزأ بها زمان اللّيل والنّهار ، فيكون للّيل منها اثنى عشر ، وللنّهار مثلها عددا ، وتختلف كلّ منهما طولا وقصرا ، باعتبار طول كلّ من اللّيل والنّهار وقصره ، فيدخل في الطّول ساعات أحدهما ما خرج من ساعات الآخر ، وهو إيلاج أحدهما

__________________

(١) سورة الرّوم : ٥٥.

٣٦٣

[وإن كانا (١) من نوعين] اسم وفعل ، أو اسم وحرف ، أو فعل وحرف [سمّي مستوفى ، كقوله (٢) :

ما مات من كرم الزّمان فإنّه

يحيى لدى يحيى بن عبد الله (٣)]

لأنّه كريم يحيي اسم الكرم.

________________________________________________________

في الآخر المشار إليه ، بقوله : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ)(١).

والشّاهد في أنّ السّاعة الأولى والثّانية في الآية قد اتّفقتا في نوع الاسميّة ، وفي جميع الأوجه السّابقة ، إذ لا عبرة بلام التّعريف ، فكان الجناس بينهما متماثلا.

(١) أي وإن كان اللّفظان المتّفقان فيما ذكر ، أي في أنواع الحروف ، وفي أعدادها وهيئاتها وفي ترتيبها ، من نوعين يسمّى الجناس التّام مستوفى ، وذلك لاستيفاء كلّ من اللّفظين أوصاف الآخر ، وإن اختلفا في النّوع.

(٢) أي كقول أبي تمّام في مدح يحيى بن عبد الله البرمكي :

(٣) وحاصل المعنى أنّ ما ذهب عن أهل الوقت من كرم الزّمان الماضي ، فصار كالميّت في عدم ظهوره ، فإنّ ذلك الميّت يحيى ، أي يظهر ويتجدّد عند يحيى بن عبد الله ، يعني أن كلّ ما اندرس فإنّه يظهر ويتجدّد عند هذا الممدوح فقد أطلق الموت على الذّهاب والاندراس مجازا.

ومحلّ الشّاهد قوله :

فإنّه يحيى لدى يحيى ، فإنّ الأوّل فعل ، والثّاني اسم رجل ، فهذا مثال للاسم والفعل. وأمّا الجناس بين اسم وحرف فهو نحو : ربّ رجل شرب ، ربّ رجل آخر ، فربّ الأولى حرف جرّ ، والثّانية اسم العصير المعلوم.

وبين حرف وفعل نحو :

على زيد على قومه ، أي ارتفع عليهم ، فعلى الأولى فعل ، والثّانية حرف جرّ.

__________________

(١) سورة الحج : ٦١ ، وسورة لقمان : ٢٩ ، سورة فاطر : ١٣ ، وسورة الحديد : ٦.

٣٦٤

[وأيضا] للجناس التّام تقسيم آخر ، وهو أنّه [إن كان أحد لفظيه (١) مركّبا] والآخر مفردا [سمّي جناس التّركيب] وحينئذ [فإن اتّفقا] ، أي اللّفظان المفرد والمركّب ، [في الخطّ (٢) خصّ] هذا النّوع من جناس التّركيب [باسم المتشابه] لاتّفاق اللّفظين في الكتابة ، [كقوله (٣) : إذا ملك لم يكن ذا هبة] أي صاحب هبة وعطاء [فدعه] ، أي اتركه ، [فدولته ذاهبة] ، أي غير باقية. [وإلّا] أي وإن لم يتّفق اللّفظان المفرد والمركّب في الخطّ [خصّ] هذا النّوع من جناس التّركيب [باسم المفروق] لافتراق اللّفظين في صورة الكتابة [كقوله (٤) :

كلّكم قد أخذ الجام ولا جام لنا

ما الّذي ضرّ مدير الجام لو جاملنا]

أي عاملنا بالجميل (٥) ، هذا إذا لم يكن اللّفظ المركّب مركّبا من كلمة وبعض

________________________________________________________

(١) أي لفظي التّجنيس التّام مركّبا من كلمتين ، أو من كلمة وجزء كلمة ، كما سيأتي بيان ذلك.

(٢) أي اتّفقا في الخطّ زائدا على ما ذكر ، وذلك بأن يكون ما يشاهد من هيئة مرسوم المركّب ، مثل ما يشاهد من مرسوم المفرد ، خصّ هذا النّوع من جناس التّركيب «باسم المتشابه» ، وذلك لتشابه اللّفظين في الكتابة.

(٣) أي قول أبي الفتح البستّي المنسوب إلى بست ، بلد بسجستان.

والشّاهد في ذا هبة الأولى والثّانية ، فالأولى مركّبة من ذا بمعنى صاحب وهبة ، بمعنى عطاء ، والثّانية مفرد ، إذ هو اسم فاعل المؤنّث من ذهب ، وكتابتهما متّفقة في الصّورة ، فالجناس بينهما متشابه.

(٤) أي قول أبي الفتح البستي :

(٥) أي أنّه لا ضرر عليه في معاملتنا بالجميل ، والاستفهام في قوله : «ما الّذي ...» ، إنكاري فيه عتاب على الحاضرين في المجلس ، وتحسّر على حرمانه من الشّرب.

وأمّا الشّاهد : فاللّفظ الأوّل من المتجانسين ، وهو جام لنا مركّب من اسم لا وخبرها ، وهو المجرور مع حرف الجرّ ، والثّاني مركّب من فعل ومفعول ، لكن عدّوا الضّمير المنصوب المتّصل ، كما بيّن في علم الصّرف ، بمنزلة جزء الكلمة ، فصار المجموع في حكم المفرد ، ولذلك صحّ التّمثيل به لمفرد ومركّب ، وإلّا كانا مركّبين.

٣٦٥

كلمة ، وإلّا خصّ باسم المرفوّ (١) كقولك : أهذا مصاب أم طعم صاب [وإن اختلفا (٢)] عطف (٣) على قوله : والتّامّ منه أن يتّفقا ،

________________________________________________________

(١) أخذا من قولك : رفا الثّوب إذا جمع ما تقطّع منه بالخياطة ، فكأنّه رفئ ببعض الكلمة ، فأخذنا الميم من طعم ورفّانا بها صاب ، فصارت مصاب. المصاب قصب السّكر ، والصّاب عصارة شجر مرّ.

والشّاهد : في أن اللّفظ الأوّل من لفظي التّجنيس مركّب من صاب ومن ميم في طعم ، بخلاف الثّاني منهما فإنّه مفرد ، وهما غير متّفقين في الخطّ.

ووجه حسن الجناس التّام مطلقا إنّ صورته صورة الإعادة ، وهو في الحقيقة للإفادة.

(٢) حاصله : أنّ ما تقدّم فيما إذا كان اللّفظان متّفقين في أنواع الحروف ، وعددها ، وهيئتها ، وترتيبها ، فإن يكونا متّفقين في ذلك فهو أربعة أقسام ، لأنّ عدم الاتّفاق في ذلك إمّا أن يكون بالاختلاف في أنواع الحروف فقطّ مع الاتّفاق في الثّلاثة الأخر ، أو في عددها فقطّ كذلك ، أو في هيئتها فقطّ كذلك ، أو في ترتيبها فقطّ كذلك ، ويختصّ كلّ قسم منها باسم ، يأتي بيانه في المتن.

وإنّما قيدنا الاختلاف بواحد من الأمور الأربعة المذكورة مع الاتّفاق في الثّلاثة الأخر ، لأنّهما لو اختلفا في اثنين من ذلك المذكور من الأمور الأربعة ، أو أكثر ، يعني في الثّلاثة فقطّ ، حتّى لم يبق الاتّفاق إلّا في النّوع والعدد دون الهيئة والتّرتيب كبرح بمعنى ذهب ، وربح مثلا ، أو في النّوع والهيئة دون العدد والتّرتيب ، كقبر ورقبة ، أو في النّوع والتّرتيب دون العدد والهيئة ، كرجم ورجيم ، أو في العدد والهيئة دون النّوع والتّرتيب ، كرحم وحمق ، أو في العدد والتّرتيب دون النّوع والهيئة ، كضرب وشرف ، أو في التّرتيب والهيئة دون النّوع والعدد ، كاستمدّ بتشديد الدّال ، ومرّ بتشديد الرّاء.

فهذه الصّور السّتّ كلّها فيما كان الاختلاف في اثنين من الأمور الأربعة لم تعد تلك الصّور من باب التّجنيس لبعد التّشابه بينهما.

(٣) أي فهو من قبيل عطف الجملة الفعليّة الشّرطيّة على جملة اسميّة ، لأنّها في تأويل الشّرطيّة المناسبة لهذه ، إذ كأنّه يقول : إن اتّفق اللّفظان في جميع الأوجه السّابقة فهو التّامّ ، فيناسب أن يقال هنا : وإن اختلفا ...

٣٦٦

أو على (١) محذوف ، أي هذا إن اتّفقا ، وإن اختلف لفظا المتجانسين [في هيئات الحروف فقطّ] أي واتّفقا في النّوع والعدد والتّرتيب [يسمّى] التّجنيس [محرّفا] لانحراف إحدى الهيئتين عن الهيئة الأخرى ، والاختلاف قد يكون بالحركة.

[كقولهم : جبّة (٢) البرد جنّة البرد] يعني لفظ البرد بالضّمّ والفتح ، [ونحوه (٣)] ، في أن الاختلاف في الهيئة فقطّ قولهم : [الجاهل إما مفرط أو مفرّط (٤)] لأنّ الحرف المشدّد لما كان يرتفع اللّسان عنهما (٥) دفعة واحدة كحرف واحد عدّ حرفا واحدا ، وجعل التّجنيس ممّا الاختلاف فيه في الهيئة فقطّ.

ولذا قال : [والحرف المشدّد] في هذا الباب [في حكم المخفّف] ، واختلاف الهيئة في ـ مفرط ومفرّط ـ باعتبار أنّ الفاء من أحدهما ساكن ومن الآخر مفتوح.

________________________________________________________

(١) أي فيكون من عطف جملة فعليّة على فعليّة.

(٢) أي الجبّة المأخوذة من البرد ، أي الصّوف «جنّة البرد» ، أي وقاية البرد.

ومحلّ الشّاهد : البرد والبرد ، فإنّهما مختلفان في هيئة الحروف بسبب الاختلاف في حركة الباء ، لأنّها في الأوّل ضمّة ، وفي الثّاني فتحة ، وأمّا لفظا الجبّة والجنّة فمن التّجنيس اللّاحق لا المحرّف.

(٣) أي نحو قولهم : جبّة البرد وجنّة البرد في كونه من التّجنيس المحرّف ، لكون الاختلاف في الهيئة قولهم : (الجاهل إما مفرط أو مفرّط).

(٤) والفاء في الأوّل مفرط المخفّف ساكنة ، وفي الثّاني وهو مفرّط المشدّد مفتوحة.

(٥) ضمير «عنهما» راجع إلى الحرف المشدّد ، وإنّما ثنّي باعتبار أنّ المشدّد بمنزلة الحرفين ، وكيف كان فلمّا كانت هيئة اللسّان والضّمّ في النّطق بالحرف المشدّد ليست كهيئتها في النّطق بحرفين منفكّين ، عدّ الحرف المشدّد حرفا واحدا ، وجعل الاختلاف منحصرا باختلاف الهيئتين مع الاتّفاق في نوع الحروف وعددها وترتيبها ، فمفرط ومفرّط من ناحية هذه الأمور الثّلاثة متّفقان ، وجهة اختلافهما في الهيئة فقطّ ، فإنّ الفاء في مفرط المخفّف ساكنة ، ومن مفرّط المشدّد مفتوحة ، لأنّهما في الكتابة شيء واحد ، وأنّ المشدّد يرتفع اللّسان عنهما دفعة واحدة ، ولهذا جعل من التّجنيس الّذي لم يقع الاختلاف إلّا في الهيئة لا في العدد.

٣٦٧

[و] قد يكون الاختلاف بالحركة والسّكون جميعا [كقولهم : البدعة شرك الشّرك (١)] ، فإنّ الشّين من الأوّل مفتوح ، ومن الثّاني مكسور ، والرّاء من الأوّل مفتوح ، ومن الثّاني ساكن.

[وإن اختلفا] أي لفظا المتجانسين [في أعدادها] أي أعداد الحروف ، بأن يكون في أحد اللّفظين حرف زائد أو أكثر إذا سقط حصل الجناس التّام [سمّي الجناس ناقصا] بنقصان أحد اللّفظين عن الآخر.

[وذلك] الاختلاف [إمّا بحرف] واحد [في الأوّل مثل : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ

________________________________________________________

(١) فاجتمع فيه اختلافان : أحدهما الاختلاف في الحركة ، فإنّ الشّين في الأوّل يعني شرك مفتوح ، ومن الثّاني يعني الشّرك مكسور ، والثّاني أنّ الرّاء في الأوّل مفتوح ، ومن الثّاني ساكن.

فتحصّل على مجموع ما أوضحناه : أنّ الاختلاف في الأوّل أعني جبّة البرد جنّة البرد بالحركتين ، وفي الثّاني أعني مفرط ومفرّط ، الحركة والسّكون في الثّالث اجتمع الأمران ، ثمّ إنّ البدعة عبارة عن إدخال ما ليس من الدّين ، أو لم يعلم أنّه من الدّين في الدّين ، وبعبارة أخرى الحدث في الدّين بعد كماله ، فيقولون في مقام التّحذير من ذلك.

البدعة شرك الشّرك الأوّل ، معناه شبكة الصّياد ، والثّاني بكسر الشّين وسكون الرّاء ، هو الكفر بالله ، وحاصل المعنى أنّ اتّخاذ البدعة ديدنا وعادة يؤدّي إلى الوقوع في الكفر بالله تعالى ، كما أنّ نصب الشّبكة للصّيد يؤدّي عادة لوقوع الصّيد فيها ، هذا تمام الكلام في القسم الأوّل من الأقسام الأربعة.

وأما القسم الثّاني فهو ما ذكره بقوله :

«وإن اختلفا في أعدادها» ، أي وإن اختلف لفظا المتجانسين في أعداد الحروف ، بأن يكون حرف أحدهما أكثر من الآخر ، بحيث إذا حذف الزّائد اتّفقا في النّوع والهيئة والتّرتيب ، فحينئذ سمّي الجناس ناقصا لنقصان أحد اللّفظين عن الآخر ، وهو ستّة أقسام ، لأنّ الحرف الزّائد إمّا حرف واحد أو أكثر ، وعلى التّقديرين فالزّائد إمّا في الأوّل ، أو في الوسط ، أو في الأخير فيحصل من ضرب الاثنين في الثّلاثة ستّة.

٣٦٨

إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) (٣٠) (١) (١)] ، بزيادة الميم.

[أو في الوسط نحو ـ جدّي جهدي (٢)] بزيادة الهاء ، وقد سبق أنّ المشدّد في حكم المخفّف.

[أو في الآخر كقوله (٣) : يمدّون من أيد عواص عواصم] بزيادة الميم ، ولا اعتبار بالتّنوين (٤) ، وقوله : من أيد ، في موضع مفعول ـ يمدّون ـ على زيادة ـ من ـ كما هو مذهب الأخفش (٥).

أو على كونها للتّبعيض كما في قولهم ـ هزّ من عطفه وحرّك من نشاطه (٦) أو على أنّه صفة محذوف ،

________________________________________________________

(١) فالميم في المساق زيد أوّلا ، والباقي تجانس لمجموع المقابل.

(٢) الجدّ بفتح الجيم ، الغنى والحظ ، وإما الجد الّذي هو أبو الأب ، فليس بمراد هنا ، والجهد بفتحها المشقّة والتّعب ، والتّركيب يحتمل وجهين :

أحدهما أن يكون المعنى أنّ حظّي وغناي من الدّنيا مجرّد إتعاب النّفس في المكاسب من غير وصول إليها ، ويكن تشكّيا وإخبارا بأنّه لا يحصل من سعيه على طائل.

والآخر أن يكون المعنى أنّ حظّي من الدّنيا ، وغنايّ فيهما هو بمشقّتي وجهدي لا بالوراثة عن الأب والجدّ ، ويكون إخبارا عن السّعي.

(٣) أي قول أبي تمّام.

(٤) أي في عواص وذلك لأنّه في حكم الانفصال أو بصدد الزّوال بسبب التّوقّف أو الإضافة «يمدّون» أي يريدون أو يجرّون.

(٥) حيث جوّز زيادة «من» في الإثبات خلافا لجمهور النّحويين حيث جوّزوا زيادتها في النّفي دون الإثبات.

(٦) أي هزّ بعض العطف ، لأنّ العطف الشّقّ ، والعضو المهزوز منه الكتف مثلا ، وحرّك بعض الأعضاء الّتي يظهر بتحريكها نشاطه ، وهزّ العطف كناية عن السّرور ، لأنّ المسرور يهتزّ فصارت الهزّة ملزومة للسّرور ، وكذا تحريك النّشاط.

__________________

(١) سورة القيامة : ٢٩ و٣٠.

٣٦٩

أي يمدّون سواعد من أيد (١) عواص ، جمع عاصية (٢) من عصاه ، ضربه بالعصا ، وعواصم من عصمه حفظه وحماه. ـ

وتمامه : تصول (٣) بأسياف قواض (٤) قواضب (٥) ، أي يمدّون أيديا ضاربات للأعداء حاميات للأولياء صائلات على الأقران بسيوف حاكمة بالقتل قاطعة.

[وربّما سمّي] هذا القسم الّذي تكون الزّيادة فيه في الآخر [مطّرفا (٦).

________________________________________________________

(١) أي كائنة من أيد ، فمن للتّبعيض ، فكأنّه قيل : يمدّون السّواعد الّتي على بعض الإيد.

(٢) مأخوذ من عصاه ، وهو في الأصل بمعنى «ضربه بالعصا» ، والمراد هنا ضربه بالسّيف ، وقيل مأخوذ من العصيان ، وهو خلاف الطّاعة ، فالمعنى أنّ تلك الأيدي عاصية للأعداء ، والمراد توصيف تلك الأيدي بالشّدّة والقوّة ، لأنّها لقوّتها عاصية لا تطيع من أراد منعها من البطش على الأعداء.

وأمّا للأصدقاء فهي «عواصم» مأخوذ من «عصمه» بمعنى «حفظه وحماه» ، فحاصل المعنى أنّ الممدوحين يمدّون للضّرب يوم الحرب ، أي ضاربات للأعداء ، وحاميات للأولياء.

والشّاهد : في زيادة حرف في الآخر ، أعني «عواصم».

(٣) «تصول» من الصّولة ، بمعنى الشّجاعة والهجوم على الأعداء.

(٤) جمع قاضية مأخوذ (من قضا عليه) ، أي حكم عليه ، يعني أنّ تلك الأيدي حاكمات على الأعداء بالهلاك والدّمار.

(٥) جمع قاضبة مأخوذ (من قضبة) ، أي قطعة ، يعني أنّ تلك الأيدي قاطعة لرقاب الأعداء ، والشّاهد في زيادة الباء في آخر قواضب.

(٦) أي سمّي هذا القسم مطرفا أيضا ، كما سمّي ناقصا ، وإنّما يسمّى بذلك لتطرّف الزّيادة فيه ، أي لكونها في الطّرف ، أي في الآخر.

ووجه حسنه أنّه يوهم قبل ورود آخر الكلمة ، كالميم من عواصم ، أو الباء من قواضب ، أنّها أي الكلمة أي عواص وقواض ، هي نفس الكلمة الّتي مضت ، وإنّما أتى بها تأكيدا لفظيّا للأولى ، حتّى إذا تمكّن آخرها ، أي الميم من عواصم ، والباء من قواضب ، في نفسك ووعاء سمعك ، انصرف عنك ذلك التّوهم ، فتعرف أنّها ليست تأكيدا للأولى ، بل هي كلمة أخرى أتى بها لمعنى آخر ، وحصل لك فائدة بعد اليأس من تلك الفائدة ، فهي كنعمة غير مرتقبة.

٣٧٠

وإمّا بأكثر] من حرف واحد (١) وهو عطف على قوله : إمّا بحرف ، ولم يذكر من هذا الضّرب إلّا ما تكون الزّيادة في الآخر ، [كقولها (٢)] أي الخنساء ، [إنّ البكاء هو الشّفاء من الجوى] أي حرقة القلب [بين الجوانح] بزيادة النّون والحاء. ـ

[وربّما سمّي هذا] النّوع [مذيلا (٣) ، وإن اختلفا] ، أي لفظا المتجانسين [في أنواعها] ، أي أنواع الحروف [فيشترط أن لا يقع] الاختلاف [بأكثر من حرف] واحد ، وإلّا لبعد بينهما التّشابه (٤) ولم يبق التّجانس ، كلفظي نصر ونكل.

[ثمّ الحرفان] اللّذان وقع بينهما الاختلاف [إن كانا متقاربين] في المخرج (٥) [سمّي] الجناس [مضارعا ، وهو] ثلاثة أضرب : لأنّ الحرف الأجنبي (٦) [أمّا في الأوّل (٧)

________________________________________________________

(١) قوله : «وإمّا بأكثر» عطف على قوله : «إمّا بحرف واحد».

(٢) أي قول الشّاعرة ، وهي الخنساء أخت صخر في ردّ كلام من لامها على البكاء عليه ، «إن البكاء هو الشّفاء* من الجوى» ، وهو حرقة القلب الكائن «بين الجوانح» ، جمع جانحة ، وهي ضلع الصّدر.

والشّاهد :

أنّ الجوانح زيد فيه ما يماثل الجوى منه النّون والحاء ، وإذا أسقطت النّون والحاء صار الباقي مساويا للجوى ، فكان من التّجنيس النّاقص.

(٣) لأنّ الزّيادة كانت في آخره كالّذيل.

(٤) فيخرجان عن التّجانس «كلفظي نصر ونكل» فيما كان الحرف المشترك فيه في الأوّل.

(٥) بأن كان حلقيين أو شفويين ، أو من الثّنايا العليا ، فالمراد من التّقارب الاتّحاد في المخرج.

(٦) أي المخالف لمقابله.

(٧) أي في أول اللّفظين.

٣٧١

كنحو بيني وبين كنى (١) ليل دامس (٢) ، وطريق طامس (٣).

أو في الوسط (٤) نحو : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ)(١).

أو في الآخر (٥) نحو : الخيل معقود بنواصيها الخير (٦)] ، ولا يخفى تقارب الدّال والطّاء ، وكذا الهمزة والهاء ، وكذا اللّام والرّاء.

[وإلّا] أي وإن لم يكن الحرفان متقاربين [سمّي لاحقا ، وهو أيضا إمّا في الأوّل نحو : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)(٢)] ، الهمز الكسر (٧) ، واللّمز الطّعن ، وشاع استعمالهما في الكسر من أعراض النّاس والطّعن فيها ،

________________________________________________________

(١) معنى الكنى في الأصل السّتر ، والمراد هنا البيت أو المنزل ، يعني بيني وبين منزلي أو بيتي ، وليل دامس.

(٢) ـ الدّامس شديد الظّلمة.

(٣) الطّامس الدّاثر مطموس العلامات ، الّذي لا يتبيّن فيه أثر يهتدى به.

والشّاهد فيه : أنّ الدّال في دامس ، والطّاء في طامس حرفان مختلفان ، إلّا أنّهما متقاربان في المخرج ، لأنّ مخرج كلّ واحد منهما اللّسان مع أصل الأسنان ، وقد وقعا في أول اللّفظين.

(٤) أي في وسط اللّفظين المتجانسين ، نحو قوله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ).

والشّاهد في : «ينهون وينأون» فإنّ الهمزة والهاء حرفان مختلفان ، إلّا أنّهما متقاربان في المخرج ، إذ كلّ منهما من حرف الحلق ، وقد وقعا في الوسط.

(٥) أي في آخر اللّفظين.

(٦) إلى يوم القيامة ، والشّاهد : في اللّام من الخيل ، والرّاء من الخير ، فإنّهما حرفان مختلفان ، إلّا أنّهما متقاربان في المخرج ، لأنّ مخرج كلّ منهما الحنك واللسّان ، وقد وقعا في آخر اللّفظين المتجانسين.

(٧) قال في الكشّاف الهمز الكسر ، واللّمز الطّعن ، وحاصله : إن همزة مأخوذة من الهمز ، وهو الكسر ، وكذا اللّمزة مأخوذة من اللّمز ، بمعنى الطّعن ، أي في المحسوسات وغيرها ، ثمّ شاع استعمال الهمز في الكسر في أعراض النّاس ، وكسر العرض هتكه ، وإبطاله بإلحاق العيب بصاحبه ، كما شاع استعمال اللّمز في الطّعن في الأعراض بأن يلحق العيب بصاحبها.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٢٦.

(٢) سورة الهمزة : ١.

٣٧٢

وبناء فعلة (١) يدلّ على الاعتياد (٢) [أو في الوسط نحو : (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ)(١) (٣)].

وفي عدم تقارب الفاء والميم نظر (٤) ، فإنّهما شفويّتان ، وإن أريد بالتّقارب أن تكون بحيث تدغم إحداهما في الأخرى ،

________________________________________________________

والشّاهد :

في «همزة ولمزة» فإنّ بينهما جناسا لاحقا ، لأنّ الهاء واللّام متباينان ومتباعدان في المخرج ، لأنّ الهاء من أقصى الحلق ، واللّام من طرف اللّسان ، ووقعا في أول اللّفظين المتجانسين.

(١) أي بضم الفاء وفتح العين.

(٢) فلا يقال : فلان ضحكة ولا لعبة ، إلّا لمن كان ملازما لذلك بحيث صار عادة له ، لا لمن وقع منه ذلك في الجملة.

(٣) فتفرحون وتمرحون بينهما جناس الإلحاق ، لاتّحاد نوع حروفهما إلا الميم والفاء وهما غير متقاربين في المخرج.

(٤) لأنّ التّقارب في المخرج موجود بين الفاء والميم ، إذ هما شفويّتان معا إلّا أنّ الفاء من طرف الأسنان العليا مع باطن الشّفة السّفلى ، والميم من باطن الشّفتين ، ولا يخرجهما ذلك عن كونهما شفويّتين ، وقد يجاب بأنّ جناس التّقارب لا يكفي حتّى يوجد نوع خاص منه ، كأن يكون الحرفان من موضع واحد مع اختلاف ما ، وهنا افترق الموضعان لما علمت فالأولى لهذا البحث أن يمثّل بنحو قوله تعالى : (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)(٢) ، لأنّ الدّال والهاء متباعدتان مخرجا ، إذ الأولى من اللسّان مع أصول الأسنان ، والثّانية من الحلق.

__________________

(١) سورة الغافر : ٧٥.

(٢) سورة العاديات : ٧ و٨.

٣٧٣

فالهاء والهمزة (١) ليستا كذلك [أو في الآخر نحو : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ)(١) (٢).

وإن اختلفا] أي لفظا المتجانسين [في ترتيبهما] أي ترتيب الحروف بأن يتّحد النّوع والعدد والهيئة ، لكنّ قدم في أحد اللّفظين بعض الحروف ، وأخّر في اللّفظ الأخر [سمّي] هذا النّوع [تجنيس القلب نحو : حسامه فتح لأوليائه وحتف لأعدائه (٣) ، ويسمّى قلب كلّ] لانعكاس ترتيب الحروف كلّها.

[ونحو : اللهمّ استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، ويسمّى قلب بعض (٤)] إذ لم يقع الانعكاس إلّا بين بعض حروف الكلمة [فإذا وقع أحدهما] أي أحد اللّفظين المتجانسين تجانس القلب [في أوّل البيت و] اللّفظ [الآخر في آخره سمّي] تجنيس القلب حينئذ [مقلوبا مجنّحا] لأنّ اللّفظين بمنزلة جناحين للبيت كقوله : لاح أنوار الهدى من كفّه في كلّ حال (٥).

________________________________________________________

(١) في المثال السّابق ، وهو قوله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) ، ليسا كذلك ، أي الإدغام بينهما مع أنّهما حلقيتان.

(٢) فالأمر والأمن متّققان ، إلّا في الرّاء والنّون وهما غير متقاربين مخرجا ، هذا ما أراده الخطيب في المقام.

لكنّ الكلام في مخرج الرّاء والنّون كالكلام في مخرج الفاء والميم في المثال السّابق من حيث الاختلاف.

(٣) الشّاهد في فتح وحتف ، فإنّ الفاء والتّاء في كلّ واحد منهما وقعت بعكسها في الآخر ، ويسمّى هذا القسم قلب الكلّ.

(٤) فإنّ الانعكاس إنّما وقع في العين والواو وحدهما ، وأما الألف والتّاء والنّون ، فإنّها في محالّها ، ويسمّى هذا الضّرب قلب بعض ، والوجه فيه ظاهر.

(٥) فقوله :

«حال» قلب لقوله : «لاح» ، و «لاح» في أوّل البيت ، و «حال» في آخره ، كأنّهما جناحان له ، ولهذه المناسبة سمّي مقلوبا مجنّحا.

__________________

(١) سورة النّساء : ٨٣.

٣٧٤

[وإذا ولّى (١) أحد المتجانسين] أيّ تجانس كان ولذا ذكره باسمه الظّاهر دون المضمر ، المتجانس [الآخر سمّي] الجناس [مزدوجا ومكرّرا أو مردّدا نحو : (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)(١) (٢)] هذا في التّجنيس اللّاحق وأمثلة (٣) الأخر ظاهرة ممّا سبق. [ويلحق بالجناس شيئان : أحدهما أن يجمع اللّفظين الاشتقاق (٤)] وهو توافق الكلمتين في الحروف الأصول مع الاتّفاق في أصل المعنى [نحو : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ)(٢)]

________________________________________________________

(١) أي وقع بإزاء مجانسه الآخر سمّي هذا الجناس صاحب هذه الخاصّيّة «مزدوجا ومكرّرا ومردّدا» لكونهما زوجين متلاصقين ، وبما أنّ أحد المتجانسين شكيل صاحبه من عامّة النّواحي أو أكثرها ، فكأنّه قد كرّر ، وردّد.

(٢) فقوله تعالى : (مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ) فيه جناس لاحق ، لاختلاف السّين والنّون في نوع الحروف وفي المخرج أيضا.

(٣) أي أمثلة الأقسام الأخر ظاهرة ممّا سبق ، فمثال التّام أن يقال : تقوم السّاعة في ساعة ، ومثال المحرّف أن يقال : هذه لك جبّة وجنّة من البرد للبرد ، ومثال النّاقص قولهم : جدّي جهدي ، ومثال المقلوب : أن يقال : هذا السّيف للأعداء والأولياء حتف وفتح.

ثمّ أشار إلى شيئين ليسا من الجناس الحقيقي ، ولكنّهما ملحقان في كونهما ممّا يحسن به الكلام الحسن كحسن الجناس ، فقال : «ويلحق بالجناس شيئان».

(٤) أي أن يكون اللّفظان مشتقّين من أصل واحد ، ثمّ المراد بالاشتقاق هنا هو الاشتقاق الّذي ينصرف إليه اللّفظ عند الإطلاق ، وهو الاشتقاق الصّغير المفسّر بتوافق الكلمتين في الحروف الأصول مع التّرتيب والاتّفاق في أصل المعنى ، فقوله : «في الحروف الأصول» خرج به الاشتقاق الأكبر ، كالثّلب والثّلم ، وقوله : «مع التّرتيب» خرج به الاشتقاق الكبير كالجذب والجبذ ، والرّق والرّقم ، وقوله : «والاتّفاق في أصل المعنى» خرج به الجناس التّامّ ، لأنّ المعنى فيه مختلف ولذا لم يكن هذا جناسا بل ملحقا به ، لأنّه لا بدّ في الجناس من اختلاف معنى اللّفظين.

__________________

(١) سورة النّمل : ٢٢.

(٢) سورة الرّوم : ٤٣.

٣٧٥

فإنّهما مشتقّان من قام يقوم (١).

[والثّاني أن يجمعهما] أي اللّفظين [المشابهة (٢) ، وهي ما يشبه الاشتقاق] وليس باشتقاق ، فلفظة ما موصولة أو موصوفة.

وزعم بعضهم أنّها مصدريّة (٣) أي إشباه اللّفظين الاشتقاق. وهو غلط لفظا (٤) ومعنى ، أمّا لفظا فلأنّه جعل الضّمير المفرد في ـ ـ يشبه ـ للّفظين ، وهو لا يصحّ إلّا بتأويل بعيد (٥) فلا يصحّ عند الاستغناء عنه.

وأمّا معنى فلأنّ اللّفظين (٦) لا يشبهان الاشتقاق ، بل توافقهما قد يشبه الاشتقاق ، بأن يكون في كلّ منهما جميع ما يكون في الآخر من الحروف (٧) أو أكثرها لكن لا

________________________________________________________

(١) أي على المذهب الكوفي ، ومن مصدر (قام يقوم) وهو القيام بناء على التّحقيق من أنّ الانشقاق من المصادر كما هو مذهب البصريّين ، وفي الأطول أقم مشتقّ من القيام ، وهو الانتصاب ، والقيم المستقيم المعتدل الّذي لا إفراط فيه ولا تفريط.

(٢) المراد بالمشابهة الأمر المتشابه ، فهو مصدر بمعنى اسم فاعل بدليل تفسيرها بقوله :

«وهي ما يشبه الاشتقاق» ، أي وهي اتّفاق يشبه الاشتقاق أو الاتّفاق الّذي يشبه الاشتقاق ، وليس باشتقاق ، يعني يشبه الاشتقاق الصّغير وليس باشتقاق صغير.

(٣) أي الحامل له على ذلك إبقاء المشابهة على حقيقتها ، فلمّا أبقاها على حقيقتها من المصدريّة احتاج إلى جعل «ما» الّتي فسّرت بها المشابهة مصدريّة.

(٤) أي بيان الغلط من جهة اللّفظ «فلأنّه جعل الضّمير» أي المستتر المفرد في «يشبه» راجعا إلى اللّفظين ، لأنّه جعل فاعل «يشبه» اللّفظين ، وهما مثنّى ، فيلزم رجوع الضّمير المفرد للمثنّى وهو غلط لفظا.

(٥) أي وهو كون الضّمير عائدا على اللّفظين باعتبار تأويلهما بالمذكور ، أي إشباه ما ذكر من اللّفظين الاشتقاق ، وهذا تكلّف لا يحمل عليه اللّفظ مع إمكان الحمل على غيره ، بدون تكلّف.

(٦) ذاتيهما لا يشبهان الاشتقاق بل توافقهما في شيء يشبه الاشتقاق كما هو واضح.

(٧) أي كالآية المتقدّمة حيث يكون في القيّم جميع ما في (أقم).

٣٧٦

يرجعان إلى أصل واحد كما في الاشتقاق ، [نحو : (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ)(١) (١)] ، الأوّل من القول ، والثّاني من القلا.

وقد يتوهّم أنّ المراد بما يشبه الاشتقاق هو الاشتقاق الكبير ، وهذا أيضا غلط ، لأنّ الاشتقاق الكبير هو الاتّفاق في الحروف الأصول دون التّرتيب ، مثل القمر والرّقم والمرق ، وقد مثّلوا في هذا المقام بقوله تعالى : [(اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا)(٢) (٢)] ولا يخفى أن الأرض مع (أَرَضِيتُمْ) ليستا كذلك (٣). ـ

[ومنه] أي ومن اللّفظي (٤) [ردّ العجز على الصّدر ، وهو (٥) في النّثر أن يجعل أحد اللّفظين المكرّرين] أي المتّفقين في اللّفظ والمعنى [أو أحد المتجانسين] ، أي المتشابهين في اللّفظ دون المعنى.

________________________________________________________

(١) أي من الباغضين ، فإنّ بين «قال والقالين» ما يشبه الاشتقاق فإنّه يتوهّم في بادئ الرّأي ، وقبل التّأمل أنّهما مشتقان من أصل واحد ، أعني القول مثل : قال والقائلين ، لكنّهما ليسا كذلك ، فإنّ قال من القول ، والقالين من القلي ، فالأوّل أجوف واوي ، والثّاني ناقص يائي ، لكنّهما جامعان لأكثر الحروف ، أعني القاف واللّام.

(٢) أي وما مثّلوا به وهو «الأرض وأرضيتم» ولم تتّفق فيهما الأصول ، لأنّ الهمزة في «الأرض» أصليّة ، وفي «أرضيتم» للاستفهام لا أصليّة ، هذا مع وجود التّرتيب في الحروف فيهما.

(٣) أي ليس من الاشتقاق الكبير لوجود التّرتيب فيه ، إذن لا يكون المراد بما يشبه الاشتقاق هو الاشتقاق الكبير ، لأنّ هذا المثال لا يصلح له ، بل يكون المراد به ما يشمله ويشمل غيره.

(٤) أي من أنواع البديع اللّفظي ، هو النّوع المسمّى برد العجز على الصّدر.

(٥) أي ردّ العجز على الصّدر يكون في النّثر ، وفي النّظم ، فهو في النّثر أن يجعل أحد اللّفظين المكرّرين وهما متّفقان لفظا ومعنى أو أحد المتجانسين ، وهما المتشابهان في اللّفظ دون المعنى.

__________________

(١) سورة الشّعراء : ١٦٨.

(٢) سورة التّوبة : ٣٨.

٣٧٧

[أو الملحقين بهما (١)] أي بالمتجانسين يعني اللذّين يجمعهما الاشتقاق أو شبه الاشتقاق [في أوّل الفقرة (٢)] وقد عرفت (٣) معناها [و] اللّفظ [الآخر (٤) في آخرها] أي آخر الفقرة ، فتكون الأقسام أربعة ، [نحو : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ)(١)] في المكرّرين [ونحو (٥) : سائل اللّئيم يرجع ودمعه سائل].

________________________________________________________

(١) أي بالمتجانسين والملحقين بالمتجانسين قسمان ، ما يجمعهما الاشتقاق ، وما يجمعهما شبه الاشتقاق.

(٢) متعلّق بأن يجعل أي هو في النّثر أن يجعل في أول الفقرة أحد المذكورين من تلك الأنّواع.

(٣) راجع قسم الإرصاد من البديع المعنوي.

(٤) أي ويجعل اللّفظ الأخير منهما «في آخرها» ، أي في آخر تلك الفقرة ، والفقرة في أصلها اسم لعظم الظّهر ، استعيرت للحلى المصنوعة على هيئته ، ثمّ أطلقت على كلّ قطعة من قطع الكلام الموقوفة على حرف واحد لحسنها ولطافتها.

ففي ردّ العجز على الصّدر في النّثر أربعة أقسام :

لأنّ اللّفظين الموجود أحدهما في أوّل الفقرة والآخر في آخرها ، إمّا أن يكونا مكرّرين ، أو متجانسين ، أو ملحقين بالمتجانسين من جهة الاشتقاق ، أو ملحقين بهما من جهة شبه الاشتقاق ، فهذه أربعة أتى المصنّف بأمثلتها على هذا التّرتيب ، فقال : القسم الأوّل ، وهو ما يوجد فيه أحد المكرّرين في أول الفقرة والآخر في آخرها ، نحو قوله تعالى : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ).

والشّاهد :

هو اللّفظان المكرران وهما (أن تخشى وتخشاه) وقع أحدهما في صدر الفقرة ، وثانيهما في آخرها.

(٥) قولهم :

«سائل اللّئيم» أي طالب المعروف من الرّجل الموصوف باللآمة والرّذالة «يرجع ودمعه سائل» فسائل في أول الفقرة وسائل في آخرها متجانسان ، لأنّ الأوّل من السّؤال ، والثّاني من

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٧.

٣٧٨

في المتجانسين [ونحو : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً)] في الملحقين اشتقاقا [ونحو : (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ)] في الملحقين بشبه الاشتقاق.

[و] هو [في النّظم أن يكون أحدهما] أي أحد اللّفظين المكرّرين أو المتجانسين أو الملحقين بهما اشتقاقا أو شبه اشتقاق [في آخر البيت و] اللّفظ [الآخر في صدر المصراع الأوّل أو حشوه أو آخره أو صدر المصراع الثّاني] فتصير الأقسام ستّة عشر حاصلة من ضرب أربعة (١) في أربعة ،

________________________________________________________

السّيلان ، وضمير معه راجع إلى السّائل في المشهور ، ويحتمل الرّجوع إلى اللّئيم ، وهو أبلغ من ذمّ اللّئيم ، حيث لا يطيق السّؤال ، هذا هو القسم الثّاني ، والقسم الثّالث وهو ما يوجد فيه أحد الملحقين بالمتجانسين ، من جهة الاشتقاق في أوّل الفقرة والآخر في آخرها ، نحو قوله تعالى : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً)(١) ، فبين (استغفروا) و (غفّارا) شبه التّجانس باشتقاق ، لأنّ مادّتهما المغفرة ، ولفظ (استغفروا) هو أوّل الفقرة في كلام نوح ولفظ قلت لحكايتها.

والقسم الرّابع : وهو ما يوجد فيه أحد الملحقين بالمتجانسين من جهة شبه الاشتقاق في أوّل الفقرة والآخر في آخرها نحو قوله تعالى : (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ)(٢) فبين (قال) و (القالين) شبه اشتقاق ، وبه ألحقا بالمتجانسين فهذه أربعة أقسام من ردّ العجز على الصّدر الّذي يوجد في النّثر

(١) وهي أقسام المكرّرين والمتجانسين والملحقين اشتقاق والملحقين بشبه الاشتقاق في أربعة أقسام محالّ اللّفظ المقابل للذّي في العجز ، وتلك المحالّ على صدر المصراع الأوّل وحشوه وعجزه ، وصدر المصراع الثّاني ، وقد مثّل المصنّف للمتكرّرين بأربعة أمثلة ، وللمتجانسين بأربعة ، وللملحقين اشتقاقا بأربعة ، ولم يمثّل للملحقين بشبه الاشتقاق إلّا بمثال واحد ، ساقه في أثناء أمثلة للملحقين اشتقاقا فمجموع ما ساقه من الأمثلة ثلاثة عشر ، وأهمل ثلاثة ، وسنذكر ما أهمله المصنّف من الأمثلة الثّلاثة عند ذكر مثال الملحقين بشبه الاشتقاق تكميلا للأقسام.

__________________

(١) سورة نوح : ١٠.

(٢) سورة الشّعراء : ١٦٨.

٣٧٩

والمصنّف أورد ثلاثة عشر مثالا ، وأهمل ثلاثة. [كقوله (١) :

سريع إلى ابن العم يلطم وجهه

وليس إلى داعي النّدى بسريع]

فيما يكون المكرّر الآخر في صدر المصراع الأوّل [وقوله :

تمتّع من شيم عرار نجد

فما بعد العشيّة من عرار]

فيما يكون المكرّر الآخر في حشو المصراع الأوّل ، ومعنى البيت استمتع بشمّ عرار نجد ، وهي وردة ناعمة صفراء طيّبة الرّائحة ، فإنّا نعدمه إذا أمسينا لخروجنا من أرض نجد ومنابته. [وقوله : ومن كان بالبيض الكواعب] جمع كاعب وهي الجارية حين يبدو ثدياها للنّهود [مغرما] مولعا [فما زلّت بالبيض القواضب] ، أي السّيوف القواطع [مغرما] فيما يكون المكرّر الآخر في آخر المصرع الأوّل.

________________________________________________________

(١) أي وهذا البيت للإقيشر الأسدي من شعراء الدّولة الأمويّة ، والنّدى العطاء ، يعنى بابن العمّ نفسه هذا مثال لأوّل أقسام المكرّر ، وهو سريع الثّاني في آخر المصراع الثّاني ، والأوّل في أوّل المصراع الأوّل.

فالشّاهد فيه واضح ، وهو أوّل الأقسام من اللّفظين المكرّرين.

وحاصل المعنى : هذا المذموم سريع إلى الشرّ واللأمة في لطمه وجه ابن العمّ ، وليس بسريع إلى العمل بما يدعى إليه من النّدى ، أي الكرم.

القسم الثّاني من أقسام المكرّر ، وهو ما يكون فيه المكرّر الأوّل منهما في حشو المصراع الأوّل في قول الشّاعر ، وهو الصّمّة بن عبد الله القشيري :

تمتّع من شيم عرار نجد

فما بعد العشيّة من عرار

ومعنى البيت أنّه يأمر بالاستمتاع بشمّ عرار نجد ، وهي وردة ناعمة صفراء طيّبة الرّائحة ، لأنّ الحال يضطرّهم إلى الخروج من نجد ومنابته عند المساء بالسّفر عنها ، والشّاهد في لفظ عرار وقع في حشو المصراع الأوّل ، وهو مكرّر مع عرار العجز.

القسم الثّالث : وهو ما يكون المكرّر الأوّل في آخر المصرع الأوّل كقول أبي تمّام :

ومن كان بالبيض الكواعب مغرما

فما زلّت بالبيض القواضب مغرما

٣٨٠