دروس في البلاغة - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٤

بنقصه وإبطاله ، [لنكتة كقوله : (١) قف بالدّيار الّتي لم يعفها القدم] ، أي لم يبلها تطاول الزّمان وتقادم العهد ، ثمّ عاد إلى ذلك الكلام ونقضه بقوله : [بلى وغيرها الأرواح والدّيم] أي الرّياح والإمطار ، والنّكتة إظهار التّحيّر والتّولّه ، كأنّه أخبر أوّلا بما لا تحقّق له ، ثمّ أفاق بعض الإفاقة فنقض الكلام السّابق قائلا : بل عفاها القدم وغيرها الأرواح والدّيم.

[ومنه] أي ومن المعنوي [التّورية ، وتسمّى الإيهام أيضا ، وهي أن يطلق لفظ له ـ معنيان (٢)

________________________________________________________

آخر فيبطله ، ويشترط في كون الرّجوع إلى نقص الكلام من البديع أن يكون ذلك النّقص «لنكتة» كأن يفهم من السّياق أنّ المتكلّم لم يعد لإبطال الكلام السّابق بمجرّد كونه غلطا وإنّما ذلك لإظهار التّحسر والحزن ، وكون العود دالّا على التّحسّر والتّحزّن حتّى يجعل لإفادته ، وتكون تلك الإفادة هي النّكتة.

فتحقّق بما تقرّر أنّ الإنسان إذا كان غارقا في الحبّ بحيث يكون غالبا على عقله ، ربّما يظنّ الشّيء واقعا وهو ليس بواقع ، ثمّ إنّه قد يستفيق بعد الإخبار بغير الواقع ، فيعود إلى إبطاله بالإخبار بالحقيقة ، فيظهر من ذلك أنّه عائد إلى الصّدق كرها ، وفي ضمن ذلك أنّه متأسّف على ما فات منه ، فيفهم منه أنّه أراد أن يظهر التّحسّر والتّحزّن على فوات ما أخبر به أوّلا.

(١) قول زهير حيث بدأ الكلام السّابق على أنّ تطاول الزّمان وتقادم العهد لم يعف الدّيار ، ثمّ عاد إلى الكلام السّابق ، ونقصه وأبطله بأنّه قد غيّرها الرّياح والأمطار ، والنّكتة في هذا العود هو إظهار الكآبة والحزن والحيرة ، فكأنّه أخبر بغير الواقع حقيقة ، ثمّ رجع إلى عقله وأفاق فتدارك غلطه في هذا الإخبار ، فنقض وأبطل كلامه السّابق قائلا : «بل عفاها القدم وغيرها الأرواح والدّيم» ، والأرواح جمع الرّيح ، والدّيم جمع الدّيمة ، بمعنى المطر الكثير الدّائم ، والتّولّه بمعنى ذهاب العقل.

(٢) أو أكثر سواء كانا حقيقيّين أو مجازيّين أو أحدهما حقيقيّا وإلّاخر مجازيا ، لا يعتبر بينهما لزوم وانتقال من أحدهما إلى الآخر ، وبهذا تمتاز التّوريّة عن المجاز والكناية.

٣٠١

قريب (١) وبعيد ، ويراد البعيد] اعتمادا على قرينة خفيّة (٢).

[وهي ضربان] الأولى : [مجرّدة ، وهي] التّوريّة [الّتي لا تجامع شيئا ممّا يلائم] المعنى [القريب نحو : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)(١)] فإنّه أراد ب (اسْتَوى) معناه البعيد وهو استولى ، ولم يقرن به شيء ممّا يلائم المعنى القريب الّذي هو الاستقرار (٣).

والثّانية : [مرشّحة] وهي الّتي تجامع شيئا ممّا يلائم المعنى القريب ، [نحو : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ)(٢) أراد بالأيدي معناها البعيد وهو القدرة (٤) ، وقد قرن بها ما

________________________________________________________

(١) أي قريب على الفهم لكثرة استعمال اللّفظ فيه ، «وبعيد» عن الفهم لقلّة استعمال اللّفظ فيه ، فكان المعنى القريب ساتر للبعيد ، والبعيد مستور تحته ، وبه صارت التّورية من المحسّنات المعنويّة ، فإنّ إرادة المعنى المقصود تحت السّتر كالصّورة الحسنة ، وعليه فلو كان المعنيان متساويين في الفهم لم يكن تورية بل إجمالا.

(٢) وإنّما اشترط خفاء القرينة لأجل أن يذهب الوهم قبل التّأمّل إلى إرادة ـ المعنى القريب ، فلو كانت القرينة واضحة لم يكن اللّفظ تورية لعدم ستر المعنى القريب للبعيد ، ولكن لا يشترط أن يكون خفاء القرينة بالنّسبة إلى المخاطب ، بل يكفي ولو باعتبار السّامعين ، فلا يرد أنّ القرينة في الآية واضحة للنّبي وآله عليهم‌السلام ، وأمّا إذا لم تكن هناك قرينة أصلا فلم يفهم حينئذ إلّا القريب ، فيخرج اللّفظ عن التّورية.

(٣) والقرينة الخفيّة على إرادة المعنى البعيد ، وهو الاستيلاء هي استحالة الاستقرار حسّا عليه تعالى ، والاستحالة متوقّفة على أدلّة نفي الجسميّة عنه تعالى ، والأدلّة على ذلك ليست ما يفهمه كلّ واحد بلا تأمّل.

(٤) أي القدرة والقوّة «وقد قرن بها ما يلائم المعنى القريب» ، أعني الجارحة المخصوصة «وهو قوله : (بَنَيْناها)» ، وجه الملائمة أنّ البناء بالمعنى المتعارف يحصل عادة بالجارحة المخصوصة أعني اليد.

__________________

(١) سورة طه : ٥.

(٢) سورة الذّاريات : ٤٧.

٣٠٢

يلائم المعنى القريب الّذي هو الجارحة المخصوصة ، وهو قوله : (بَنَيْناها) ، إذ البناء يلائم اليد ، وهذا مبنيّ على ما اشتهر ـ بين أهل الظّاهر من المفسّرين ، وإلّا فالتّحقيق أنّ هذا تمثيل (١) وتصوير لعظمته ، وتوقيف على كنه جلاله ، من غير أن يتحمّل (٢) للمفردات حقيقة أو مجازا.

[ومنه] أي ومن المعنوي [الاستخدام ، وهو أن يراد بلفظ له معنيان أحدهما ثمّ يراد بضميره] أي بالضّمير العائد إلى ذلك اللّفظ معناه [الآخر ، أو يراد بأحد ضميريه أحدهما] أي أحد المعنيين [ثمّ بالآخر] أي بضميره الآخر معناه [الآخر] وفي كليهما ـ يجوز أن يكون المعنيان حقيقيّين ، وأن يكونا مجازيّين ، وأن يكونا مختلفين. فالأوّل : وهو أن يراد باللّفظ أحد المعنيين ، وبضميره معناه الآخر كقوله :

إذا نزل السّماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا (٣)]

جمع غضبان ، أراد بالسّماء الغيث ، وبضميره في رعيناه النّبت ، وكلا المعنيين مجازي.

الثّاني :] وهو أن يراد بأحد ضميريه أحد المعنيين ، وبالضّمير الآخر معناه الآخر [كقوله (٤) :

فسقى الغضا والسّاكنيه وإن هم

شّبوه بين جوانحي وضلوعي]

________________________________________________________

(١) أي استعارة تمثيليّة ، بأنّ شبّهت إيجاد الله تعالى السّماء بالقوّة والقدرة الأزليّة بهيئة البنّاء الّذي هو وضع لبنة على أخرى بالأيدي الحسّيّة ، ثمّ استعير مجموع بنيانها بأيدي ، وهنا كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

(٢) أي من غير أن يتكلّف للمفردات من حيث الحقيقة والمجاز.

(٣) الشّاهد في أنّه أراد بالسّماء الغيث والمطر ، وبالضّمير الرّاجع إليه في «رعيناه» النّبت ، والنّبات أحد معنييّ السّماء ، لأنّه مجاز عنه باعتبار أنّ المطر سببه ، وإنّما جاز عود الضّمير على النّبات وإن لم يتقدّم له ذكر ، لأنّه قد تقدّم ذكر سببه ، أعني السّماء الّتي أريد بها المطر.

(٤) أي كقول البحتري ، والشّاهد أنّه أراد بأحد الضّميرين الرّاجعين إلى الغضا بالغين والضّاد هو اسم شجر في البادية ، أراد الشّجر وبالضّمير الآخر الرّاجع إليه ، وهو الضّمير في شبّوه ، أراد النّار الّتي تتوقّد في الغضا ، أي أوقدوا بين جوانحي ، وهي الأضلاع تحت التّرائب ، وهي مما يلي الصّدر و «ضلوعي» وهي كذلك لكنّه ممّا يلي الظّهر.

٣٠٣

أراد بأحد ضميري الغضا أعني المجرور في السّاكنيه المكان الّذي فيه شجرة الغضا ، وبالآخر أعني المنصوب في شبّوه ، النّار الحاصلة من شجرة الغضا ، وكلاهما مجازي (١). [ومنه] أي ومن المعنوي [اللّفّ والنّشر ، وهو ذكر متعدّد على التّفصيل (٢) أو الإجمال (٣) ثمّ] ذكر [ما لكلّ واحد] من آحاد هذا المتعدّد [من غير تعيين ثقة] أي الذّكر بدون التّعيين لأجل الوثوق [بأنّ السّامع يردّه إليه] ، أي يردّها لكلّ من آحاد هذا المتعدّد إلى ما هو له ، لعلمه بذلك بالقرائن اللّفظيّة (٤) أو المعنويّة.

[فالأوّل :] وهو أن يكون ذكر المتعدّد على التّفصيل [ضربان ، لأنّ النّشر إمّا على ترتيب اللّفّ] بأن يكون الأوّل من المتعدّد في النّشر للأوّل من المتعدّد في اللّفّ ، والثّاني للثّاني وهكذا (٥) إلى الآخر ، [نحو : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)(١) (٦)] ذكر اللّيل والنّهار على التّفصيل ، ثمّ ذكر ما للّيل

________________________________________________________

فالحاصل أنّه أراد بالضّمير المجرور في السّاكنيه الرّاجع إلى الغضا الشّجر ، وبالضّمير المنصوب في «شبّوه» النّار الحاصلة من شجرة الغضا.

(١) لأنّ أطلاق الغضا على كلّ من المكان النّابت فيه والنّار الموقودة فيه مجاز.

(٢) وذلك بأنّ يعبّر عن كلّ واحد من أفراد مجموع ذلك المعنى المتعدّد بلفظه الخاصّ به بحيث يفصله عمّا عداه.

(٣) وذلك بأن يعبّر عن المجموع ـ بلفظ واحد ، يجتمع فيه ذلك المجموع.

(٤) بأن يقال : رأيت الشّخصين ضاحكا وعابسة ، حيث إنّ التّأنيث قرينة لفظيّة على كون الشّخص العابس هو المرأة ، والضّاحك هو الرّجل ، أو القرينة المعنويّة بأن يقال : لقيت الصّديق والعدوّ فأكرمت وأهنت ، حيث إنّ الإهانة قرينة معنويّة على أنّها للعدوّ ، لأنّ المستحقّ للإهانة هو العدوّ ، للإكرام هو الصّديق.

(٥) أي الثّالث للثّالث ، والرّابع للرّابع ، والخامس للخامس ، وهكذا.

(٦) والشّاهد في أنّه ذكر اللّيل والنّهار على التّفصيل ، ثمّ ذكر ما للّيل وهو السّكون وفيه ، وما للنّهار وهو الابتغاء من فضل الله.

__________________

(١) سورة القصص : ٧٣.

٣٠٤

وهو السّكون فيه ، وما للنّهار وهو الابتغاء من فضل الله فيه على التّرتيب.

فإن قيل : عدم التّعيين في الآية ممنوع (١) ، فإنّ المجرور من (فِيهِ) عائد إلى اللّيل لا محالة.

قلنا : نعم (٢) ، ولكن باعتبار احتمال أن يعود إلى كلّ من اللّيل والنّهار يتحقّق عدم التّعيين. [وإمّا على غير ترتيبه] أي ترتيب اللّفّ ، سواء كان معكوس التّرتيب [كقوله (٣) : كيف أسلو وأنت حقف] وهو النّقا من الرّمل ، [وغصن (٤) وغزال لحظا وقدّا وردفا]

________________________________________________________

(١) لأنّ الظّاهر من الآية الكريمة وجود التّعيين لفظا فيما سمّي نشر ، وذلك لأنّ الضّمير المجرور في (لِتَسْكُنُوا) فيه عائد إلى اللّيل واقعا ، فقد تعيّن ما يعود إليه السّكون.

(٢) أي قلنا : إنّ المراد بعدم التّعيين كون اللّفظ بحسب ظاهره محتملا ، والضّمير في نفسه وبظاهره يحتمل اللّيل والنّهار ، ولا اختصاص له بأحدهما ، وإن كان مصداقه في الواقع ونفس الأمر هو اللّيل ، وليس بعدم التّعيين عدم التّعيين واقعا ، إذ لا معنى له بعد تعيين المراد في الواقع بكلّ نشر فلا يتحقّق لفّ ونشر على فرض اشتراط عدم التّعيين في الواقع.

(٣) أي كقول ابن جيوس.

(٤) أي كيف أصبر عنك ، والاستفهام للإنكار والنّفي ، أي لا أسلو عنك والحال أنّك «أنت حقف» أي مثل الحقف ، والمتراكم من الرّمل ، ومثله النّقا وهو الرّمل المتراكم الكثيف ، والحقف والنّقا بمعنى واحد ، وهو الرّمل العظيم المجتمع المستدير كما في الأطول ، يشبّه به ردف المحبوب ، أي عجيزته في العظم والاستدارة.

أي أنت مثل الغصن ومثل الغزال ، ولمّا كان هنا تقدير مضاف ، إذ الأصل كيف أسلو وردفك مثل الحقف وقدّك مثل الغصن ، ولحظك مثل الغزال ، أي مثل لحظ الغزال ، ووقع الإبهام بحذف ذلك المضاف ، احتيج إلى تمييزه ، فأتى بالتّمييزات على حسب هذه التّقادير فقيل : «لحظا» هذا عائد كما لا يخفى على الغزال ، وهو الآخر من اللّفّ عاد إليه أوّل النّشر ، «وقدّا» هذا عائد إلى الغصن ، وهو الّذي يليه الآخر من اللّفّ عاد إليه ما بعد الأوّل من النّشر ، وردفا» هذا كما لا يخفى أيضا عائد إلى الحقف وهو الأوّل من اللّفّ عاد إليه ما بعد الأوّل من النّشر ، فكان هذا على عكس التّرتيب.

٣٠٥

واللّحظ للغزال ، والقدّ للغصن ، والرّدف للحقف ، أو مختلطا (١) كقوله : هو شمس وأسد وبحر جودا وبهاء وشجاعة.

الثّاني :] وهو أن يكون ذكر المتعدّد على الأجمال [نحو قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى)(١)] فإنّ الضّمير في (وَقالُوا) لليهود والنّصارى ، فذكر الفريقان على وجه الإجمال بالضّمير العائد إليهما ، ثمّ ذكر ما لكلّ منهما ، [أي قالت اليهود لن يدخل الجنّة إلّا من كان هودا ، وقالت النّصارى لن يدخل الجنّة إلا من كان نصارى ، فلفّ] بين الفريقين أو القولين إجمالا [لعدم الالتباس] والثّقة ، بأنّ السّامع يرد إلى كلّ فريق أو كلّ قول مقوله : [للعلم بتضليل كلّ فريق (٢) صاحبه] ، واعتقاده أنّ داخل الجنّة هو لا صاحبه ، ولا يتصوّر في هذا الضّرب التّرتيب وعدمه.

ومن غريب اللّفّ والنّشر أن يذكر متعدّدان أو أكثر ، ثمّ يذكر في نشر واحد ما

________________________________________________________

(١) عطف على قوله : «معكوس التّرتيب» أي أو كان نشره مختلط التّرتيب بأن يكون الأوّل من النّشر للآخر من اللّفّ ، ويكون الثّاني منه للأوّل من اللّفّ ، والآخر منه للوسط من اللّفّ ، مثل كقولنا هو شمس وأسد وبحر جودا وبهاء وشجاعة ، ولا يخفى اختلاطه ، لأنّ الجود وهو الأوّل من النّشر عائد إلى البحر ، وهو الآخر من اللّفّ ، والبهاء وهو الثّاني من النّشر عائد للأوّل من اللّفّ وهو الشّمس ، والشّجاعة وهو الآخر من النّشر عائد إلى الوسط من اللّفّ وهو الأسد.

قوله :

«فلفّ بين الفريقين» إجمالا هذا على أن يكون المتعدّد المذكور إجمالا هو الفريقين أو بين القولين على أن يكون المتعدّد المذكور إجمالا هو القولين.

(٢) أي كلّ فريق من اليهود والنّصارى «صاحبه» واعتقاد أنّه يدخل لا صاحبه ، فبهذا يعلم أن لن يدخل الجنّة راجع مرّة إلى اليهود ومرّة إلى النّصارى لا إلى المجموع وإن كان مفاد الضّمير في (وَقالُوا) هو المجموع ، ويعلم به أيضا أنّ القول الرّاجع إلى اليهود غير القول الرّاجع إلى النّصارى ، والدّليل على ذلك قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) ((٢)) أي ليس للنّصارى دين صحيح فلا يدخلون الجنّة.

__________________

(١) سورة البقرة : ١١١.

(٢) سورة البقرة : ١١٣.

٣٠٦

يكون لكلّ من آحاد كلّ من المتعدّدين ، كما تقول : الرّاحة والتّعب والعدل والظّلم قد سّد من أبوابها ما كان مفتوحا ، وفتح من طرقها ما كان مسدودا. [ومنه] أي ومن المعنوي ، [الجمع وهو أن يجمع بين متعدّد] اثنين أو أكثر [في حكم واحد ، كقوله تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا)(١) (١) ، ونحو قوله :] أي قول إلى العتاهية : علمت يا مجاشع بن مسعدة [أنّ الشّباب والفراغ والجدة] أي الاستغناء [مفسدة] أي داعية إلى الفساد [للمرء ، أي مفسدة (٢)]. [ومنه] أي ومن المعنوي [التّفريق ، وهو إيقاع تباين (٣) بين أمرين من نوع في

________________________________________________________

فتحصّل من ذلك أنّه ليس القائل في (قالُوا) فريقا واحدا ، ولا القول قولا واحدا ، فيجب أن يرجع ويردّ إلى كلّ فريق القول المناسب له.

وقوله : الرّاحة والتّعب لفّ أوّل ، والعدل والظّلم لفّ ثان ، وقوله : «قد سّد ...» نشر ذكر فيه ما لكلّ واحد من اللّفّين ، لأنّ قوله : «قد سدّ من أبوابنا ما كان مفتوحا» راجع إلى الرّاحة من اللّفّ الأوّل ، وإلى العدل من اللّف الثّاني.

وقوله : «وفتح من طرقها ما كان مسدودا» راجع للتّعب المذكور في اللّفّ الأوّل وللظّلم المذكور في اللّفّ الثّاني.

(١) أي يتزيّن بها الإنسان في الدّنيا ، ويذهبان عن قريب ، والشّاهد في أنّه جمع المال والبنون في حكم ، وهو زينة الحياة الدّنيا.

(٢) أي مفسدة عظيمة. والمفسدة الأمر الّذي يدعو صاحبه للفساد ، عبّر عنه بالمفسدة مبالغة ، والشّاهد أنّه قد جمع بين الشّباب والفراغ والجدة في حكم ، وهو كونها مفسدة للمرء ، وإنّما كانت هذه الأمور مفسدة عظيمة ، لأنّ الشّباب داعي إلى اتّباع الهوى والفراغ ، هو انتفاء الموانع عن ارتكاب الفساد والجدة أسباب يتوسّل بها إليه ، فإذا اجتمعت كانت غاية في الفساد.

(٣) أي ليس المراد بالتباين التباين الاصطلاحي ، بل المراد هو المعنى اللّغوي أي إيقاع افتراق بين أمرين مشتركين من نوع واحد ، سواء كان الاتّحاد فيه بالحقيقة أو بالادّعاء ، مثل نوال الغمام ونوال الأمير في البيت المذكور في المتن ، فإنّ النّوع الّذي يجمعهما هو مطلق النّوال أي العطاء.

__________________

(١) سورة الكهف : ٤٦.

٣٠٧

المدح أو غيره ، كقوله : ما نوال الغمام وقت ربيع ، كنوال الأمير يوم سخاء ، ـ فنوال الأمير بدرة عين] هي عشرة آلاف درهم (١) [ونوال الغمام قطرة ماء] أوقع التباين بين النّوالين (٢).

[ومنه] أي ومن المعنوي [التّقسيم وهو ذكر متعدّد ، ثمّ إضافة ما لكلّ إليه على التّعيين] وبهذا القيد (٣) يخرج اللّفّ والنّشر ، وقد أهمله (٤) السّكّاكي ، فتوهّم بعضهم أنّ التّقسيم عنده (٥) أعمّ من اللّفّ والنّشر ، وأقول (٦) : إنّ ذكر الإضافة (٧) مغن عن هذا القيد (٨) إذ ليس في اللّفّ والنّشر إضافة ما لكلّ إليه ، بل يذكر فيه ما لكلّ حتّى يضيفه

________________________________________________________

(١) العين هو النّقد من المال ، والتّنكير فيه للتّعظيم ، كما أنّ التّنكير في قطرة ماء للتّحقّير ، والمقصود أنّ قيمتها تساوي ذلك.

(٢) أي نوال الأمير الغمام ، حيث أسند للأوّل بدرة عين ، وللثّاني قطرة ماء. والبيتان لرشيد الدّين الوطواط.

(٣) أي بقوله : «على التّعيين» يخرج اللّفّ والنّشر عن التّقسيم ، لما تقدّم من أنّ اللّفّ والنّشر ذكر متعدّد ، ثمّ ذكر ما لكلّ واحد من غير تعيين من طرف المتكلّم ثقة بأنّ السّامع يردّه إليه.

(٤) أي ترك السّكّاكي ذكر هذا القيد ، أعني على التّعيين.

(٥) أي عند السّكّاكي أعمّ من اللّفّ والنّشر ، لأنّ التّقسيم عنده ذكر متعدّد ثمّ إضافة ما لكلّ إليه سواء عيّنه المتكلّم أم لم يعيّنه ، واللّفّ والنّشر مشروط بعدم التّعيين ، فهو قسم من التّقسيم حسب هذا التّوهّم ، فكلّ لفّ ونشر تقسيم ولا عكس.

(٦) أي في الجواب عن السّكّاكي ، حيث ترك قيد التّعيين ، وصار كلامه محتملا للقول بتباين التّقسيم للّفّ والنّشر ، وللقول بأنّ التّقسيم أعمّ مطلقا.

(٧) في تعريف التّقسيم.

(٨) أي قيد التّعيين ، لأنّ الإضافة أن يقصد المتكلّم نسبة ما لكلّ إليه ، وهذا عبارة عن قصد التّعيين.

وحاصل الكلام في المقام أنّه في التّقسيم يضيف المتكلّم ، أي ينسب ما لكلّ واحد إليه ، ومن المعلوم أنّ هذه الإضافة تستلزم تعيينه من المتكلّم ، وهذا مفقود في اللّفّ والنّشر ، ففي

٣٠٨

السّامع إليه ، ويردّه ، [كقوله :] أي قول المتلمس [ولا يقيم على ضيم] أي ظلم [يراد به] (١) الضّمير عائد إلى المستثنى منه المقدّر العامّ [إلّا الأذلّان] في الظّاهر فاعل ـ لا يقيم ـ وفي التّحقيق بدل ، أي لا يقيم أحد على ظلم يقصد به إلّا هذان [عير الحيّ] وهو الحمار [والوتد هذا] أي عير الحيّ [على الخسف] ، أي الذّلّ [مربوط برمّته] (٢) هي قطعة حبل بالية [وذا] أي الوتد [يشجّ] أي يدقّ ويشقّ رأسه (٣) [فلا يرثى] أي فلا يرقّ ولا يرحم [له أحد] (٤)

________________________________________________________

التّقسيم إضافة وتعيين من المتكلّم ، بخلاف اللّفّ والنّشر فإنّ المتكلّم إنّما يذكر ما لكلّ واحد من غير إضافة وتعيين ، فلا يشمل التّعريف اللّفّ والنّشر «إذ ليس في اللّفّ والنّشر إضافة ما لكلّ إليه ، بل يذكر فيه ما لكلّ» من غير تعيين.

وبالجملة : إنّا لا نسلّم أنّ السّكّاكي أهمل ذلك القيد حتّى يكون التّقسيم عنده أعمّ لأنّه ذكر الإضافة المستلزمة للتّعيين ، فيكون التّقسيم عنده مباينا للّفّ والنّشر.

(١) ضمير «به» راجع إلى المستثنى منه المقدّر العامّ ، أي لا يقيم أحد على الظّلم ، يراد ذلك الظّلم بذلك الأحد إلّا الأذلّان ، هذا استثناء مفرّغ وقد أسند إليه الفعل أعني لا يقيم في الظّاهر ، وإن كان في الحقيقة مسندا إلى المحذوف ، يعني أحد «عير الحيّ» عطف بيان أو بدل عن «الأذلّان» أو خبر لمبتدأ محذوف ، أي أحدهما «عير الحيّ» ، العير بفتح العين يطلق على الحمار الوحشيّ والأهليّ ، وإن كان إطلاقه على الوحشي أكثر ، والمناسب في المقام هو الأهلي.

والمراد من «الحيّ» بطن من بطون العرب ، والمراد هنا مطلق الجماعة الّتي لهم الحقّ في ركوبه عند الحاجة ، ولا يراعيه أحد منهم «والوتد» يجوز فيه العطف والبدليّة أيضا ، وهي بكسر التّاء ما أثبته بحائط أو بالأرض ، وجمعه أوتاد.

(٢) أي الرّمّة بضمّ الرّاء وتشديد الميم «قطعة حبل بالية».

(٣) بحجر أو حديد ونحوهما.

(٤) ومع ذلك كلّه يصيران ويتحمّلان ما يفعل بهما ، وهذا أقصى مراتب الذّلّ والهوان لا يقيم عليه إلّا هذان الأذلّان.

والشّاهد في أنّه ذكر العير والوتد ، ثمّ أضاف إلى الأوّل الرّبط مع الخسف ، وإلى الثّاني الشّج على التّعيين ، وحاصل وجه التّعيين أنّ ذا بدون حرف التّنبيه إشارة إلى القريب ومع حرف التّنبيه للبعيد

٣٠٩

ذكر العير والوتد ، ثمّ أضاف إلى الأوّل الرّبط على الخسف وإلى الثّاني الشّج على التّعيين (١).

وقيل : لا تعيين (٢) ، لأنّ ـ هذا وذا ـ متساويان في الإشارة إلى القريب ، فكلّ منهما يحتمل أن يكون إشارة إلى العير وإلى الوتد ، فالبيت من اللّفّ والنّشر دون التّقسيم.

وفيه نظر (٣) ، لأنّا لا نسلّم التّساوي ، بل في حرف التّنبيه إيماء إلى القريب فيه أقلّ بحيث يحتاج إلى تنبيه ما بخلاف المجرّد عنها ، فهذا للقريب ، أعني العير وذا للأقرب ، أعني الوتد ، وأمثال هذه لا ينبغي أن تهمل في عبارات البلغاء ، بل ليست البلاغة إلّا رعاية أمثال ذلك.

[ومنه] أي من المعنوي [الجمع مع التّفريق وهو أن يدخل (٤) شيئان في معنى (٥)

________________________________________________________

(١) وقد عرفت وجه التّعيين.

(٢) إشكال على الفرق المذكور بين ذا وهذا بأنّ الأوّل للقريب ، والثّاني للبعيد.

وحاصل الإشكال :

أنّه لا نسلّم الفرق المذكور ، لأنّ هذا وذا متساويان في الإشارة إلى القريب ، فحينئذ كلّ منهما يحتمل أن يكون إشارة إلى العير وإلى الوتد ، فلا يتحقّق التّعيين ، فيكون البيت من قبيل اللّفّ والنّشر لا التّقسيم.

(٣) أي فيما قيل من عدم التّعيين نظر وإشكال ، إذ لا نسلّم التّساوي بين هذا وذا بل حرف التّنبيه في «هذا» إشارة إلى أنّ القرب فيه أقلّ من القرب في المجرّد عن حرف التّنبيه مثل «ذا» مثلا ، فيكون هذا إشارة إلى «عير الحي» لكونه بعيدا ، و «ذا» إشارة إلى «الوتد» لكونه قريبا ، وهذا ما يقتضيه ظاهر العبارة.

(٤) ببناء الفعل للمفعول.

(٥) من المعاني كالمشابهة بالنّار في البيت الآتي ، والحاصل أن يجمعهما في أن يحكم بشيء واحد.

٣١٠

ويفرق بين جهتي الإدخال (١) ، كقوله (٢) :

فوجهك كالنّار في ضوئها

وقلبي كالنّار في حرّها (٣)]

أدخل قلبه ووجه الحبيب في كونهما كالنّار ، ثمّ فرّق بينهما بأنّ وجه الشّبه في الوجه الضّوء واللّمعان ، وفي القلب الحرارة والاحتراق.

[ومنه] أي ومن المعنوي ، [الجمع مع التّقسيم وهو جمع متعدّد تحت حكم ، ثمّ تقسيمه أو العكس] أي تقسيم متعدّد ثمّ جمعه تحت حكم ، [فالأوّل] أي الجمع ثمّ التّقسيم [كقوله (٤) : حتّى أقام] أي الممدوح ، ولتضمين الإقامة معنى التّسليط عدّاها (٥) بعلى ، فقال (٦) : [على أرباض] جمع ربض وهو ما حول المدينة (٧) [خرشنة] (٨) وهي بلدة من بلاد الرّوم [تشقى (٩) به الرّوم والصّلبان] جمع صليب

________________________________________________________

(١) كالضّوء والحرّ في البيت الآتي.

(٢) أي قول الوطواط.

(٣) والشّاهد في أنّه «أدخل قلبه ووجه الحبيب في كونهما كالنّار ثمّ فرّق بينهما بأنّ إدخال الوجه فيه» أي في كونهما كالنّار «من جهة الضّوء واللّمعان وإدخال القلب من جهة الحرّ والاحتراق» ، الغرض من عطف اللّمعان والاحتراق بيان أنّ المراد بالضّوء والحرّ ما كان لنفسها لا لغيرها.

(٤) أي قول أبي الطّيب في مدح سيف الدّولة لمّا غزا بلاد الرّوم ولم يفتح لكنّه سبي وقتل منهم خلقا كثيرا ، فقال أبو الطّيب في مقطع من قصيدته «حتّى أقام» الممدوح وهو سيف الدّولة بن حمدان الهمداني.

(٥) أي الإقامة «بعلى» الدّالّ على الاستعلاء والسّلطة.

(٦) أي فقال : مشيرا إلى التّضمين.

(٧) وهي مرادف للسّور.

(٨) بفتح الخاء وسكون الرّاء وفتح الشّين والنّون هي بلدة من بلاد الرّوم.

(٩) حال من فاعل «أقام» ، والمراد من شقائهم به قتلهم على يديه وسبي أزواجهم ونهب أموالهم وحرق زراعتهم.

٣١١

النّصارى [والبيع] جمع بيعة وهي متعبدهم ، وحتّى متعلق بالفعل في البيت السّابق (١) أعني قاد المقانب (٢) أي العساكر ، جمع في هذا البيت (٣) شقاء الرّوم بالممدوح ، ثمّ قسّم فقال [للسّبي ما نكحوا والقتل ما ولدوا] ذكر (٤) ـ ما ـ دون ـ من ـ إهانة وقلّة مبالاة بهم ، كأنّهم من غير ذوي العقول ، وملائمة لقوله : [والنّهب ما جمعوا والنّار ما زرعوا.

________________________________________________________

(١) وتمام البيت :

قاد المقانب أقصى شربها نهل

مع الشّكيم وأدنى سيرها سرع

(٢) جمع مقنب وهو ما بين الثّلاثين إلى الأربعين من الخيل والمراد هنا الرّاكب عليها كما يدلّ عليه قوله أي العساكر.

(٣) إشارة إلى بيان محيا الشّاهد حيث جمع الشّاعر في هذا البيت شقاء الرّوم بالممدوح إجمالا ، لأن الشّقاء يشمل القتل والنّهب والسّبي وغيرها ، ثمّ قسّم في البيت الثّاني وفصله حيث «للسّبي ما نكحوا» من النّساء «والقتل ما ولدوا» من الرّجال والأطفال المحاربين.

(٤) دفع لما يقال من أنّ هؤلاء من ذوي العقول والموضوع لهم لفظة من ، فالأفضل أن يقال من نكحوا ومن ولدوا.

وحاصل الدّفع :

أوّلا : أنّ هؤلاء وإن كانوا من ذوي العقول والموضوع لهم لفظة من ولكن لم يقل من نكحوا ومن ولدوا ليوافق قوله : «والنّهب ما جمعوا والنّار ما زرعوا» ، وهذه الأشياء ليست من ذوي العقول والموضوع لها لفظة ما.

وثانيا : لأنّ في التّعبير عنهم أي عن ذوي العقول أي النّساء والرّجال والولدان بلفظ ما دلالة على الإهانة وقلّة المبالاة بهم حتّى كأنّهم ليسوا من جنس ذوي العقول.

فتحصّل ممّا ذكر من الشّاهد أنّ الجمع إنّما هو في الشّقاء والتّقسيم هو السّبي والقتل والنّهب والنّار لكنّ الأولى أن يقال جمع في هذا البيت الرّوم الشّامل للنّساء والأوّلاد والمال والزّرع في حكم وهو الشّقاء ، ثمّ قسّم ذلك إلى سبي وقتل ونهب وإحراق ورجع لكلّ واحد من هذه الأقسام ما يناسبه ، فرجع للسّبي ما نكحوا من النّساء ، وللقتل ما ولدوا ، وللنّهب ما جمعوا من الأموال ، وللنّار ما زرعوا ، فأشجارهم للإحراق تحت القدور.

٣١٢

والثّاني] : أي التّقسيم ثمّ الجمع [كقوله (١) : قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم أو حاولوا] أي طلبوا [النّفع في أشياعهم] أي اتباعهم وأنصارهم [نفعوا* سجيّة] أي غريزة وخلق [تلك (٢)] الخصلة [منهم غير محدثة أنّ الخلائق] جمع خليقة ، وهي الطّبيعة والخلق [فاعلم شرها البدع] جمع بدعة ، وهي المبتدعات المحدثات ، قسّم في الأوّل صفة الممدحين إلى ضرّ الأعداء ونفع الأولياء ، ثمّ جمعها في الثّاني تحت كونها سجيّة. [ومنه] أي ومن المعنوي ، [الجمع مع التّفريق والتّقسيم] ، وتفسيره ظاهر مما يسبق فلم يتعرض له [كقوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ)(١) (٣)] يعني يأتي الله أي أمره ، أو يأتي اليوم

________________________________________________________

(١) أي كقول حسّان بن ثابت في مدح الأنصار :

سجيّة تلك منهم غير محدثة

بأنّ الخلائق فاعلم شرّها البدع

والشّاهد في أنّه قسّم في البيت الأوّل صفة الممدوحين إلى ضدّ الأعداء ونفع الأولياء ثمّ جمعها في البيت الثّاني في كونها سجيّة ، حيث قال : سجيّة تلك منهم غير محدثة.

(٢) خبر مقدّم ، «تلك» مبتدأ مؤخّر «منهم» صفة لسجيّة ، وكذا قوله «غير محدثة» فقد فصل بين الصّفة والموصوف بالمبتدأ ، والمعنى أن تلك الخصيلة أعني إضرار الأعداء ونفع الاتباع عزيزة فيهم وطبيعة لهم «أنّ الخلائق» جمع خليقة ، وهي الطّبيعة والخلق بضمّتين ، «فاعلم» جملة اعتراضيه للتّنبيه وطلب الإصغاء والفهم والجملة خبر أنّ الخلائق ، وأنّ مع الاسم والخبر جملة مستأنفة جوابا لسؤال مخاطب ، فالمخاطب به كلّ من يصلح للخطاب ، و «البدع» جمع بدعة ، وهي في اصطلاح الفقهاء الحدث في الدّين بعد استكمال الدّين ، والمراد منها في قول الشّاعر هو مستحدثات الأخلاق لا ما كالغرائز.

فإن قلت : كون الصّفة في الإنسان بدعة ، أي حادثا ينافي كونها خلقا ، لأنّ الخلق هي الغريزة والسّجيّة ، أي الطّبيعة ، وهي لازمة لا حادثة.

قلنا : الصّفة الحادثة في الإنسان قد تسمّى خلقا باعتبار دوامها بعد حدوثها ، فتكون الصّفة خلقا دواما وبدعة ابتداء.

(٣) الضّمير راجع إلى الله ، أو إلى اليوم ، يعني يأتي الله أي أمره ، أو يأتي اليوم هوله ،

__________________

(١) سورة هود : ١٠٦.

٣١٣

هو له ، والظّرف (١) منصوب بإضمار اذكر ـ أو بقوله : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) أي بما ينفع من جواب أو شفاعة (٢) (إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ) أي من أهل الموقف (شَقِيٌ) مقضّي له بالنّار (وَسَعِيدٌ) مقضّي له بالجنّة (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) إخراج النّفس (٤) بشدّة (وَشَهِيقٌ) ردّه (٥) بشدّة (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ)(١) أي سماوات الآخرة وأرضها (٧) أو هذه العبارة كناية عن التّأبيد ونفي الانقطاع (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) أي إلّا وقت مشيئة الله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) من تخليد البعض كالكفّار ، وإخراج البعض كالفسّاق (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي

________________________________________________________

أي خوفه ، والتّأويل بالهول والخوف إنما لمناسبة المقام ، لأنّ المقصود إنّما هو ذلك لا الإخبار بمجيء الزّمان.

(١) يعني «يوم يأت» منصوب «بإضمار أذكر أو» منصوب «بقوله لا تكلّم».

(٢) وإنّما انحصر التّكلّم في الجواب أو الشّفاعة إمّا لعدم المنع من غيرهما على الإطلاق أو لأنّه الأنسب بقوله تعالى قبل هذه الآية : (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ)(٢) الآية ، ولأنّ عدم التّكلّم بما ينفع هو الموجب لزيادة شدّة الهول ، فإنّ المنع من الكلام بغير ذلك كمطالبة الخصم بالحق لا يوجب ذلك.

(٣) أي بإذن الله كقوله تعالى : (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ)(٣).

(٤) أي إلى الخارج على وجه مخصوص أي بشدّة.

(٥) أي إلى الباطن كذلك.

(٦) أي في النّار.

(٧) لأنّ سماوات الآخرة وأرضها مخلوقة للأبد ، وأمّا سماوات الدّنيا وأرضها فقال الله تعالى : ونطوي السّماء ونبدّل الأرض غير الأرض ، والخلود كناية عن طول المدّة فكأنّه قيل خالدين فيها خلودا طويلا لا نهاية له.

__________________

(١) سورة هود : ١٠٧.

(٢) سورة هود : ١٠١.

(٣) سورة النّبأ : ٣٨.

٣١٤

الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ((١)) أي غير مقطوع بل ممتدّ لا إلى نهاية (١) ومعنى (٢) الاستثناء في الأوّل أنّ بعض الأشقياء لا يخلدون في النّار كالعصاة من المؤمنين الّذين شقوا بالعصيان.

وفي الثّاني أن بعض السّعداء لا يخلدون في الجنّة ، بل يفارقونها ابتداء يعني أيّام عذابهم كالفسّاق من المؤمنين الّذين سعدوا بالإيمان ، والتّأبيد من مبدأ معيّن ، كما ينتقض باعتبار الانتهاء فكذلك باعتبار الابتداء ، فقد جمع الأنفس (٣) بقوله : (لا تَكَلَّمُ

________________________________________________________

(١) يعني إلى الأبد.

(٢) دفع للإشكال فلا بدّ أوّلا من توضيح الإشكال حتّى يعلم توضيح الدّفع وأمّا توضيح الإشكال فيقال : ما معنى الاستثناء في قوله : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) مع أنّ أهل الجنّة لا يخرجون منها أصلا وكذا أهل النّار لا يخرجون منها والاستثناء يفيد خروجهم.

وأمّا توضيح الدّفع فيقال إنّ الاستثناء هو الاستثناء من الخلود في عذاب النّار ومن الخلود في نعيم الجنّة يعني : أهل النّار لا يخلدون في عذاب النّار وحده بل يعذّبون في الزّمهرير ونحوه من أنواع العذاب سوى عذاب النّار ، وبما هو أغلظ منها كلّها وهو سخط الله عليهم ، وإهانته إيّاهم ، بقوله : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ)(٢). وكذا أهل الجنّة لهم سوى الجنّة ما هو أكبر منها وأجلّ موقعا منهم وهو رضوان الله كما قال : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٣) ولهم ما يتفضّل به الله عليهم سوى ثواب الجنّة ممّا لا يعرف كنهه إلّا الله.

وظاهر كلام الماثن هو تفسير آخر للاستثناء ، وهو أنّ فساق المؤمنين لا يخلدون في النّار ، وذلك بالشّفاعة ، وهذا كاف في صحّة الاستثناء.

(٣) أي إشارة إلى محلّ الشّاهد وهو أنّه قد جمع الأنفس في عدم التّكلّم بقوله : لا تكلّم نفس ، لأنّ النّكرة الواقعة في سياق النّفي كنفس في الآية تعمّ يعني تفيد العموم وضعا ، ثمّ فرق بأن أوقع التّباين بينها بأنّ بعضها شقي وبعضها سعيد بقوله : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) ، ثمّ قسّم وأضاف إلى السّعداء ما لهم من نعيم الجنّة وإلى الأشقياء ما لهم من عذاب النّار بقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا).

__________________

(١) سورة هود : ١٠٨.

(٢) سورة المؤمنون : ١٠٨.

(٣) سورة التّوبة : ٧٢.

٣١٥

نَفْسٌ) ، ثمّ فرق بينهم بأن بعضهم شقي وبعضهم سعيد بقوله : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) ثمّ قسم بأن أضاف إلى الأشقياء ما لهم من عذاب النّار وإلى السّعداء ما لهم من نعيم الجنّة بقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) إلى آخره. [وقد يطلق التّقسيم على أمرين آخرين : أحدهما أن تذكر أحوال الشّيء مضافا (١) إلى كلّ] من تلك الأحوال [ما يليق به ، كقوله (٢) :

سأطلب حقّي بالقنا (٣) ومشايخ

كأنّهم من طول ما التثموا مرد ثقال]

لشدّة وطأتهم على الأعداء [إذا لاقوا] أي حاربوا [خفاف] أي مسرعين إلى الإجابة [إذا دعوا] إلى كفاية مهمّ ودفاع ملمّ [كثير إذا شدّوا] لقيام واحد مقام الجماعة [قليل إذا عدّوا] ذكر أحوال المشايخ وأضاف إلى كلّ حال ما يناسبها بأن

________________________________________________________

(١) أي منسوبا إلى كلّ من تلك الأحوال ما يليق به.

(٢) أي قول أبي الطّيب المتنبّي :

سأطلب حقّي بالقنا ومشايخ

كأنّهم من طول ما التثموا مرد

تمام البيت :

ثقال إذا لا قوا خفاف إذا دعوا

كثير إذا شدوا قليل إذا عدوا

والشّاهد في أنه قد ذكر المتنبّي أحوال المشايخ بأنّهم ثقال وخفاف وكثير وقليل ، ثمّ أضاف إلى كلّ حاله من تلك الأحوال ما يليق به ، فأضاف للثّقل حال الملاقاة ، وللخفّة حال الدّعوة للإجابة ، وللكثرة حال الشّدّة ، فهذا تقسيم بمعنى آخر لا تقسيم السّابق ، لأنّ التّقسيم السّابق يذكر نفس المتعدّد ، وهذا لم يذكر فيه نفس المتعدّد المذكور أوّلا ، وإنّما ذكرت أحواله وأضيف لكلّ من تلك الأحوال ما يليق بها كما عرفت.

(٣) القنا بالقاف والنّون جمع قناة وهي الرّمح ، ويمكن أن يكون بالفاء والثّاء كما في بعض النّسخ ، وهو المناسب لمشايخ ، فعلى هذه النّسخة أراد الشّاعر بالفتى نفسه ، وبالمشايخ قوم وجماعته من الرّجال الّذين لهم لحى ، والالتثام وضع اللثّام على الأنف والفمّ ، وكان ذلك من عادة العرب في الحرب للتّوقّي عن الغبار ، ولئلّا يعرف الإنسان فيطلب أو يهرب عنه خصمه

٣١٦

أضاف إلى الثّقل حال الملاقاة ، وإلى الخفة حال الدّعاء ، وهكذا إلى الآخر. [والثّاني استيفاء أقسام الشّيء ، كقوله تعالى : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً)(١)] فإنّ الإنسان إمّا أن يكون له ولد ، أو يكون له ذكر أو أنثى ، أو ذكر وأنثى ، وقد استوفى في الآية جميع الأقسام.

________________________________________________________

إن كان مشهورا بالشّجاعة ، ولتخفي حاله إن كان شيخا ، فلا يطمع فيه خصمه الثّابت وشبّههم بالمرد لعدم ظهور لحاهم وسترها باللثّام لكثرة ملازمتهم للحروب ، «فهم ثقال» إذا لاقوا أي حاربوا الأعداء و «خفاف» أي مسرعين إلى الإجابة إذا دعوا إلى كفاية منهم ومدافعة خطب أي أمر شديد «وهم كثيرا إذا شدّوا» بفتح الشّين أي حملوا على الأعداء ، وإنّما قال : هم كثير لأنّ واحدا منهم يقوم مقام جماعة «وهم قليل إذا عدوا».

فالمتحصّل أنّ هذين البيتين للمتنبّي والقنا واحدة قناة وهي الرّمح ، والتثموا وضعوا اللثّام على الفم والأنف في الحرب ، ومرد جمع أمرد وهو الّذي لا لحيّة له.

(١) من المزاوجة بمعنى الجمع أي يجمع لهم (ذُكْراناً وَإِناثاً).

(٢) أي لا يولد أصلا ، لأنّ الله عليم بالحكمة في ذلك ، قدير على ما يريد ، وإنّما كانت الآية المباركة من قبيل استيفاء أقسام الشّيء فإنّ الإنسان المتزوج إمّا أن يكون له ولد أو لا يكون له ولد ، وإذا كان له ولد فإمّا أن يكون الولد ذكرا فقطّ أو أنثى كذلك ، أو ذكرا وأنثى معا ، فقد استوفى جميع الأقسام وذكرها ، وإنّما قدّم ذكر الإناث لأن سياق الآية على أنّه تعالى يفعل ما يشاء ، لا ما يشاؤه الإنسان.

وبعبارة أخرى إنما قدّم الإناث في الذّكر هنا ، لأنّ سياق الآية في بيان أنّه ليس للإنسان ما يشاء من الولاة ، وإنّما يكون منها ما يشاؤه الله تعالى ، والّذي لا يريده الإنسان هو الإناث فناسب تقديم الدّال عليهنّ.

والشّاهد :

أن في الآية التّقسيم بمعنى استيفاء أقسام الشّيء.

__________________

(١) سورة الشّورى : ٥٠.

٣١٧

[ومنه] أي ومن المعنوي [التّجريد (١) وهو (٢) أن ينتزع من أمر ذي صفة] أمر [آخر مثله فيها] أي مماثل لذلك الأمر ذي الصّفة في تلك الصّفة [مبالغة] أي لأجل المبالغة ، وذلك [لكمالها] أي تلك الصّفة [فيه] أي في ذلك الأمر حتّى كأنّه بلغ من الاتّصاف بتلك الصّفة إلى حيث (٣) يصحّ أن ينتزع منه موصوف آخر بتلك الصّفة (٤). [وهو] أي التّجريد [أقسام (٥) : منها] ما يكون بمن التّجريديّة (٦)

________________________________________________________

(١) أي من البديع المعنوي «التّجريد» أي النّوع المسمّى بالتّجريد.

(٢) أي التّجريد «أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر» أي أمر «آخر» فآخر نائب فاعل ينتزع «مثله فيها» أي يكون الأمر المنتزع من ذي صفة مثل ذي صفة في تلك الصّفة ، ويدلّ على أنّه منتزع ، وأنّه مثله في الصّفة تعبير المتكلّم عنه بما يدلّ على تلك الصّفة ، كما يأتي في الأمثلة «مبالغة» أي والمقصود من ذلك الانتزاع إفادة المبالغة أي إفادة أنّك بالغت في وصف المنتزع منه بتلك الصّفة ، وإنّما تبالغ كذلك لأجل «كمالها» أي لادّعائك كمال تلك الصّفة «فيه» أي في ذلك المنتزع منه.

وإنّما قلنا لادّعاء الكمال إشارة إلى أن إظهار المبالغة بالانتزاع لا يشترط فيه كونه كاملا في تلك الصّفة في نفس الأمر ، بل الادّعاء كاف سواء طابق الواقع أم لا.

(٣) أي إلى درجة «يصحّ ...».

(٤) مثلا إذا قيل لي : من فلان صديق حميم ، فكأنّه قيل : خرج لي من فلان وأتاني منه صديق آخر ، ولا شكّ أن هذا يفيد المبالغة في وصف فلان بالصّداقة ، لأنّ جعل شيء مبدأ أو منشأ لذي وصف يدل على كمال ذلك الشّيء باعتبار ذلك الوصف.

(٥) أي سبعة لأنّ الانتزاع إمّا أن يكون بحرف أو بدونه ، والحرف إمّا من أو الباء أو في ، والباء أمّا داخلة على المنتزع منه أو على المنتزع ، وما يكون بدون حرف إمّا ، أن يكون لا على وجه الكناية ، أو يكون على وجهها ، ثمّ هو إمّا انتزاع من غير المتكلّم ، أو انتزاع من المتكلّم نفسه ، فهذه أقسام سبعة أشار المصنّف إليها وإلى أمثلتها فيما يأتي.

(٦) جعل بعضهم التّجريد معنى برأسه لكلمة من ، وقال بعض آخر : الأصحّ أنّها من الابتدائيّة ، لأنّ المناسب لكلمة من حيث دخلت على المنتزع منه أن تكون للابتداء ، لأنّ المنتزع مبتدأ وناشئ من المنتزع منه الّذي هو مدخول من.

٣١٨

[نحو قولهم : لي من فلان صديق حميم (١)] أي قريب يهتم لأمره [أي بلغ فلان من الصّداقة حدّا صحّ معه] أي مع ذلك الحدّ [أن يستخلص (٢) منه] أي من فلان صديق [آخر مثله فيها] أي في الصّداقة.

[ومنها (٣)] ما يكون بالباء التّجريديّة الدّاخلة على المنتزع منه [نحو قولهم (٤) : لئن سألت فلانا لتسألنّ به البحر (٥)] بالغ في اتصافه بالسّماحة حتّى انتزع منه بحرا في السّماحة.

[ومنها (٦)] ما يكون بدخول باء المعيّة في المنتزع [نحو قوله وشوهاء (٧)] أي فرس قبيح المنظر لسعة أشداقها ، أو لما أصابها من شدائد الحرب (٨)

________________________________________________________

(١) معنى حميم قال الجوهري في الصّحاح : حميمك ، قريبك الّذي تهتم لأمره.

(٢) أي أن يستخرج من فلان صديق آخر مثله في الصّداقة ، ومن المعلوم أنّ المبالغة إنّما يناسبها كلّ المناسبة خروج صديق منه ، لأنّ صداقته بلغت إلى حيث يستخلص منه صديق آخر.

(٣) أي من أقسام التّجريد «ما يكون بالباء التّجريديّة الدّاخلة على المنتزع منه» لا على المنتزع كما في القسم الآتي.

(٤) في المبالغة في وصف فلان بالكرم والجود.

(٥) فقال هذا القول بالغ في اتصاف فلان «بالسّماحة» أي بالكرم والجود «حتّى انتزع منه بحرا في السّماحة» أي بالكرم والجود.

(٦) أي من أقسام التّجريد ما يكون بدخول باء المعيّة في المنتزع.

(٧) مأخوذ من شاهت الوجوه أي قبحت الوجوه وهذه الصّفة في الفرس صفة محمودة إذ يراد بها «سعة أشداقها» أي جوانب فمها.

(٨) أي والجراحات الواردة عليها في ميدان الحرب وذلك يدلّ على أنّها ممّا تعدّ للشّدائد لقوّتها وأهليتها ومما جرّب للملاقاة ، ويشكل عليها في الحروب والتّصادم وذلك كمال فيها أيضا.

٣١٩

[تعد] أي تسرع (١) [بي إلى صارخ الوغى (٢)] أي مستغيث في الحرب [بمستلئم] أي لا بس لأمة وهي الدّرع (٣) والباء للملابسة والمصاحبة [مثل الفنيق] وهو الفحل المكرّم [المرحّل (٤)] من ـ رحّل البعير أشخصه عن مكانه وأرسله ـ أي تعد وبي ومعي من نفسي مستعد للحرب ، وبالغ في استعداده للحرب حتّى انتزع منه آخر. [ومنها (٥)] ما يكون بدخول ـ في ـ في المنتزع منه [نحو قوله تعالى : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ)(١) أي (٦) في جهنّم

________________________________________________________

(١) أي من وصف الفرس أنّها تسرع.

(٢) أي إلى الصّارخ في مكان الوغى ، والوغى الحرب ، والصّارخ هو الّذي يصيح وينادي لحضور الحرب والاجتماع إليه.

(٣) من الحديد فقوله : «بمستلئم» مجرّد من المجرور بالباء الأصليّة ، والباء فيه للمصاحبة أي تعدو مع مستلئم آخر فقد بالغ في ملابسة لبس اللأمة للحرب وملازمتها حتّى صار بحيث يجرّد منه مستلئم آخر مثله في ملابستها ولزومها استعدادا للحروب.

ثمّ وصف الشّوهاء أنّها «مثل الفنيق» وهو الفحل من الإبل الّذي ترك أهله ركوبه تكرمة له.

(٤) والمرحل من رحّل البعير بتشديد الحاء إذا أشخصه وأرسله وأزعجه عن مكانه وشبّه الفرس به في القوّة والعلّو وعدم القدرة على مصادمتها فقد ظهر أنّه انتزع من نفسه مستلئما آخر أي مستعدا للحرب مبالغة في استعداده للحرب ولزومه لبس اللّامة له حتّى صار بحيث يخرج منه مستعدّ آخر يصاحبه ، وقد أدخل الباء على المنتزع دون المنتزع منه كما في القسم قبل هذا

(٥) أي من أقسام التّجريد ما يكون حاصلا بدخول كلمة «في» على المنتزع منه وذلك «نحو قوله تعالى» في التّهويل بأمر جهنّم ووصفها بكونها محلا للخلود وكونها لا يعتريها ضعف ولا اضمحلال ولا إنفكاك أهلها عن عذابها.

(٦) تفسير للضّمير المجرور بفي في قوله تعالى : (لَهُمْ فِيها).

__________________

(١) سورة فصّلت : ٢٨.

٣٢٠