دروس في البلاغة - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٤

لو لم تكن نيّة الجوزاء ، خدمته

لما رأيت عليها عقد منتطق (١)]

ومن انتطق ، أي شدّ النّطاق ، وحول الجوزاء كواكب يقال لها : نطاق الجوزاء ، فنيّة الجوزاء خدمة الممدوح صفة غير ممكنة قصد إثباتها ، كذا في الإيضاح ، وفيه (٢) بحث.

________________________________________________________

(١) العقد مصدر بمعنى الشّدّ والرّبط ، والمنتطق اسم فاعل أو اسم مفعول ، أي منتطق به ، وعلى كلا الوجهين مأخوذ من انتطق ، أي شدّ النّطاق في وسطه و «الجوزاء» أحد البروج الاثني عشر ، وحول الجوزاء كواكب ، يقال لها : نطاق الجوزاء.

وحاصل معنى البيت : أنّ الجوزاء مع ارتفاعها لها عزم ونيّة على خدمة الممدوح ، ومن أجل ذلك انتطقت ، أي شدّت النّطاق لخدمته ، فلو لم تنو خدمته ما رأيت عليها نطاقا شدّت به وسطها.

وأمّا الشّاهد «فنيّة الجوزاء خدمة الممدوح صفة غير ممكنة» ، لأنّ النّيّة بمعنى العزم والإرادة ، يكون ممّن له إدراك ، بخلاف غيره ، وكيف كان فنيّة الجوزاء خدمة الممدوح غير ممكنة ، وهو المقصود هنا.

(٢) أي فيما قاله في الإيضاح بحث حاصله : أنّ أصل (لو) أن يكون جوابها معلولا لمضمون شرطها ، فإذا قلت : لو جئتني أكرمك ، كان التّركيب مفيدا أنّ العلّة في عدم الإكرام عدم المجيء ، وإذا قلت : لو لم تأتني لم أكرمك ، كان التّركيب مفيدا أنّ العلّة في وجود الإكرم الإتيان.

وظاهر المصنّف أنّ المعلول مضمون الشّرط ، والعلّة فيه مضمون الجزاء ، عكس ما هو مشهور المقرّر في (لو) ، ولو أجرى البيت على المقرّر فيها ، بأن جعل نية خدمة الممدوح علّة لانتطاق الجوزاء ، لكان ذلك البيت من الضّرب الأوّل من الضّربين الأوّلين ، لأنّ ثبوت الانتطاق معلوم ومحسوس ، لا يحتاج إلى دليل يحصل به العلم بثبوته.

وإذا جعل الانتطاق دليلا على كون النّيّة خدمة للممدوح كان من الضّرب الأخير من الضّربين الأخيرين ، أي كان من الضّرب الرّابع فيصحّ التّمثيل به ، وذلك لأنّ كون النّيّة خدمة الممدوح ممّا هو مجهول لا يعلمه ، بل لا يقرّ به أحد غير الشّاعر ، فحينئذ يمكن حمل كلام المصنّف في الإيضاح على هذا القسم بأن يقال : مراده فيه أنّ انتطاق الجوزاء جعل علّة ، أي دليلا على

٣٤١

لأنّ مفهوم هذا الكلام هو أن نيّة الجوزاء خدمة الممدوح علّة لرؤية عقد النّطاق عليها ، أعني لرؤية حالة شبيهة بانتطاق المنطقة ، كما يقال : لو لم تجئني لم أكرمك ، يعني أنّ علّة الإكرام هي المجيء ، وهذه صفة ثابتة قصد تعليلها بنيّة خدمة الممدوح ، فيكون من الضّرب الأوّل ، وهو الصّفة الثّابتة الّتي قصد بيان علّتها. وما قيل (١) : إنّه أراد أنّ الانتطاق صفة ممتنعة الثّبوت للجوزاء ، وقد أثبتها الشّاعر ، وعلّلها بنيّة الجوزاء خدمة الممدوح. فهو (٢) مع أنّه مخالف (٣) لصريح كلام المصنّف في الإيضاح ليس بشيء ، لأنّ حديث انتطاق الجوزاء (٤) أعني (٥) الحالة الشّبيهة بذلك ، ثابت بل محسوس (٦). والأقرب (٧) أن يجعل ـ لو ـ ههنا مثلها في قوله تعالى : [(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ

________________________________________________________

كون نيّة الجوزاء خدمة للممدوح ، فلا يتوجّه عليه ما ذكره التفتازاني بقوله : «وفيه بحث».

(١) أي في الجواب عن المصنّف ، وفي ردّ قول المعترض ، فيكون من الضّرب الأوّل ، وحاصله : أن يجعل البيت على قاعدة اللّغة ، ويكون من هذا الضّرب بأن يراد بالانتطاق ، الانتطاق الحقيقي ، وهو جعل النّطاق الحقيقي في الوسط ، لا حالة شبيهة به ، ولا شكّ أنّ رؤيته بالجوزاء غير ثابتة.

(٢) هذا ردّ لما قيل ، بوجهين : الأوّل مخالفته لما في الإيضاح ، والثّاني أنّ المراد بالانتطاق الحالة الشّبيهة به لا الحقيقي.

(٣) لأنّ كلامه صريح في أنّ المعلّل نيّة الخدمة ، والعلّة رؤية الانتطاق لا العكس كما ذكره هذا القائل.

(٤) الإضافة للبيان.

(٥) أي وحمل الانتطاق على الحقيقي مع قيام القرينة على إرادة خلافه ، وهو هيئة إحاطة النّجوم بالجوزاء إحالة للدّلالة عن وجهها فلا وجه له.

(٦) أي فلا يكون من هذا الضّرب.

(٧) أي في تخريج هذا البيت ، وحاصل ما ذكره الشّارح أنّ (لو) هنا ليست لامتناع الجواب لامتناع الشّرط ، كما هو شائع فيها ، بل للاستدلال بانتفاء الجزاء على انتفاء الشّرط لأنّ الشّرط علّة في الجزاء ، فيصحّ الاستدلال بوجود الجزاء على وجود الشّرط ، وبعدمه على عدمه ، لأنّ وجود المعلول يدلّ على وجود علّته ، وعدم وجود المعلول يدلّ على عدم علّته ، فالشّاعر

٣٤٢

لَفَسَدَتا)(١)] ، أعني الاستدلال بانتفاء الثّاني على انتفاء الأوّل ، فيكون الانتطاق علّة كون نيّة الجوزاء خدمة الممدوح ، أي دليلا عليه ، وعلّة للعلم مع أنّه وصف غير ممكن.

[وألحق به] أي بحسن التّعليل [ما بني على الشّك (١)] ولم يجعل منه ، لأنّ فيه ادعاء وإصرارا ، والشّك ينافيه (٢).

[كقوله (٣) : كأنّ السّحاب الغرّ (٤)] جمع الأغرّ ، والمراد السّحاب الماطرة الغزيرة الماء [غيّبن تحتها] أي تحت الرّبا [حبيبا فما ترقا (٥)] الأصل ترقاء بالهمز ، فخفّفت ، أي ما تسكن [لهنّ (٦) مدامع] علّل على سبيل الشّك نزول المطر من السّحاب بأنّها

________________________________________________________

جعل الانتطاق دليلا لنيّة خدمة الجوزاء للمدوح ، فاستدلّ بوجود الانتطاق في الخارج على وجود نيّته الخدمة.

والحاصل

إنّ الشّاعر كأنّه ادّعى دعوة ، وهي أنّ الجوزاء قصدها خدمة للمدوح ، واستدلّ على ذلك بدليل ، وهو لم يكن قصدها الخدمة لما كانت منتطقة ، لكن كونها غير منتطقة باطل ، لمشاهدة انتطاقها ، فبطل المقدّم ، وهو لم يكن قصدها الخدمة ، فيثبت نقيضه ، وهو المطلوب كالآية المباركة ، حيث انتفاء الفساد فيها دليل على انتفاء تعدّد الآلهة.

(١) المراد به ما يشمل الظّنّ ، إنّما جعل من ملحقاته لا داخلا فيه ، لأنّ المعتبر في حسن التّعليل هو الادّعاء والإصرار في الدّعوى.

(٢) أي ينافي الادّعاء والإصرار.

(٣) أي قول أبي تمّام.

(٤) الغرّ ، جمع الأغرّ ، والمراد من السّحاب الغرّ ، هو السّحاب الماطرة.

(٥) مهموز اللّام ، بمعنى سكن يسكن.

(٦) أي للسّحاب «مدامع» ، جمع مدمع ، ونسبة السّيلان إلى المدامع كنسبة الجريان إلى النّهر.

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢٢.

٣٤٣

غيّبت (١) حبيبا تحت تلك الرّبا ، فهي تبكي عليها (٢). [ومنه ، أي ومن المعنوي التّفريع (٣) وهو (٤) أن يثبت لمتعلّق أمر حكم بعد إثباته] أي إثباته ذلك الحكم [لمتعلّق له آخر] على وجه يشعر بالتّفريع والتّعقيب ، وهو احتراز عن نحو : غلام زيد راكب وأبوه راكب [كقوله :

أحلامكم (٥) لسقام الجهل (٦) شافية

كما دماؤكم تشفي من الكلب (٧)

________________________________________________________

(١) أي دفنت حبيبا تحت الرّبا ، فكأنّ الرّبا قبره ، والسّحاب تبكي عليه.

والحاصل إنّ الشّاعر يقول : أظنّ أو أشكّ أنّ السّحاب غيّبت حبيبا تحت الرّبا ، فمن أجل ذلك لا تنقطع دموعها ، فبكاؤها صفة عللتّ بدفن حبيب تحت الرّبا ، ولما أتى بكأنّ أفاد بأنّه لم يجزم بأنّ بكاءها لذلك التّغييب ، فقد ظهر أنّه علّل بكاءها على سبيل الشّكّ والظّنّ بتغييبها حبيبا تحت الرّبا.

(٢) أي على الرّبا لأجل الحبيب الّذي تحتها.

وأمّا الشّاهد : فقد علّل على سبيل الشّكّ حيث قال : «كأنّ السّحاب الغر ...».

(٣) وهو لغة جعل الشّيء فرعا لغيره.

(٤) أي التّفريع هنا أن يثبت لمتعلّق أمر حكم بعد إثبات ذلك الحكم لمتعلّق له آخر المراد من المتعلّق ما له نسبة وتعلّق يصحّ باعتبارها الإضافة ، كما في الأحلام والدّماء في البيت الآتي ، حيث صحّ إضافتهما إلى ضمير الجمع المراد به أهل البيت عليهم‌السلام ، والمراد من الحكم المحكوم به كالشّفاء الّذي حكم به على الأحلام والدّماء ، فقد ظهر ممّا ذكرناه أنّه لا بدّ من التّفريع من تعلّقين منسوبين إلى أمر واحد كغلام زيد وأبوه ، فزيد أمر واحد ، وله متعلّقان منسوبان أحدهما غلامه ، والآخر أبوه ، ولا بدّ من حكم واحد يثبت لأحد المتعلّقين ، وهما الغلام والأب بعد إثباته لآخر ، كأن يقال : غلام زيد فرح ففرح أبوه ، فالفرح حكم أثبت لمتعلّقي زيد ، وهما غلامه وأبوه ، وإثباته للثّاني على وجه يشعر بتفريع الثّاني على الأوّل ، وكقول الكميت في قصيدة يمدح بها أهل البيت عليهم‌السلام.

(٥) جمع حلم ، كفعل بمعنى العقل ، لا حلم كقفل ، بمعنى الرّؤيا.

(٦) وصف بالعلم التّام ، والعقل الكامل.

(٧) وصف بكونهم ملوكا وأشرافا ، والكلب على وزن فرس ، شبّه جنون يعرض للإنسان

٣٤٤

هو بفتح اللّام شبه جنون يحدث للإنسان من عضّ الكلب الكلب ، إذ لا دواء له أنجع من شرب دم ملك ، كما قال الحماسيّ (١) :

بناة (٢) مكارم وأساة (٣) كلم (٤)

دماؤكم من الكلب الشّفاء

ففرّع على وصفهم بشفاء أحلامهم من داء الجهل ووصفهم بشفاء دمائهم من داء الكلب ، يعني أنّهم ملوك وأشراف وأرباب العقول الرّاجحة. [ومنه] أي من المعنوي [تأكيد المدح بما يشبه الذّمّ ، وهو ضربان (٥) :

________________________________________________________

من عضّة الكلب ، الكلب على وزن الكتف ، بمعنى الكلب الّذي جنّ من أكل لحم الإنسان ، ولا دواء له أنجع وأنفع وأكثر تأثيرا من شرب دم ملك ، وقيل : يشق بها رجله ، ويؤخذ منه الدّم.

والشّاهد على ما يظهر من كلام الشّارح أنّه فرّع على وصفهم شفاء أحلامهم لسقام الجهل وصفهم بشفاء دمائهم من داء الكلب ، ووجه تحسين التّفريع أنّه يجعل المتعلّقين مرتبطين في الذّكر ، كما أنّهما مرتبطان في المعنى فيتطابق الذّكر والمذكور.

(١) والدّليل على كون دم الأشراف دواء لمرضى عضّ الكلب المجنون قول الحماسي.

(٢) جمع بان ، أي أنتم «بناة مكارم» ، أي أخلاق حسنة.

(٣) جمع أسّ ، وهو المداواة والعلاج.

(٤) جمع كلوم ، وهو الجراحة.

وحاصل معنى قول الحماسي : أنتم الّذين تبنون المكارم ، وترفعون أساسها بإظهارها ، وأنتم الّذين تواسوا ، أي تطيّبون الكلم ، أي جراحات القلوب من الفقر والفاقة ، وغيرهما.

وأمّا الشّاهد في بيت الكميت : «فقد فرّع على وصفهم بشفاء أحلامهم» ، أي عقولهم «لسقام الجهل وصفهم بشفاء دمائهم من داء الكلب».

وبعبارة أخرى أثبت لدمائهم أنّها تشفي من الكلب بعد أن أثبت لأحلامهم ، أي عقولهم أنّها تشفي من سقام الجهل.

(٥) الأولى أن يقول : وهو ضروب ، لأنّه بعد الفراغ من هذين الضّربين ، يقول : «ومنه» ، أي من تأكيد المدح بما يشبه الذّمّ ضرب آخر ...

٣٤٥

أفضلهما (١) أن يستثنى من صفة ذمّ منفيّة عن الشّيء صفة مدح (٢)] لذلك الشّيء [بتقدير دخولها فيها] أي دخول صفة المدح في صفة الذّم [كقوله : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم* بها فلول] جمع فلّ ، وهو الكسر في حدّ السّيف [من قراع (٣) الكتائب] أي مضاربة الجيوش [أي إن كان فلول السّيف عيبا فأثبت (٤) شيئا منه] أي من العيب [على تقدير كونه منه] أي كون الفلول من العيب ، [وهو] ـ أي هذا التّقدير ، وهو كون الفلول من العيب [محال] ، لأنّه كناية عن كمال الشّجاعة [فهو إثبات] شيء من العيب على هذا التّقدير.

________________________________________________________

(١) أي أبلغهما.

(٢) وبعبارة أخرى أن ينفي عن الممدوح صفة ذمّ ، وذلك كنفي العيب في البيت الآتي ثمّ يستثني من صفة الذّمّ المنفيّة صفة مدح ، وذلك كاستثناء فلول السّيوف عن قراع الكتائب «بتقدير» ، أي بسبب فرض المتكلّم «دخولها فيها ، أي دخول صفة المدح في صفة الذّم» ، فليس المراد بالتّقدير ادّعاء الدّخول على وجه الجزم والتّصميم ، بل فرض الدّخول على وجه الشّك المفاد من التّعليق بأداة الشّرط ، وإنّما كان ذلك من تأكيد المدح ، لأنّ الاستثناء من النّفي إثبات ، فيكون استثناء صفة المدح بعد نفي الذّمّ إثباتا للمدح ، فجاء فيه تأكيد المدح ، لأنّ نفي صفة الذّمّ على وجه العموم أوّلا حتّى لا يبقى ذمّ في المنفي عنه أيضا مدح.

(٣) القراع بكسر القاف المضاربة بالسّيوف ، «الكتائب» جمع كتيبة ، وهي الجماعة المستعدّة للقتال من المائة إلى الألف ، وتسمّى تلك الجماعة بالجيش ، كما أشار إليه بقوله : «أي مضاربة الجيوش».

وأما الشّاهد :

فالعيب صفة ذمّ منفيّة على سبيل العموم والاستغراق ، قد استثنى منها صفة مدح ، وهو أنّ سيوفهم ذوات فلول ، أي إن كان فلول السّيف عيبا ثبت العيب وإلّا فلا.

(٤) أي فأثبت الشّاعر شيئا من العيب على فرض كون فلول السّيف من العيب ، وهو ، أي كون الفلول عيبا محال ، لأنّه كناية عن كمال الشّجاعة والشّجاعة من الملكات المستحسنة ، فكيف يكون عيبا.

٣٤٦

[في المعنى تعليق بالمحال (١)] ، كما يقال (٢) : حتّى يبيّض القارّ وحتّى يلج الجمل (٣) في سم الخياط ، [والتّأكيد فيه (٤)] أي في هذا الضّرب [من جهة أنّه (٥) كدعوى الشّيء ببيّنة] لأنّه علّق المدّعى ، وهو إثبات شيء من العيب بالمحال ، والمعلّق بالمحال محال ، فعدم العيب محقّق. [و] من جهة [أنّ الأصل في] مطلق [الاستثناء (٦)] هو [الاتّصال (٧)] أي كون المستثنى منه بحيث يدخل فيه المستثنى على تقدير السّكوت عنه ، وذلك لما تقرّر في موضعه من أنّ الاستثناء المنقطع مجاز (٨) ،

________________________________________________________

(١) وإنّما قال في المعنى ، لأنّه ليس من اللّفظ تعليق أيّ أداة شرط.

(٢) لا أفعله «حتّى يبيّض القار» أي الزّفت.

(٣) أي حتّى يدخل الجمل «في سم الخياط» ، أي في ثقب الإبرة ، وثبوت هذا الشّرط في المثالين محال ، ففعل ذلك الشّيء محال أيضا.

(٤) أي وتأكيد المدح في هذا الضّرب الّذي هو استثناء صفة مدح من صفة ذم منفيّة على تقدير دخولها فيها.

(٥) أي إثبات المدح في هذا الضّرب «كدعوى الشّيء ببيّنة» ، أي كإثبات المدّعى بالبيّنة ، أي بالدّليل ، لأنّ المتكلّم علّق ثبوت العيب الّذي هو نقيض المدّعى على كون المستثنى عيبا ، وكونه عيبا محال ، والمعلّق على المحال محال ، فيكون ثبوت العيب فيهم محالا ، فيلزم ثبوت نقيضه ، وهو عدم العيب الّذي هو المدّعى.

(٦) أي سواء كانت أداته لفظة إلّا أو غيرها ، كلفظة غير في البيت ، وكلفظة بيد ونحوهما.

(٧) أي كون المستثنى من جنس المستثنى منه.

(٨) يريدون به أنّ استعمال أداة الاستثناء في الاستثناء المنقطع مجاز ، وذلك لأنّ وضع الأداة للإخراج ، ولا إخراج في المنقطع.

وأمّا إطلاق لفظ الاستثناء على المنقطع فهو حقيقة اصطلاحا ، كإطلاقه على المتّصل ، وقيل : بل المراد إنّ إطلاق لفظ الاستثناء على المنقطع مجاز أيضا ، لأنّ لفظ الاستثناء معناه صرف العامل عن تناول المستثنى هذا ، ولكنّ الظّاهر من كلام المصباح هو القول الأوّل ، لأنّ الأصل في الاستثناء الاتّصال فيفهم ، أوّلا بناء على الأصل أنّه أريد إخراج ما دخل «ممّا

٣٤٧

وإذا كان الأصل في الاستثناء الاتّصال [فذكر أداته قبل ذكر ما بعدها] ، يعني المستثنى [يوهم إخراج شيء] وهو المستثنى [ممّا قبلها] ، أي ما قبل الأداة وهو المستثنى منه ، [فإذا وليها] ، أي الأداة [صفة مدح] ، وتحوّل (١) الاستثناء من الاتّصال إلى الانقطاع [جاء التّأكيد] لما فيه (٢) من المدح على المدح ، أي لما في الاستثناء من المدح ، والإشعار بأنّه لم يجد صفة ذمّ حتّى يستثنيها ، فاضطرّ إلى استثناء صفة كدح ، وتحويل الاستثناء إلى الانقطاع.

[و] الضّرب [الثّاني] من تأكيد المدح بما يشبه الذّم [أن يثبت لشيء صفة مدح تعقّب (٣) بأداة استثناء] أي يذكر عقب إثبات صفة المدح لذلك الشّيء أداة استثناء

________________________________________________________

قبلها» ، أي ممّا قبل أداة الاستثناء ، أعني المستثنى منه

(١) المراد بتحوّله من الاتّصال إلى الانقطاع ظهور أنّ المراد به الانقطاع ، فكأنّه قال : فإذا ولي الأداة صفة مدح ، وظهر أن المراد بالاستثناء الانقطاع بعد ما توهّم الاتّصال من مجرّد ذكر الأداة.

(٢) أي لما في الاستثناء من المدح ، أي من زيادة المدح على المدح ، فالمدح الأوّل المزيد عليه جاء من نفي العيب على جهة العموم ، حيث قال : لا عيب فيهم ، إذ من المعلوم أنّ نفي صفة الذّمّ على وجه العموم حتّى لا يبقى في المنفي عنه ذمّ مدح.

والمدح الثّاني المزيد إشعار الاستثناء لصفة المدح بأنّه لم يجد صفة ذمّ يستثنيها ، لأنّ الأصل في الإتيان بالأداة بعد عموم النّفي استثناء الإثبات من جنس المنفي وهو الذّمّ ، فلمّا أتى بالمدح بعد الأداة فهم منه أنّه طلب الأصل الّذي ينبغي ارتكابه ، فلم يجد ذلك الأصل الّذي هو استثناء الذّمّ اضطرّ إلى استثناء المدح ، وحوّل الاستثناء عن أصله إلى الانقطاع.

والحاصل :

إنّ في هذا الاستثناء زيادة المدح على المدح فيحصل التّأكيد والإشعار بأنّه لم يجد صفة ذم حتّى يستثنيها ، فاضطرّ إلى استثناء صفة مدح وتحويل الاستثناء إلى الانقطاع.

إلى هنا كان الكلام في الضّرب الأوّل الّذي هو أفضل الضّربين.

(٣) أي تلك الصّفة «بأداة استثناء».

٣٤٨

[تليها (١) صفة مدح أخرى له] أي لذلك الشّيء [نحو (٢) .. أنا أفصح العرب بيد أنّي من قريش] ، بيد بمعنى غير ، وهو أداة الاستثناء [وأصل الاستثناء فيه] أي في هذا الضّرب [أيضا يكون منقطعا] كما أنّ الاستثناء في الضّرب الأوّل منقطع لعدم دخول المستثنى في المستثنى منه (٣).

وهذا (٤) لا ينافي (٥) كون الأصل في مطلق الاستثناء هو الاتّصال ، [لكنّه] أي الاستثناء المنقطع في هذا الضّرب [لم يقدّر متّصلا] كما قدّر في الضّرب الأوّل ، إذ ليس هنا صفة ذمّ منفيّة عامّة يمكن تقدير دخول صفة المدح فيها (٦) ،

________________________________________________________

(١) أي تلي تلك الأداة ، وتأتي بعدها صفة مدح أخرى لذلك الشّيء الموصوف بالأولى.

(٢) أي نحو قول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و (بيد) بمعنى غير ، لأنّ صحّة التّمثيل مبنيّة على ذلك ، وأمّا على ما قاله ابن هشام في المغني من أنّ (بيد) في هذا الحديث حرف تعليل بمعنى من أجل ، والمعنى أنا أفصح العرب لأجل أنّي من قريش ، فلا يكون من هذا الباب.

(٣) في كلا الضّربين ، أما في الضّرب الأوّل فلأنّ المفروض أنّ المراد حسبما بيّنّاه أن يستثنى من العيب خلافه ، فلم يدخل المستثنى في المستثنى منه ، فيجب أن يكون الاستثناء فيه منقطعا.

وأمّا في الضّرب الثّاني فلانتفاء العموم في المستثنى منه ، فلم يدخل المستثنى في المستثنى منه ، وذلك لأنّ كلّ واحد ممّا ذكر في هذا الضّرب قبل أداة الاستثناء وبعدها صفة خاصّة ، فلا يكون المذكور بعد الأداة داخلا فيما قبل الأداة ، فيجب أن يكون الاستثناء فيه أيضا منقطعا.

(٤) أي كون أصل الاستثناء في هذا الضّرب الثّاني هو الانقطاع.

(٥) وجه عدم التّنافي في أنّ أصالة الانقطاع إنّما هو بالنّسبة إلى خصوص هذا الضّرب الثّاني ، وأصالة الاتّصال إنّما هو بالنّسبة إلى مطلق الاستثناء ، وذلك كمطلق الحيوان والعقرب ، فإنّ الأصل في الأوّل أن يكون بصيرا ، وفي الثّانية على ما قيل أن تكون عمياء ، فلا يكون بينهما تناف.

(٦) أي صفة الذّمّ.

٣٤٩

وإذا لم يمكن تقدير الاستثناء متّصلا في هذا الضّرب [فلا يفيد (١) التّأكيد إلّا من الوجه الثّاني (٢)] وهو أنّ ذكر (٣) أداة الاستثناء قبل ذكر المستثنى يوهم إخراج شيء ممّا قبلها من حيث إنّ الأصل في مطلق الاستثناء هو الاتّصال ، فإذا ذكر بعد الأداة صفة مدح أخرى جاء التّأكيد. ولا يفيد التّأكيد من جهة أنّه كدعوى الشّيء ببيّنة (٤) ، لأنّه مبنيّ على التّعليل بالمحال المبني على تقدير الاستثناء متّصلا.

[ولهذا] أي ولكون التّأكيد في هذا الضّرب من الوجه الثّاني فقطّ [كان] الضّرب [الأوّل] المفيد للتّأكيد من وجهين [أفضل.

ومنه] أي ومن تأكيد المدح بما يشبه الذّمّ [ضرب آخر] وهو أن يؤتى بمستثنى فيه معنى المدح معمولا لفعل فيه معنى الذّمّ [نحو : (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا)(١) (٥)] ، أي ما تعيب منّا إلّا أصل المناقب والمفاخر وهو الإيمان ، يقال : نقم منه ،

________________________________________________________

(١) أي فلا يفيد هذا الضّرب الثّاني «التّأكيد ...».

(٢) أي الوجه الثّاني من الوجهين المذكورين في الضّرب الأوّل.

(٣) حاصله :

إنّ الإخراج في هذا الضّرب من صفة المدح المثبتة فيوهم قبل ذكر المستثنى أنّه صفة مدح أريد إخراجها من المستثنى منه ، ونفيها عن الموصوف ، لأنّ الاستثناء من الإثبات نفي ، فإذا تبيّن بعد ذكره أنّه أريد إثباته له أيضا أشعر بذلك بأنّه لم يمكنه نفي شيء من صفات المدح عنه ، فيجيء التّأكيد.

(٤) لأنّه كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قريش لا يكون بيّنة على أنّه أفصح العرب.

(٥) وقد أتى في هذا المثال بأداة الاستثناء بعدها صفة مدح ، وهي الإيمان والفعل المنفي فيه معنى الذّمّ ، لأنّه من العيب ، فهو في تأويل لا عيب فينا إلّا الإيمان ، إن كان عيبا لكنّه ليس بعيب ، وحينئذ فلا عيب فينا ، فهو بمنزلة «ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول» ، فيفيد هذا الضّرب ما يفيده الضّرب الأوّل من التّأكيد بالوجهين ، وهما أنّ فيه من التّعليق ما هو كإثبات الشّيء بالبيّنة ، وأنّ فيه الإشعار بطلب ذمّ فلم يجده ، فاستثنى المدح وهو ظاهر.

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٢٦.

٣٥٠

وانتقم إذا عابه وكرهه ، وهو كالضّرب الأوّل في إفادة التّأكيد من وجهين (١) [والاستدراك] المفهوم من لفظ لكن (٢) [في هذا الباب (٣)] أي باب تأكيد المدح بما يشبه الذّمّ [كالاستثناء (٤) كقوله :

هو البدر (٥) إلّا أنّه البحر زاخرا

سوى أنّه الضّرغام لكنّه الوبل (٦)

فقوله : إلّا وسوى استثناء ، مثل : بيد أنّي من قريش ، وقوله : لكنّه ، استدراك يفيد فائدة الاستثناء في هذا الضّرب ، لأنّ إلّا في الاستثناء المنقطع بمعنى لكن. [ومنه] أي ومن المعنوي : [تأكيد الذّم بما يشبه المدح (٧)] وهو ضربان : أحدهما (٨)

________________________________________________________

(١) وقد عرفت التّأكيد من وجهين فلا حاجة إلى الإعادة.

(٢) أي الدّال عليه لفظ لكن.

(٣) لم يقل : فيه ، لئلّا يتوهّم عود الضّمير إلى الضّرب الأخير خاصّة.

(٤) أي في إفادة المراد ، وهو تأكيد الشّيء بما يشبه نقيضه ، وحينئذ فيراد بالاستثناء المذكور في تعريف الضّربين ما يعمّ الاستدراك ، وإنّما كان الاستدراك كالاستثناء في هذا الباب ، لأنّهما من واد واحد ، إذ كلّ منهما لإخراج ما هو بصدد الدّخول وهما أو حقيقة ، فإنّك إذا قلت في الاستدراك : زيد شجاع لكنّه بخيل ، فهو لإخراج ما يتوهّم ثبوته من الشّجاعة ، لأنّ الشّجاعة تلائم الكرم ، كما أنّك إذا قلت في الاستثناء : جاء القوم إلّا زيدا ، فهو لإخراج ما أوهم من عموم النّاس دخوله ، وإن كان الإيهام في الأوّل بطريق الملاءمة ، وفي الثّاني بطريق الدّلالة الّتي هي أقوى ، فإذا أتى بصفة مدح ثمّ أتى بعد أداة الاستدراك بصفة مدح أخرى أشعر الكلام بأنّ المتكلّم لم يجد حالا يستدركه على الصّفة الأولى غير ملائم لها الّذي هو الأصل ، فأتى بصفة مدح مستدركة على الأولى ، فيجيء التّأكيد كما تقدّم في الضّرب الثّاني من الاستثناء.

(٥) أي من جهة الرّفعة والشّرف حال كونه زاخرا ، أي مرتفعا من تلاطم الأمواج ، «إلّا أنّه البحر» من جهة الكرم.

(٦) جمع وابل وهو المطر الغزير ، «الضّرغام» هو الأسد شجاعة وقوة.

(٧) أي النّوع المسمّى بذلك.

(٨) أي مثل الأوّل في تأكيد المدح بما يشبه الذّمّ.

٣٥١

أن يستثنى من صفة مدح منفيّة عن الشّيء صفة ذمّ بتقدير (١) دخولها] أي صفة الذّم [فيها] ، أي في صفة المدح (٢) [كقولك : فلان لا خير فيه إلّا أنّه يسيء إلى من أحسن إليه (٣).

وثانيهما (٤) : [أن يثبت للشّيء صفة ذمّ ، وتعقّب بأداة استثناء تليها صفة ذمّ أخرى له] أي لذلك الشّيء ، [كقولك : فلان فاسق إلّا أنّه جاهل] فالضّرب الأوّل يفيد التّأكيد من وجهين ، والثّاني من وجه واحد.

[وتحقيقهما (٥) على قياس ما مرّ] في تأكيد المدح بما يشبه الذّمّ.

[ومنه] أي ومن المعنوي ، [الاستتباع : وهو المدح بشيء على وجه يستتبع المدح

________________________________________________________

(١) أي بواسطة تقدير أو على تقدير ...

(٢) ومعلوم أنّ نفي صفة المدح ذمّ ، فإذا أثبت صفة ذمّ بعد هذا النّفي الّذي هو ذمّ جاء التّأكيد ، كما تقدّم في تأكيد المدح.

(٣) فقد نفيت صفة مدح ، وهي الخيريّة ، ثمّ استثنيت بعد هذا النّفي الّذي هو ذمّ صفة هي كونه يسيء لمن أحسن إليه ، فيجري فيه ما تقدّم في الضّرب الأوّل في تأكيد المدح ، لأنّه لما كان فيه تقدير الاتّصال لوجود العموم على أن يكون المعنى لا خير فيه إلّا الإساءة للمحسن ، إن كانت خيرا كان فيه التّعليق بالمحال ، فيكون كإثبات الذّمّ بالبيّنة ، وكان فيه أيضا من كون الأصل في الاستثناء الاتّصال الإشعار بأنّه طلب الأصل هو استثناء المدح ليقع الاتّصال ، فلمّا لم يجده استثنى ذمّا ، فجاء فيه ذمّ على ذمّ بوجه أبلغ.

(٤) أي وثاني الضّربين هنا كالثّاني في تأكيد المدح ، «فهو أن يثبت للشّيء صفة ذمّ وتعقّب» تلك الصّفة «بأداة استثناء تليها» ، أي تلي تلك الأداة «صفة ذمّ أخرى ، كقولك : فلان فاسق إلّا أنّه جاهل» ، والاتّصال الّذي يكون معه التّعليق بالمحال لا يوجد فيها أيضا كما تقدّم ، فلا يفيد التّأكيد بالوجه الأوّل ، كما في الضّرب الأوّل ، وإنّما يفيده بالثّاني وهو أن الاستثناء لما كان أصله الاتّصال فالعدول عن الاتّصال إلى الانفصال يشعر بأنّه طلب استثناء المدح فلم يجده ، فأتى بالذّمّ بوجه أبلغ.

فقد تبيّن أن الضّرب الأوّل يفيد بالوجهين ، والثّاني يفيد من وجه واحد.

(٥) أي وتحقيق الضّربين في إفادة التّأكيد من وجهين ، أو من وجه واحد ، «على قياس ما مرّ» في تأكيد المدح بما يشبه الذّمّ ، فراجع.

٣٥٢

بشيء آخر ، كقوله (١) :

نهبت (٢) من الأعمار ما لو حويته

لهنئت الدّنيا بأنّك خالد

مدحه بالنّهاية في الشّجاعة] حيث جعل قتلاه بحيث يخلّد وارث أعمارهم [على وجه (٣) استتبع مدحه بكونه سببا لصلاح الدّنيا ونظامها] إذ لا تهنئة لأحد بشيء لا فائدة فيه ، قال علي بن عيسى الرّبعي : [وفيه] ، أي في البيت وجهان آخران من المدح (٤) أحدهما [أنّه (٥) أنّه نهب الأعمار دون الأموال] كما هو مقتضى علوّ الهمّة (٦) ، وذلك مفهوم من تخصيص الأعمار بالذّكر ، والإعراض عن الأموال مع أنّ النّهب بها أليق ، وهم

________________________________________________________

(١) أي كقول أبي الطّيّب في مدح سيف الدّولة :

(٢) أي أخذت على وجه القهر والاختطاف «من الأعمار ما لو حويته» ، أي لو اشتمل عليه عمرك «لهنئت الدّنيا» ، أي لقيل للدّنيا هنيئا لك «بأنّك» فيها «خالد» ، والشّاهد فيه أنّ الشّاعر قد مدحه بالنّهاية في الشّجاعة إذا كثر قتلاه بحيث لو ورث أعمارهم لخلد في الدّنيا.

(٣) متعلّق بقوله : «مدحه» ، والمراد من الوجه كون الدّنيا مهنئة بخلوده لو ورث أعمار المقتولين ، وهذا الوجه استتبع ، أي استلزم مدحه بكونه سببا لصلاح الدّنيا ونظامها ، حيث جعل الدّنيا مهنأة بخلوده ، ولا معنى لتهنئة أحد بشيء لا فائدة منه.

والحاصل إنّ الشّاعر لما مدحه بنهاية الشّجاعة ، وجعل خلوده تهنأ به الدّنيا كان مدحه على الوجه المذكور مستتبعا ومستلزما لمدحه بكونه سببا لصلاح الدّنيا وحسن نظامها ، لأنّ المراد بتهنئة الدّنيا تهنئة أهلها ، فلو لم يكن للممدوح فائدة لأهل الدّنيا ما هنئوا ببقائه إذ لا تهنئة لأحد لا فائدة فيه

(٤) أي غير الاستتباع ، فقول التفتازاني «قال علي بن عيسى الرّبعي» إشارة إلى أنّ استخراج هذين الوجهين الآخرين ليس للخطيب كما هو ظاهر المتن ، بل هو ناقل لذلك عن الرّبعي ، ففيه إشارة إلى الاعتراض على الخطيب.

(٥) أي الممدوح.

(٦) وأنّ همته إنّما تتعلّق بمعاني الأمور دون الأموال ، لأنّ الّذي يميل للمال إنّما هو

٣٥٣

يعتبرون ذلك في المحاورات والخطابيات وإن لم يعتبره أئمّة الأصول (١). [و] الثّاني [أنّه لم يكن ظالما في قتلهم (٢)] وإلّا لما كان للدّنيا سرور بخلوده. [ومنه] أي ومن المعنوي : [الإدماج (٣)] يقال ـ أدمج الشّيء في ثوبه إذا لفّه فيه [وهو أن يضمن كلام سيق لمعنى] مدحا كان أو غيره [معنى آخر] وهو منصوب مفعول ثان ليضمن ، وقد أسند إلى المفعول الأوّل [فهو] لشموله المدح وغيره [أعمّ من الاستتباع] لاختصاصه بالمدح [كقوله (٤) : اقلب فيه] أي في ذلك اللّيل (٥)

________________________________________________________

ذو الهمة الدّنيّة ، فالعدول عن الأموال إلى الأعمار إنّما هو لعلوّ الهمّة ، وذلك ممّا يمدح به.

(١) فلا يفيد الحصر عندهم ، لأنّه لقب ، وهو لا مفهوم له كقولك : على زيد حجّ.

(٢) أي قتل مقتوليه ، لأنّه لم يقصد بذلك إلّا صلاح الدّنيا وأهلها ، وذلك لأنّ تهنئة الدّنيا إنّما تهنئة لأهلها ، فلو كان ظالما في قتل من قتل لما كان لأهل الدّنيا سرور بخلوده ، بل يكون سرورها بهلاكه ، ومن المعلوم أنّ كونه غير ظالم مدح ، فهم من التّهنئة لاستلزامها إيّاه ، فالمدح الأوّل لازم للمعنى الّذي جعل أصلا ، وهو النّهاية في الشّجاعة.

والمدح الثّاني : لازم للمعنى الّذي جعل مستتبعا ، وهو كونه سببا لصلاح الدّنيا.

(٣) الإدماج في اللّغة بمعنى أدمج الشّيء في الثّوب إذا لفّ فيه ، وهو اصطلاحا «أن يضمن كلام» ، أي أن يجعل المتكلّم الكلام الّذي سيق لمعنى مدحا كان ذلك المعنى أو غيره ، معنى آخر ، وهذا أعنى معنى آخر «منصوب مفعول ثان ليضمن وقد أسند» ، «يضمن» إلى المفعول الأوّل ، وهو قوله : كلام.

والحاصل إنّ قوله : «يضمن» على صيغة المبني للمفعول ، والنّائب هو «كلام» ، وقوله : «سيق لمعنى» ، نعت ل «كلام» ، وقوله : «معنى آخر» المفعول الثّاني ل «يضمن» فهو منصوب به بعد أن رفع المفعول الأوّل بالنّيابة ، وقوله : معنى آخر أعمّ من أن يكون مدحا أو غيره ، وفهم من قوله «يضمن» أنّ هذا المعتى الثّاني يعني المعنى الآخر يجب أن لا يكون مصرّحا به ، ولا يكون في الكلام إشعار بأنّه مسوق لأجله ، وإلّا لم يكن ذلك من الإدماج.

(٤) أي قول أبي الطّيب.

(٥) عبّر بالمضارع لدلالته على تكرّر تقليب الأجفان ليلا ، وهو دليل على السّهر

٣٥٤

[أجفاني كأنّي* أعدّ بها على الدّهر الذّنوبا ، فإنّه ضمن وصف اللّيل بالطّول الشّكاية من الدّهر].

[ومنه] أي من المعنوي : [التّوجيه] ويسمّى محتمل الضّدين [وهو إيراد الكلام محتملا لوجهين مختلفين] أي متباينين متضادّين كالمدح والذّم مثلا ، ولا يكفي مجرّد احتمال معنيين متغايرين (١) [كقول من قال لأعور : ليت عينيه سواء] ، فإنّه يحتمل تمنّي صحّة العين العوراء ، فيكون دعاء له ، والعكس فيكون دعاء عليه.

قال [السّكّاكي : ومنه] أي ومن التّوجيه [متشابهات القرآن باعتبار] وهو احتمالها (٢) لوجهين مختلفين وتفارقه (٣) باعتبار آخر وهو عدم استواء الاحتمالين لأنّ أحد المعنيين في المتشابهات قريب ، والاخر بعيد لما ذكره السّكّاكي نفسه من أنّ أكثر متشابهات القرآن من قبيل التّورية والإيهام ، ويجوز أن يكون وجه المفارقة هو أنّ المعنيين في المتشابهات لا يجب تضادّهما.

________________________________________________________

والأجفان جمع جفن ، كفلس ، وهو غطاء العين من أعلى وأسفل. كأنّي في حالة تقليبها «أعدّ بها» ، أي بالأجفان ، أي بتحريكها وتقليبها ، فجعل أجفانه كالسّبحة أو الأصابع يعدّ بها على الدّهر «الذّنوبا» ، أي ذنوب الدّهر الّتي فعلها معه من تفريقه بينه وبين الأحبّة ، ومن عدم استقامة الحالة ، فليس المراد ذنوب الشّاعر الّتي فعلها في الدّهر إذ لا معنى لعدّها على الدّهر.

وأمّا الشّاهد : «فإنّه ضمن وصف اللّيل بالطّول» ، وهو المعنى المسوق له الكلام أولا ، فأدمج فيه «الشّكاية» من الدّهر ، فلو صرّح بالشّكاية أوّلا لم يكن ذلك من الإدماج.

(١) كأن يقال : رأيت العين في مقام يحتمل العين الجارية والباكية مثلا على السّواء ، فإنّه ليس من التّوجيه ، لأنّ المعنيين متغايرين ، ولا تضادّ بينهما ، وإنّما التّوجيه «كقول من قال لأعور : ليت عينيه سواء» ، فإنّه يحتمل تمنّي أن تصير العين العوراء صحيحة ، فيكون مدحا وتمنّي خير ، وبالعكس فيكون ذمّا.

(٢) أي احتمال المتشابهات في الجملة لوجهين مختلفين ، فبهذا الاعتبار تكون متشابهات القرآن من التّوجيه.

(٣) أي وتفارق المتشابهات التّوجيه باعتبار آخر ، وهو عدم استواء الاحتمالين ، يعني لأنّ أحد المعنيين المتشابهين قريب ، وهو غير مراد ، والآخر بعيد وهو المراد بالقرينة.

٣٥٥

[ومنه] أي ومن المعنوي : [الهزل الّذي يراد به الجدّ ، كقوله :

إذا ما تميمي أتاك مفاخرا

فقل : عدّ عن ذا كيف أكلك للضّبّ (١)]

[ومنه] أي ومن المعنوي : [تجاهل العارف ، وهو كما سماه السّكّاكي سوق المعلوم مساق (٢) غيره لنكتة] وقال : (٣) لا أحبّ تسميته بالتّجاهل لوروده في كلام الله تعالى (٤)

________________________________________________________

وإنّما قلنا : إنّ المتشابهين منهما قريب وبعيد لما ذكر السّكّاكي نفسه من أنّ أكثر متشابهات القرآن من قبيل التّورية والإيهام ، ومعلوم أنّ التّورية الّتي هي الإيهام إنّما تتصوّر في معنى قريب وبعيد ، كما تقدّم ، ويجوز أن يكون وجه المفارقة بين التّوجيه والمتشابهات هو أن المعنيين في المتشابهات لا يجب تضادّهما بخلاف التّوجيه.

وكيف كان فالحقّ أنّ المتشابهات من التّورية لا من التّوجيه لما سبق من اشتراط استواء الاحتمالين فيه ، فإذا ثبت في بعضها أنّه يحتمل الضّدين على السّواء كان من التّوجيه.

(١) وأمّا الشّاهد : فهو أنّ قولك للتّميمي وقت مفاخرته بحضورك : لا تفتخر ، وقل لي كيف أكلك للضّبّ ، هزل ظاهر لكنّك تريد به الجدّ ، وهو ذمّ التّميمي ـ بأكله الضّبّ ، وأنّه لا مفاخرة مع ارتكابه أكل الضّبّ الّذي لا يرتكبه أشراف النّاس ، وعلم من هذا أن الهزليّة باعتبار استعمال الكلام ، والجدّيّة باعتبار ما قصد منه.

(٢) المساق مصدر ميمي السّوق ، أي سوق المعلوم سوقا كسوق غيره ، أي كسوق المجهول ، وذلك بأن يعبّر عنه بما يدلّ على أنّه مجهول ، وذلك «لنكتة» ، أي لفائدة ، وهو متعلّق بتجاهل العارف ، فلو عبّر عن المعلوم بعبارة المجهول لا لنكتة كأن يقال : هل زيد في الدّار ، حيث يعلم أنّه في الدّار ، ولا نكتة في الاستفهام ، لم يكن لك من المحسّنات بل يكون لغوا لا يليق بالبلغاء.

(٣) أي قال السّكّاكي أيضا «لا أحب تسميته ...».

(٤) كقوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى)(١) ، وتسمية الكلام المنسوب إلى الله تعالى بتجاهل العارف إساءة أدب ، بخلاف تسميته بسوق المعلوم مساق غيره ، فإنّه أقرب إلى الأدب من الأوّل ، وإن كان الغير فيها عبارة عن المجهول ، لكنّ دلالتها عليه ليست بصريحة ،

__________________

(١) سورة طه : ١٧.

٣٥٦

[كالتّوبيخ في قول الخارجيّة : أيا شجر الخابور] هو نهر من ديار بكر [ما لك مورقا] ، أي ناضرا ذا ورق كأنّك لم تجزع على ابن طريف. والمبالغة في المدح ، كقوله : (١)

ألمع برق سريّ أم ضوء مصباح

أم ابتسامتها بالمنظر (٢) الضّاحي

________________________________________________________

فتكون أستر. وأمّا النّكتة فهي كالتّوبيخ في قول الخارجيّة هي ليلى بنت طريف ترثي أخاها الوليد ، حين قتله يزيد بن المزيد الشّيباني

أيا شجر الخابور مالك مورقا

كأنّك لم تجزع على ابن طريف

قال في معجم البلدان : الخابور اسم لنهر كبير بين رأس عين والفرات من أرض الجزيرة ، وقال فيه أيضا : ديار بكر ، هي بلاد كبيرة واسعة تنسب إلى بكر بن وائل.

والشّاهد إنّ الشّاعرة تعلم أنّ الشّجر لم يجزع على ابن طريف ، لأنّ الجزع لا يكون إلّا من العاقل ، لكنّها تجاهلت ، فأظهرت أنّه من ذوي العقول ، وأنّه يجزع عليه جزعا يوجب ذبوله ، وأنّه لا يخرج ورقه ، فاستعملت لفظ كأنّ الدّال على الشّكّ في جزعه ، وإذا كان الشّجر يوبخ على عدم الجزع فغيره أحرى بأن يكون موبخا.

فالتّجاهل هنا المؤدّي لتنزيل غير العالم منزلة العالم ، صار وسيلة للتّوبيخ على كونه مورقا ناضرا لا ذابلا ، ووسيلة إلى ادّعاء أنّ مآثره بلغت إلى حيث تعلم بها الجمادات ، ولو لا ذلك التّنزيل والادّعاء لما حسن التّوبيخ.

(١) أي قول البحتري :

(٢) أراد بالمنظر الوجه ، والضّاحي هو الظّاهر حسّا ومعنى ، فإنّه يعلم أن ليس إلّا ابتسامتها ، فلما تجاهل وأظهر أنّه التبس عليه الأمر ، فلم يدر هل ذلك اللّمعان المشاهد من أسنانها عند الابتسام لمع برق سريّ أم هو ضوء مصباح ، أم هو ضوء ابتسامتها الكائنة في منظرها الضّاحي.

أفاد التّجاهل المنزّل منزلة الجهل غاية المدح ، وأنّها بلغت إلى حيث يتحيّر في الحاصل منها ، ويلتبس المشاهد منها.

وأمّا الشّاهد : فهو أنّ البحتري تجاهل ، وادّعى أنّه التبس عليه الأمر ، والدّليل على ذلك أنّه بالغ في مدح ابتسامتها حيث لم يفرق بينها وبين لمع البرق ، وضوء المصباح.

٣٥٧

أي الظّاهر [أو] المبالغة [في الذّمّ كقوله : وما أدري وسوف إخال (١)] أي أظنّ ، وكسر همزة المتكلّم فيه هو الأفصح ، وبنو أسد تقول : أخال ، بالفتح ، وهو القياس [أدري* أقوم آل حسين أم نساء] فيه دلالة على أنّ القوم هم الرّجال خاصّة. [والتّدلّه] ، أي وكالتّحيّر والتّدهّش (٢) [في الحبّ في قوله : بالله يا ظبيّات القاع] وهو المستوى (٣) من الأرض [قلن لنا* ليلاي منكنّ أم ليلى من البشر] وفي إضافة ليلى إلى نفسه أوّلا والتّصريح باسمها (٤) ثانيا استلذاذ (٥) ، وهذا أنموذج (٦) من نكت التّجاهل ، وهي أكثر من أن يضبطها القلم.

________________________________________________________

(١) تمام البيت :

وما أدري وسوف أخال أدري

أقوم آل حصين أم نساء

والشّاهد في أنّه ، أي زهير يعلم أنّ آل حصين رجال لكنّه تجاهل ، وأظهر أنّه التبس عليه أمرهم في الحال ، ولو كان سيعلم في المستقبل فلم يدر في الحال هل هم رجال أم نساء ، فتجاهله المنزّل منزلة الجهل فيه إظهار المبالغة في ذمّهم بأنّهم بحيث يلتبسون بالنّساء في قلّة فائدتهم ، فكان هذا التّجاهل إظهار لنهاية الذّمّ وأنّهم بمنزلة النّساء. هذا معنى المبالغة في الذّمّ.

(٢) أي ذهاب العقل بسبب العشق ، وبعبارة أخرى يتجاهل العارف للتّدلّه في الحبّ ، وذلك كما في قول الحسين بن عبد الله :

بالله يا ظبيّات القاع قلن لنا

ليلاي منكنّ أم ليلى من البشر

والشّاهد في أنّه يعلم أنّ ليلى من البشر ، فتجاهلها وأظهر أنّه أدهشه الحبّ حتّى لا يدري هل هي من الظّبيّات الوحشيّة أم من البشر؟! فلذلك سأل الظّبيّات عن حالها.

(٣) أي الأرض المستوية.

(٤) أي باسمها الظّاهر.

(٥) أي استلذاذ أكثر من عدم الإضافة ، ومن الإضمار.

(٦) والأنموذج بالهمزة تصحيف ، يعني مع كونه تصحيفا جرى على الألسن ، وإنّما قلنا : إنّها أنموذج من نكت التّجاهل ، لأنّها أكثر من أن تضبط بالقلم.

٣٥٨

[ومنه] أي ومن المعنوي : [القول (١) بالموجب ، وهو ضربان : أحدهما أن تقع صفة في كلام الغير (٢) كناية عن شيء أثبت له] ، أي لذلك الشّيء [حكم فتثبّتها لغيره] ،

________________________________________________________

فمنها التّعريض ، كما في قوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١) تعريضا بأنّهم على الضّلال.

ومنها التّحقير ، كقوله المعروف : (ما هذا) ، إشارة إلى أنّه أحقر من أن يعرف.

ومنها غير ذلك من الاعتبارات البلاغيّة المستفادة من تتبّع تراكيب الشّعراء أو غيرهم.

(١) المراد بالقول الاعتراف ، أي اعتراف المتكلّم بما يوجبه كلام المخاطب ، وبعبارة أخرى : تسليم المتكلّم دليل الخصم مع بقاء النّزاع إمّا بإثبات مناط مقصوده في شيء آخر ، كما في الضّرب الأوّل وإمّا بحمل اللّفظ في كلامه على غير ما قصده ، كما في الضّرب الثّاني ، وأمّا لفظ الموجب فهو بكسر الجيم ، اسم فاعل ، لأنّ المراد به كما يأتي غير ما قصده ، كما في الضّرب الثّاني ، ويحتمل أن يكون بفتح الجيم اسم مفعول ، فيكون المراد منه حينئذ القول بالحكم الّذي أوجبته الصّفة ، أو القول بالمعنى الآخر الّذي يكون للّفظ ، فاتّضح بما قدّمنا قوله : «وهو ضربان : أحدهما أن تقع صفة في كلام الغير».

(٢) كالأعزيّة ، فإنّه صفة وقعت في كلام المنافقين «كناية عن شيء» ، أي عن فريقهم «أثبت له» ، أي لذلك الشّيء ، أي لفريقهم «حكم» ، والمراد بالحكم في الآية الإخراج ، «فتثبتها لغيره» ، أي «فتثبت أنت في كلامك تلك الصّفة» ، أي الأعزيّة «لغير ذلك الشّيء» ، أي لغير المنافقين ، أي الله ورسوله وللمؤمنين «من غير أن تتعرّض لثبوته» ، أي ثبوت الحكم ، يعني الإخراج «له» ، أي للغير ، أي الله ورسوله أو المؤمنين «أو نفيه» ، أي نفي الحكم عنه ، أي عن الغير ، «أي من غير أن تتعرّض لتبوث ذلك الحكم» ، أي الإخراج «لذلك الغير» ، أي لله ورسوله والمؤمنين أو لانتفائه عن ذلك الغير ، أي عن الله ورسوله والمؤمنين.

فتحصّل ممّا بيّنّاه أنّه لو تعرّضت في كلامك للحكم إثباتا أو نفيا ، خرج الكلام عن القول بالموجب ، مثلا : إذا قال خصمك القوي ليخرجنّ القوي من هذه المدرسة الطّلاب الضّعفاء ، مريدا بالقوي نفسه مثبتا له حكم الإخراج ، فلو أثبت لنفسك القوّة ، ولم تتعرّض لحكم الإخراج بأن تقول ردّا عليه : أنا القوي ، لأنّ الضّعيف اعتماده على الله ، كان كلامك حينئذ

__________________

(١) سورة سبأ : ٢٤.

٣٥٩

أي فتثبت أنت في كلامك تلك الصّفة لغير ذلك الشّيء [من غير تعرّض لثبوته له] ، أي لثبوت ذلك الحكم لذلك الغير [أو نفيه عنه نحو : (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)(١) (١)].

فالأعزّ صفة وقعت في كلام المنافقين كناية عن فريقهم ، والأذلّ كناية عن المؤمنين ، وقد أثبت المنافقون لفريقهم إخراج المؤمنين من المدينة ، فأثبت الله تعالى في الرّدّ عليهم صفة العزّة لغير فريقهم ، وهو الله تعالى ورسوله والمؤمنون ، ولم يتعرّض لثبوت ذلك الحكم الّذي هو الإخراج للموصوفين بالعزّة أعني الله تعالى ورسوله والمؤمنين ، ولا لنفيه عنهم.

[والثّاني (٢) حمل لفظ وقع في كلام الغير على خلاف مراده] حال كونه خلاف مراده [ممّا يحتمله] ذلك اللّفظ [بذكر (٣) متعلّقه] ،

________________________________________________________

من القول بالموجب ، وإن قلت : أنا القوي ، وسوف أخرجك من المدرسة بعون الله تعالى لم يكن من القول بالموجب.

(١) فالشّاهد في الآية المباركة هو أنّ الأعزّ صفة وقعت في كلام المنافقين كناية عن فريقهم ، والأذلّ هو أيضا صفة وقعت كناية عن المؤمنين ، فأثبتوا لفريقهم المكنّى عنه بالأعزّ حكما ، وهو الإخراج فأثبت الله تعالى في الرّدّ صفة العزّة لغير فريقهم ، وهو الله والرّسول والمؤمنون ، ولم يتعرّض لثبوت ذلك الحكم الّذي هو الإخراج للموصوفين بالعزّة ، ولا لنفيه عنهم ، إذ قد تقدّم آنفا أنّه لو تعرّض لذلك لم يكن من القول بالموجب.

(٢) أي الضّرب الثّاني من القول بالموجب «حمل لفظ وقع في كلام الغير على خلاف مراده» ممّا يحتمله احتمالا حقيقيّا أو مجازيّا ، فلو كان اللّفظ غير صالح للمعنى الّذي هو خلاف مراده كان الحمل عليه عبئا لا بديعا محسّنا للكلام.

(٣) متعلّق بالحمل ، والباء فيه للسّببيّة ، أي بسبب أن يذكر متعلّق ذلك اللّفظ ، والمراد من المتعلّق على ما يظهر من مساق كلامهم مطلق ما يناسب المعنى المحمول عليه ، لا خصوص لمتعلّق الاصطلاحي ، ممّا تقدّم في بحث متعلّقات الفعل.

__________________

(١) سورة المنافقون : ٨.

٣٦٠