دروس في البلاغة - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٤

والظّرف أعني قوله : بعد رعاية (١) ، متعلّق بقوله : تحسين الكلام. [وهي] أي وجوه تحسين الكلام [ضربان (٢) معنوي] أي راجع إلى تحسين المعنى أوّلا وبالذّات ، وإن كان قد يفيد بعضها تحسين اللّفظ أيضا (٣) [ولفظي] أي راجع إلى تحسين اللّفظ كذلك (٤).

المحسّنات المعنويّة

[أمّا المعنوي] قدّمه الآن (٥) المقصود الأصلي ، والغرض الأوّلي هو المعاني ، والألفاظ توابع وقوالب لها (٦) [فمنه المطابقة (٧) وتسمّى الطّباق والتّضادّ

________________________________________________________

(١) أي بعد ظرف لغو متعلّق بالمصدر أعني تحسين ، فيكون المعنى أنّ تحسين الكلام بهذه الوجوه إنّما يكون بعد رعاية الأمرين ، وبعديّة التّحسين إنّما هي من حيث الملاحظة لا من حيث الوجود ، لأنّ وجود التّحسين مقارن لوجود الأمرين.

(٢) أي قسمان «معنوي» ، أي ينسب إلى المعنى ، لأنّه تحسين للمعنى أوّلا وبالذّات ، بمعنى أنّ ذلك التّحسين قصد أن يكون تحسينا للمعنى ، وذلك القصد متعلّق بتحسين المعنى أوّلا ، ومتعلّق به لذاته ، وأمّا تعلّق القصد بكونه تحسينا للّفظ ، فيكون ثانيا وبالعرض قلنا هكذا ، لأنّ هذه الوجوه قد يكون بعضها محسّنا للّفظ ، لكنّ القصد الأصلي منها إنّما هو إلى كونها محسّنة للمعنى كما في المشاكلة.

(٣) أي ثانيا وبالتّبع كما عرفت.

(٤) أي راجع إلى تحسين اللّفظ أوّلا وبالذّات ، وإن كان بعض أفراده لا يخلو عن تحسين المعنى أيضا ، ولكن ثانيا وبالتبع.

(٥) أي قدّم المعنوي على اللّفظي «لأنّ المقصود الأصلي» في مقام التّفهيم والتّفهم «والغرض الأولى» في ذلك المقام «هو المعاني» ، فينبغي الاهتمام حينئذ بالوجوه المحسّنة لها ، وتقديمها على الوجوه المحسّنة لغيرها.

(٦) أي للمعاني ، أي الألفاظ توابع للمعاني ، بمعنى أنّ المعنى يستحضر في ذهن المتكلّم أوّلّا يؤتي باللّفظ على طبقه «المطابقة».

(٧) وهي مأخوذة من طابق الفرس إذا وقع رجله في المشي مكان يده ، وهي لغة الموافقة ، لأنّ المتكلّم وافق بين معنيين متقابلين ، والمطابقة من جملة ما يرجع إلى اللّفظ والمعنى.

٢٨١

أيضا (١) وهي الجمع بين متضادّين ، أي (٢) معنيين متقابلين في الجملة (٣)] أي يكون بينهما تقابل وتناف ولو في بعض الصّور ، سواء كان التّقابل حقّيقيّا أو اعتباريّا ، وسواء كان تقابل التّضاد ، أو تقابل الإيجاب والسّلب ، أو تقابل العدم والملكة ، أو تقابل التّضايف ، أو ما شبّه شيئا من ذلك (٤) [ويكون] ذلك الجمع (٥) [بلفظين من نوع] واحد من أنواع الكلمة [اسمين نحو : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ)(١) ، أو فعلين نحو : (يُحْيِي وَيُمِيتُ)(٢) ، أو حرفين نحو : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ)(٣).

________________________________________________________

(١) أي كما تسمّى المطابقة.

(٢) أي تفسير متضادّين بمعنيين متقابليين إشارة إلى أنّ المراد من المتضادّين مطلق المتقابلين والمتنافيين ، أي المراد من التّضادّ هو مطلق التّنافي والتّقابل ، سواء كان حقّيقيّا ، كتقابل القدم والحدوث ، أو اعتباريّا كتقابل الإحياء والإماتة ، فإنّهما لا يتقابلان إلّا باعتبار بعض الصّور ، وهو أن يتعلّق الإحياء بحياة جرم في وقت ، والإماتة بإمامته في ذلك الوقت ، وإلّا فلا تقابل بينهما باعتبار أنفسهما ، ولا باعتبار المتعلّق عند تعدّد الوقت.

ثمّ التّقابل الحقيقي سواء كان تقابل التّضادّ كتقابل الحركة والسّكون ، أو تقابل الإيجاب والسّلب كتقابل مطلق الوجود وسلبه ، أو تقابل العدم والملكة كتقابل العمى والبصر ، أو تقابل التّضايف كتقابل الأبوّة والبنوّة.

(٣) أي من غير تفصيل في ذلك التّقابل والتّنافي ، بأن يعيّن مقداره من كونه فيما بين معنيين كالنّقيضين أو الضّدين أو غير ذلك ، فالمراد بالتّضادّ والتّقابل هنا أن يكون بين الشّيئيين تنافي وتقابل ولو في بعض الصّور ، ولو كان اعتباريّا.

(٤) أي ما يكون ملحقا بذلك ممّا يشعر بالتّنافي لاشتماله بوجه ما يوجب التّنافي بين شيئين ، كما سيأتي بيانه.

(٥) أي الجمع بين متضادّين بلفظين من نوع واحد من أنواع الكلمة ، بأن يكونا اسمّين نحو قوله تعالى : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) ، والإيقاظ جمع يقظ على وزن عضد أو كتف بمعنى يقظان ، و (رُقُودٌ) جمع راقد بمعنى النّوم ، فالجمع بين إيقاظ ورقود مطابقة ، لأنّ اليقظة

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨.

(٢) سورة المؤمنون : ٨٠.

(٣) سورة البقرة : ٢٨٦.

٢٨٢

فإنّ في اللّام معنى الانتفاع ، وفي على معنى التّضرر ، أي لا ينتفع بطاعتها ، ولا يتضرّر بمعصيتها غيرها [أو من نوعين نحو : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ)(١) (١)] فإنّه قد اعتبر في الإحياء معنى الحياة ، والموت والحياة ممّا يتقابلان ، وقد دلّ على الأوّل بالاسم وعلى الثّاني بالفعل. [وهو] أي الطّباق [ضربان : طباق الإيجاب كما مرّ ، وطباق السّلب] وهو أن يجمع بين فعلي مصدر واحد ، أحدهما مثبت والآخر منفي ، أو أحدهما أمر والآخر نهي.

________________________________________________________

تشمل على الإدراك بالحواسّ ، والنّوم يشمل على عدمه ، فبينهما شبه العدم والملكة باعتبار لازمهما ، وأمّا باعتبار ذاتهما فبينهما التّضاد ، لأنّ النّوم عرض يمنع إدراك الحواس ، واليقظة عرض يقتضي الإدراك بها.

وكيف كان فهما اسمان أو فعلان ، نحو قوله تعالى :

(وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ، والتّعاهد في الإحياء والإماتة ، وبينهما تقابل اعتباري وقد تقدّم الكلام فيهما فلا حاجة إلى الإعادة.

ومثال حرفين قوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) ، أي لمّا كان التّقابل بين اللّام وعلى غير ظاهر ، بيّنه التّفتازاني بقوله : «فإنّ في اللّام معنى الانتفاع» ، وذلك فإنّ اللّام مشعرة بالملكيّة المؤذنة بالانتفاع ، «وفي على معنى التّضرر» وذلك لأنّ على تشعر بالعلوّ المشعر بالتّحمل ، أو الثّقل المؤذن بالتّضرّر ، فصار تقابلهما أي اللّام وعلى كتقابل النّفع والضّرر ، وهما ضدان أي «لها» أي للنّفس ما كسبت من خير ثواب الطّاعات «وعليها» أي على النّفس ما اكتسبت من شرّ من عقاب المعاصي.

(١) أي فقد عبّر عن الموت بالاسم ، وعن الإحياء المتعلّق بالحياة بالفعل ، وهما نوعان ، وقد تقدّم تقابل الموت والحياة تقابل عدم وملكة ، وإنّ المراد بالموت والحياة هو المعنى المجازي ، أومن كان ضالا فهديناه ، ثمّ أشار إلى تنويع آخر في الطّباق ، فقال : «وهو» أي الطّباق باعتبار الإيجاب والسلب «ضربان» أحدهما «طباق الإيجاب» بأن يكون اللّفظان المتقابلان معناهما ذكرا موجبين «كما مرّ» في نحو : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) ، فقد ذكرت اليقظة والرّقاد بطريق الإثبات والإيجاب ، وثانيهما : طباق السّلب.

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٢٢.

٢٨٣

فالأوّل (١) [نحو قوله تعالى : ـ (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا)(١).

[و] الثّاني (٢) [نحو قوله تعالى : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ)(٢).

ومن الطّباق] ما سمّاه بعضهم تدبيجا من دبج المطر الأرض إذا زيّنها ، وفسّره (٣) بأن يذكر في معنى من المدح أو غيره ألوان (٤) ،

________________________________________________________

(١) أي فمثال القسم الأوّل : وهو أن يكون أحدهما مثبتا ، والثّاني منفيّا ، نحو قوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الآية ، فقد جمع بين ـ السّلب والإيجاب ، فإنّ العلم الأوّل منفيّ والثّاني مثبت ، وفيهما تقابل في الجملة ، أي باعتبار النّفي والإثبات مع قطع النّظر عن خصوصيّة العلم لا مطلقا ، لأنّ ـ المنفيّ علم ينفع في الآخرة والمثبت علم لا ينفع ـ فيها ، فلا تنافي بينهما مع هذه الخصوصيّة.

(٢) وهو أن يكون أحدهما أمرا والآخر نهيا ، نحو قوله تعالى : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) ، فقد جمع فيما بين فعلين لمصدر واحد أحدهما نهي ، وهو (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) ، والآخر أمر وهو (وَاخْشَوْنِ) ، وهذه الآية نظير الآية المتقدّمة ، لأنّ الخشية ليست مأمورا بها ومنهيّا عنها من جهة واحدة ، بل من جهتين فقد أمر بها باعتبار كونها لله تعالى ، ونهى عنها باعتبار كونها للنّاس ، فالتّنافي بينهما إنّما هو في الجملة ، أي باعتبار المتعلّق مع قطع النّظر عن الخصوصيّة لا مطلقا ، لأنّ المأمور بها الخشية لله والمنهي عنها الخشية للنّاس.

(٣) أي فسّره ذلك البعض «بأن يذكر في معنى المدح أو غيره» كالهجاء والرّثاء ونحوهما من المقاصد الّتي يشهد فيها الشّاعر والنّاثر.

(٤) أي ألوان مختلفة ، فذكر الألوان في الكلام تشبيه بما يحدث بالمطر من ألوان النّبات والأزهار ، ويحتمل أن يكون مأخوذا من الدّبج وهو النّقش ، لأنّ الألوان كالنّقش على البساط ، وكذلك الدّيباج للثّوب المعروف.

__________________

(١) سورة الرّوم : ٦ و٧.

(٢) سورة المائدة : ٤٤.

٢٨٤

لقصد الكناية (١) أو التّورية ، وأراد بالألوان ما فوق الواحد (٢) بقرينة الأمثلة ، فتدبيج الكناية [نحو قوله : تردي] من تردّيت الثّوب ، أخذته رداء [ثياب الموت حمرا ، فما أتي+ لها] أي لتلك الثّياب [اللّيل الآن ، وهي من سندس خضر (٣)] يعني ارتدي الثّياب الملطخة بالدّم فلم ينقض يوم قتله ، ولم يدخل في ليلته إلّا ـ وقد صارت الثّياب من سندس خضر من ثياب الجنّة ، فقد جمع بين الحمرة والخضرة ، وقد قصد بالأوّل الكناية عن القتل ، وبالثّاني الكناية عن دخول الجنّة وتدبيج التّورية (٤).

كقول الحريري : فمذ اغبرّ العيش الأخضر (٥) وازورّ (٦) المحبوب الأصفر ، اسودّ (٧)

________________________________________________________

(١) أي لقصد الكناية بالكلام المشتمل على تلك الألوان ، وسيأتي المراد من التّورية.

(٢) أي ولو كان اثنين بقرينة ما يذكره من المثال الآتي ، وذلك بناء على ما هو المصطلح عند أهل الميزان من أنّ أقل الجمع عندهم ما فوق الواحد.

(٣) أي هذا البيت لأبي تمّام من قصيدة له في رثاء محمد بن حميد الطّائي ، ومعنى البيت أنّ المرثي لبس الثّياب الملطخة بالدّم حين قتل ، ولم يدخل عليه اللّيل حتّى صارت تلك الثّياب من السّندس وصارت خضرى ، فقد جمع بين لونين فقطّ.

والشّاهد إنّ حمرة الثّياب كناية عن القتل لاستلزامه إيّاه عرفا ، مع قرينة السّياق وخضرة الثّياب كناية عن دخول الجنّة ، لما علم من أنّ أهل الجنّة يلبسون الحرير الأخضر ، وصيرورة هذه الثّياب الخضر عبارة عن انقلاب حال ـ القتل إلى حال التّنعم بالجنّة.

(٤) والمراد من التّورية أن يطلق لفظ له معنيان قريب وبعيد ، ويراد من اللّفظ ما هو المعنى البعيد.

(٥) خضرة العيش كناية عن طيبه ونعومته وكماله ، لأنّ اخضرار العود والنّبات يدلّ على طيبه ونعومته ، وكونه على أكمل ـ حال ـ فيكنّى به عن لازمه في الجملة ، الّذي هو الطّيب والحسن والكمال ، واغبرار العيش كناية عن ضيقه ونقصانه ، وكونه في حال التّلف ، لأنّ اغبرار النّبات والأرض يدلّ على الذّبول والتّغيّر ، فيكنّى به عن هذا اللّازم.

(٦) أي تباعد وأعرض عنّي «المحبوب الأصفر» ، الشّاهد هنا وسيأتي فانتظر.

(٧) اسوداد اليوم كناية عن ضيق الحال ، وكثرة الهموم فيه ، لأنّ اسوداد الزّمان كاللّيل يناسبه الهموم ، ووصفه بالبياض كناية عن سعة الحال والفرح والسّرور.

٢٨٥

يومي الأبيض ، وابيضّ فودي (١) الأسود ، حتّى رثى لي العدوّ الأزرق ، فيا حبّذا الموت الأحمر ، فالمعنى القريب للمحبوب الأصفر إنسان له صفرة ، والبعيد هو الذّهب ، وهو المراد ههنا ، فيكون تورية ، وجمع الألوان لقصد التّورية لا يقتضي أن يكون في كلّ لون تورية كما توهّمه بعضهم.

[ويلحق به] أي بالطّباق (٢) شيئان : أحدهما الجمع بين معنيين يتعلّق أحدهما بما يقابل الآخر نوع تعلّق ، مثل السّببيّة واللزّوم [نحو قوله تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ)(١) ، فإنّ الرّحمة وإن لم تكن مقابلة للشّدّة لكنّها مسبّبة عن اللّين] الّذي هو ضدّ الشّدّة.

________________________________________________________

(١) والفود :

شعر جانب الرّأس ممّا يلي الأذن وابيضاض الشّعر ، كناية عن كثرة الحزن والهمّ ، واتّصف شعره بذلك بسبب الهمّ حتّى رثى له العدوّ الأزرق ، أي شديد العداوة.

فحاصل الكلام :

إنّ الألوان كلّها في كلامه كناية إلّا الاصفرار ، فإنّ فيه التّورية ، وهي أن يطلق لفظ له معنيان قريب وبعيد ويراد منه البعيد. ومن هنا تبيّن أنّ جمع الألوان لا يقتضي أن تكون كلّها توريات ، أو كنايات ، بل يجوز أن تجمع على أن يكون بعضها تورية ، وبعضها كناية كما هنا ، حيث قصدت التّورية بواحد منها وهو الاصفرار والكناية بباقيها ، وقد توهّم بعضهم وجوب ذلك وهو فاسد.

(٢) أي بالطّباق السّابق ، الفرق بين الطّباق والملحق به أنّ الطّباق يكون التّقابل فيه لذات اللّفظ والمعنى ، بخلاف الملحق به حيث يكون التّقابل فيه باعتبار المعنى فقطّ ، كما في الآية المباركة والبيت لعبد بن علي الخزاعي.

أمّا في الآية الكريمة فقد جمع بين الشّدة والرّحمة ، ومن المعلوم أنّ الرّحمة لا تقابل الشّدة ، فإنّ الرّحمة إنّما تقابلها الفظاظة ، والشّدة إنّما يقابلها اللّين لكنّ الرّحمة مسبّبة عن اللّين ، إذ اللّين في الإنسان كيفيّة قلبيّة تقتضي الانعطاف لمستحقّه ، وذلك الانعطاف هو الرّحمة ، فهي مسبّبة عن الكيفيّة الّتي هي اللّين ، فقد قوبل في الآية بين معنيين هما الرّحمة والشّدّة ، وأحدهما وهو الرّحمة له تعلّق السّببيّة ، أي كون الرّحمة مسبّبة عن اللّين.

__________________

(١) سورة الفتح : ٢٩.

٢٨٦

[و] الثّاني (١) الجمع بين معنيين ـ غير متقابلين عبّر عنهما بلفظين يتقابل معناهما الحقيقي ، [نحو قوله : لا تعجبي يا سلم (٢) من رجل] يعني نفسه [ضحك المشيب برأسه] أي ـ ظهر ظهورا تامّا [فبكى] ذلك الرّجل ، فظهور الشّيب لا يقابل البكاء إلّا أنّه قد عبّر عنه بالضّحك الّذي معناه الحقيقي مقابل ـ للبكاء.

[ويسمّى الثّاني إيهام التّضاد] لأنّ المعنيين قد ذكرا بلفظين يوهمان التّضادّ نظرا إلى الظّاهر.

[ودخل فيه] أي في الطّباق بالتّفسير الّذي سبق (٣) [ما يختصّ باسم المقابلة] وإن جعله السّكّاكي وغيره قسما برأسه من المحسّنات المعنويّة ، [وهي أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو أكثر ، ثمّ] يؤتى بما يقابل ـ ذلك المذكور من المعنيين المتوافقين أو المعاني المتوافقة [على التّرتيب (٤)] فيدخل في الطّباق ،

________________________________________________________

(١) أي القسم الثّاني ممّا يلحق به بالطّباق «الجمع بين معنيين غير متقابلين» ، ولا يتعلّق أحدهما بما يقابل الآخر ، وبهذا فارق ما قبله أعني القسم الأوّل من الملحق.

(٢) ترخيم سلمى ، من رجل يعني نفسه ، عبّر عن نفسه باسم الظّاهر ، أعني الرّجل لأجل أن يتمكّن من الوصف بالجملة ، أعني قوله : ـ «ضحك المشيب برأسه» ، المشيب والشّيب عبارة عن بياض الشّعر ، أي ظهر ظهورا تامّا فبكى ذلك الرّجل بسبب قرب الموت أو بسبب تأسّف مضيّ الشّباب من دون إياب.

وكيف كان فقد عبّر عن ظهور المشيب على سبيل المجاز بالضّحك الّذي يكون معناه الحقيقي مضادّا لمعنى البكاء ، ويسمّى هذا القسم الثّاني إيهام التّضادّ ، لأنّ المعنيين المذكورين في هذا القسم يعني البكاء وظهور المشيب ، وإن لم يكونا متقابلين حتّى يكون التّضادّ حقيقيّا ، لكنّهما قد ذكرا بلفظين يعني لفظ البكاء ولفظ الضّحك ، «يوهمان التّضادّ نظرا إلى الظّاهر» ، هذا بخلاف القسم فإنّه ليس له اسم خاصّ ، بل هو عامّ وهو ملحق بالطّباق.

(٣) وهو الجمع بين أمرين متقابلين ، ولو في الجملة أو أمور كذلك.

(٤) أي بأن يكون ما يؤتى به ثانيا على ترتيب ما أتي به أوّلا بجيث يكون الأوّل للأوّل والثّاني للثّاني وهكذا ، فهو نظير ما يأتي من اللّفّ والنّشر.

٢٨٧

لأنّه جمع بين معنيين متقابلين في الجملة (١). ـ [والمراد بالتّوافق خلاف التّقابل (٢)] حتّى لا يشترط أن يكونا متناسبين أو متماثلين ، فمقابلة الاثنين بالاثنين [نحو : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً)(١)] أتى بالضّحك والقلّة المتوافقين ، ثمّ بالبكاء والكثرة المقابلين لهما ، ومقابلة الثّلاثة بالثّلاثة [نحو قوله (٣) :

ما أحسن الدّين والدّنيا إذا اجتمعا

وأقبح الكفر والإفلاس بالرّجل]

أتى بالحسن والدّين والغنى ، ثمّ بما يقابلها من القبح والكفر والإفلاس على التّرتيب ، ومقابلة الأربعة بالأربعة (٤) نحو : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى)(٢) والتّقابل بين الجميع ظاهر.

________________________________________________________

(١) أي من غير تفصيل وتعيين ، لكون التّقابل على وجه مخصوص دون آخر ، لأنّ ذلك لا يشترط في الطّباق حتّى يمكن إخراج المقابلة عن الطّباق ، فيصدق حده عليها.

(٢) أي المراد بالتّوافق هو عدم التّقابل وعدم التّنافي ، فيشمل ـ المناسبين.

(٣) أي قول أبي دلامة وهو من شعراء الدّولة العباسيّة ، فقد قابل أحسن بأقبح ، والدّين بالكفر ، والدّنيا بالإفلاس ، فالمراد بالدّنيا اليسار.

(٤) الإعطاء مقابل للبخل ، والتّقوى مقابل للاستغناء ، والتّصديق مقابل للتّكذيب ، ومجموع (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) مقابل لمجموع (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) ، إذ ليس المقابلة بين الجزئين الأوّلين منهما لاتّحادهما ، ولا بين الآخرين لعدم استقلالهما ، والمقابلة إنّما تكون بين متقابلين مستقلّين ، ولمّا كان التّقابل بين الجميع ظاهرا إلّا بين الاتّقاء والاستغناء بيّنه بقوله : والمراد ب (وَاسْتَغْنى) فلا بدّ أوّلا من بيان وجه عدم ظهور التّقابل بين الاتّقاء والاستغناء ، ثمّ بيان ما أشار إليه المصنّف ، أمّا عدم ظهور التّقابل بينهما ، فلأنّ التّقوى إمّا أن تفسّر برعاية أوامر الله تعالى ونواهيه ، والاعتناء بها خوفا منه تعالى ، أو محبّة فيه ، أو تفسّر بنفس خوف الله ، أو محبّته الموجب كلّ منهما لتلك الرّعاية. وأمّا الاستغناء فإن كان معناه عدم طلب المال لكثرته ، فلا يقابل التّقوى بذلك المعنى ، وإن كان معناه عدم طلب الدّنيا للقناعة ، فكذلك وإن كان شيئا

__________________

(١) سورة التّوبة : ٨٢.

(٢) سورة اللّيل : ٥ ـ ١٠.

٢٨٨

إلّا بين الاتّقاء والاستغناء ، فبيّنه بقوله : [والمراد باستغناء أنّه زهد فيما عند الله تعالى (١) كأنّه استغنى عنه] أي أعرض عمّا عند الله تعالى [فلم يتّق ، أو] المراد ب (اسْتَغْنى) [استغنى بشهوات الدّنيا عن نعيم الجنّة ، فلم يتّق] فيكون الاستغناء مستتبعا لعدم الاتّقاء ، وهو مقابل الاتّقاء ، فيكون هذا من قبيل قوله تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ)(١)].

وزاد السّكّاكي] في تعريف المقابلة قيدا آخر (٢) ، حيث قال : هي (٣) أن يجمع

________________________________________________________

آخر فمعه خفاء ، فأراد المصنّف بيان معناه لتتّضح مقابلته للتّقوى ، فقال : «والمراد ب (وَاسْتَغْنى) أنّه زهد فيما عند الله تعالى ، كأنّه استغنى عنه».

(١) من الثّواب الأخروي فصار بتركه طلبه «كأنّه مستغن عنه ، أي عمّا عند الله تعالى» أي لا يحتاج إليه مع شدّة احتياجه إليه لو كان له ميز ، وذلك أنّ العاقل لا يترك طلبه شيء إلّا إن كان مستغنيا عنه ، فعبّر بالاستغناء عن ترك طلب ما عند الله تعالى على وجه التّرفّع عنه على سبيل الإنكار ، وهذا كفر وإذا كان كافرا «فلم يتّق» الكفر ، فيحصل التّقابل بين الاتّقاء والاستغناء.

أو المراد هو الاستغناء بشهوات الدّنيا المحرّمة عن طلب نعيم الجنّة فلم يتّق أيضا ، إمّا أن يكون ذلك على وجه يؤدّيه على إنكار النّعيم فيكون كافرا ، وإمّا أن يكون ذلك سفها وشغلا باللذّة المحرّمة العاجلة عن ذلك النّعيم ، كما هو الحال في الفسقة ، وعلى كلا التّقديرين يكون الاستغناء مستلزما لعدم الاتّقاء المقابل للاتّقاء ، فعدم الاتّقاء ليس هو نفس الاستغناء بالشّهوات ، بل الاستغناء ملزومه ، فيكون من الملحق بالطّباق ، فهو نظير (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) ، ومن هنا قد ظهر أنّ الاستغناء ملزوم لنفي النّفي كان التّقابل بينهما من الملحق به الّذي هو أن لا يتقابل بأنفسهما ولكن يستلزم أحدهما ما يقابل به الآخر ، نظيره (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ).

(٢) فلا تحصل المقابلة عنده إلّا به.

(٣) أي المقابلة «أن يجمع بين شيئين متوافقين أو أكثر وضدّيهما».

__________________

(١) سورة الفتح : ٢٩.

٢٨٩

بين شيئين متوافقين أو أكثر وضدّيهما ، [وإذا شرط ههنا] أي فيما بين المتوافقين أو المتواقات أمر شرط ثمّة ، أي فيما بين ضدّيهما أو أضدادهما [ضدّه] أي ضدّ ذلك الأمر [كهاتين الآيتين ، فإنّه لمّا جعل التّيسير مشتركا بين الإعطاء والاتّقاء والتّصديق جعل ضدّه] أي ضدّ التّيسير وهو العسير المعبّر عنه بقوله : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى)(١) ، [مشتركا بين أضدادها] وهي (١) البخل والاستغناء والتّكذيب ، فعلى هذا لا يكون قوله : ما أحسن الدّين ، من المقابلة لأنّه اشترط في الدّين والدّنيا الاجتماع ، ولم يشترط في الكفر والإفلاس ضدّه. [ومنه] أي ومن المعنوي ، [مراعاة النّظير ، ويسمّي التّناسب والتّوفيق] والائتلاف والتّلفيق [أيضا (٢) وهي جمع أمر ما يناسبه لا (٣) بالتّضاد] والمناسبة بالتّضادّ أن يكون كلّ منهما مقابلا للآخر ، وبهذا القيد (٤) يخرج الطّباق ، وذلك (٥) قد يكون بالجمع بين أمرين [نحو : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ)(٢) (٦)] جمع بين أمرين ، ونحو [قوله :] في

________________________________________________________

(١) أي الأضداد البخل والاستغناء والتّكذيب ، فعلى هذا الّذي قاله السّكّاكي لا يكون بيت أبي دلامة من المقابلة ، لأنّه اشترط في الدّين والدّنيا الاجتماع ، ولم يشترط في الكفر والإفلاس ضدّه ، أي ضد الاجتماع وهو الافتراق.

(٢) ويعرّف وجه التسمية بكلّ واحد من هذه الأسماء بقوله : «وهي جمع أمر وما يناسبه».

(٣) يعني يحب أن لا تكون المناسبة بينهما بالتّضادّ ، بل بالتّوافق في الشّكل أو في ترتّب بعض على بعض ، أو في الإدراك أو في شيء ممّا يشبه من ذلك ، كما يظهر من الأمثلة الآتية.

(٤) أي بقوله : «لا بالتّضاد» يخرج الطّباق ، لأنّه كما مرّ هو الجمع بين متضادّين ، أي معنيين متقابلين في الجملة.

(٥) أي الجمع الّذي يسمّى بمراعاة النّظير «قد يكون بالجمع بين أمرين».

(٦) أي يجريان بحسبان معلوم المقدار في قطعهما للأبراج الاثني عشر المعروفة والدّرجات الفلكيّة لا يزيدان عليه ولا ينقصان ، (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ((٣)) ، فقد جمع بين أمرين وهما الشّمس والقمر ، ولا يخفى تناسبهما ، وقد يكون بالجمع بين ثلاثة أمور ، نحو قول البحتري : في الإبل ـ المهزولة كالقيسيّ المعطفات ، بل الاسم مبريّة ، بل الأوتار.

__________________

(١) سورة اللّيل : ١٠.

(٢) سورة الرّحمن : ٥.

(٣) سورة الأنعام : ٩٦.

٢٩٠

صفة الإبل [كالقسيّ] جمع قوس [المعطفات] المنحنيات ، [بل الأسهم] جمع سهم [مبريّة] أي منحوتة ، [بل الأوتار] جمع وتر ، جمع بين أمور ثلاثة. [ومنها] أي من مراعاة النّظير ما يسمّيه بعضهم تشابه الأطراف (١) ، وهو أن يختم الكلام بما يناسب ابتداءه في المعنى نحو :

(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(١)] فإنّ الطّيف يناسب كونه غير مدرك بالأبصار ، والخبير يناسب كونه مدركا للأبصار ، لأنّ المدرك للشّيء يكون خبيرا عالما ، [ويلحق بها] ، أي بمراعاة النّظير أن يجمع بين معنيين غير متناسبين (٢) بلفظين يكون لهما معنيان متناسبان ، وإن لم يكونا مقصودين هنا [نحو : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ)(٢)] أي والنّبات

________________________________________________________

وحاصل المعنى :

أنّ الإبل في رقّة أعضائها وشكلها شابهت تلك القيسيّ ، بل شابهت ما هي أرقّ منها وهي الاسم ، بل شابهت ما هي ـ أرق منها وهي الأوتار ، أي الخيوط الجامعة بين طرفيّ القوس.

والشّاهد في أنّه جمع بين القوسين والسّهم والوتر ، وبينها مناسبة ، وفيها إضرابات ثلاثة ، وهي تدلّ على أنّ القوس أغلظ من السّهم المبريّ ، والسّهم المبريّ أغلظ من الوتر ، والوتر أرقّ من الكلّ.

(١) وإنّما كان تشابه الأطراف نوعا خاصّا من مراعاة النّظير ، لأنّها الجمع بين متناسبين مطلقا ، أي سواء كان أحدهما في الختم والآخر في الابتداء ، كما في تشابه الأطراف أم لم يكن كذلك ، كما في قول البحتري في وصف الإبل.

(٢) في أنفسهما لعدم وجود شيء من أوجه التّناسب من تقارن ، أو علّيّة ، أو نحوهما ، ولكن عبّر عن ذينك المعنيين يكون لهما معنيان آخران «متناسبان وإن لم يكونا مقصودين ههنا» ، وهذا صادق بأن لا يقصد واحد منهما ، أو يكون أحدهما مقصودا دون الآخر.

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٠٣.

(٢) سورة الرّحمن : ٥ و٦.

٢٩١

الّذي ينجم ، أي يظهر من الأرض لا ساق له كالبقول ، (وَالشَّجَرُ) الّذي له ساق (يَسْجُدانِ) أي ينقادان لله تعالى فيما خلقا له ، فالنّجم بهذا المعنى وإن لم يكن مناسبا للشّمس والقمر لكنّه قد يكون بمعنى الكوكب ، وهو مناسب لهما ، [ويسمّى إيهام التّناسب] لمثل ما مر في إيهام التّضاد (١).

[ومنه] أي ومن المعنوي [إلارصاد (٢)] وهو في اللّغة نصب الرّقيب في الطّريق ، [ويسمّيه بعضهم التّسهيم (٣)] يقال : برد مسهّم فيه خطوط مستوية ، [وهو (٤) أن يجعل قبل العجز من لفقرة] ، وهي في النّثر بمنزلة البيت من النّظم ، فقوله (٥) : هو يطبع الأسجاع

________________________________________________________

(١) فإنّه يوجّه بتوجيه مثل التّوجيه الّذي وجّه به إيهام التّضادّ ، فإنّ المعنيين هناك قد ذكرا بلفظين يوهمان التّضادّ بحسب الظّاهر ، وههنا قد ذكرا بلفظين يوهمان التّناسب بحسب الظّاهر. فنّسبة إيهام التّناسب من مراعاة النّظير كنسبة إيهام التّضادّ من المطابقة.

(٢) أي ما يسمّى بالإرصاد ، والإرصاد في اللّغة هو نصب الرّقيب في الطّريق ليدلّ عليه ، أو ليراقب من يأتي منها ، يقال : رصدت ، أي راقبت ، وأرصدته جعلته يرصد ، أي يراقب الشّيء.

(٣) جعل البرد أي الثّوب ذا خطوط ، كإنّما فيه سهام ، فإنّ الكلام في هذا القسم كالبرد المسّهم المستوي الخطوط للزّينة.

(٤) أي الارصاد ـ في الاصطلاح «أن يجعل قبل العجز» بضمّ الجيم ، سواء كان متّصلا بالعجز أو كان هناك فاصل بينهما ، وأمّا وجه تسمية ما يدلّ على العجز إرصادا فلأنّ الإرصاد في اللّغة نصب الرّقيب في الطّريق ليدلّ عليه أو على ما يأتي منه ، وما يدلّ على العجز نصب ليدلّ على صفته وختمه.

وأمّا وجه تسميته تسهيما ، فلأنّ ما جعل قبل العجز ليدلّ عليه مزيد في البيت ، أو في الفقرة ليزيّنه بدلالته على المقصود من عجزه ، فصار بمنزلة الخطوط في الثّوب المزيدة فيه لتزينيه ، أو لأنّ ما قبل العجز مع العجز كأنّهما خطّان مستويان في البيت أو الفقرة.

(٥) أي قول الحريري في وصف خطيب اسمه أبو زيد السّروجي «وهو» أي الخطيب يطبع الإسجاع» ، يقال : طبعت السّيف والدّرهم ، أي عملته وطبعت من الطّين جرّة عملتها منه ، والأسجاع جمع سجع وهو الكلام الملتزم في آخره حرف مخصوص ، فهو قريب من الفقرة ،

٢٩٢

بجواهر لفظه فقرة ، ويقرع الإسماع بزواجر وعظه ، فقرة أخرى ، والفقرة في الأصل حليّ يصاغ على شكل فقرة الظّهر ، [أو] من [البيت ما يدلّ عليه] أي على العجز ، وهو آخر كلمة من الفقرة أو البيت ، [إذا عرف الرّوي] فقوله : ما يدلّ ، فاعل يجعل ، وقوله : إذا عرف ، متعلّق بقوله : يدلّ ، والرّوي الحرف الّذي تبتني عليه أواخر الأبيات أو الفقر ، ويجب تكرّره في كلّ منهما.

وقيّد بقوله : إذا عرف الرّوي ، لأنّ من الإرصاد ما لا يعرف به العجز (١) لعدم معرفة حرف الرّويّ ، كما في قوله تعالى : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(١) (٢)] فلو لم يعرف (٣) أنّ حرف الرّوي هو النّون لربّما توهّم أنّ العجز فيما فيه اختلفوا أو اختلفوا فيه ، فالإرصاد في الفقرة [نحو :

________________________________________________________

أو هو نفسها مصداقا «بجواهر لفظه» ، أي بألفاظه الشّبيهة بالجواهر كاللّؤلؤ والمرجان ، وفرع الإسماع بزواجر الوعظ عبارة عن إسماع الموعظة على وجه يحرّك السّامع نحو المقصود ، وإنّما كان كلّ واحد منهما فقرة ، لأنّ كلا منهما بمنزلة مصراع البيت.

(١) أي باعتبار صورته ومادّته لا باعتبار مجرّد مادّته ، وإلّا فقوله : «اختلفوا» يدلّ على مادّة الاختلاف.

(٢) فقد عرف أنّ العجز هو (يختلفون) ، وعلم ذلك من معرفة الرّويّ ، وإنّه نون بعد الواو كما كان ذلك قبل هذه الآية ، أعني (يشركون) ، وفيما بعدهما أعني (ما تمكرون) ، ولو لا تلك المعرفة لتوهّم أنّ العجز هو فيما فيه اختلفوا ليطابق قوله : ـ (فَاخْتَلَفُوا) لكن معرفة الرّوي أعانت على ذلك.

(٣) أي فلو فرض أنّه لم يعرف من الآية الّتي قبلها أنّ حرف الرّوي هو النّون «لربما توهّم ...» ، وظاهره أنّه لو عرف أنّ الرّوي حرف النّون ، لفهم أنّ العجز هو (يَخْتَلِفُونَ) ، فيقال إنّه ليس كذلك لجواز أن يفهم أنّه مختلفون ، فلو قال المصنّف : إذا عرف الرّويّ مع معرفة صيغة القافية لكان أوضح.

__________________

(١) سورة يونس : ١٩.

٢٩٣

(وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) (١) (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(١) و] في البيت نحو [قوله :

إذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع]

[ومنه] أي ومن المعنوي ، [المشاكلة] وهي ذكر الشّيء (٢) بلفظ غيره لوقوعه] أي ذلك الشّيء [في صحبته] أي ذلك الغير [تحقيقا أو تقديرا] أي (٣) وقوعا محقّقا أو مقدّرا ، فالأوّل نحو قوله : ـ قالوا اقترح ـ شيئا] من ، اقترحت عليه شيئا إذا سألته إيّاه من غير رويّة ، وطلبته على سبيل التّكليف والتّحكّم ، وجعله من اقترح الشّيء ابتدعه ، غير مناسب على ما لا يخفى.

________________________________________________________

(١) فقوله تعالى : (لِيَظْلِمَهُمْ) إرصاد ، لأنّه يدلّ على أنّ مادّة العجز من مادّة الظّلم إذ لا معنى لأن يقال مثلا : وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم ينفعون ، أو يمنعون من الهلاك ، أو نحو ذلك ، وأمّا الصّيغة وكونها مختومة بنون بعد واو ، فتعرف بحرف الرّويّ الكائن فيما بعد هذه الآية ، أعني قوله تعالى : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

أمّا الإرصاد في البيت نحو عمرو بن معدي كرب فهو في قوله : «إذا لم تستطع» لأنّه يدلّ على أنّ مادّة العجز من مادّة الاستطاعة الموجبة لا السّالبة ، إذ لا يصحّ أن يقال : إذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إلى ما لا تستطع ، أو إلى كلّ ما تشتهيه ، أو إلى كلّ ما تريد ، ولو كنت لا تستطيعه أو نحو ذلك ، والذّوق السّليم شاهد صدق على ذلك.

(٢) أي المشاكلة عبارة عن ذكر الشّيء كالخياطة في لمثال الآتي «بلفظ غيره» كالطّبخ فيه لوقوعه في صحبته ، أي لوقوع ذلك الشّيء أعني الخياطة في صحبة ذلك الغير أعني الطّبخ.

(٣) وهذا التّفسير لدفع ما يوهم أنّ قوله : «تحقيقا» راجع للذّكر ، وليس كذلك بل هو راجع إلى الوقوع ، فالمراد بقوله : «تحقيقا» أن يذكر ذلك الشّيء ـ بلفظ غيره لوقوعه في صحبة ذلك ـ الغير صحبة تحقّيق ، بأن يذكر ذلك الغير عند ـ ذكر الشّيء ، والمراد بقوله : ـ «تقديرا» أن يحصل العلم بذلك الغير عند ذكر الشّيء فصار الغير مقدّرا ، والمقدّر كالمذكور ، فوقع ذلك الشّيء في صحبة ذلك الغير.

وكيف كان فالأوّل وهو ذكر الشّيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته وقوعا محقّقا «نحو قوله : قالوا اقترح شيئا» من اقترحت عليه شيئا تقول ذلك «إذا سألته» أي سألت فلانا الشّيء «من

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٤٠.

٢٩٤

[نجد] مجزوم على أنّه جواب الأمر من الإجادة ، وهي تحسين الشّيء [لك طبخه+ قلت : اطبخوا لي جبّة وقميصا] أي خيّطوا (١) وذكر خياطة الجبّة بلفظ الطّبخ لوقوعها في صحبة طبخ الطّعام ، [ونحو : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ)(١)] حيث أطلق النّفس على ذات الله تعالى (٢) لوقوعه في صحبة نفسي.

[والثّاني (٣)] وهو ما يكون وقوعه في صحبة الغير تقديرا [نحو] قوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا)(٢)] إلى قوله : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ)(٣) [وهو] أي قوله : (صِبْغَةَ اللهِ) [مصدر] لأنّه فعلة من صبغ ، كالجلسة من جلس ، وهي الحالة الّتي يقع عليها الصّبغ ، [مؤكد ل (آمَنَّا بِاللهِ) أي تطهير الله (٤) لأنّ الإيمان يطهّر النّفوس]

________________________________________________________

غير رويّة» إلى من غير تأمّل وفكر ، وطلبته بتاء الخطاب ، تفسير لقوله : سألته «على سبيل التّكليف» ، أي الإلزام والتّحكم تفسير ـ للتّكلّيف.

والحاصل :

أنّ (اقترح) مأخوذ من الاقتراح الّذي معناه باللّغة الفارسيّة «فرمان دادند وفرمايش كردند» على سبيل الإلزام والاستعلاء ، لا من اقتراح الشّيء بمعنى ـ ابتدعه واخترعه ، مثل اقتراح الكلام لارتحاله بأن ينطق به بلا رويّة وفكر ، لأنّ الاقتراح بهذا المعنى غير مناسب لما هو المقصود بالبيت

(١) والشّاهد في أنّه ذكر خياطة الجبّة بلفظ الطّبخ لوقوعها في صحبة طبخ الطّعامّ.

(٢) للمشاكلة ، أي وقوعه بصحبة ذي ـ النّفس ، أعني ياء المتكلّم.

(٣) أي والثّاني من قسمي المشاكلة.

(٤) تفسير لصبغة الله بالإيمان.

__________________

(١) سورة المائدة : ١١٦.

(٢) سورة البقرة : ١٣٦.

(٣) سورة البقرة : ١٣٨.

٢٩٥

فيكون أمنا مشتملا (١) على تطهير الله لنفوس المؤمنين ودالا عليه ، فيكون صبغة الله بمعنى تطهير الله مؤكّدا لمضمون قوله : (آمَنَّا بِاللهِ) ، ثمّ أشار إلى وقوع تطهير الله في صحبة ما يعبّر بالصّبغ تقديرا بقوله : [والأصل فيه] ، أي ـ في هذا المعنى ، وهو ذكر التّطهير بلفظ الصّبغ ـ [أنّ النّصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمّونه المعموديّة ، ويقولون : إنّه] ، أي الغمس في ذلك الماء [تطهير لهم].

فإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك ، قال : الآن صار نصرانيّا حقّا ، فأمر المسلمون بأن يقولوا للنّصارى : قولوا آمنّا بالله وصبّغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتنا وطهّرنا به تطهيرا لا مثل تطهيرنا.

هذا إذا كان الخطاب في قوله : قولوا آمنّا بالله للكافرين ، وإن كان الخطاب للمسلمين ، فالمعنى أنّ المسلمين أمروا بأن يقولوا : صبّغنا الله بالإيمان صبغة ، ولم نصبغ صبغتكم أيها النّصارى [فعبّر عن الإيمان بالله بصبغة الله للمشاكلة] لوقوعه في صحبة صبغة النّصارى تقديرا [بهذه القرينة] الحاليّة الّتي هي سبب النّزول من غمس النّصارى أولادهم ـ في الماء الأصفر ، وإن لم يذكر ذلك لفظا.

________________________________________________________

(١) أي من حيث المعنى على تطهير الله لنفوس المؤمنين ، من باب اشتمال الملزوم على اللّازم ودلالته عليه.

وحاصل الكلام في المقام : أنّه لمّا كان الإيمان المدلول ل (آمَنَّا) متضمّنا ، أي مستلزما للتّطهير عن رذيلة الكفر كان صفة الدالّ على التّطهير مؤكّدا ل (آمَنَّا) لدلالته على لازمه البيّن ، ومؤكّدا للّازم مؤكّدا للملزوم ، وقد أشار إلى تقريب المشاكلة بقوله : «والأصل فيه» ، أي في هذا المعنى وهو ذكر التّطهير بلفظ الصّبغ تقديرا «أنّ النّصارى كانوا يغمسون أولادهم ماءا أصفر» اللّون بسبب شيء يجعلونه في ذلك الماء كالزّعفران مثلا «يسمّونه» أي الماء الأصفر المعموديّة «ويقولون» أي يظّنون أنّ الغمس في ذلك الماء تطهير لهم من غير دينهم ، «فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم» أي للنّصارى «قولوا» بدل ذلك الغمس «آمنّا بالله وصبّغنا الله بالإيمان صبغة» لا مثل صبغتنا بذلك الماء ، وطهّرنا الله به ، أي بالإيمان تطهيرا مخصوصا لا مثل تطهيرنا بذلك الماء ، فإذا قلتم ذلك واعتقدتموه فقد أصبتم وإلّا فأنتم في ضلال ، هذا إذا كان الخطاب «في قولوا آمنّا للكافرين» ، أي النّصارى ، وأمّا إذا كان الخطاب «في قوله : قولوا

٢٩٦

[ومنه] أي ومن المعوي [المزاوجة] وهي أن يزاوج (١) أي يوقع المزاوجة على أنّ الفعل مسند إلى ضمير المصدر أو إلى الظّرف ، أعني قوله : [بين معنيين في الشّرط والجزاء] والمعنى يجعل معنيان واقعان في الشّرط والجزاء مزدوجين في أن يترتّب على كلّ منهما معنى رتّب على الآخر ، [كقوله (٢) : إذا ما نهى النّاهي (٣)] ، ومنعني عن

________________________________________________________

آمنّا للمسلمين ، فالمعنى أنّ المسلمين أمروا بأن يقولوا صبّغنا الله بالإيمان صبغة ، ولم نصبغ صبغتكم أيّها النّصارى» بالماء الأصفر ، ولم تكن صبغتكم بالماء تطهير لكم.

فالمتحصل :

أنّ النّصارى لمّا اقتضى فعلهم صبغا ، ونزلت الآية للرّدّ عليهم عبّر عن المراد ، أي عن الإيمان بالله والتّطهير عن رذيلة الكفر بالصّبغة للمشاكلة ، لوقوعه في صحبة ما يعبّر عنه بالصّبغ تقديرا ، فعبّر عن الإيمان بالله بصبغة الله للمشاكلة لوقوعه في صحبة صبغة النّصارى تقديرا بهذه القرينة الحاليّة الّتي هي سبب النّزول من غمس النّصارى أولادهم في الماء الأصفر الّذي من شأنه أن يصبغ الأولاد بالصّفرة ، وإن لم يذكر ذلك الصّبغ لفظا.

(١) بفتح الواو فعل مبنيّ للمفعول ، ويحتمل أن يكون بكسر الواو وعلى صيغة المبنيّ للفاعل ، وعليه يكون الفاعل هو النّاطق ، وعلى الأوّل يكون نائب الفاعل ضميرا يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل والمعنى ، على أن يزاوج الزّواج ، إلى أن توقع المزاوجة ، ويحتمل على قول أن يكون النّائب عن الفاعل هو الظّرف ، وهو قوله : «بين معنيين» ، أي المزاوجة هو أن يقارن ويجمع بين معنيين واقعين «في الشّرط والجزاء» ، أي وقع أحد ذينك المعنيين المزاوج بينهما في مكان الشّرط بأن جيء به بعد أداته ، ووقع الآخر في موضع الجزاء ، بأن ربط مع الشّرط ، وسيق جوابا له ، ومعنى الزّواج في المعنيين الواقع أحدهما شرطا والآخر جزاء أن يجمع بينهما في بناء معنى من المعاني على كلّ منهما ، فقد ازدوجا ، أي اجتمع ذلك الشّرط ، وذلك الجزاء في ذلك المعنى ، ثمّ مثّل للمزاوجة فقال.

(٢) أي كقول البحتري.

(٣) أي إذا نهاني النّاهي عن حبّها ، وزجرني الزّاجر عن التّوغل في ودّها.

٢٩٧

حبّها [فلجّ (١) بي الهوى] لزمني (٢) [أصاخت (٣) إلى الواشي] أي استعملت إلى النّمام الّذي يشي حديثا ويزيّنه ، وصدّقته فيما افترى عليّ [فلجّ بها الهجر (٤)] زاوج بين نهي النّاهي وإصاختها إلى الواشي الواقعين في الشّرط والجزاء في أن ترتّب عليهما لجاج شيء.

وقد يتوهّم من ظاهر العبارة أنّ المزاوجة هي أن تجمع بين معنيين في الشّرط ومعنيين في الجزاء ، كما جمع في الشّرط بين نهي النّاهي ولجاج الهوى ، وفي الجزاء بين إصاختها إلى الواشي ولجاج الهجر.

وهو فاسد إذ لا قائل بالمزاوجة في مثل قولنا : إذا جاءني زيد فسلّم عليّ أجلسته وإنعمت عليه ، وما ذكرنا المأخوذ من كلام السّلف.

________________________________________________________

(١) أي الفاء للعطف لا للجزء ، فيكون «لجّ» عطفا على «نهى» ، وجواب الشّرط هو قوله : «أصاخت إلى الواشي» أي استمعت المحبوبة على وجه الإصغاء إلى النّمّام ، والمراد باستماعها لحديث الواشي قبولها له من باب إطلاق اسم السّبب على المسبّب.

(٢) أي صار الهوي لازما لي ، ومن صفاتي ، وأصل اللّجاج كثرة الكلام والخصومة ، والتزامها وإدامتها معبّر به عن مطلق اللزّوم الصّادق بلزوم الهوى مجازا مرسلا من التّعبير باسم المقيّد عن المطلق.

(٣) قيل في قوله :

«أصاخت» الصّواب رواية أصاخ بالتّذكير ، لأنّ ما قبله كان الثّريّا علّقت بجبينه وفي نحره الشّعرى وفي خدّه البدر.

(٤) أي الشّاهد في أنّ الشّاعر «زاوج بين نهي النّاهي» الواقع في موضع الشّرط وبين إصاختها إلى الواشي الواقعة في موضع الجزاء ، وأجمع بين ذي المعنيين «الواقعين في الشّرط والجزاء في أن ترتّب عليهما لجاج شيء» أي لجاج الهوى في نهي النّاهي ولجاج الهجر في الإصاخة.

ولا يخفى عليك أنّه قد علم ممّا أوضحناه في بيان محلّ الاستشهاد أنّ قوله : «فلجّ بي الهوى» عطف على قوله : «نهي النّاهي» ، وجواب الشّرط «أصاخت» ، وقوله : «فلجّ بها الهجر» عطف على الجواب ، فليست المزاوجة بين معنيين في الشّرط ومعنيين في الجزاء ، كما يتوهّم «إذ لا قائل بالمزاوجة في مثل قولنا : إذا جاءني زيد فسلّم عليّ ...» فتدبّر.

٢٩٨

[ومنه] أي ومن المعنوي [العكس] والتبديل [وهو أن يقدّم جزء من الكلام] على جزء آخر [ثمّ يؤخّر] ذلك المقدّم عن الجزء المؤخّر أوّلا (١).

والعبارة الصّريحة ما ذكره بعضهم ، وهو أن تقدّم في الكلام جزء ثمّ تعكس فتقدّم ما أخّرت وتؤخّر ما قدّمت ، وظاهر عبارة المصنّف صادق على نحو : عادات السّادات أشرف العادات (٢) وليس من العكس.

[ويقع] العكس [على وجوه : منها أن يقع بين أحد طرفي جملة وما أضيف إليه ذلك الطّرف نحو : عادات السّادات سادات العادات] فالعادات أحد طرفي الكلام ، والسّادات مضاف إليه ذلك الطّرف ، وقد وقع العكس (٣) بينهما بأن قدّم أوّلا العادات على السّادات ، ثمّ السّادات على العادات.

________________________________________________________

(١) مثل كلّ إنسان ناطق وكلّ ناطق إنسان في العكس اللّغوي ، وكلّ إنسان ناطق وبعض النّاطق إنسان في العكس المنطقي ، فيتكرّر الجزءان الواقع فيهما العكس والتبديل بالتّقديم والتّأخير ، كما في المثال المذكور.

(٢) إذ ليس في كلام المصنّف أنّ المقدّم صار مؤخّرا ثانيا ، فلا يقتضي تكرار الجزئين ، وليس في كلامه أنّ المقدّم منهما قد أخّر ، والمؤخّر قدّم فيصدق على نحو : عادات السّادات أشرف العادات ، لأنّ الجزاء في الكلام الّذي هو العادات قدّم أوّلا على السّادات ، ثمّ أخر ثانيا عنه من غير إعادة لفظ السّادات ، وهذا الكلام ليس من العكس بشيء بل هو من ردّ العجز على الصّدر وهو من البديع اللّفظي كما يأتي.

والحاصل أنّك إذا قدّمت جزءا من الكلام على جزء آخر ، ثمّ عكست فقدّمت ما أخّرت ما قدّمت كان هذا عكسا وتبديلا ، ويستلزم تكرار الجزئين الواقع منهما العكس.

وأمّا إن قدّمت جزءا من الكلام على جزء آخر ، ثمّ أخّرت المقدّم عن غير المؤخّر كان هذا ردّ العجز على الصّدر ، وهو لا يقتضي تكرار الجزئين معا. وظاهر عبارة المصنّف صادق على هذا مع أنّه ليس من العكس بشيء.

(٣) يعني قد وقع العكس بين العادات ، وهو أحد طرفي الكلام وبين السّادات وهو الّذي أضيف إليه العادات ، ومعنى وقوع العكس بينهما أنّه قدّم العادات ، وجعل مبتدأ ، ثمّ عكس ، فقدّم السّادات على العادات ، وجعل خبر ، فظهر أنّ العكس إنّما وقع بين المضاف والمضاف

٢٩٩

[ومنها] أي من الوجوه [أن يقع بين متعلّقي فعلين في جملتين نحو : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ)(١)] فالحيّ والميت متعلّقان بيخرج ، وقد قدّم أوّلا الحيّ على الميت ، وثانيا الميت على الحيّ (١).

[ومنها] أي من الوجوه [أن يقع بين لفظين في طرفي جملتين ـ نحو : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ)(٢)] قدّم أوّلا هنّ على هم ، وثانيا هم على هنّ ، وهما لفظان وقع أحدهما (٢) في جانب المسند إليه والآخر في جانب المسند.

[ومنه] أي ومن المعنوي [الرّجوع (٣) وهو العود إلى الكلام السّابق بالنّقص] ، أي

________________________________________________________

إليه ، وهما مبتدأ مرّة وخبر أخرى ، فيصدق أنّ العكس وقع بين أحد طرفي الجملة ، ومن هذا القبيل كلام الملوك ملوك الكلام.

وأمّا معنى المثال فهو أنّ الأمر المعتاد للسّادات ، أي الأكابر والأعيان أفضل وأشرف من الأمور المعتادة لغيرهم ، لكن بشرط أن يكون السّيد سيّدا عملا ، وهذا يعرف من سيرة العظماء والأعيان.

(١) أي فالعكس فيه إنّما هو بين الحيّ والميّت ، وهما متعلّقا فعلين في جملتين.

(٢) وقع أحدهما في جانب المسند إليه والآخر في جانب المسند ، يعني لفظ هنّ وقع في الجملة الأولى في جانب المسند إليه ، وفي الجملة الثّانية في جانب المسند فقد وقع العكس بين هنّ وهم ، حيث قدّم أوّلا هنّ على هم ، ثمّ عكس فأخّر ثانيا هنّ من هم.

والحاصل إنّ الآية المباركة جملتان في كلّ منهما لفظان هما الضّميران أحدهما ـ ضمير جمع المذكّر وهو هم ، والآخر ضمير جمع المؤنّث وهو هنّ ، وقد وقع ضمير ـ المؤنّث منهما في الطّرف الأوّل الّذي هو المسند إليه من الجملة الأولى ، وعكس ذلك في الجملة الثّانيّة فوقع ما لذكور في الطّرف الأوّل منها ، وما للإناث في الطّرف الثّاني منها كما ترى ، فصدق أنّ العكس وقع بين لفظين في طرفي جملتين.

(٣) ويعلم وجه تسميته من معناه «وهو العود» ، أي الرّجوع «إلى الكلام السّابق» من المتكلّم «بالنّقص» أي وهو أن يرجع المتكلّم إلى نقص الكلام السّابق وإبطاله ، فالباء في قوله : «بالنّقص» للمصاحبة ، أي يرجع إلى الكلام السّابق لأجل قصد نقصه بإتيانه بكلام

__________________

(١) سورة يونس : ٣١.

(٢) سورة الممتحنة : ١٠.

٣٠٠