دروس في البلاغة - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٤

[كأنّها (١) فوق قامات ضعفن بها (٢)

أوائل (٣) النّار في أطراف كبريت]

فإنّ صورة اتّصال النّار بأطراف الكبريت لا يندر حضورها في الذّهن (٤) ندرة حضور بحر من المسك موجه الذّهب ، لكن يندر حضورها (٥) عند حضور صورة البنفسج ، فيستطرف بمشاهدة عناق بين صورتين (٦)

________________________________________________________

باليواقيت الحمر ، وهذا غير متعيّن ، إذ يجوز أن يكون قد أراد اليواقيت الحمر الحقيقيّة ، أي إنّها تزهو على اليواقيت الحقيقيّة إلّا أنّ المناسب للبنفسج هو المعنى الأوّل.

(١) أي اللّازورديّة بمعنى البنفسجة ، وعنى بها رأسها من الأوراق ، وما أحاطت به لا مع السّاق ، بدليل قوله : «فوق قامات» ، أي ساقات ، وقوله : «فوق قامات» حال من اسم كأنّ ، وجمعها مع أنّ البنفسجة فوق ساق واحد ـ باعتبار الأفراد.

(٢) أي ضعفت تلك القامات بتلك الأزهار اللّازورديّة ، أي ضعفت عن تحمّلها ، لأنّ ساقها في غاية الضّعف واللّين ، ولذا انحنت بسببها لثقلها.

(٣) خبر «كأنّها» ، أي كأنّ اللّازورديّة أوائل النّار المتّصلة بالكبريت الّتي تضرب إلى الزّرقة ، لا الشّعلة المرتفعة ، فإنّ صورة اتّصال النّار بأطراف الكبريت لا يندر حضورها في الذّهن ندرة صورة بحر من المسك موجه الذّهب ، وإنّما النّادر حضورها عند حضور صورة البنفسج.

والشّاهد في البيت كونه مشتملا على تشبيه يكون الغرض منه استطراف المشبّه بسبب إبرازه في صورة المشبّه به النّادر الحضور في الذّهن عند حضوره ، فإنّ هذا موجب لانتقال هذا النّدور إليه ، وهو يوجب استطرافه وعدّه حديثا غريبا ، وإن كان مبتذلا في نفسه.

(٤) أي لأنّ الإنسان يستعمل في الغالب الكبريت في النّار عند إيقادها.

(٥) أي صورة النّار يندر حضور النّار عند حضور صورة البنفسج ، وذلك فإنّ الإنسان إذا خطر البنفسج بباله لا تخطر بباله النّار لا سيّما في أطراف الكبريت لما بينهما من غاية البعد ، لأنّ النّار في أطراف الكبريت في غاية اليبوسة ، والبنفسج في غاية الرّطوبة وجمعهما في الذّهن في غاية الاستطراف.

(٦) أي صورة اتّصال النّار بأطراف الكبريت وصورة البنفسج ، وحاصل الكلام أنّه

٢١

متباعدتين غاية البعد. [وقد يعود] أي الغرض من التّشبيه [إلى المشبّه به (١) ، ـ وهو (٢) ضربان : أحدهما إيهام (٣) أنّه أتمّ من المشبّه] في وجه الشّبه [وذلك (٤) في التّشبيه المقلوب (٥)] الّذي يجعل فيه النّاقص مشبّها به قصدا (٦) إلى ادّعاء أنّه (٧) أكمل [كقوله (٨) : وبدا (٩) الصّباح كأنّ غرته (١٠)] ، هي بياض في جبهة الفرس فوق الدّرهم ، استعير لبياض الصّبح [وجه الخليفة حين يمتدح] فإنّه قصد إيهام أنّ وجه الخليفة أتمّ من الصّباح في الوضوح والضّياء ، وفي قوله : حين يمتدح ، دلالة على

________________________________________________________

يستطرف المشبّه ، أي صورة البنفسج بسبب مشاهدة صورة اتّصال النّار ، أي بسبب ندرة مشاهدة المعانقة والاتّصال والجمع بين صورتين متباعدتين.

(١) أي في الكلام والظّاهر لا في الحقيقة والواقع.

(٢) أي الغرض العائد إلى المشبّه به ضربان.

(٣) أي إيقاع المتكلّم في وهم السّامع أنّ المشبّه به أتمّ مع أنّه ليس كذلك في الحقيقة.

(٤) أي إيهام أنّ المشبّه به أتمّ من المشبّه في وجه الشّبه.

(٥) أي وهو المسمّى بالتّشبيه البليغ ، ثمّ المقلوب أن يجعل ما هو ناقص مشبّها به ، مع أنّ الأصل أن يكون النّاقص مشبّها.

(٦) أي قوله : «قصدا» علّة للجعل المذكور.

(٧) أي النّاقص.

(٨) أي قول محمد بن وهب في مدح المأمون بن هارون الرّشيد العباسيّ.

(٩) أي «بدا» بالموحّدة والدّال المهملة ماض بمعنى ظهر ، «الصّباح» كفلاح الفجر أو الضّياء التّام ، «يمتدح» مجهول من الامتداح من المدح ، وهو خلاف الذّمّ ، وفي إتيانه بالبناء للمفعول لطيفة ، وهي أنّه يشعر بأنّه لا مدح في بشاشة الأمير خصوصيّة المدح من فاعل معيّن ، والشّاهد في البيت : كونه مشتملا على تشبيه الكامل بالنّاقص تشبيها بليغا لإيهام أنّه هو الكامل.

(١٠) أي غرّة الصّباح ، ثمّ استعمال غرّة الصّباح لبياضه من قبيل الاستعارة المصرّحة ، حيث شبّه البياض عند الصّباح بالبياض الكائن في جبهة الفرس ، ثمّ ترك الأركان عدا لفظ المشبّه به وأريد به المشبّه.

٢٢

اتّصاف الممدوح (١) بمعرفة حقّ المادح (٢) ، وتعظيم (٣) شأنه عند الحاضرين بالإصغاء (٤) إليه والارتياح له (٥) ، وعلى كماله في الكرم (٦) ، حيث يتّصف بالبشر والطّلاقة (٧) عند استماع المديح.

[و] الضّرب [الثّاني] من الغرض العائد إلى المشبّه به [بيان الاهتمام به] أي بالمشبّه به (٨) ، [كتشبيه الجائع وجها كالبدر في الإشراق والاستدارة (٩) بالرّغيف ، ويسمّى هذا] أي التّشبيه المشتمل على هذا النّوع من الغرض (١٠)

________________________________________________________

(١) وهو الخليفة.

(٢) أي بمعرفة ما يستحقّه من التّعظيم وغيره.

(٣) هذا تفسير لحقّ المادح.

(٤) متعلّق ب «تعظيم» أي تعظيم ذلك الممدوح بالإصغاء إلى المادح.

(٥) أي الاطمئنان لذلك المادح.

(٦) أي قوله : «على كماله في الكرم» عطف على قوله : «اتّصاف الممدوح».

(٧) أي طلاقة الوجه وعدم عبوسه ، ثمّ المراد بالمديح هو المدح ، وحاصل ما ذكره الشّارح أنّ تقييد الشّاعر إشراق وجه الممدوح على وجه يقتضي أكمليّته على الصّباح بحين الامتداح يدلّ على معرفته لحقّ المادح ، وعلى كرمه ، وذلك لأنّ إشراق الوجه حال الامتداح ، يدلّ على شيئين : أحدهما قبول المدح ، وإلّا لعبس وجهه وهذا مستلزم لمعرفة حقّ صاحبه بمقابلته بالسّرور التّامّ.

والثّاني : كون الممدوح طبعه الكرم ، لأنّ الكريم هو الّذي يهزّه الانبساط حال المدح حتّى يظهر أثره على وجهه ، ولو كان لئيما لعبس وجهه.

(٨) أي إظهار المتكلّم للسّامع أنّه مهتمّ به ، ولا بدّ في هذا من قرينة كالعدول ممّا يناسبه إلى غيره في المثال الّذي ذكره المصنّف ، فإنّ المناسب والمتعارف تشبيه الوجه الحسن بالبدر لا بالرّغيف ، فلمّا عدل منه إلى تشبيهه بالرّغيف يعرف أنّ له اهتماما به ، أي بالرّغيف وهو المشبّه به.

(٩) أي كان عليه أن يزيد قوله : واستلذاذ النّفس.

(١٠) أي بيان الاهتمام بالمشبّه به.

٢٣

[إظهار المطلوب (١) هذا] الّذي ذكرناه من جعل أحد الشّيئين مشبّها والآخر مشبّها به ، إنّما يكون (٢) [إذا أريد إلحاق النّاقص] في وجه التّشبه [حقيقة] كما في الغرض العائد إلى المشبّه [أو ادّعاء] كما في الغرض العائد إلى المشبّه به (٣) [بالزّائد (٤)] في وجه الشّبه. [فإن أريد (٥) الجمع بين شيئين في أمر] من الأمور من غير قصد (٦) إلى كون أحدهما ناقصا والآخر زائدا ، سواء وجدت الزّيادة والنّقصان أم لم توجد ـ [فالأحسن ترك التّشبيه (٧)]

________________________________________________________

(١) أي ذا إظهار المطلوب ، ووجه تسميته بذلك كونه مبرزا لما هو مقصود المتكلّم لبّا ، كما في المثال ، فإنّ عدوله عن تشبيه الوجه بالبدر ، إلى تشبيهه بالرّغيف ناطق بأنّ الرّغيف يجول في خياله ، وأنّه طالب له ، والعادة قاضية على أنّه لا يطلبه إلّا الجائع ، فيكون التّشبيه دالا على أنّه جائع ، وهو المطلوب.

(٢) أي إنّما يكون الّذي ذكرناه إذا أريد إلحاق النّاقص حقيقة بالزّائد ، كما في التّشبيه الّذي يعود الغرض منه إلى المشبّه ، وقد عرفت موارد عود الغرض إلى المشبّه ، كبيان إمكانه ، وبيان حاله ، وبيان مقدار حاله ، وتقرير حاله ، وتزينيه ، وتشويهه واستطرافه.

(٣) وهو أمران إيهام أنّه أتمّ ، وبيان الاهتمام به.

(٤) قوله : «بالزّائد» متعلّق ب «إلحاق» ، والمراد به أعمّ من الزّائد الحقيقي والادّعائي ، والأوّل في فرض كون الغرض عائدا إلى المشبّه ، والثّاني في فرض كونه عائدا إلى المشبّه به.

(٥) أي فإن لم يراد إلحاق النّاقص بالكامل ، بل أريد الجمع بين شيئين في أمر من الأمور ، سواء كان مفردا أو مركّبا حسّيّا أو عقليّا واحدا أو متعدّدا.

(٦) أي بل قصد استوائهما في ذلك الأمر من غير التفات إلى القدر الّذي زاد به أحدهما على الآخر ، إن كان في أحدها زيادة في الواقع ، إمّا لاقتضاء المقام المبالغة في ادّعاء التّساوي ، وإمّا لأنّ الغرض إفادة أصل الاشتراك فيلغى الزّائد ، إن كان موجودا في الواقع ، كما في قولك :

تشابه وجه الخليفة والصّبح.

(٧) أي فالأحسن ترك المتكلّم التّشبيه ذاهبا إلى الحكم بالتّشابه الّذي هو تشبيه غير معروف ، أي التّشابه الّذي قصد فيه التّساوي بين الطّرفين في أمر من الأمور.

٢٤

ذاهبا [إلى الحكم بالتّشابه] ليكون كلّ من الشّيئين مشبّها ومشبّها به (١) [احترازا من ترجيح أحد المتساويين] في وجه الشّبه (٢) [كقوله (٣) :

تشابه دمعي إذ جرى ومدامتي

فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب

فو الله ما أدري أبا الخمر أسبلت جفوني*] يقال أسبل الدّمع ، والمطر إذا هطل ، وأسبلت السّماء ، والباء في قوله : أبا لخمر ، للتّعدية ، وليست بزائدة على ما توهّم بعضهم [أم من عبرتي (٤) كنت أشرب]

________________________________________________________

(١) أي في المعنى.

(٢) أي ترك التّشبيه إلى الحكم بالتّشابه لأجل الاحتراز والتّباعد من إيهام ترجيح أحد المتساويين في وجه الشّبه بحسب قصده على الآخر من دون مرجّح ، وذلك لأنّ السّابق إلى الذّهن من التّشبيه المعروف أنّ قصد المتكلّم ترجيح المشبّه به على المشبّه في وجه الشّبه.

(٣) أي قول أبي إسحاق الصّابي.

(٤) شرح مفردات البيت «الدّمع» بالدّال والعين المهملتين كفلس ماء العين ، «جرى» ماض من الجرى ، «ومدامتي» الواو بمعنى مع ، ومدامة بضمّ الميم والدّالّ المفتوحة المهملة قسم من الخمر ، وإنّما سمّى بذلك لأنّه ليس شراب يستطاع إدامة شربه إلّا هو ، «فمن» الفاء للتّعليل ومن زائدة أو ابتدائيّة متعلّقة ب «تسكب» أي بسبب كون عيني تسكب دمعا ناشئا من مثل الخمر الّتي في الكأس.

«تسكب» بسكون السّين المهملة وضمّ الكاف والموحّدة مضارع من السّكب ، بمعنى الصّبّ ، «الجفون» بالضّمّ جمع جفن ، وهو غطاء العين من أعلى وأسفل ، «العبرة» بالعين والرّاء المهملتين بينهما موحّدة ماء العين.

والشّاهد في قوله : «تشابه دمعي ومدامتي» ، حيث قصد الشّاعر التّساوي بينهما ، فعدل من التّشبيه إلى التّشابه.

لا يقال : إنّ قوله : «من مثل» يدلّ على التّشبيه ، وقوله : «تشابه» يدلّ على التّشابه فبينهما تناقض.

لأنّا نقول : إنّ سبق تشابه قرينة على أنّه لم يرد بالمثل التّشبيه المعروف ، بل أريد به ما

٢٥

لمّا اعتقد التّساوي بين الدّمع والخمر ترك التّشبيه إلى التّشابه. [ويجوز (١)] عند إرادة الجمع بين شيئين (٢) في أمر ـ [التّشبيه (٣) أيضا (٤)] لأنّهما وإن تساويا في وجه الشّبه بحسب قصد المتكلّم (٥) إلّا أنّه يجوز له أن يجعل أحدهما مشبّها والآخر مشبّها به لغرض من الأغراض (٦) وسبب من الأسباب مثل زيادة الاهتمام (٧) وكون الكلام فيه [كتشبيه غرّة الفرس بالصّبح (٨) وعكسه] إلى تشبيه الصّبح بغرّة الفرس (٩)

________________________________________________________

يساوق التّشابه ، أعني التّشبيه الّذي أريد به مجرّد الجمع من دون إلحاق النّاقص بالزّائد ، فلا منافاة في البيت من جهة اشتماله على التّشابه والتّمثيل معا.

(١) هذا مقابل لقوله : «فالأحسن» ، وهذا وإن كان مستفادا منه ، لكنّه تعرّض له ليوضّحه بالتّمثيل والتّكلّم حوله غاية الإيضاح.

(٢) أي إرادة جمع مشبّه به ومشبّه في وجه شبه.

(٣) قوله : «التّشبيه» فاعل لقوله : «يجوز».

(٤) أي كما كان الحكم بالتّشابه جائزا ، بل كان أحسن.

(٥) أي بأن لم يرد المتكلّم أنّ أحدهما زائد فيه ، إن كان هناك زائد ، بل قصد اشتراك الطّرفين فيه على حدّ سواء ، وإن كان في أحدهما زيادة في الواقع.

(٦) أي غير داخل في وجه الشّبه الّذي قصد تساوي الطّرفين فيه.

(٧) أي لحبّه كما إذا شغف بحبّ فرسه ، فقال غرّة فرسيّ كلّؤلؤة في كفّ عبد ، قاصدا إفادة ظهور منير في أسود أكثر منه ، فليس غرضه من التّشبيه تزيين الغرّة ، ولا تقرير كمالها ، بل الغرض من تقديم الغرّة ، وجعلها مشبّها الاهتمام بها ، قوله : «وكون الكلام فيه» ، أي كما إذا كان حديثه في أحد الطّرفين أوّلا ، فينجرّ الكلام إلى وصفه فيناسب تقديمه وجعله مشبّها ، لأنّ أصل تركيب الكلام أن يكون كذلك ، وهذا من معنى الاهتمام ، لأنّ إجراء الشّيء على المناسب الأصلي من التّقديم ما يقتضي الاهتمام.

(٨) أي فيما إذا اقتضى الحال تقديمها وجعلها مشبّهة ، كما إذا كان الكلام قبل التّشبيه حول خصوصياتها ، فإنّه يقتضي أن تذكر أوّلا ، وتجعل مشبّهة ، أو كانت موردا لاهتمام المتكلّم ، كما إذا كان الفرس ، وما فيه من الأوصاف نصب عينه ، فيقدّمه للاهتمام.

(٩) أي إذا كان الحال يقتضي ذلك ، كما إذا كان الكلام انجرّ إليه ، أو كان موردا لاهتمام المتكلّم.

٢٦

[متى أريد ظهور منير في مظلم أكثر منه] أي من ذلك المنير (١) من غير قصد (٢) إلى المبالغة في وصف غرّة الفرس بالضّياء والانبساط وفرط التّلألؤ (٣) ونحو ذلك (٤) إذ لو قصد ذلك (٥) لوجب جعل الغرّة مشبّها والصّبح مشبّها به

أقسامه

[وهو (٦)] أي التّشبيه [باعتبار الطّرفين] المشبّه والمشبّه به أربعة أقسام (٧)

________________________________________________________

(١) أي المراد بالمنير في المثال الغرّة وبياض الصّبح ، ومن المظلم اللّيل والفرس ، والحاصل أنّه متى قصد إفادة أنّ وجه الشّبه ما ذكر جاز أن تشبّه الغرّة بالصّبح ، والصّبح بالغرّة لحصول المقصود بكلّ من التّشبيهين.

(٢) أي من غير قصد المتكلّم إلى المبالغة ...

(٣) أي زيادة اللّمعان.

(٤) أي نحو المبالغة في وصف الفرس بما ذكر.

(٥) أي لو قصد تشبيه غرّة الفرس بالصّبح ، لأجل المبالغة في الضّياء والتّلألؤ لا لأجل إفادة ظهور منير في مظلم ، فإنّه لا يكون حينئذ من باب التّشابه ، وحينئذ فيتعيّن جعل الغرّة مشبّها والصّبح مشبّها به ، ولا يصحّ العكس فيه إلّا لغرض يعود إلى المشبّه به ، من إيهام كونه أتمّ من المشبّه على ما عرفت.

(٦) أي لمّا فرغ المصنّف من الكلام على أركان التّشبيه ، والغرض منه ، شرع في الكلام على تقسيم التّشبيه ، وهو إمّا باعتبار الطّرفين ، أو باعتبار الوجه ، أو باعتبار الأداة ، أو باعتبار الغرض ، ويأتي هذا التّرتيب في كلام المصنّف فانتظر.

(٧) لا يخفى أنّ أقسام التّشبيه باعتبار الطّرفين في الحقيقة أكثر من الأربعة ، بل هي تسعة أقسام حاصلة من ضرب ثلاثة في ثلاثة ، لأنّ الطّرفين إمّا مفردان أو مقيّدان أو مركّبان ، أو المشبّه مفرد والمشبّه به مقيّدا ، أو بالعكس ، أو المشبّه مفرد والمشبّه به مركّب ، أو بالعكس ، أو المشبّه مقيّد ، والمشبّه به مركّب ، أو بالعكس ، ولكنّ المصنّف لم يعتبر التّقييد في عرض الأفراد تقليلا للأقسام ، فجعل الأقسام أربعة ، وإنّما لم يتعرّض هنا حديث الحسّيّة والعقليّة ، لأنّه قد تكلّم حولها مفصّلا عند البحث عن الطّرفين ، فاعتمد عليه هنا ، هذا بخلاف حديث الأفراد والتّركيب ، فإنّه لم يسبق منه التّكلّم حوله إلّا ضمنا عند البحث عن وجه الشّبه المركّب الحسّي ، فلهذا تعرّض له هنا.

٢٧

لأنّه [إمّا تشبيه مفرد بمفرد وهما] أي المفردان [غير مقيّدين كتشبيه الخدّ بالورد (١) ، أو مقيّدان كقولهم] لمن لا يحصل من سعيه على طائل [هو كالرّاقم على الماء] فالمشبّه هو السّاعي المقيّد ، بأن لا يحصل من سعيه على شيء ، والمشبّه به هو الرّاقم المقيّد بكون رقمه على الماء ، لأنّ (٢) وجه الشّبه هو التّسوية بين الفعل وعدمه ، وهو (٣) موقوف على اعتبار هذين القيدين. [أو مختلفان] أي أحدهما مقيّد والآخر غير مقيّد ، [كقوله : والشّمس كالمرآة] في كفّ الأشلّ (٤) فالمشبّه به أعني المرآة مقيّدة بكونها في كفّ الأشلّ ، بخلاف المشبّه أعني الشّمس (٥)

________________________________________________________

(١) أي بأن يقال : خدّه كالورد في الحمرة ، فإنّ الخدّ وإن كان مضافا ، لكنّه يعدّ غير مقيّد ، لأنّ المضاف إليه لا دخل له في وجه الشّبه.

(٢) علّة لكون المشبّه هو السّاعي المقيّد بما ذكر ، والمشبّه به هو الرّاقم المفيد بالقيد الموصوف.

(٣) أي التّسوية موقوف على اعتبار القيدين ، لأنّ مطلق ساع ومطلق راقم ، قد لا يتّصف واحد منهما بالوجه المذكور ، لأنّه يجوز أن يحصل ساع من سعيه على طائل ، ويجوز أن يرقم راقم على حجر ، فلكلّ من القيدين دخل في التّشبيه ، لتوقّف تحقّق وجه الشّبه عليه.

(٤) وقد تقدّم شرح هذا البيت فراجع.

(٥) أي إنّها غير مقيّدة لفظا ، فلا يرد أنّ المشبّه ليس مطلق الشّمس ، بل الشّمس المقيّدة بوقت العصر أو وقت الصّباح ، إذ قد عرفت أنّه لا يكفى في عدّ الطّرفين أو أحدهما مقيّدا بمجرّد التّقييد في المعنى ، بل لا بدّ من التّقييد في اللّفظ أو ما في حكمه ، بأن يكون مقدّرا في نظم الكلام مضافا إلى التّقييد في المعنى.

فإن قلت : إنّ المشبّه ليس مطلق الشّمس ، بل الشّمس المقيّدة بالحركة فيكون مقيّدا.

قلت : إنّ الحركة لمّا كانت لازمة للشّمس غير منفكّة عنها أبدا كانت كأنّها جزء من مفهومها ، وليست بقيد خارج فلا يكون مقيّدا.

٢٨

[وعكسه] أي تشبيه المرآة في كفّ الأشلّ بالشّمس ، فالمشبّه (١) مقيّد دون المشبّه به [وإمّا تشبيه مركّب بمركّب] بأن يكون كلّ من الطّرفين كيفيّة (٢) حاصلة من مجموع أشياء قد تضامّت وتلاصقت (٣) حتّى عادت شيئا واحدا [كما في بيت (٤) بشّار] كأنّ مثار النّقع (٥) فوق رؤوسنا وأسيافنا على ما سبق تقريره (٦). [وإمّا تشبيه مفرد بمركّب كما مرّ من تشبيه الشّقيق] وهو (٧) مفرد بأعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد ، وهو مركّب من عدة أمور.

________________________________________________________

(١) أي إذا كان الأمر كذلك ، فالمشبّه أعني المرآة في كفّ الأشلّ مقيّد دون المشبّه به ، أعني الشّمس.

(٢) أي هيئة حاصلة ...

(٣) عطف تفسير على قوله : «تضامّت» أي تلاصقت الأجزاء بعضها مع البعض حتّى عادت ، أي صارت شيئا واحدا ، بحيث لو انتزع الوجه من بعضهما اختلّ التّشبيه في قصد المتكلّم ، ويجب في تشبيه المركّب بالمركّب أن يكون وجه الشّبه مركّبا ، أي هيئة ، كما أنّه في تشبيه المفرد بالمركّب ، لا بّد أن يكون الوجه كذلك ، وأمّا في تشبيه المفرد بالمفرد فتارة يكون الوجه مركّبا ، وتارة يكون مفردا.

(٤) الإضافة للعهد ، أشار بها إلى ما سبق من قوله : «كأنّ مثار النّقع ...».

(٥) أي الغبار.

(٦) أي سبق تقريره في المركّب الحسّيّ الّذي طرفاه مركّبا ، أي فقد شبّهت الهيئة المنتزعة من السّيوف المسلولة المقاتل بها مع انعقاد الغبار فوق رؤوسهم بالهيئة المنتزعة من النّجوم ، وتساقطها في اللّيل إلى جهات متعدّدة.

(٧) أي الشّقيق مفرد مقيّد ، لأنّ الشّقيق قد قيّد بوصف ، أي الاحمرار له دخل في وجه الشّبه ، والمشبّه به مركّب من عدة أمور ، وهي عبارة عن الأعلام ، وكونها ياقوتيّة ، وكونها منثورة على رماح ، وكون الرّماح من زبرجد ، فإنّ هذه الأمور اعتبرت متلاصقة كشيء واحد ، وانتزع منها هيئة شبّهت بها الهيئة الحاصلة من محمرّ الشّقيق بجامع هيئة شاملة لهما.

٢٩

والفرق (١) بين المركّب والمفرد المقيّد أحوج شيء إلى التّأمل ، فكثيرا ما يقع الالتباس. [وإمّا تشبيه مركّب بمفرد ، كقوله (٢) : يا صاحبيّ تقصّيا (٣) نظريكما]

________________________________________________________

(١) اعلم أنّ الفرق من حيث المفهوم واضح ، لا خفاء فيه ، لأنّ المركّب هيئة منتزعة من أمور متعدّدة ، كالأعلام الياقوتيّة المنشورة على الرّماح الزّبرجديّة ، والمفرد المقيّد أمر واحد اعتبر تقيده بشيء كالرّاقم المقيّد بكون رقمه على الماء ، فالمقصود بالذّات في المركّب هي الهيئة المنتزعة ، والأجزاء الّتي انتزعت منها ملحوظة على نحو الآليّة ، ولغرض التّوصل بها إلى تلك الهيئة ، هذا بخلاف المقيّد فإنّ أحد الأجزاء فيه مقصود بالذّات والباقي بالتّبع ، هذا أمر واضح بحسب المفهوم ، وإنّما الخفاء في الفرق بينهما بحسب المصداق بأن يشخّص أنّ هذا مركّب وذاك مفرد مقيّد ، حيث إنّ التعدّد معتبر في كلّ منهما ، فتعيين أنّ هذه الأمور المتعدّدة ملحوظة تبعا والمقصود بالأصالة هي الهيئة ، أو تلك الأمور المتعدّدة أحدها ملحوظ قصدا والباقي تبعا في غاية العسر.

ولا يمكن تشخيص أحد الوجهين عند التّردّد من ناحية التّركيب اللّفظي ، لاستوائه فيهما ، إذ قد ذكرنا أنّ المعتبر في المقيّدان يذكر القيد لفظا ، فليس في المقام ما يرجع إليه عند التّردّد إلّا الذّوق السّليم ، وصفاء القريحة ، فلا بدّ من المراجعة إليه ، فإن كان حاكما بوجود الحسن في جعل المشبّه أو المشبّه به على نحو منع الخلّو هيئة منتزعة نلتزم بالتّركيب ، وإن كان حاكما بحسن جعل أحدهما أو كليهما مفردا مقيّدا نلتزم بالتّقييد ، وعند عدم تشخيص أحد الوجهين بالذّوق يحكم بالإجمال.

(٢) أي قول أبي تمّام من قصيدة يمدح بها المعتصم.

(٣) «تقصّيا» بالقاف والصّاد المهملة المشدّدة والياء ، أمر بصيغة التّثنيّة من تقصّيته ، أي بلغت أقصاه ، أي نهايته ، «تريا» مخاطب من الرّؤيّة ، «تصوّر» أصله تتصوّر حذفت إحدى التّائين تخفيفا ، «مشمسا» بصيغة اسم الفاعل بمعنى ذا شمس لم يستره غيم ، «شابه» بالشّين المعجمة والموحّدة ماض من الشّوب بمعنى الخلطة ، «الزّهر» بالزّاء المعجمة والرّاء المهملة كفرس مصدر زهر القمر ، كفرح وكرم ، وأراد به هنا النّباتات مطلقا ، «الرّبا» بضّمّ الرّاء المهملة وفتح الموحّدة مقصورا ، جمع ربوة وهي المكان المرتفع من الأرض.

٣٠

في الأساس تقصّيته ، أي بلغت أقصاه ، أي اجتهدا في النّظر وأبلغا أقصى نظريكما [تريا وجوه الأرض كيف (١) تصوّر] أي تتصوّر حذفت التّاء ، يقال صوّره الله صورة حسنة فتصوّر [تريا نهارا مشمسا] أي ذا شمس لم يستره غيم [قد شابه] أي خالطه [زهر الرّبى خصّها (٢) لأنّها (٣) أنضر وأشدّ خضرة ، ولأنّها (٤) المقصود بالنّظر [فكأنّما هو] أي ذلك النّهار (٥) المشمس الموصوف [مقمر] أي ليل ذو قمر ، لأنّ (٦) الأزهار باخضرارها قد نقصت من ضوء الشّمس حتّى صار يضرب (٧) إلى السّواد. فالمشبّه مركّب (٨) ،

________________________________________________________

والشّاهد في البيت : كونه مشتملا على تشبيه أحد طرفيه إلى المشبّه مركّب ، وطرفه الآخر ، أي المشبّه به مفرد ، لأنّ المشبّه في الحقيقة هي الهيئة المنتزعة من النّهار ، وكونه ذا شمس ومشوب ضوئه بزهر الرّبا ، والمشبّه به هو قوله : «مقمر».

(١) أي قوله : «كيف تصوّر» مقول لقول محذوف ، أي قائلين على وجه التّعجب كيف تصوّر ، أي كيف تصير صورتها حسنة بأزهار الرّبيع ، فهو من الصّورة ، أو كيف تتصوّر وتتشكّل ، فهو من التّصور.

(٢) أي زهر الرّبا بالذّكر ، وأنّث الضّمير لاكتساب زهر التّأنيث من المضاف إليه ، ويحتمل أن يكون الضّمير في «خصّها» ، يعود إلى «الرّبا» ، أي خصّ الرّبا بالذّكر ، دون سائر البقاع ، لأنّها أي الرّبوة أنضر من غيرها باعتبار ما فيها من الزّرع.

(٣) أي زهر الرّبا أو الرّبوة أنضر وأشدّ خضرة من زهر غيرها ، لبعدها عن الوطي بالأرجل.

(٤) أي الرّبوة بمعنى المكان العالي والمرتفع هو المقصود بالنّظر ، لأنّ الشّخص بحسب الشّأن يبدأ بالنّظر للعالي ، ثمّ بما دونه.

(٥) أي ضوء ذلك النّهار المشمس الموصوف بأنّه قد خالطه لون زهر الرّبا.

(٦) أي قوله : «لأنّ الأزهار ...» ، علّة لقوله : «فكأنّما هو مقمر».

(٧) أي حتّى صار الضّوء يميل إلى السّواد ، فصار بذلك النّهار المشمس كاللّيل المقمر لاختلاط ضوئه بالسّواد.

(٨) أي المشبّه هو النّهار المشمس الّذي شابه زهر الرّبا أي الهيئة المنتزعة من ذلك ، فيكون مركّبا ، وفي المطوّل ما حاصله من أنّ التّمثيل بهذا المثال لتشبيه المركّب بالمفرد لا يخلو

٣١

والمشبّه به مفرد وهو المقمر. [وأيضا (١)] تقسيم آخر للتّشبيه باعتبار الطّرفين (٢) ، وهو (٣) أنّه [إن تعدّد طرفاه (٤) فإمّا ملفوف (٥)] وهو أن يؤتى أوّلا بالمشبّهات على طريق العطف أو غيره (٦) ثمّ بالمشبّه به كذلك (٧) [كقوله (٨):] في صفة العقاب بكثرة (٩) اصطياد الطّيور. [كأنّ قلوب الطّير رطبا] بعضها (١٠)

________________________________________________________

عن تسامح ، لأنّ قوله : «مقمر» بتقدير ليل مقمر ، وحينئذ ففي المشبّه به تعدّد وشائبة تركيب. والجواب أنّ الوصف والإضافة لا تمنع الأفراد لما سبق من أنّ المراد بالمركّب هي الهيئة الحاصلة من عدّة أشياء ، والمشبّه به هنا ليس كذلك بل مفرد مقيّد بقيد ، فلا تسامح فيه ، هذا مع أنّ صاحب القاموس ذكر أنّ المقمر ليلة فيها قمر ، فليس في الكلام تقدير الموصوف حتّى يرد الاعتراض.

(١) أي ونعود عودا إلى «تقسيم آخر للتّشبيه» ، أي المطلق التّشبيه.

(٢) أي باعتبار وجود التّعدّد فيهما ، أو في أحدهما.

(٣) أي التّقسيم ، الضّمير في قوله : «أنّه» للشّأن.

(٤) أي تعدّد كلّ منهما بحيث كان التّشبيه في الحقيقة تشبيهات لا تشبيها واحدا.

(٥) أي مضموم بعضها إلى بعض في المشبّهات والمشبّهات بها ، تسمّى بذلك للفّ المشبّهات فيه ، أي ضمّ بعضها إلى بعض ، وكذلك المشبّهات بها.

(٦) أي غير العطف ، كطريق التّشبيه والجمع كأن يقال : الحسنان O كالقمرين ، أي كالشّمس والقمر ، أو يقال الأئمّة عليهم‌السلام ـ كالنّجوم اللّامعة.

(٧) أي على طريق العطف أو غيره.

(٨) أي قول امرئ القيس «في صفة العقاب» أي في وصف العقاب ، والعقاب مؤنّث سماعيّة ، ولذا يجمع على أعقب ، فإنّ أفعلا يختصّ به جمع الأناث ، نحو : عناق وأعنق وذراع واذرع.

(٩) ووجه كون البيت وصفا للعقاب بكثرة اصطياد الطّيور أنّه يلزم من كثرة قلوب لدى وكرها رطبا ويابسا كثرة اصطيادها لها.

(١٠) أي زاد لفظ بعض في هذين الموضعين دفعا لما يقال : إنّ رطبا ويابسا حالان عن قلوب الطّير ، والحال يجب مطابقتها لصاحبها في التّذكير والتّأنيث ، وهي مفقودة هنا ، إذ لم يقل : رطبة ويابسة ، بل قال : رطبا ويابسا ، وحال الدّفع إنّ الضّمير في «رطبا» و «يابسا»

٣٢

[ويابسا] بعضها [لدى وكرها العنّاب والحشف] وهو أردأ التّمر [البالي (١)] شبّه (٢) الرّطب الطّرّي من قلوب الطّير بالعنّاب ، واليابس العتيق منها بالحشف البالي ، إذ ليس (٣) لاجتماعهما هيئة مخصوصة يعتدّ بها ويقصد تشبيهها ، إلّا أنّه (٤) ذكر أوّلا المشبّهين ثمّ المشبّه بهما على التّرتيب. [أو مفروق (٥)] وهو أن يؤتى بمشبّه ومشبّه به ، ثمّ آخر وآخر ،

________________________________________________________

راجع إلى القلوب باعتبار بعضها ، وليس راجعا إليها باعتبار كلّها حتّى يرد الإشكال ، ولا ضرر في عود الضّمير إلى العامّ باعتبار بعضه على نحو الاستخدام.

(١) شرح مفردات البيت «وكرها» الوكر بالواو والرّاء المهملة كفلس عيش الطّائر ومقامه ، والضّمير راجع إلى العقاب وهي طائر معروف ، «العنّاب» كشدّاد هو حبّ أحمر مائل للكدرة قدر قلوب الطّير ، ثمر السّدر البستاني ، «الحشف» بالحاء المهملة والشّين المعجمة والفاء ، كفرس أردأ أقسام التّمر «البالي» بالموحّدة الفاسد المندرس.

والشّاهد في البيت : كونه مشتملا على تشبيه ملفوف ، حيث جمع بين المشبّهين ، أي رطبا ويابسا ، ومشبّهين بهما أي العنّاب والحشف.

(٢) أي شبّه امرئ القيس.

(٣) علّة لمحذوف ، أي لم يشبّه الهيئة بالهيئة إذ ليس لاجتماعهما ، أي لاجتماع الرّطب من قلوب الطّير مع اليابس منها ، والعنّاب مع الحشف البالي هيئة مخصوصة يعتدّ بها ويقصد تشبيهها.

وحاصله :

إنّ التّشبيه في البيت جعل من تشبيه المفرد المتعدّد لا من تشبيه المركّب بالمركّب ، لأنّه ليس لانضمام الرّطب من القلوب إلى اليابس منها هيئة يهتمّ بها. ولا لاجتماع العنّاب مع الحشف البالي هيئة يعتدّ بها ، حتّى يكون من تشبيه المركّب بالمركّب.

(٤) أي الشّاعر «ذكر أوّلا المشبّهين» أي الرّطب واليابس ، «ثمّ المشبّه بهما» أي العناب والحشف البالي.

(٥) أي تشبيه مفروق ، سميّ مفروقا لأنّه فرّق فيه بين المشبّهات بالمشبّهات بها ، وبين المشبّهات بها بالمشبّهات.

٣٣

[كقوله (١) : النّشر (٢)] أي الطّيب والرّائحة [مسك والوجوه دنا* نير وأطراف الأكفّ] وروى أطراف البنان [عنم] هو شجر أحمر ليّن ، [وإن تعدّد طرفه الأوّل] يعني المشبّه دون الثّاني (٣) [فتشبيه التّسوية (٤) ، كقوله : صدغ الحبيب (٥) وحالي كلاهما كاللّيالي ، وإن تعدّد طرفه الثّاني] يعني المشبّه به دون الأوّل [فتشبيه الجمع (٦)

________________________________________________________

(١) أي قول المرقش الأكبر من شعراء الجاهليّة يصف نساء.

(٢) شرح مفردات البيت «النّشر» بالنّون والشّين المعجمة والرّاء المهملة كفلس ريح فمّ المرأة ، «المسك» طيب معروف ، «العنم» بالعين المهملة كقلم شجرة حجازيّة لها ثمّرة حمراء يشبه شوك الطّلح.

والشّاهد في البيت : كونه مشتملا على تشبيه مفروق ، حيث شبّه النّشر والوجوه وأطراف الأكفّ فيه بالمسك والدّنانير والعنم في الاستطابة والصّفاء واللّين ، وقد فرّق بين المشبّهات بالمشبّهات بها ، وبين المشبّهات بها بالمشبّهات ، كما ترى ، ففي هذا البيت ثلاثة تشبيهات كلّ منها مستقلّ بنفسه ليس بينها امتزاج يحصل منه شيء ، لأنّه شبّه نشرهن برائحة المسك في الاستطابة ، ووجوههنّ بالدّنانير في الاستنارة والاستدارة ، وأصابعهنّ بالعنم في النّعومة واللّين ، فإنّ العنم شجر ليّن الأغصان أحمر ، يشبه أصابع الجواري المخضّبة ، وقد عرفت أنّه قد وقعت التّفريقات بين المشبّهات بالمشبّهات بها وبالعكس.

(٣) أي المشبّه به.

(٤) أي سمّي بذلك لأنّ المتكلّم سوّى بين شيئين أو أكثر بواحد في التّشبيه.

(٥) شرح مفردات البيت «الصّدغ» بالصّاد والدّال المهملتين والغين المعجمة كقفل ما بين الأذن والعين ، ويطلق على الشّعر المتدلّي من الرّأس على هذا الموضع وهو المراد هنا.

والشّاهد في البيت : كونه مشتملا على تشبيهين قصد الشّاعر تسويتهما ، حيث شبّه كلا من صدغ الحبيب وحاله باللّيالي في السّواد ، أي إنّ كلا منهما مثل اللّيالي في السّواد ، غاية الأمر إنّ السّواد في حاله تخييليّ ، فقد تعدّد المشبّه ، واتّحد المشبّه به ، وهو اللّيالي ، لأنّ المراد بالتعدّد معنيين مختلفين مصداقا لا وجود أجزاء لشيء مع تساويها كاللّيالي.

(٦) أي سمّي بذلك ، لأنّ المتكلّم قد جمع في المشبّه وجوه شبه ، أو لأنّه جمع له ـ أمور أشبه هو بها.

٣٤

كقوله :] (١)

بات نديما لي حتّى الصّباح

أغيد (٢) مجدول مكان الوشاح

[كأنّما يبسم] ذلك الأغيد ، أي النّاعم البدن [عن لؤلؤ منضد] منظّم [أو برد] هو حبّ الغمام [أو أقاح] جمع أقحوان ، وهو ورد له نور ، شبّه ثغره (٣) بثلاثة أشياء.

[وباعتبار وجهه (٤)] عطف على قوله : باعتبار الطّرفين [إمّا تمثيل وهو ما] أي

________________________________________________________

(١) أي قول البحتري.

(٢) «أغيد» بالغين المعجمة والياء والدّال المهملة كأحمد ، النّاعم اللّيّن ، «المجدول» مفعول من الجدل ، وهو بالجيم والدّال المهملة كفلس بمعنى الفتل والإحكام ، فالمجدول هو المحكم المطوي المدمّج ، أي المدخل بعضه في بعض غير مسترخ ، والمراد هناك لازمه ، أي ضامر الخاصرتين والبطن ، لأنّ ذلك موضع الوشاح «الوشاح» بالواو والشّين المعجمة والحاء المهملة ككتاب أراد به المنطقة ، «يبسم» كيضرب مضارع من التّبسم ، وهو أقل الضّحك وأحسنه ، «المنضد» بالنّون والضّاد المعجمة والدّال المهملة كمعظم اسم مفعول بمعنى المؤلّف ، «البرد» بالموحّدة والرّاء والدّال المهملتين كفرس حبّ الغمام ، «الأقاح» بالقاف والحاء المهملة كفلاح جمع أقحوان بالضّمّ وهو البابونج ، أي قسم من الورد له نور. شبّه ثغره بثلاثة أشياء.

والشّاهد في البيت : كونه مشتملا على تشبيه الجمع ، فإنّه متضمّن لتشبيه ثغر الحبيب بثلاثة أشياء في الصّفاء ، ثمّ المراد من الثّغر إمّا هو مقدّم الأسنان أو الفمّ بتمامه ، وحينئذ ففي كلام الشّارح حذف مضاف ، أي شبّه سن ثغره.

وفي جعل هذا البيت من باب التّشبيه نظر ، لأنّ المشبّه أعني الثّغر غير مذكور لا لفظا ولا تقديرا ، وحينئذ فهو من باب الاستعارة لا من باب التّشبيه الّذي كان كلامنا فيه ، إلّا أن يقال بأنّه تشبيه ضمنيّ لا صريح ، وذلك لأنّ الأصل كأنّما تبسما كتبسّم المذكورات مجازا ، وتشبيه التّبسم بالتّبسم يستلزم تشبيه الثّغر بالمذكورات.

(٣) أي شبّه ثغر الأغيد بثلاثة أشياء ، أعني لؤلؤ وبرد وأقاح.

(٤) أي إنّ التّشبيه باعتبار وجه الشّبه ينقسم إلى ثلاثة تقسيمات :

الأوّل : تقسيمه إلى التّمثيل وغير التّمثيل.

٣٥

أي التّشبيه الّذي [وجهه] وصف [منتزع (١) من متعدّد] أي أمرين أو أمور (٢) [كما مرّ] من تشبيه الثّريّا (٣) وتشبيه مثار النّقع مع الأسياف (٤) ، وتشبيه الشّمس بالمرآة في كفّ الأشلّ (٥) وغير ذلك (٦) [وقيّده] أي المنتزع من متعدّد [السّكّاكي بكونه (٧) غير حقيقيّ] حيث قال : التّشبيه متى كان وجهه وصفا غير حقيقيّ ، وكان منتزعا من عدّة

________________________________________________________

والثّاني : تقسيمه إلى مجمل ومفصّل.

والثّالث : تقسيمه لقريب وبعيد وقد أشار إلى الأوّل بقوله : «إمّا تمثيل ، وهو ما».

(١) أي هيئة مأخوذة من متعدّد سواء كان ـ الطّرفان مفردين أو مركّبين أو كان أحدهما مفردا والآخر مركّبا ، وسواء كان ذلك الوصف المنتزع حسّيا بأن كان منتزعا من حسّيّ أو عقليّا أو اعتباريّا وهميّا ، هذا مذهب الجمهور وتسميتهم التشبيه الّذي وجهه ما ذكر تمثيلا تسمية اصطلاحيّة.

(٢) أي في التّفسير المذكور إشارة إلى نكتة اختيار «متعدّد» دون أمور ، ثمّ إنّ المراد بالأمرين والأمور أعمّ من الأمور المستقلّة وأجزاء لشيء واحد أو أوصاف له فدخل فيه ما إذا ما كان الطرّفان مفردين ذوي أجزاء أو أوصاف.

(٣) أي بالعنقود الملاحيّة حين نور فالطّرفان مفردان فيه.

(٤) أي باللّيل الذّي تهاوى كواكبه ، والطّرفان فيه مركّبان.

(٥) أي فالمشبّه فيه مفرد ، والمشبّه به مركّب.

(٦) أي كتشبيه المرآة في كف الأشلّ بالشّمس ، فالمشبّه فيه مركّب ، والمشبّه به مفرد ، ووجه الشّبه في الجميع هيئة منتزعة من أمور والمراد بالمتعدّد ما له تعدّد في الجملة سواء كان ذلك التّعدّد متعلّقا بأجزاء الشّيء الواحد أو لا ، فدخل فيه جميع الأقسام المذكورة.

(٧) أي بكون الوصف المنتزع من متعدّد «غير حقيقيّ» أي بأن لا يكون من المحسوسات ولا من المعقولات الموجودة واقعا ، بل كان اعتباريّا محضا لا وجود له في خارج الذّهن ، فينحصر التّمثيل عنده في التّشبيه الّذي وجهه مركّب اعتباريّ وهميّ كحرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع الكدّ ، فالتّمثيل عند السّكّاكي أخصّ منه بتفسير الجمهور حيث إنّ تشبيه الثّريّا بالعنقود المنوّر تمثيل عند الجمهور دون السّكّاكي.

٣٦

أمور خصّ باسم التّمثيل [كما في تشبيه مثل اليهود بمثل الحمار (١)] فإنّ وجه الشّبه هو حرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع الكدّ والتّعب في استصحابه ، فهو وصف مركّب من متعدّد (٢) وليس بحقيقيّ ، بل هو عائد إلى التّوهّم (٣) [وإمّا غير تمثيل وهو (٤) بخلافه] أي بخلاف التّمثيل ، يعني ما لا يكون وجهه منتزعا من متعدّد (٥) ، وعند السّكّاكي ما لا يكون منتزعا من ـ متعدّد ولا يكون وهميّا (٦) واعتباريّا (٧) ، بل يكون حقيقيّا ، فتشبيه الثّريّا بالعنقود المنوّر تمثيل عند الجمهور دون السّكّاكي (٨).

________________________________________________________

(١) أي في قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) الآية.

(٢) أي لأنّه مأخوذ من الحمار واليهود ، والحمل وكون المحمول أوعية العلوم ، وكون الحامل جاهلا. وبعبارة أخرى : إنّ هذا الوصف المركّب منتزع من أمور متعدّدة ، أعني الحمار واليهود ، والحمل وكون المحمول أوعية العلوم ، وكون الحامل جاهلا غير منتفع بما فيها.

(٣) أي أمر عدميّ انتزعه الوهم من الأمور المتعدّدة المذكورة.

لا يقال : إنّ هذا ينافي ما تقدّم من عدّه عقليّا.

لأنّا نقول : العقليّ هناك بالمعنى الأعمّ الشّامل للوهميّ بالمعنيين ، والعقليّ المتعارف.

(٤) أي وغير التّمثيل بخلاف التّمثيل.

(٥) أي بل كان مفردا ، يعني أنّ غير التّمثيل يصدق على صورتين :

الأولى : بأن لا يكون منتزعا ـ من متعدّد سواء كان حقيقيّا أو لا.

والثّانية : بأن يكون وجه الشّبه منتزعا من متعدّد لكن لا يكون وهميّا بل يكون حقيقيّا.

(٦) وفي بعض النّسخ «أو لا يكون وهميّا واعتباريّا» فالمعنى أو كان منتزعا من متعدّد لكنّه ليس وهميّا ولا اعتباريّا ، بل كان وصفا حقيقيّا بأن كان حسّيّا أو عقليّا ، وتقدّم أنّ كونه حسّيّا أو عقليّا باعتبار مادّته المنتزع منها ، وإلّا فالهيئة الانتزاعيّة أمر اعتباريّ لا وجود له.

(٧) عطف تفسيريّ على قوله : «وهميّا».

(٨) وحاصل الكلام إنّ غير التّمثيل عند السّكّاكي أعمّ من غير التّمثيل عند الجمهور ، كما أشار إليه بقوله : «فتشبيه الثّريّا بالعنقود المنوّر تمثيل عند الجمهور» وليس بتمثيل عند السّكّاكي ، أمّا كونه تمثيلا عند الجمهور ، فلأنّ وجه الشّبه منتزع من متعدّد ، ولا يشترط كون الوجه غير حقيقيّ ، وأمّا عدم كونه تمثيلا عند السّكّاكي ، فلأنّ وجه الشّبه

٣٧

[وأيضا] تقسيم آخر للتّشبيه باعتبار وجهه وهو (١) أنّه [إمّا مجمل وهو ما لم يذكر وجهه ، فمنه] أي فمن المجمل ما هو [ظاهر] وجهه (٢) أو فمن الوجه الغير المذكور ما هو ظاهر [يفهمه كلّ أحد (٣)] ممّن له مدخل في ذلك. [نحو زيد كالأسد (٤) ، ومنه خفيّ لا يدركه (٥) إلّا الخاصّة كقول بعضهم]

________________________________________________________

فيه وصف حقيقيّ موجود خارجا في ضمن الهيئتين الكائنتين في الطرفين ، وذلك أنّ الهيئة المنتزعة من الثّريّا الشكل الّذي ينتزع من إحاطة خطوط على الأنجم المخصوصة ، وما لها من القرب والبعد ، وكذا الحال في العنقود ، ولا ريب أنّ هذا الشّكل أمر خارجيّ حسّيّ قائم بالأنجم والعنقود ، فكلّ تمثيل عند السّكّاكي تمثيل عند الجمهور وليس كل تمثيل عند الجمهور تمثيلا عن السّكّاكي ، فبين المذهبين عموم وخصوص مطلق باعتبار الصّدق.

(١) أي التّقسيم الآخر إنّ التّشبيه إمّا مجمل وإمّا مفصّل ، وكان المناسب أن يقدّم المفصّل ، وذلك لأحد أمرين :

الأوّل : لأنّ مفهوم المفصّل وجوديّ.

والثّاني : لأجل قلّة مباحثه ، فبتقديمه يندفع طول الفصل بينه وبين المجمل.

(٢) أي من التّشبيه المجمل التّشبيه الّذي ظاهر وجهه ، بناء على كون العبارة مشتملة على حذف البدل ، وهو وجهه ، إذ لا يصحّ أن نحملها على حذف الفاعل ، لكونه مقصورا على موارد ليس المقام منها.

(٣) أي قوله :

«يفهمه كلّ أحد» تفسير لقوله : «ظاهر».

وحاصل ما في المقام إنّ ضمير منه في قوله : «فمنه» إمّا راجع إلى المجمل ، وإمّا راجع إلى الوجه الغير المذكور قوله :

«ممّن له مدخل في ذلك» بيان لقوله «كلّ أحد» أي ممّن له مدخل في استعمال التّشبيه لا مطلق أحد.

(٤) أي أنّ كلّ أحد يفهم أنّ وجه الشّبه في المثال هو الشّجاعة.

(٥) أي لا يدرك وجه الشّبه «إلّا الخاصّة» أي الجماعة الّذين ارتفعوا عن طبقة العوامّ ولهم ذهن يدركون به الدّقائق والأسرار.

٣٨

ذكر الشّيخ عبد القاهر (١) أنّه قول من (٢) وصف بني المهلّب للحجّاج لمّا سأله عنهم ، وذكر جار الله أنّه قول الأنماريّة (٣) فاطمة بنت الخرشب ، وذلك أنّها سئلت عن بنيها أيّهم أفضل؟ فقالت : عمارة لا بل فلان ، لا بل فلان ، لا بل فلان ، ثم قالت : ثكلتهم إن كنت أعلم أيّهم أفضل [هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها ، أي هم متناسبون في الشّرف] يمتنع تعيين بعضهم فاضلا ، وبعضهم أفضل منه [كما أنّها] أي الحلقة المفرغة [متناسبة الأجزاء في الصّورة]

________________________________________________________

(١) أي قصد بقوله : «ذكر الشّيخ ...» بيان ذلك البعض.

(٢) أي قول الشّخص الّذي وصف بني المهلّب ، وهو كعب بن معدان الأشعريّ ، كما قال المبرّد في الكامل ، فإنّه ذكر أنّه لما ورد على الحجّاج قال له : كيف تركت جماعة النّاس ، فقال له كعب : تركتهم بخير أدركوا ما أمّلوا وآمنوا ممّا خافوا ، فقال له : فكيف بنو المهلّب فيهم ، فقال : حماة السّرج نهارا ، وإذا أليلوا ففرسان البيات ، ومعنى أليلوا : دخلوا في اللّيل ، كأصبحوا ، بمعنى دخلوا في الصّباح ، ثمّ قال : فأيّهم كان أنجد ، فقال : هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها ، قوله : «لمّا سأله عنهم» أي حين سأل الحجّاج عنهم ذلك الواصف بقوله : «أيّهم أنجد» أي أشجع.

(٣) نسبة إلى الأنمار ، اسم قبيلة فاطمة بدل أو عطف بيان من «الأنماريّة» ، قوله : «وذلك» أي وسبب ذلك القول ، قوله : «عن بنيها» أي الأربعة الّذين رزقت بهم من زوجها زياد العيسي ، وهم ربيع الكامل ، وعمارة الوهّاب ، وقيس الحفّاظ ، وأنس الفوارس ، وقوله : «عمارة لا» أي لما ذكرت عمارة معتقدة أنّه أفضلهم ، ثمّ ظهر لها أنّه ليس أفضل ، أضربت عنه ، وهكذا يقال : فيما بعد قوله : «ثكلتهم» أي فقدتهم بالموت ، قوله : «هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها» تشبيه للأربعة بالحلقة المفرغة ، أي كانوا كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها ، أي لتناسب أصولهم وفروعهم في الشّرف ، يمتنع تعيين بعضهم فاضلا وبعضهم أفضل منه ، كما أنّ الحلقة المفرغة لتناسب أجزائها يمتنع تعيين بعضها طرفا وبعضها وسطا.

والشّاهد :

في أنّ وجه الشّبه في غاية الدّقّة لا يدركه إلّا الحواسّ ، لأنّ وجه الشّبه المشترك بين الطّرفين هو التّناسب الكلّي الخالي عن التّفاوت ، وإن كان ذلك التّناسب في المشبّه تناسبا في الشّرف ، وفي المشبّه به تناسبا في صورة الأجزاء.

٣٩

يمتنع تعيين بعضها طرفا وبعضها وسطا ، لكونها (١) مفرغة مصمتة الجوانب (٢) كالدّائرة (٣).

[وأيضا منه] أي من المجمل ، وقوله : منه ، دون أن يقول : وأيضا إمّا كذا وإمّا كذا ، إشعار بأنّ هذا (٤) من تقسيمات المجمل لا من تقسيمات مطلق التّشبيه ، أي ومن المجمل [ما لم يذكر فيه وصف أحد الطّرفين] يعني الوصف الّذي يكون فيه إيماء إلى وجه الشّبه (٥) ، نحو : زيد أسد.

[ومنه (٦) ما ذكر فيه وصف المشبّه به وحده] أي الوصف المشعر بوجه الشّبه

________________________________________________________

(١) أي الأجزاء ممزوجة.

(٢) أي لا انفراج فيها ، بل متّصلة من كلّ جانب ، وليس المراد بالمصمتة كونها لا جوف لها.

(٣) لا يقال : إنّ الحلقة المفرغة من أفراد الدّائرة ، فلا وجه لتشبيهها بها.

لأنّا نقول : المراد كالدّائرة الّتي ليست حلقة ، وهي الّتي تكون متداولة في الأشكال عند الفلاسفة.

(٤) أي التّقسيم الّذي شرع فيه من تقسيمات المجمل ، أراد بالجمع ما فوق الواحد ، كالجمع المنطقيّ ، أي إنّ هذا تقسيم المجمل ثانيا ، بعد تقسيمه أوّلا إلى ظاهر وخفيّ ، وليس هذا من تقسيمات مطلق التّشبيه.

وحاصل الكلام في المقام :

أنّه لو حذف «منه» وأوتي مكانه «وإمّا كذا وإمّا كذا» لتوهّم أنّ هذا تقسيم لمطلق التّشبيه لاتّحاد أسلوبه مع أسلوب قوله : «إمّا تمثيل وإمّا غير تمثيل» ، فدفعا لذلك قال : «منه» وغيّر الأسلوب.

(٥) أي أتى بهذه العناية دفعا لما يقال : إنّ ذكر الوصف وعدمه يشمل المجمل والمفصّل ، فلا وجه لتخصيصه بالمجمل.

وحاصل الدّفع :

إنّ لهذا وجها ، وذلك لأنّ المراد بالوصف المذكور الوصف المشعر بوجه التّشبيه ، وهذا لا يذكر في المفصّل ، أو ذكره فيه بمنزلة التّكرار ، وهو مستهجن عند البلغاء ، قوله : «زيد أسد» مثال لما لم يذكر فيه ما يشعر إلى وجه الشّبه أي الشّجاعة.

(٦) أي من المجمل «ما ذكر فيه وصف المشبّه به وحده».

٤٠