دروس في البلاغة - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٤

وهي (١) (دارُ الْخُلْدِ) لكنّه انتزع منها دار أخرى (٢) وجعلها معدة في جهنّم لأجل الكفّار تهويلا (٣) لأمرها ، ومبالغة في اتّصافها بالشّدّة (٤). [ومنها (٥)] ما يكون بدون توسّط حرف [نحو قوله (٦) : فلئن بقيت لأرحلنّ بغزوة تحوى] أي تجمع [الغنائم (٧) أو يموت (٨)] منصوب بإضمار أن إلّا أن يموت [كريم (٩)] يعني نفسه ، انتزع من نفسه كريما مبالغة في كرمه. فإن قيل : هذا من قبيل الالتفات (١٠) من التّكلّم إلى الغيبة.

________________________________________________________

(١) أي جهنّم نفسها (دارُ الْخُلْدِ).

(٢) حاصله : أنّه بولغ في اتّصافها بكونها دارا ذات عذاب مخلّد حتّى صارت بحيث تفيض يصدر عنها دار أخرى مثلها في الاتّصاف بكونها دارا ذات عذاب مخلّد فكأنه قيل ما أعظم تلك الدّار في لزومها لهم وعدم انفكاك عذابها عنهم وكونها لا تضعف مع طول الخلود ولا تفنى بقصر الأعوام حتّى أنّها تفيض دارا أخرى مثلها في اللزّوم وقوّة العذاب بلا ضعف مع التّخليد.

(٣) علّة لانتزاع الدّار الأخرى منها.

(٤) أي بشدّة العذاب فإنّ المبالغة في الخلود يوجب شدّة العذاب.

(٥) أي من أقسام التّجريد «ما يكون بدون توسط حرف» من الحروف.

(٦) أي قول قتادة بن مسلمة الحنفي.

(٧) هذه الجملة صفة غزوة.

(٨) منصوب بأن المصدريّة المضمرة كأنّه قال : إلّا أن يموت.

(٩) فاعل يموت يعني بالكريم نفسه ، والشّاهد فيه فكأنّه انتزع من نفسه كريما آخر مبالغة في كرمه.

(١٠) وحينئذ فلا يكون من قبيل التّجريد ، لأنّ الالتفات مبنيّ على الاتّحاد ، والتّجريد مبنيّ على التعدّد ، وهما متنافيان ، وذلك لأنّ المعبّر عنه في الالتفات بالطّريق الأوّل والثّاني واحد ، والمعبّر عنه باللّفظ الدّالّ على المنتزع منه باللّفظ الدّالّ على المنتزع متعدّد بحسب الاعتبار إذ بقصد أنّ المجرّد شيء آخر غير المجرّد منه.

٣٢١

قلنا (١) : لا ينافي التّجريد ، على ما ذكرنا (٢).

[وقيل تقديره أو يموت منّي كريم] فيكون من قبيل ـ لي من فلان صديق حميم (٣) ـ ولا يكون قسما آخر.

[وفيه نظر (٤)] لحصول التّجريد وتمام المعنى بدون هذا التّقدير (٥).

[ومنها (٦)] ما يكون بطريق الكناية (٧) [نحو قوله :

يا خير من يركب المطي ولا

يشرب كأسا بكف من بخلا (٨)]

________________________________________________________

(١) أي قلنا : الالتفات لا ينافي التّجريد.

(٢) أي على ما ذكرنا من تعريف التّجريد فإنّه يقتضي أنّه يجامعه الالتفات إذ المراد بالاتّحاد في الالتفات ، الاتّحاد في نفس الأمر لا الاتّحاد فيه ، وفي الاعتبار والمراد بالتعدّد في التّجريد التعدّد بحسب الاعتبار لا في نفس الأمر أيضا حتّى ينافي الالتفات.

(٣) أي فيكون مثله من جهة أنّ من داخلة على المنتزع منه في كلّ واحد منهما.

(٤) أي في هذا القبيل نظر.

(٥) ومن المعلوم أنّ تقدير شيء زائد في الكلام إنّما يحتاج إليه عند عدم تمام المعنى بدونه ، وإنّما كان هذا الكلام يفهم منه أنّ المتكلّم جرّد من نفسه كريما آخر بلا تقدير المجرور بمن لأنّه عادل بين كونه يحوي الغنائم أو يموت الكريم ، والجاري على الألسن أن يقال لا بدّ لي من الغنيمة أو الموت ، فيفهم منه أنّ المراد بالكريم نفسه والمدح المستفاد من التّعبير بلفظ الكريم يقتضى المبالغة المصحّحة للتّجريد.

(٦) أي ومن أقسام التّجريد.

(٧) الّتي هي عبارة عن ذكر اللازم وإرادة الملزوم أو بالعكس على ما مرّ في علم البيان.

(٨) كناية عن المراد وهو شرب الكأس بكفّ الجواد فقد انتزع من الممدوح جوادا يشرب هو الكأس بكفّيه على طريق الكناية ، لأنّه إذا نفى عنه الشّرب بكفّ البخيل فقد أثبت له الشّرب بكفّ كريم ، ومعلوم أنّه يشرب بكفّه فهو ذلك الكريم الآخر الّذي يشرب هو الكأس بكفّه.

والحاصل أنّه قد انتزع من المخاطب أي من الممدوح كريما آخر وكنّى عن شربه بكفّه بنفي الشّرب بكف البخيل.

٣٢٢

أي يشرب الكأس بكفّ الجواد ، انتزع منه جوادا يشرب هو بكفّه على طريق الكناية ، لأنّه إذا نفي عنه الشّرب بكفّ البخيل فقد أثبت له الشّرب بكفّ كريم ، ومعلوم أنّه يشرب بكفّه فهو ذلك الكريم. وقد خفي هذا (١) على بعضهم فزعم أنّ الخطاب إن كان لنفسه فهو تجريد ، وإلّا فليس من التّجريد في شيء ، بل كناية عن كون الممدوح غير بخيل.

________________________________________________________

وبعبارة أخرى أطلق اسم الملزوم الّذي هو نفي الشّرب بكف البخيل على اللّازم وهو الشّرب بكف الكريم ، وذلك لأن المخاطب أي الممدوح لما تحقّق له الشّرب في نفس الأمر لكونه من أهل الشّرب ، ولم يكن شربه بكفّ بخيل فقد كان بكفّ كريم لا محالة إذ لا واسطة بينهما.

(١) أي هذا المعنى الّذي بينّاه من أنّه انتزع من الممدوح جوادا آخر يشرب الممدوح كأسا أي إناء من خمر بكفّ هذا الجواد الآخر قد خفي هذا المعنى على بعضهم «فزعم أن الخطاب» في قوله : يا خير من يركب المطي «إن كان لنفسه» أي لنفس الشّاعر «فهو تجريد» لأنّه انتزع من نفسه شخصا آخر فجعله أمامه وخاطبه وإذا كان هذا تجريدا فيكون قوله : ولا يشرب كأسا بكف من بخلا ، كناية عن الكريم ، ووصفا لمن جعله أمامه وخاطبه ، لأنّ التّجريد وقع أوّلا في قوله يا خير من يركب المطي «وإلّا» أي وإن لم يكن الخطاب لنفسه أي وإن لم ينتزع من نفسه شخصا آخر حتّى يكون ذلك تجريدا «فليس» قوله ولا يشرب كأسا بكفّ من بخلا «من التّجريد في شيء وإنّما هو كناية عن كون الممدوح غير بخيل»

والحاصل أنّ البعض زعم أنّ جعل قوله : ولا يشرب كأسا بكفّ من بخلا ، تجريدا بطريق الكناية غير صحيح ، لأنّ الخطاب في قوله : يا خير من يركب المطي إن كان لنفسه فهو تجريد ، لأنّه جعل نفسه شخصا آخر أمامه فخاطبه بقوله : يا خير من يركب المطي ، وإذا كان هذا تجريدا فقوله : ولا يشرب كأسا بكفّ من بخلا كناية عن الكريم فيكون وصفا لذلك الشّخص المنتزع أعني المخاطب ولا تجريد في هذه الكناية بل وقع التّجريد قبلها ، والكلام إنّما هو في كون الكناية نفسها متضمّنة للتّجريد ولم يوجد على هذا وإن كان الخطاب لغيره كان قوله ولا يشرب كأسا بكفّ من بخلا كناية عن الكريم الّذي هو ذلك المخاطب فليس من التّجريد في شيء.

٣٢٣

وأقول (١) : الكناية لا تنافي التّجريد على ما قرّرنا ، ولو كان الخطاب لنفسه لم يكن قسما بنفسه ، بل داخلا في قوله : [ومنها مخاطبة الإنسان نفسه] وبيان التّجريد في ذلك (٢) أنه ينتزع من نفسه شخصا آخر مثله في الصّفة الّتي سبق لها الكلام ، ثمّ يخاطبه (٣) [كقوله (٤) :

لا خيل عندك تهديها ولا مال

فليسعد النّطق إن لم يسعد الحال (٥)

أي الغنى ، فكأنّه انتزع من نفسه شخصا آخر مثله في فقد الخيل والمال وخاطبه. ـ [ومنه] أي ومن المعنوي [المبالغة المقبولة (٦)] لأنّ المردودة لا تكون من المحسّنات.

________________________________________________________

(١) أي أقول في الرّد على هذا البعض أنّ الكناية لا تنافي التّجريد إذ يصحّ أن يجرّد المعنى ثمّ يعبر عنه بلفظ الكناية ، كما يصحّ بلفظ التّصريح.

والحاصل أنّا نختار أن الخطاب لغيره والتّجريد حاصل وكونه كناية لا تنافي التّجريد ، وأنّ كون الخطاب لنفسه صحيح ، والتّجريد يحصل معه لكنّه لا يصحّ حمل كلام الخطيب عليه ، لأنّه حينئذ لا يكون قسما برأسه والحال أنّه جعله كذلك.

(٢) أي في مخاطبة نفسه أنّه أي الإنسان ينتزع فيها أي في المخاطبة من نفسه شخصا آخر مثله في الصّفة الّتي سيق لها الكلام.

(٣) أي يخاطب ذلك الشّخص المنتزع.

(٤) أي قول أبي الطّيب المتنبّي.

(٥) أراد بالحال الغنى ، وأما الشّاهد فكأنّه انتزع من نفسه شخصا آخر مثله في فقد الخيل والمال أي في الفقر.

والحاصل إنّ الكلام سيق لبيان فقره ، وأنّه عديم الخيل والمال ، أي لا شيء عنده يهديه ليكافي بذلك إحسان الممدوح ، فانتزع من نفسه مخاطبا مثله في هذه الصّفة الّتي هي كونه فقيرا بحيث لا خيل عنده ولا مال فخاطبه بقوله : «لا خيل عندك ...».

(٦) أنهم اختلفوا في المبالغة ، فمنهم : من لا يرى لها فضلا محتجّا بأنّ خير الكلام ما خرج مخرج الحقّ ، وكان على نهج الصّدق ، ولأنّها لا تكون إلّا من ضعيف عجز عن اختراع الكلام وتأكيده ، فيتشبّث بها لسدّ الخلل الحاصل من ضعفه وعجزه في كلامه ، ومنهم : من يقصّر الفضل والحسن عليها ، وينسب المحاسن كلّها إليها محتجّا بما اشتهر عندهم من أنّ

٣٢٤

وفي هذا إشارة إلى الرّدّ على من زعم أنّ المبالغة مقبولة مطلقا ، وعلى من زعم أنّها مردودة مطلقا. ثمّ إنه فسّر مطلق المبالغة (١) وبيّن أقسامها والمقبول منها والمردود ، فقال : [والمبالغة] مطلقا (٢) [أن يدّعى (٣) لوصف

________________________________________________________

أحسن الشّعر أكذبه.

ومنهم :

من فصّل فجعل بعضا مقبولا وبعضا غير مقبول ، وهذا هو مختار المصنّف ، فلذا قيّدها بكونها مقبولة.

وهذا التّقييد إشارة إلى ردّ القولين وهما القول بأنّها مقبولة مطلقا والقول بأنّها غير مقبولة كذلك.

وتوضيح هذا التّفصيل يتوقّف على مقدّمة :

وهي بيان أقسام المبالغة وهي على أقسام فيقال : إنّ مطلق المبالغة بمعنى بلوغ وصف شيء على حد من طرف الإفراط ومرتبته الصّعود ، أو في طرف التّفريط والنّزول على حدّ مستحيل عقلا وعادة ، كما في الغلوّ ، أو عادة لا عقلا كما في الإغراق ، أو مستبعدا بأن يكون ممكنا وعادة لكنّه مستبعد كما في التّبليغ ، وإنّما انقسمت المبالغة إلى الأقسام الثّلاثة ، لأن المدّعى وهو بلوغ الوصف إلى النهاية شدّة وضعفا إن كان ممكنا عقلا لا عادة فهو إغراق ، وهما مقبولان وإلّا ، أي وإن لم يكن المدّعى ممكنا عقلا ، ولازم ذلك عدم إمكانه عادة فهو يسمّى بالغلوّ ، وهو غير مقبول ، وستأتي الإشارة إلى أمثلة تلك الأقسام فانتظر.

إذا عرفت هذه المقدّمة فاعلم أنّ مطلق المبالغة على أقسام ثلاثة ، وبعض هذه الأقسام مقبول ، وبعضها مردود ، والبديع المعنوي هو المبالغة المقبولة لا مردودة ولذا قيّدها بكونها مقبولة.

(١) أي لذا أتى بالاسم الظّاهر فقال والمبالغة ، ولم يأت بالضّمير ، أي ولم يقل وهي لئلّا يتوهّم عوده على المقبولة.

(٢) أي سواء كانت مقبولة أو مردودة.

(٣) ضمّن «يدّعى» معنى يثبت فعدّاه باللّام ، أي يثبت ، لوصفه بالدّعوى له لا بالتّحقيق.

٣٢٥

بلوغه (١) في الشّدة أو الضّعف حدّا مستحيلا (٢) أو مستبعدا (٣)] وإنّما يدّعى ذلك [لئلّا يظنّ أنّه] أي ذلك الوصف [غير متناه (٤) فيه] أي في الشّدّة والضّعف ، وتذكير الضّمير وإفراده باعتبار عوده إلى أحد الأمرين (٥).

[وتنحصر] المبالغة [في (٦) التّبليغ والإغراق والغلوّ] لا بمجرّد الاستقراء ، بل بالدّليل القطعي ، وذلك [لأنّ المدّعى (٧) إن كان ممكنا عقلا وعادة فتبليغ (٨).

كقوله (٩) : فعادى] يعني الفرس [عداء (١٠)] هو الموالاة بين الصّيدين يصرع أحدهما على أثر الآخر في طلق واحد (١١) [بين ثور] يعني الذّكر من بقر الوحش [ونعجة] يعني الأنثى منها

________________________________________________________

(١) نائب فاعل «يدّعى» أي أنّه بلغ في الشّدة أو الضّعف «في» بمعنى من ، أي بلغ ووصل من مراتب الشّدّة أو الضّعف «حدّا» أي طرفا ومكانا مستحيلا أو مكانا مستبعدا يقرب من المحال ، والأمثلة المذكورة كلّها للشّدّة ، ولم يمثّل للضّعف.

(٢) أي عقلا وعادة كما في الغلوّ ، أو عادة لا عقلا في الإغراق.

(٣) أي بأن كان ممكنا عقلا وعادة إلّا أنه مستبعد كما في التّبليغ.

(٤) أي غير بالغ إلى النهاية في الشّدّة أو الضّعف.

(٥) وهما الشّدّة والضّعف فكأنّه قال : لئلّا يظنّ أنّه غير متناه في أحد الأمرين أعني الشّدّة والضّعف.

(٦) أي في ثلاثة أقسام وهي «التّبليغ والإغراق والغلو».

(٧) أي المدّعى الّذي بولغ فيه «إن كان ممكنا ...».

(٨) أي ما يسمّى تبليغا مأخوذ من قولهم : بلغ الفارس إذا مدّ يده بالعنان ليزداد الفرس في الجري.

(٩) أي قول امرؤ القيس يصف فرسا له (بأنّه لا يعرق وإن أكثر العدو) والجري «فعادى» ذلك الفرس.

(١٠) بكسر العين (الموالاة بين الصّيدين).

(١١) أي في شوط واحد.

٣٢٦

[دراكا (١)] أي متتابعا [فلم ينضح بماء فيغسل] مجزوم معطوف على ينضح ، أي لم يعرق فلم يغسل (٢) ، ادّعى أنّ فرسه أدرك ثورا ونعجة في مضمار واحد ولم يعرق ، وهذا ممكن عقلا وعادة [وإن كان ممكنا عقلا لا عادة ، فإغراق (٣) ، كقوله (٤) : ونكرم جارنا ما دام فينا ونتّبعه] من الاتّباع ، أي نرسل [الكرامة] على أثره [حيث ما لا] أي سار ، وهذا ممكن عقلا لاعادة ، بل في زماننا يكاد يلحق بالممتنع عقلا ، إذ كلّ ممكن عادة ممكن عقلا.

________________________________________________________

وحاصل المعنى أنه وإلى ذلك الفرس في شوط واحد بين ثور ونعجة ، أراد بالثّور الذّكر من بقر الوحش ، وبالنّعجة الأنثى منها ، أي وإلى ذلك الفرس بين هذين الصّيدين ، أي جرح أحدهما على أثر الآخر في شوط واحد أي إذا ألقى أحدهما على وجه الأرض أثر الآخر في شوط واحد من غير أن يتخلّله وقفة لراحة ونحوهما.

(١) بكسر الدّال على وزن كتاب ، أي متتابعا ، وهو تأكيد لقوله : (عداء) لأنّ التّتابع والموالاة بمعنى واحد.

(٢) يحتمل أنّه أراد بالغسل المنفي غسل العرق ، فيكون تأكيد نفي العرق ، ويحتمل أنّه أراد به الغسل بالماء القراح ، أي لا يصبه وسخ العرق وأثره حتّى يحتاج للغسل بالماء القراح.

والشّاهد في أنّه ادّعى أنّ هذا الفرس أدرك ثورا ونعجة وحشيين في مضمار ، أي في شوط واحد ، ولم يعرق ، وهذا ممكن عقلا وعادة ، وإن كان وجود ذلك الفرس في غاية النّدرة ، ومن ثمّ كانت مبالغة.

(٣) أي يسمّى إغراقا ، مأخوذ من قولهم : أغرق الفرس ، إذا استوفى الحدّ في جريه.

(٤) أي قول الشّاعر ، وهو عمرو بن الأيهم التّغلبي.

والشّاهد في أنّه «ادّعى أنّ جاره لا يميل» أي لا يسافر ولا يبعد «عنه إلى جانب إلا وهو» أي المتكلّم يرسل الكرامة والعطاء على أثره ، وهذا ممكن عقلا ممتنع عادة.

فقد ادّعى الشّاعر أنّهم يكرمون الجار في حالة كونه مقيما عندهم ، وفي حالة كونه مع غيرهم وارتحاله عنهم ، فالوصف المبالغ فيه كرمهم ، ولا شكّ أنّ إكرام الجار في حالة كونه مع الغير وارتحاله عنهم محال عادة ، حتّى أنّه يكاد أن يلتحق بالمحال عقلا في هذا الزّمان ، لانطباع النّفوس على الشّحّ.

٣٢٧

[وهما] أي التّبليغ والإغراق [مقبولان ، وإلّا] أي وإن لم يكن ممكنا لا عقلا ولا عادة ، لامتناع أن يكون ممكنا عادة ممتنعا عقلا ، إذ كلّ ممكن عادة ممكن عقلا ولا ينعكس (١) [فغلو (٢) ، كقوله (٣) : وأخفت (٤) أهل الشّرك حتّى أنّه] الضّمير للشّأن [لتخافك النّطف الّتي لم تخلق (٥)] فإنّ خوف النّطفة الغير المخلوقة ممتنع عقلا وعادة.

[والمقبول منه] أي من الغلو ـ [أصناف : منها (٦) ما أدخل عليه ما يقرّبه إلى الصّحّة (٧) نحو] لفظة [يكاد في قوله تعالى : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ)(١) (٨).

________________________________________________________

(١) أي ليس كلّ ممكن عقلا ممكنا عادة ، لأن دائرة العقل أوسع من العادة.

(٢) أي يسمّى غلوا ، مأخوذ من غلا في الشّيء إذا تجاوز الحدّ فيه.

(٣) أي قول أبي نوّاس من قصيدة له في مدح الرّشيد.

(٤) بسكون الفاء وفتح التّاء.

(٥) والشّاهد في أنّه ادّعى أنّه يخاف الممدوح النّطف الغير المخلوقة ، وهذا الخوف ، أي خوف النّطف الغير المخلوقة من الممدوح ممتنع عقلا وعادة ، لأنّ شرط الخوف عقلا الحياة ، فيستحيل حصول الخوف من الفاقد للحياة.

(٦) ومن تلك الأصناف.

(٧) أي ما أدخل عليه لفظ يقرّب الأمر الّذي وقع فيه الغلو إلى الصّحّة ، أي إلى إمكان وقوعه.

(٨) فالمدّعى المبالغ فيه إضاءة الزّيت كإضاءة المصباح من غير نار ، ولا شكّ أن إضاءة الزّيت إضاءة كإضاءة المصباح بلا نار محال عقلا وعادة ، فلو قيل في غير القرآن هذا الزّيت يضيء كإضاءة المصباح بلا نار لكان مردودا ، وحيث وضع لفظة كاد ، لقرب الخبر ودنوّه ، كما بيّن في النّحو ، وقيل : يكاد يضيء ، أفاد أنّ المحال لم يقع ، ولكن قرب من الوقوع مبالغة ، لأنّ المعنى يقرّب زيتها من الإضاءة ، والحال أنّه لم تمسسه نار ، ومعنى قرّب المحال من الوقوع توهّم وجود أسباب الوقوع ، وقرّب المحال من الوقوع قريب من الصّحّة ، إذ قد تكثر أسباب الوهم المتخيّل بها وقوعه ، ولو كان لا يقع.

__________________

(١) سورة النّور : ٣٥.

٣٢٨

ومنها (١) : ما تضمّن نوعا حسنا من التّخييل كقوله : [عقدت سنابكها] أي حوافر الجياد [عليها] يعني فوق رؤوسها [عثيرا] بكسر العين ، أي غبارا.

ومن لطائف العلّامة (٢) في شرح المفتاح : العثير الغبار ، ولا تفتح فيه العين ، وألطف من ذلك (٣) ما سمعت أنّ بعض البغّالين كان يسوق بغلته في سوق بغداد ،

________________________________________________________

(١) أي ومن أصناف المقبول من الغلو «ما تضمّن نوعا حسنا من التّخييل» أي تخييل الصّحّة ، وذلك لكون ما اشتمل على الغلو يسبق إلى الوهم إمكانه لرؤية شيء كالغبار في البيت الآتي يغالط الوهم فيه ، فيتوهّم صحّته ، والتّقييد بكونه حسنا ، للإشارة إلى أنّ تخييل الصّحّة وحده لا يكفي ، إذ لا يخلو منه محال ، حتّى إضافة النّطف في البيت المتقدّم.

وإنّما المعتبر ما يحسن لصحّة مغالطة الوهم فيه بخلاف ما يبدو انتفاءه للوهم بأدنى التفات ، كما في إخافة النّطف ، فليس التّخييل فيه على تقدير وجوده فيه حسنا ، فليس مقبولا لعدم حسنه ، وأمّا ما كان حسنا فهو مقبول ، كقول أبي الطّيّب : «عقدت سنابكها» جمع سنبك بضم السّين ، فاعل عقدت ، والضّمير في «سنابكها ، عليها» راجع إلى الجياد ، أي عقدت سنابك تلك الجياد ، أي حوافرها فوق رؤوسها «عثيرا» بكسر العين وسكون الثّاء المثلثة ، وفتح الياء المثنّاة من تحت ، «أي غبارا» وهو مفعول عقدت.

والشّاهد في أنّه ادّعى أنّ الغبار المرتفع من سنابك الخيل قد اجتمع فوق رؤوسها متراكما متكاثفا ، بحيث صار أرضا يمكن أن يسير عليها تلك الجياد ، وهذا السّير ، أي سير الجياد على الغبار ممتنع عقلا وعادة ، لكنّه تخييل حسن ، لأنّه نشأ من ادّعاء كثرة الغبار ، وكونه كالأرض الّتي في الهواء.

(٢) أي الشّيرازي لما في ذلك من التّورية ، لأنّ قوله : ولا تفتح فيه العين ، له معنيان : قريب :

وهو النّهي عن فتح العين الجارحة في الغبار ، لئلّا يؤذيها بدخوله فيها ، وليس هذا مرادا.

وبعيد : وهو النّهي عن فتح العين في هذا اللّفظ ، أي لفظ عثير لئلّا يلزم تحريف اللّفظ عن وضعه ، وهو المراد ، لأنّ قصده ضبط الكلمة.

ويحتمل أن يكون المراد لما في ذلك من التّوجيه ، وهو احتمال الكلام لمعنيين ، ليس أحدهما أقرب من الآخر على استواء المعنيين هنا.

(٣) ممّا ذكره العلّامة قول البغّالين ، أي الّذين يسوقون البغال.

٣٢٩

وكان بعض عدول دار القضاء حاضرا فضرطت البغلة (١) ، فقال البغّال (٢) على ما هو دأبهم : بلحية العدل ، بكسر العين ، يعني (٣) أحد شقّي الوقر (٤) ، فقال بعض الظّرفاء (٥) على الفور : افتح العين فإنّ المولى حاضر. ومن هذا القبيل (٦) ما وقع لي في قصيدة (٧) :

علا (٨) فأصبح يدعوه الورى ملكا

وريثما فتحوا عينا غدا ملكا

________________________________________________________

(١) أي أخرجت ريحا من جوفها بصوت.

(٢) أي على عادة أمثاله عند فعل البغلة ذلك ، قوله : «بلحيّة العدل» أي ما فعلت يقع في لحية العدل ، لا في وجه السّائق ، وفيه تشبيه العدل برجل ذي لحية على طريق الكناية.

(٣) أي بلحية العدل ،

(٤) أي الحمل بكسر أولهما.

(٥) أي الحذّاق ، قوله : «افتح العين فإنّ المولى حاضر» فيه احتمال معنيين ، فيحتمل افتح عينك ترى المولى ، أي من هو أولى وأحقّ أن يقع ذلك في لحيته ، وهو الشّاهد حاضرا ، ويحتمل افتح عين لفظ العدل ، لتصيب الضّرطة مسمّى هذا اللّفظ ، فإنّه حاضر ، فإن كان المعنى المراد منهما خفيّا كان تورية ، وإن كان المعنيان ليس أحدهما خفيّا عن الآخر كان توجيها ، وهو أقرب هنا لصلاحية كلّ من المعنيين فهذه الحكاية محتملة التورية والتّوجيه ، كما أنّ ما ذكره العلّامة كذلك ، إلا أنّ هذه الحكاية ألطف ممّا ذكره العلّامة ، لما فيها من التّفطّن الغريب والهجو بوجه لطيف.

(٦) أي احتمال التورية والتّوجيه في مادّة فتح العين.

(٧) في مدح ملك ، وهو السّلطان أبو الحسين محمد كرت.

(٨) أي ارتفع ، الورى بمعنى الخلق ، «ملكا» أي سلطانا.

والشّاهد في قوله : «فتحوا عينا» ، يحتمل فتحوا عين لفظ الملك ، أي وسطه فغدا بسبب الفتح ملكا ، فيكون معناه كذلك ، ويحتمل أن يراد فتحوا أعينهم فيه ونظروه فوجدوه قد تبدّل وصار ملكا ، فيتّجه فيه التّوجيه أو التّورية ، على ما تقدّم ، والرّيث من راث ، إذا أبطأ ، يستعمل كثيرا بمعنى الزّمان.

والتّقدير هنا أنّه غدا ملكا في الزّمان الّذي مقداره ما يفتحون فيه العين.

٣٣٠

وممّا يناسب هذا المقام (١) أنّ بعض أصحابي ممّن الغالب على لهجتهم (٢) إمالة الحركات نحو الفتحة أتاني بكتاب ، فقلت : لمن هو؟ فقال (٣) : لمولانا عمر ، بفتح العين. فضحك الحاضرون فنظر (٤) إليّ كالمتعرّف عن سبب ضحكهم ، المسترشد لطريق الصّواب (٥) فرمزت إليه بغضّ الجفن وضمّ العين (٦) ، فتفطّن للمقصود واستظرف الحاضرون ذلك (٧).

[لو تبتغي] أي تلك الجياد [عنقا] هو (٨) نوع من السّير [عليه] أي على ذلك العثير [لأمكنا] أي العنق ، ادّعى تراكم الغبار المرتفع من سنابك الخيل فوق رؤوسها بحيث صار أرضا يمكن سيرها عليها ، وهذا ممتنع عقلا وعادة لكنّه تخييل حسن [وقد اجتمعا] أي إدخال ما يقرّبه إلى الصّحّة وتضمّن التّخييل الحسن [في قوله (٩) :

يخيّل لي أنّ سمر الشّهب في الدّجى

وشدّت بأهدابي إليهنّ أجفاني]

________________________________________________________

(١) أي من جهة أن ضمّ العين فيه إشارة لمعنى خفيّ ، وإن كانت الإشارة بغير اللّفظ ، وليس فيه تورية ، ولا توجيه ، ولذا قيل : «وممّا يناسب» ، ولم يقل : ومنه.

(٢) أي لغتهم وكلامهم ، أي من قوم الغالب عليهم أنّهم يميلون في لهجتهم وكلامهم بالضّمّ نحو الفتح.

(٣) أي فقال ذلك الآتي بالكتاب لمولانا عمر بفتح العين ، وهو يعني عمر بضمّها.

(٤) أي فنظر ذلك القائل إليّ «كالمتعرف» أي الطّالب لمعرفة سبب ضحكهم ، لأنّه خفي عليه.

(٥) أي الطّالب لطريق الصّواب الّذي ينفي عنه سبب ضحكهم.

(٦) أي أشرت بضمّ العين حسّا ، ففهم ذلك القائل أنّ سبب ضحكهم فتحه لعين عمر ، وأنّه ينبغي له ضمّ عينه.

(٧) أي اعترفوا بظرافة المشير ، أي حذقه وفهم المشار إليه.

(٨) أي العنق نوع من السّير ، وهو السّير السّريع.

(٩) أي قول الشّاعر ، وهو القاضي الأرّجاني بفتح الرّاء مشدّدة بعد همزة مفتوحة ، نسبة لأرّجان بلدة من بلاد فرس ، يصف الشّاعر في هذا البيت طول اللّيل.

٣٣١

أي يوقع في خيالي أنّ الشّهب (١) محكمة بالمسامير ولا تزول من مكانها ، وأنّ أجفان عيني قد شدّت (٢) بأهدابها إلى الشّهب لطول ذلك اللّيل وغاية سهري فيه ، وهذا تخييل حسن ولفظ يخيّل يزيده حسنا.

[ومنها (٣) ما أخرج مخرج الهزل والخلاعة (٤) كقوله :

أسكر بالأمس إن عزمت على الشّر

ب غدا إنّ ذا من العجب (٥)]

________________________________________________________

(١) وهي النّجوم أحكمت بالمسامير في الدّجى ، أي ظلمة اللّيل.

(٢) أي ربطت أجفاني بأهدابي حال كونها مائلة إليهنّ إلى الشّهب ، وادّعى الشّاعر أنّ طول اللّيل وصل لحالة ، هي أن الشّهب أحكمت بالمسامير في دياجيه ، وأنّ كثرة سهره فيه وصلت إلى حالة هي أنّ أجفانه صارت مشدودة بأهدابه في الشّهب ، ومن المعلوم أن إحكام الشّهب بالمسامير في الدّجى ، وشدّ أجفانه بأهداب عينه محال ، لكن قد تضمّن ذلك الغلوّ تخييلا حسنا ، إذ يسبق إلى الوهم صحّته من جهة أنّ هذا المحسوس تقع المغالطة فيه ، وذلك أنّ النّجوم لما بدت من جانب الظّلمة ، ولم يظهر غيرها صارت النّجوم كالدّرّ المرصّع به بسياط أسود ، فيسبق إلى الوهم ، من تخييل المشابهة قبل الالتفات إلى دليل استحالة شدّ النّجوم بالمسامير في الظّلمة صحّة ذلك.

وكيف كان فلمّا تضمّن الغلوّ الموجود في البيت هذا التّخييل الّذي قرّب المحال من الصّحّة كان ذلك الغلو مقبولا.

(٣) أي ومن أصناف الغلوّ المقبول «ما أخرج مخرج الهزل» وهو الكلام الّذي لا يراد به إلا المطايبة والضّحك.

(٤) وهي عدم المبالاة بما يقول القائل لعدم المانع الّذي يمنعه من غير الصّدق.

(٥) ففي هذا البيت مبالغة في شغفه بالشّرب ، فادّعى أن شغفه بالشّرب وصل إلى حدّ أنّه يسكر بالأمس عند عزمه على الشّرب غدا ، ولا شكّ أنّ سكره بالأمس عند عزمه على الشّرب غدا محال ، إن أريد بالسّكر ما يترتّب على الشّرب ، وهو المقصود هنا ، ولكن لما أتى بالكلام على سبيل الهزل لمجرّد تحسين المجالس والتّضاحك على سبيل الخلاعة ، وعدم المبالاة بالتّكلّم بالقبيح ، كان ذلك الغلو مقبولا لأنّ ما يوجب التّضاحك من المحال ، لا يعدّ صاحبه

٣٣٢

[ومنه] أي ومن والمعنوي : [المذهب الكلامي ، وهو إيراد حجّة للمطلوب على طريقة أهل الكلام (١)] وهو أن تكون بعد تسليم المقدّمات مستلزمة للمطلوب (٢) [نحو : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(١)].

واللّازم وهو فساد السّماوات والأرض باطل ، لأنّ المراد به خروجهما عن النّظام الّذي هما عليه (٤) فكذا الملزوم وهو تعدّد الآلهة. وهذه الملازمة من المشهورات الصّادقة الّتي يكتفى بها في الخطابيات (٥).

________________________________________________________

موصوفا بنقيصة الكذب ، فالمسوّغ في هذا الكذب موجود ، وأمّا الكذب بلا مسوّغ فهو نقيصة عند جميع العقلاء.

(١) وهو كون سيرتهم عدم القناعة بالدّعوى والاهتمام بإقامة الدّليل بخلاف المحاورات ، فإنّ شأنهم الإخبار الصّرف والتّأكيد في مقام التّردد والإنكار.

وفي بعض الشّروح أنّ المذهب الكلامي ، هو كون الدّليل على طريق أهل الكلام بأن يؤتى به على صورة قياس استثنائي أو اقتراني ، يكون «بعد تسليم المقدّمات مستلزمة» عقلا أو عادة «للمطلوب» وهذا ما يقتضيه شرح ظاهر العبارة لكنّ التّحقيق أنّ المراد بكون الحجّة على طريقة أهل الكلام صحّة أخذ المقدّمات من الكلام المأتيّ به لإثبات المطلوب على صورة القياس الاقتراني أو الاستثنائي ، لا وجود تلك الصّورة بالفعل بل صحّة وجودها من قوّة الكلام في الجملة كافية ، كما يشعر بذلك الأمثلة الآتيّة.

(٢) أي استلزاما عقليّا أو عاديّا.

(٣) أي لو كان في السّماء والأرض آلهة غير الله لفسدتا.

(٤) أي على النّظام الّذي هو متحقّق ومشاهد ، فالفساد بمعنى الخروج عن النّظام باطل ، فالملزوم وهو تعدّد الآلهة أيضا باطل ينتج التّوحيد ، وهو كون الله واحدا.

ومعنى الآية هكذا : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ، لكنّهما لم يفسدا فلم يكن فيهما آلهة ، وهذا هو المطلوب.

(٥) وهي المفيدة للظّنّ ، لأنّ تعدّد الآلهة ليس قطعي الاستلزام ، للفساد لجواز عدم الفساد مع تعدّد الآلهة بأن يتّفقوا.

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢٢.

٣٣٣

دون القطعيّات المعتبرة في البرهانيات (١) ، [وقوله (٢) : حلفت (٣) ، فلم أترك لنفسك (٤) ريبة] أي شكّا [وليس وراء الله للمرء مطلب] فكيف يحلف به كاذبا [لئن كنت] اللّام لتوطئة القسم [قد بلغت عني وشاية لمبلغك] اللّام جواب القسم [الواشي (٥) أغشّ] من وشاية إذا خان [وأكذب ولكنني كنت امرء لي جانب (٦) من الأرض فيه] أي في ذلك الجانب [مستراد (٧)] أي موضع طلب الرّزق من (٨) راد الكلأ ، [ومذهب (٩)]

________________________________________________________

والحاصل إنّ هذا الدّليل إقناعي لا برهاني.

(١) أي الأدلة المفيدة لليقين.

(٢) أي قول النّابغة في قصيدة يعتذر فيها إلى النّعمان بن المنذر ، وقد كان مدح آل جفنة بالشّام ، فتنكّر النّعمان من ذلك المدح ، لأنّه كان بينهم وبينه عداوة.

(٣) أي حلفت لك بالله ما أبغضتك ولا احتقرتك ، ولا عرضت عند مدحي آل جفنة بذمّك ، أي ما كان قصدي عند مدحي إيّاهم التّعريض بذمّك.

(٤) بسبب الحلف «ريبة» ، فحاصل المعنى أنّي لم أبق عندك بسبب اليمين شكّا في أنّي لست لك بمبغض ، ولا عدوّ بل إني باق على إخلاصي ومحبّتي لك الّذي كنت عليه ، فلم أترك بسبب هذا اليمين نفسك تتّهمني بأنّي غيّرت إخلاصي لك ، وأبدلتك بغيرك ، «وليس وراء الله للمرء مطلب» أي هو أعلى المطالب ، والحلف به أعلى الأحلاف ، فلا ينبغي للمحلوف له بالله العظيم أن يطلب ما يتحقّق به الصّدق سوى اليمين بالله ، إذ ليس وراء الله أعظم منه يطلب الصّدق بالحلف به ، لأنّه أعظم وأعلى من كلّ شيء ، فلا يكون الحالف به كاذبا ، فاليمين به كاف عن كلّ يمين وقسم.

(٥) وهو المفتن الّذي يذهب بالكلام على وجه الإفساد.

(٦) بمعنى الجهة ، أي لي جهة مخصوصة من الأرض لا يشاركني فيها غيري من الشّعراء ، وأراد بذلك الجانب من الأرض الاشام.

(٧) أي موضع يتردّد فيه لطلب المعيشة والرّزق من ملوك الشّام يعني آل جفنة.

(٨) والمستراد مأخوذ من راد الكلأ ، أي الحشيش ، حاصل المعنى : المراد هنا طلب المعروف من ملوك الشّام.

(٩) أي ذهاب لقضاء الحاجات ، لكون ذلك الجانب مظنّة الغنى والوجدان.

٣٣٤

أي موضع ذهاب للحاجات [ملوك] أي في ذلك الجانب ملوك [وإخوان (١) إذا ما مدحتهم* أحكم (٢) في أموالهم] أي أتصرّف بها كيف شئت. ـ [وأقرب (٣)] عندهم وأصير رفيع المرتبة [كفعلك (٤)] أي كما تفعله أنت [في قوم أراك اصطنعتهم] وأحسنت إليهم [فلم ترهم في مدحهم لك أذنبوا] أي لا تعاتبني على مدح آل جفنة المحسنين إليّ والمنعّمين عليّ كما لا تعاتب قوما أحسنت إليهم فمدحوك فكما أنّ مدح أولئك لا يعدّ ذنبا كذلك مدحي لمن أحسن إليّ ، وهذه الحجّة على طريق التّمثيل (٥) الّذي يسمّيه الفقهاء قياسا.

________________________________________________________

(١) إشارة إلى أنّ هؤلاء الملوك متّصفون بالتّواضع ، لأنّهم مع اتّصافهم برفعة الملك يصيّرون النّاس إخوانا لهم ، ويعاملونهم معاملة الإخوان بسبب تواضعهم.

(٢) مبنيّ للمفعول ، أي أجعل حاكما في أموالهم ، ومتصرّفا فيها بما شئت أخذا وتركا.

(٣) أيضا مبنيّ للمفعول ، أي أجعل قريبا منهم بسبب التّوقير والتّعظيم والإعطاء.

(٤) أي يجعلونني حكما في أموالهم ، ومقرّبا لهم رفيع المنزلة عندهم ، كما تفعل أنت في قوم أراك اصطنعتهم ، أي اصطفيتهم ، أي اخترتهم ، وأحسنت إليهم «فلم ترهم» أي لم تعدّهم «في مدحهم لك أذنبوا» أي لم تعدّهم مذنبين في مدحهم إيّاك.

(٥) وقد اعترض على المصنّف ، حيث مثّل بهذه الأبيات للمذهب الكلامي ، مع أنّ مذهب الكلامي كما بيّن في صدر المبحث ، هو إيراد حجّة للمطلوب على طريقة أهل الكلام ، وذلك بأن يذكر قياس اقتراني أو استثنائي يكون بعد تسليم المقدّمات مستلزمة للمطلوب ، وهذه الحجّة المذكورة في هذه الأبيات حسبما بيّن على صورة التّمثيل ، وهو تشبيه جزئي بجزئيّ آخر ، وهذا هو الّذي يسمّيه الفقهاء قياسا.

وقد أجيب عن هذا الاعتراض بأنّه يمكن ردّ هذا المثال إلى صورة قياس استثنائي بأن يقال : لو كانت مدحي لآل جفنة ذنبا لكان مدح ذلك القوم لك أيضا ذنبا.

بيان الملازمة اتّحاد الموجب للمدحين ، وهو وجود الإحسان ، فإذا كان أحد السّببين ذنبا كان الآخر كذلك ، ولكن اللّازم هو كون مدح ذلك القوم لك ذنبا باطل ، فكذا الملزوم ، وهو كون مدحي لآل جفنة ذنبا ، فثبت المطلوب وهو انتفاء الذّنب عنّي بالمدح ولزم منه نفي العتب ، إذ لا عتب إلّا على ذنب. ويمكن ردّه إلى قياس اقتراني ، فيقال : مدحي مدح بسبب الإحسان ، وكلّ مدح بسبب الإحسان ، فلا عتب فيه ، ينتج مدحي لا عتب فيه.

٣٣٥

ويمكن ردّه إلى صورة قياس استثنائي ، أي لو كان مدحي لآل جفنة ذنبا لكان مدح ذلك القوم لك أيضا ذنبا ، واللّازم باطل فكذا الملزوم. [ومنه] أي ومن المعنوي : [حسن التّعليل (١) وهو (٢) أن يدّعى لوصف علّة مناسبة له (٣) باعتبار لطيف (٤)] أي بأن ينظر نظرا يشتمل على لطف ودقّة [غير حقيقي (٥)] أي لا يكون ما اعتبر علّة لهذا الوصف علّة له في الواقع ، كما إذا قلت (٦) : ـ قتل فلان أعاديه لدفع ضررهم ، فإنّه ليس في شيء (٧) من حسن التّعليل. ـ وما قيل (٨) :

________________________________________________________

ودليل الصّغرى الوقوع والمشاهدة ، ودليل الكبرى تسليم المخاطب ذلك في مادحيه.

(١) أي النّوع المسمّى بحسن التّعليل.

(٢) أي حسن التّعليل.

(٣) أي أن يثبت لوصف علّة مناسبة ، ويكون ذلك الإثبات بالدّعوة ، ويتضمّن «يدّعى» معنى الإثبات عدّى إلى الوصف باللّام.

(٤) أي ويشترط في كون إثبات العلّة المناسبة للوصف من البديع أن يكون إثبات العلّة المناسبة مصاحبا لاعتبار ، أي لنظر من العقل «لطيف» أي دقيق يحتاج فيه إلى تأمّل بحيث لا يدرك المعتبر فيه في الغالب إلّا من له تصرّف في دقائق المعاني وفي الاعتبارات اللّطيفة ،

(٥) نعت للاعتبار بمعنى المعتبر ، أي يكون غير حقيقي ، أي غير مطابق للواقع ، بمعنى أنّه ليس علّة في نفس الأمر ، بل اعتبر علّة بوجه يتخيّل به كونه صحيحا ، وما يكون من البديع يشترط فيه أن لا يطابق الواقع ، فلذلك وصفه بكونه غير حقيقي.

(٦) هذا مثال للمنفي.

(٧) أي في مرتبة من مراتب حسن التّعليل ، لأنّ دفع الضّرر علّة في الواقع لقتل الأعادي.

(٨) مبتدأ خبره قوله «غلط» ، وحاصله : أنّ بعض الشّرّاح اعترض على المصنّف ، فقال : الأولى إسقاط قوله «غير حقيقي» لأن قوله : «باعتبار لطيف» يغني عنه ، لأنّ الأمر الاعتباري لا يكون إلّا غير حقيقي ، إذ الاعتباري ما لا وجود له في الخارج ، والحقيقي ما له وجود في الخارج ، وحينئذ فالاعتباري لا يكون إلّا غير حقيقي.

وقال الشّارح في الجواب : إنّ هذا الاعتراض غلط ، نشأ ممّا سمعه من أرباب المعقول حيث يطلقون الاعتباري على مقابل الحقيقي ، مريدين بالاعتباري ما لا وجود له في الخارج ، وبالحقيقي ما له وجود في الخارج ، ففهم أنّ المراد بالاعتبار الأمر الاعتباري ، وأن المراد

٣٣٦

من أنّ هذا الوصف ، أعني غير حقيقي ليس بمفيد ههنا.

لأنّ الاعتبار لا يكون إلا غير حقيقي فغلط ، ومنشؤه ما سمع أنّ أرباب المعقول يطلقون الاعتباري على ما يقابل الحقيقي ، ولو كان الأمر كما توهّم (١) لوجب أن يكون جميع اعتبارات العقل غير مطابق للواقع.

[وهو أربعة أضرب : لأن الصّفة] الّتي ادعى لها علّة مناسبة [إمّا ثابتة (٢) قصد بيان علّتها ، أو غير ثابتة أريد إثباتها ، والأولى (٣) إمّا أن لا يظهر لها في العادة علّة]

________________________________________________________

بقوله : «غير حقيقي» ، أي غير موجود في الخارج.

فاعترض ، ونحن نقول : المراد بالاعتبار هنا نظر العقل ، لا كون الشّيء اعتباريّا ، أي لا وجود له ، والمراد بالحقيقي ما طابق الواقع لا كون الشّيء موجودا في الخارج.

ولا شكّ أنّ ما نظر له العقل تارة يكون حقيقيّا ، أي مطابقا للواقع ، وتارة لا يكون حقيقيّا ، وحينئذ فقول المصنّف : «باعتبار لطيف» لا يغني عن قوله : «غير حقيقي».

(١) أي من أنّ الاعتباري لا يكون إلا غير حقيقي ، أي ما لا وجود له ، «لوجب أن يكون ...» ، واللّازم باطل كما عرفت ، فالملزوم أيضا باطل.

(٢) أي ثابتة في نفسها «قصد بيان علّتها» بحسب الادّعاء لا بحسب الواقع ، لأنّها كما تقدّم آنفا في صدر المبحث ليست علّة بحسب الواقع.

(٣) أي الثّابتة في نفسها قسمان لأنّها «إمّا أن لا يظهر لها في العادة علّة» أخرى غير الّتي أريد بيانها «وإن كانت» تلك الصّفة الثّابتة «لا تخلو من الواقع» وفي نفس الأمر «عن علّة» ، لأن كلّ حكم لا يخلو عن علّة في الواقع غاية الأمر أنّ العلّة الواقعيّة قد تظهر لنا ، وتارة تخفى لنا ، وذلك لما تقرّر في العلم الأعلى أنّ الشّيء لا يوجد إلا لحكمة وعلّة.

٣٣٧

وإن كانت لا تخلو في الواقع عن علّة [كقوله (١) : لم يحك] أي لم يشابه [نائلك] أي عطاءك [السّحاب وإنّما* حمت به] أي صارت محمومة بسبب نائلك وتفوّقه عليها (١) [فيصيبها الرّحضاء (٢)] أي فالمصبوب من السّحاب هو عرق الحمى ، فنزول المطر من السّحاب صفة ثابتة لا يظهر لها في العادة علّة ، وقد علّله (٣) بأنّه عرق حماها الحادثة بسبب عطاء الممدوح ، [أو يظهر لها] أي لتلك الصّفة [على غير] العلّة [المذكورة (٤)] لتكون المذكورة غير حقيقيّة ، فتكون من حسن التّعليل (٥) [كقوله (٦) :

ما به قتل أعاديه ولكن

يتّقي أخلاف ما ترجو الذّئاب

________________________________________________________

(١) أي قول أبي الطّيب ، وحاصل المعنى : أنّ عطاء السّحاب لا يشابه عطاءك في الكثرة ، ولا في الصّدور عن الاختيار ، ولا في وقوعه موقعه المناسب له ، لأنّ السّحاب لا اختيار لها في نزول المطر ، فقد يكون نزوله في غير موقعه المناسب كما هو المحسوس المشاهد لكلّ أحد.

(٢) أي على السّحاب ، أي على نائلها.

(٣) بفتح الحاء وضم الرّاء ، وهو عرق المحموم ، وإلى هذا المعنى أشار بقوله : «أي فالمصبوب من السّحاب هو عرق الحمى» ، وأما الشّاهد فبيّنه بقوله : «فنزول المطر من السّحاب صفة ثابتة له» في نفسها.

(٤) أي الشّاعر «بأنّه» ، أي بأنّ نزول المطر «عرق حماها الحادثة» تلك الحمى «بسبب عطاء الممدوح» ، فالعلّة هي الحمى ، والصّفة هي نزول المطر ، ولا شكّ أنّ استخراج هذه العلّة المناسبة إنّما يحتاج إلى نظر لطيف وتأمّل دقيق ، وليست علّة في نفس الأمر وفي الواقع.

(٥) في كلام المتكلّم ، وإنّما قيّد العلّة الظّاهرة بكونها غير العلّة المذكورة.

(٦) لما عرفت في أوّل المبحث من أنّه لا بدّ في حسن التّعليل من أن لا يكون موافقا لما في نفس الأمر ، وأن لا تكون العلّة حقيقيّة ، والعلّة المذكورة حقيقيّة.

(٧) أي قول أبي الطّيب المتنبّي ، وأمّا الشّاهد فقد بيّنه بقوله : «فإنّ قتل الأعداء أي قتل الملوك أعدائهم إنّما يكون في العادة لدفع مضرّتهم والنّجاة من شرّهم ، وخلوص الملك من ضرّهم فقد نفى علّيتها بحصر العليّة في الاتّقاء من خيبة الرّجاء ، وعلّله بغير ما هو علّته في

٣٣٨

فإنّ قتل الأعداء في العادة لدفع مضرّتهم] وصفوّ (١) المملكة عن منازعتهم [لا لما ذكره (٢)] من أنّ طبيعة الكرم قد غلبت عليه ، ومحبّة صدق رجاء الرّاجين بعثته على قتل أعدائه ، لما علم من أنّه إذا توجّه إلى الحرب صارت الذّئاب ترجو اتّساع الرّزق عليها بلحوم من يقتل من الأعادي ، وهذا مع أنّه وصف بكمال الجود وصف بكمال الشّجاعة ، حتّى ظهر ذلك للحيوانات العجم. [والثّانية] أي الصّفة الغير الثّابتة الّتي أريد إثباتها [إما ممكنة (٣) ، كقوله : يا واشيا (٤) حسنت فينا إساءته (٥) * نجى حذارك] أي حذاري إيّاك.

________________________________________________________

العادة. فالعلّة هنا في الصّفة الّتي هي قتل الأعادي وهي تحقّق ما ترجوه الذّئاب غير مطابق للواقع.

(١) أي خلوّ المملكة عن منازعتهم.

(٢) وهو أنّ طبيعة الكرم قد غلبت عليه ، فصارت محبّته لصدق رجاء الرّاجين لكرمه ، هو الباعث له على قتل الأعداء ، ومن جملتهم الذّئاب ، لأنّه عوّدها إطعامها لحوم الأعداء ، فكان من المعلوم أنّه إذا توجّه إلى الحرب صارت الذّئاب راجية له حينئذ ، ليوسّع عليهم الرّزق بلحوم القتلى من الأعداء.

وكيف كان ففي البيت وصف للممدوح بكمال وصف الجود فيه ، ووصفه بكمال الشّجاعة حتّى ظهرت للحيوانات العجم.

فقد تقدم القسمان من الأربعة ، أحدهما : ما يكون في الصّفة الثّابتة بلا ظهور علّة أخرى ، والآخر : ما يكون فيها مع الظّهور ، ثمّ أشار إلى تحقيق القسمين الباقيين فقال : «والثّانيّة».

(٣) في نفسها مع الجزم بانتفائها لكنّها ممكنة الحصول في ذاتها ، فالثّانيّة وهي غير ثابتة الّتي أريد إثباتها قسمان أيضا : إما ممكنة أو غير ممكنة. ممكنة كقوله : أي قول الشّاعر وهو مسلم بن الوليد من شعراء الدّولة العباسيّة :

(٤) الواشي النّمّام السّاعي بالكلام بين النّاس على وجه الإفساد.

(٥) هذه الجملة صفة «واشيا» والمراد بإساءة الواشي إفساده وحسن إساءة الواشي هو الصّفة لغير الثّابتة الّتي أريد إثباتها ، فعلّله بقوله : «نجى حذارك» أي حذاري إيّاك ، أي حسن إساءتك فينا ، لأجل أنّ إساءتك أوجبت حذاري منك ، فنجى حذارك إنسانيّ ، أي إنسان عيني ، ويقال له بالفارسيّة : مردمك ديده وچشم.

٣٣٩

[إنساني] ، أي إنسان عيني [من الغرق ، فإنّ استحسان إساءة الواشي ممكن ، لكن لما خالف] ، أي الشّاعر [النّاس فيه] إذ لا يستحسنه النّاس [عقبه] ، أي عقب الشّاعر استحسان إساءة الواشي [بأنّ حذاره منه] ، أي من الواشي [نجى إنسانه من الغرق في الدّموع] ، أي حيث ترك البكاء خوفا منه ، [أو غير ممكنة ، كقوله :

________________________________________________________

والحاصل :

إنّ إساءتك أوجبت حذاري منك ، فلم أبك لئلّا تشعر بأنّي عاشق ، فيذهب إلى المحبوبة ، فيقول لها كلاما ، ويأتي عندي ويقول كلاما فيفسد بيني وبني المحبوبة ، ولما تركت البكاء نجا إنسان عيني من الغرق في الدّموع.

وأما الشّاهد :

فإنّ استحسان إساءة الواشي ممكن ، لكن لما خالف الشّاعر كلّ «النّاس فيه» أي في استحسان إساءة الواشي ، حيث «لا يستحسن النّاس» إساءة الواشي ، وإن كان ممكنا «عقبه» ، أي عقب الشّاعر «استحسان إساءة الواشي بأن حذاره» أي حذار الشّاعر «منه» ، أي من الواشي «نجى إنسانه» ، أي إنسان عين الشّاعر من الغرق في الدّموع حيث ترك البكاء خوفا منه ، أي من الواشي ، وليعلم أن الغرق في الدّموع كناية عن العمى.

فإن قلت : إنّ صحة التّمثيل بهذا البيت متوقّفة على أمرين :

الأوّل : عدم وقوع المعلّل.

والثّاني : كون العلّة غير مطابقة لنفس الأمر ، وكلا الأمرين غير ثابت في البيت ، لأنّ من ادّعى أنّ إساءة الواشي حسنت عنده لغرض من الأغراض لا يعدّ كاذبا ، وحينئذ فالصّفة المعلّلة على هذا ثابتة والعلّة الّتي هي نجاة إنسانه من الغرق بترك البكاء لخوف الواشي ، لا يكذّب مدعّيها لصحّة وقوعها ، وحينئذ لا يكون هذا البيت من هذا القسم ، ولا من حسن التّعليل ، وذلك لأنّه لمطابقة العلّة لا يكون من حسن التّعليل ، ولثبوت العلّة لا يكون من هذا القسم.

قلت : المعتاد أن حسن إساءة الواشي لا يقع من أحد ، فعدم وقوع الصّفة مبنيّ على المعتاد وترك البكاء لخوف الواشي ، باطل عادة ، لأنّ من غلبه البكاء لم يبال بمن حضر عادة ، سواء كان واشيا ، أو غير واش ، فدعاوي الشّاعر استحسانات فرضيّة ، لأنّ أحسن الشّعر أكذبه ، فصحّ التّمثيل بالبيت.

٣٤٠