دروس في البلاغة - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٤

الأسد الموصوف بالافتراس الحقيقي من غير احتياج إلى توهّم صورة ، واعتبار مجاز في الافتراس ، بخلاف ما إذا قلنا : رأيت شجاعا يفترس أقرانه (١) ، فإنّا نحتاج إلى ذلك (٢) ليصحّ إثباته (٣) للشّجاع ، فليتأمّل ففي الكلام (٤) دقّة ما. [وعنى بالمكنّى عنها] أي أراد السّكّاكي بالاستعارة المكنّى عنها [أن يكون] الطّرف [المذكور (٥)] من طرفي التّشبيه [هو المشبّه] ويراد به المشبّه به [على أنّ المراد

________________________________________________________

وملخّص الجواب إنّ الباعث على اعتبار المعنى المتوهّم في التّخييليّة وجعل الأمر المثبت للمشبّه مجازا عنه هو مقارنة ذلك الأمر هنا للمشبّه ، والباعث على عدم اعتباره في التّرشيح ، وعدم جعله مجازا عنه هو مقارنته للمشبّه به ههنا ، فلا يقتضي ما ذكره السّكّاكي في التّخييليّة أن يكون التّرشيح تخييليّة ، ولا تحكّم في اعتباره في أحدهما دون الآخر.

(١) أي هذا التّركيب فيه استعارة مكنيّة ، و «يفترس» تخييل ، لأنّ الافتراس غير ملائم للرّجل الشّجاع.

(٢) أي إلى توهم صورة ، واعتبار مجاز في الافتراس لأنّه لم يذكر في المكنية المشبّه به حتّى يقال استعير اسمه مقارنا للازمه ، وإنّما ذكر فيها المشبّه ، وهو لا ارتباط له بلازم المشبّه به ، بل هما متنافران ، فاحتيج إلى اعتبار أمر وهمي يكون لازم المشبّه به مستعملا فيه.

(٣) أي إثبات الافتراس ، والحاصل إنّ تشبيه الشّجاع بالأسد في النّفس استعارة بالكناية ، وإثبات الافتراس له استعارة تخييليّة ، أو نقول لمّا شبّه الشّجاع بالأسد في الشّجاعة تخييل له حالة وهميّة شبيهة بالافتراس الحقيقي ، ثمّ أطلق عليه لفظ الافتراس ليكون قرينة الاستعارة ، فعلى الأوّل يكون الافتراس مستعملا فيما وضع له ، وعلى الثّاني في غير ما وضع له.

(٤) أي في الجواب المذكور دقّة يحتاج إلى تأمّل ودقّة نظر ، وهذا علّة للأمر بالتّأمّل. وجه التّأمل إنّ كون اقتران ما هو من لوازم المشبّه به بالمشبّه غير حكم اقترانه بالمشبّه به.

(٥) أي المذكور اسمه هو المشبّه ثمّ لا يخفى أنّ المكنى عنها هي نفس اللّفظ وتسمية كون المذكور استعارة مكنيا عنها إنّما هو باعتبار المصدر المتعلّق باللّفظ والخطب في مثل ذلك سهل للزّوم العلم بأحدهما من العلم بالآخر.

٢٢١

بالمنيّة (١) في مثل : أنشبت المنيّة أظفارها ، هو [السّبع بادّعاء (٢) السّبعيّة لها] ، وإنكار أن تكون شيئا غير السّبع [يقرينة إضافة الأظفار (٣)] الّتي هي من خواصّ السّبع [إليها] أي إلى المنيّة ، فقد ذكر المشبّه وهو المنيّة ، وأراد به المشبّه به وهو السّبع. فالاستعارة (٤) بالكناية لا تنفكّ عن التّخييليّة ، بمعنى أنّه (٥) لا توجد استعارة بالكناية بدون الاستعارة التّخييليّة ، لأنّ في إضافة (٦) خواصّ المشبّه به إلى المشبّه استعارة تخييليّة. [وردّ (٧)] ما ذكره من تفسير الاستعارة المكنّى عنها [بأنّ لفظ المشبّه فيها] أي في

________________________________________________________

(١) أي صحّ ذلك بناء على أنّ المراد بالمنيّة هو السّبع بادّعاء السّبعيّة لها ، وأمّا عند المصنّف فالمراد به الموت حقيقة.

(٢) أي إنّما صحّ إرادة السّبع من المنيّة ، مع أنّ المراد منها الموت قطعا بسبب اعتبار ادّعاء ثبوت السّبعيّة لها ، وإنكار أن تكون المنيّة شيئا آخر غير السّبع.

(٣) أي وادّعاء السّبعيّة لها كائن ومتحقّق بقرينة «هي» ، إضافة الأظفار الّتي هي من خواصّ السّبع إليها ، وتقرير الاستعارة بالكناية في المثال المذكور على مذهب السّكّاكي أن يقال : شبّهنا المنيّة الّتي هي الموت المجرّد عن ادّعاء السّبعيّة بالسّبع الحقيقي ، وادّعينا أنّها فرد من أفراده ، وأنّها غير مغايرة له ، وأنّ للسّبع فردين فرد متعارف وفرد غير متعارف وهو الموت الّذي ادّعيت له السّبعيّة ، واستعير اسم المشبّه وهو المنيّة لذلك الفرد الغير المتعارف ، أعني ـ الموت الّذي ادّعيت له السّبعيّة ، فصحّ بذلك أنّه قد أطلق اسم المشبّه وهو المنيّة الّذي هو أحد الطّرفين ، وأريد به المشبّه به الّذي هو السّبع في الجملة ، وهو الطّرف الآخر.

(٤) أي هذا تفريع على قول المصنّف «بقرينة إضافة الأظفار».

(٥) أي الضّمير للشّأن ، أي بمعنى أنّ الشّان «لا توجد ...» لا بمعنى أنّ كلا منهما لا يوجد بدون الآخر ، لما تقدّم من أنّ التّخييليّة عند السّكّاكي قد تكون بدون الاستعارة بالكناية.

(٦) أي لأنّ في خواص المشبّه به المضاف إلى المشبّه استعارة تخييليّة ، فالاستعارة التّخييليّة في المضاف لا في الإضافة ، والتّعبير بما أوّلنا العبارة هو المناسب لمذهب السّكّاكي.

(٧) أي حاصل ما ذكره المصنّف من الرّد على السّكّاكي أنّ تفسيره للاستعارة المكنّى عنها يناقض تفسيره لمطلق الاستعارة المنقسمة إلى المصرّح بها ، والمكنّى عنها لأنّ مقتضى تفسير المكنّى عنها أن يكون الطّرف المذكور مستعملا فيما وضع له تحقّيقا ، فيكون المكنّى

٢٢٢

الاستعارة بالكناية كلفظ المنيّة مثلا [مستعمل فيما وضع له تحقّيقا] للقطع بأنّ المراد بالمنيّة هو الموت لا غير ، [والاستعارة ليست كذلك] ، لأنّه قد فسّرها بأن تذكر أحد طرفي التّشبيه وتريد به الطّرف الآخر. ولمّا كان ههنا مظنّة سؤال (١) وهو أنّه لو أريد بالمنيّة معناها الحقيقي ، فما معنى إضافة الأظفار إليها أشار إلى جوابه بقوله : [وإضافة نحو الأظفار قرينة التّشبيه (٢)]

________________________________________________________

عنها بالنّظر إلى مقتضى تفسيرها حقيقة لا مجازا ، ومقتضى تفسير مطلق الاستعارة أن يكون الطّرف المذكور مستعملا في غير ما وضع له تحقّيقا ، فيكون المكنّى عنها بالنّظر إلى مقتضى تفسير مطلق ـ الاستعارة مجازا لا حقيقة ، وليس هذا إلّا تناقضا وهو باطل.

وبعبارة أخرى : إنّ ما ذكره المصنّف من الرّدّ إشارة إلى قياس من الشّكل الثّاني ، تقريره أن يقال لفظ المشبّه الّذي ادّعي أنّه استعارة مستعمل فيما وضع له ، ولا شيء من الاستعارة بمستعمل فيما وضع له ينتج المشبّه ليس استعارة ، فقوله : «والاستعارة ليست كذلك» إشارة إلى كبرى القياس ، أي ليست مستعملة فيما وضعت له تحقيقا عند السّكّاكي ، لأنّه جعلها من المجاز اللّغوي ، وفسّرها بما ذكره الشّارح ، وهو أن تذكر أحد طرفي التّشبيه وتريد به الطّرف الآخر.

(١) أي من طرف السّكّاكي ، والمراد بالسّؤال ههنا هو دفع الرّد المذكور.

حاصله : أنّه إذا كان المراد بالمنيّة نفس الموت لا السّبع فما وجه إضافة الأظفار إلى المنيّة مع أنّها معلومة الانتفاء عنها ، فلو لا أنّه أريد بالمنيّة معنى السّبع لم يكن معنى لذكر الأظفار معها وإضافتها إليها ، لأنّ ضمّ الشّيء إلى غير من هو له هدر ولغو يتحاشى عنه اللّفظ البليغ ، فلا يكون لفظ المنيّة مستعملا فيما وضع له تحقيقا ، لأنّ إضافة الأظفار إليها مانعة عن أن يراد بالمنيّة معناها الحقيقي ، إذ لا ملائمة بينه وبين الأظفار ، فلا يرد الرّدّ المذكور ، لأنّ المراد بها غير معناها الحقيقي بقرينة هذه الإضافة ، وأشار المصنّف إلى جواب هذا السّؤال بقوله : «وإضافة نحو الأظفار».

(٢) أي الإضافة ليست قرينة للاستعارة ، بل هي قرينة التّشبيه المضمر في النّفس ولا منافاة بين إرادة نفس الموت بلفظ المنيّة وبين إضافة الأظفار إليها ، لأنّ إضافة نحو الأظفار في الاستعارة المكنيّة إنّما كانت لأنّها قرينة على التّشبيه النّفسي ، لأنّها تدلّ على أنّ الموت ألحق في النّفس بالسّبع ، فاستحقّ أن يضاف إليها ما يضاف إليه من لوازمه ، فإضافة الأظفار حينئذ مناسبة لتدلّ على التّشبيه المضمر في النّفس.

٢٢٣

المضمر في النّفس يعني تشبيه المنيّة بالسّبع ، وكأنّ هذا الاعتراض (١) من أقوى اعتراضات المصنّف على السّكّاكي. وقد يجاب عنه (٢) بأنّه وإن صرّح بلفظ المنيّة إلّا أنّ المراد به السّبع ادّعاء كما أشار إليه في المفتاح من أنّا (٣) نجعل ههنا اسم المنيّة اسما للسّبع مرادفا (٤) له ، بأن ندخل (٥) المنيّة في جنس السّبع للمبالغة في التّشبيه ، بجعل أفراد السّبع قسمين :

________________________________________________________

(١) أي اعتراض المصنّف بقوله :

«بأنّ لفظ المشبّه فيها مستعمل فيما وضع له تحقيقا» ، ولعلّ الشّارح أخذ قوّته عند المصنّف من حيث اعتنائه ببيان ردّه.

(٢) أي عن ردّ المصنّف على السّكّاكي ، وحاصله :

إنّ المراد بلفظ المنيّة هو السّبع ادّعاء أي الموت المدّعى سبعيته ، وحينئذ فلا يكون لفظ المنيّة مستعملا فيما وضع تحقيقا حتّى ينافي ذلك كونه استعارة ، لأنّه حقيقة في الموت من حيث هو لا في هذا الموت الادّعائي.

(٣) أي قوله :

«من أنّا» بيان لما في قوله : «كما» وإضافة «اسم» للمنيّة بيانيّة.

(٤) أي حالة كون اسم المنيّة مرادفا لاسم السّبع.

(٥) أي قوله :

«بأن ندخل ...» ، وما عطف عليه بيان للمرادفة ، وأشار به إلى أنّ جعل اسم المنيّة مرادفا لاسم السّبع إنّما هو بالتّأويل ، وليس بإحداث وضع مستقلّ فيها حتّى تكون من باب الاشتراك اللّفظي فتخرج عن الاستعارة.

ومحصّل ما أفاده أنّ السّبع تحته فردان ، والمنيّة اسم لفرد منهما ، وهذا لا يقتضي التّرادف الحقيقي ، لأنّ المترادفين اللّفظان المتحدان مفهوما ومصداقا ، وهنا الأسد أعمّ من المنيّة ، لأنّ المراد منها فرد من فردي الأسد ، بل التّرادف هنا إنّما بالتّأويل فيكون تخييليا كما أشار إليه بقوله : «ثمّ نخيّل ...» ، أي بصيغة المتكلّم المعلوم عطفا على «ندخل» أي ثمّ بعد إدخال المشبّه في جنس المشبّه به نذهب على سبيل التّخييل ، أي على سبيل الإيقاع في الخيال لا على سبيل التّحقّيق لأنّه ليس هناك وضع اسمين حقيقة لشيء واحد.

٢٢٤

متعارفا وغير متعارف ، ثمّ نخيّل أنّ الواضع كيف يصحّ منه أن يضع اسمين كلفظي المنيّة والسّبع لحقيقة واحدة (١) ، ولا يكونان مترادفين (٢) ، فيتأتّى لنا بهذا الطّريق (٣) دعوى السّبعيّة للمنيّة مع التّصريح بلفظ المنيّة (٤). ـ وفيه (٥) نظر ، لأنّ ما ذكره لا يقتضي كون المراد بالمنيّة غير ما وضعت له بالتّحقّيق ،

________________________________________________________

(١) أي وهي الموت المدّعى سبعيّته ، وقوله : «كيف يصحّ» استفهام إنكاري ، أي لا يصحّ ومصبّه قوله : «ولا يكونان مترادفين».

(٢) أي والحال أنّهما لا يكونان مترادفين ، أي بل لا يضع الواضع اسمين لحقيقة واحدة إلّا هما مترادفان ، فحينئذ يتخيّل ترادف المنيّة والأسد.

(٣) أي وهو ادّعاء دخول المنيّة في جنس السّبع ، وتخييل أنّ لفظيهما مترادفان.

(٤) أي أنّه يتأتّى لنا بالطّريق المذكور أمران :

أحدهما : ادّعاء ثبوت السّبعيّة للمنيّة ، لأنّ ذلك لازم لإدخالها في جنسه ، فصحّ بذلك أنّ لفظ المنيّة إذا أطلق عليها إنّما أطلق على السّبع الادّعائي ، فصار مستعملا في غير ما وضع له ، لأنّ المنيّة إنّما وضعت للموت الخالي عن دعوى السّبعيّة له فيكون استعارة.

ثانيهما : صحّة إطلاق لفظ المنيّة على ذلك السّبع الادّعائي ، لأنّ ذلك لازم التّرادف بين اللّفظين ، فلا يرد أنّه لا يناسب ، لأنّ إدخالها في جنس السّبع إنّما يناسب إطلاق لفظ السّبع عليها.

والحاصل أنّه بادّعاء السّبعيّة لها أطلقنا أحد الطّرفين وعنينا الآخر في الجملة ، وبالتّرادف المتخيّل صحّ لنا إطلاق المنيّة على المعنى المراد وهو السّبع الادّعائي من غير تناف ولا منافرة بين دعوى السّبعيّة للمنيّة وبين التّصريح بها بعد دعوى المرادفة ، فصارت المنيّة اسما للسّبع ، فلا منافاة بين ما اقتضته الاستعارة من أنّ المنيّة من أفراد السّبع وبين التّصريح بالمنيّة ، لأنّ التّصريح بالمنيّة كالتّصريح بالسّبع ، وحينئذ فالمنيّة مستعملة في غير ما وضعت له ، فيكون من الاستعارة ولا يرد الاعتراض المذكور.

(٥) أي في هذا الجواب نظر ، وحاصله : أنّ ادّعاء التّرادف لا يقتضي التّرادف حقيقة ، لأنّ الادّعاء لا يوجب انقلاب الواقع عما هو عليه ، فالادّعاء لا يجعل الموضوع له غير الموضوع له ، كما لا يجعل غير الموضوع له موضوعا له.

٢٢٥

حتّى (١) يدخل في تعريف الاستعارة للقطع بأنّ المراد بها الموت ، وهذا اللّفظ (٢)] موضوع له بالتّحقّيق ، وجعله مرادفا للفظ السّبع بالتّأويل المذكور لا يقتضي أن يكون استعماله في الموت استعارة. ويمكن الجواب (٣) بأنّه قد سبق أنّ قيد الحيثيّة مراد في تعريف الحقيقة ، أي هي الكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له بالتّحقيق من حيث إنّه موضوع له بالتّحقيق ، ولا نسلّم أنّ استعمال لفظ المنيّة في الموت في مثل أظفار المنيّة استعمال فيما وضع له بالتّحقيق من حيث إنّه موضوع له بالتّحقيق ، مثله (٤) في قولنا : دنت منيّة فلان ، بل من حيث إنّ الموت جعل من أفراد السّبع الّذي لفظ المنيّة موضوع له بالتّأويل ، وهذا

________________________________________________________

(١) أي تفريع «على كون المراد ...» ، يعني أنّ كون المراد بالمنيّة غير ما وضعت له المتفرّع عليه دخولها في تعريف الاستعارة ، لا يقتضيه ما ذكر من أنّ المراد بالمنيّة هو المنيّة المدّعى سبعيّتها للقطع بأنّ المراد بها الموت ، فلا يكون استعمال لفظ المنيّة فيه استعمال اللّفظ في غير ما وضع له حتّى يكون على نحو الاستعارة.

(٢) أي لفظ المنيّة موضوع للموت بالتّحقيق ، فلا يكون استعماله فيه استعارة بعد جعله مرادفا للفظ السّبع بالتّأويل والادّعاء ، إذ الادّعاء لا يخرج الأشياء عن حقائقها.

(٣) أي يمكن الجواب عن أصل الاعتراض الّذي أورده المصنّف على السّكّاكي.

(٤) أي قوله : «مثله» صفة لمصدر محذوف ، أي استعمال فيما وضع له استعمال مثله ، يعني لا نسلّم أنّ استعماله في الموت في مثل أظفار المنيّة استعمال فيما وضع له بالتّحقيق من هذه الحيثيّة المذكورة ، حال كونه استعمالا مثل استعماله فيه في قولنا : ـ «دنت منيّة فلان» ، فإنّه استعمال فيما وضع له بالتّحقيق من هذه الحيثيّة ، واستعماله فيه ههنا ليس استعمالا فيما وضع له من هذه الحيثيّة ، بل من حيث إنّه موضوع له بالتّأويل.

والحاصل إنّك إذا قلت : دنت منيّة فلان ، فقد استعملت المنيّة في الموت من حيث إنّ اللّفظ المذكور موضوع للموت بالتّحقيق ، وإذا قلت أنشبت المنيّة أظفارها بفلان ، فإنّما استعملتها في الموت من حيث تشبيه الموت بالسّبع ، وجعله فرد من أفراد السّبع الّذي لفظ المنيّة موضوع له بالتّأويل ، فلم يكن اللّفظ ـ مستعملا فيما وضع له من حيث إنّه وضع له ، وأنت خبير بأنّ هذا الجواب إنّما يقتضي خروج لفظ المنيّة في التّركيب المذكور عن كونه حقيقة لانتفاء قيد الحيثيّة ، ولا يقتضي أن يكون مجازا فضلا عن كونه استعارة مرادا به الطّرف الآخر كما

٢٢٦

الجواب وإن كان مخرجا له عن كونه حقيقة ، إلّا أنّ تحقّيق كونه مجازا ، ومرادا به الطّرف الآخر (١) غير ظاهر بعد (٢).

[واختار] السّكّاكي [ردّ] الاستعارة [التبعيّة] وهي ما تكون في الحروف والأفعال وما يشتقّ منها [إلى] الاستعارة [المكنّى عنها (٣) بجعل قرينتها] أي قرينة التبعيّة استعارة [مكنيّا عنها ، و] جعل الاستعارة [التبعيّة قرينتها] أي قرينة الاستعارة المكنّى عنها [على نحو (٤) قوله] أي قول السّكّاكي [في المنيّة وأظفارها]

________________________________________________________

هو المطلوب ، لأنّه لم يستعمل في غير ما وضع له كما هو المعتبر في المجاز عندهم ، وإنّما استعمل فيما وضع له ، وإن كان لا من حيث إنّه موضوع ، بل من حيث إنّه فرد من أفراد المشبّه به ، ولا يلزم من خروج اللّفظ عن كونه حقيقة أن يكون مجازا ، ألا ترى أنّ اللّفظ المهمل والغلط ليسا بحقيقة ولا بمجاز ، وحينئذ فلم يتمّ هذا الجواب ، ولذا قال الشّارح : «وهذا الجواب وإن كان مخرجا له عن كونه حقيقة ...».

(١) أي المشبّه به كالأسد في المثال إنّما ذكر ذلك لأنّ قضيّة كونه استعارة أن يكون مجازا ، وأن يكون مرادا به الطّرف الآخر حقيقة كما يدلّ عليه تعريف الاستعارة ولا يكفى الادّعاء.

(٢) لأنّ غاية ما يفيده الجواب أنّه استعمل فيما وضع له ، وإن كان لا من حيث إنّه موضوع له ، بل من حيث إنّه من جنس المشبّه به ادّعاء ، واللّفظ لا يكون مجازا إلّا باستعماله في غير ما وضع له.

(٣) أي لا بدّ هنا من التّقدير في أوّل الكلام أو في آخره ، والتّقدير واختار ردّ قرينة التبعيّة إلى المكنّى عنها ، أو واختار ردّ التبعيّة إلى قرينة المكنّى عنها ، هذا كلام مجمل ، بيّنه بقوله : «بجعل قرينتها» ، ثمّ قوله : «بجعل» متعلّق ب «ردّ» أي وهذا الردّ بواسطة جعل أو بسبب جعل قرينتها .... وأنت خبير بأنّ جعل قرينة التبعيّة مكنيّا عنها إنّما يمكن إذا كانت قرينتها لفظيّة ، أمّا إذا كانت قرينتها حاليّة فلا يمكن ، إذ ليس هنا لفظ يجعل استعارة بالكناية.

(٤) أي حالة كون ذلك الجعل آتيا على طريقة قول السّكّاكي.

٢٢٧

حيث جعل (١) المنيّة استعارة بالكناية وإضافة الأظفار إليها قرينتها (٢) ، ففي قولنا : نطقت الحال بكذا ، جعل القوم ، نطقت ، استعارة عن دلّت (٣) ، بقرينة الحال ، والحال حقيقة (٤) ، وهو يجعل الحال استعارة بالكناية عن المتكلّم ، ونسبة النّطق إليها قرينة الاستعارة ، وهكذا في قوله : نقريهم لهذميّات (٥) يجعل اللهذميّات استعارة بالكناية عن المطعومات الشّهيّة على سبيل التّهكّم ، ونسبة القرى (٦) إلييها قرينة الاستعارة ، وعلى هذا القياس (٧).

________________________________________________________

(١) أي جعل السّكّاكي المنيّة استعارة بالكناية عن السّبع ، وجعل إثبات الأظفار لها قرينة الاستعارة ، وبالجملة ما جعله القوم قرينة للاستعارة التبعيّة جعله السّكّاكي استعارة بالكناية ، وما جعلوه استعارة تبعيّة جعله السّكّاكي قرينة للاستعارة بالكناية.

(٢) أي المناسب لمذهب السّكّاكي أن يقال : والأظفار المضافة إليها قرينتها ، لأنّها عنده استعملت في صورة وهميّة كما مرّ.

(٣) أي فكانت الاستعارة تبعيّة ، لأنّ التّشبيه في الأصل بين المصدرين أعني الدّلالة والنّطق.

(٤) أي جعل القول «الحال حقيقة» أي مستعملة في معناها الموضوع له ، لا استعارة ولا مجازا ، ولكنّ الحال قرينة لاستعارة النّطق للدّلالة ، لأنّ الدّلالة المرادة بالنّطق تقبل أن تكون الحال بمعناها الحقيقي فاعلا لها ، هذا عند القوم.

وأمّا عند السّكّاكي فهو يجعل الحال استعارة بالكناية عن المتكلّم الّذي له لسان ينطق به ، ويجعل نسبة النّطق إلى الحال قرينة الاستعارة بالكناية الحاصلة في لفظ الحال ، وذلك بأنّ يتوهّم للحال صورة شبيهة بصورة النّطق باللسّان.

(٥) إنّ القوم يجعلون «نقريهم» استعارة بالكناية عن (نطعنهم) و «يجعلون اللهذميّات» قرينتها ، ثمّ الاستعارة تبعيّة لأنّ التّشبيه في الأصل بين المصدرين أعني الطّعن بالأسنّة والقرى هذا عند القوم ، وأمّا عند السّكّاكي فهو يجعل اللهذميّات استعارة بالكناية عن المطعومات الشّهيّة على سبيل التّهكّم إلى السّخريّة والاستهزاء.

(٦) أي القرى بالقاف المكسورة والقصر بمعنى الضّيافة.

(٧) أي الخلاف بين القوم والسّكّاكي على هذا القياس في سائر الأمثلة الّتي جعل القوم الاستعارة فيها تبعيّة ، فإنّ السّكّاكي يردّ الاستعارة التبعيّة فيها إلى استعارة بالكناية.

٢٢٨

وإنّما اختار ذلك (١) إيثارا للضّبط وتقليل (٢) الأقسام ، [وردّ] ما اختاره السّكّاكي [بأنّه (٣) إن قدر التبعيّة] كنطقت في : نطقت الحال بكذا [حقيقة]

________________________________________________________

والحاصل

إنّ ما جعله القوم استعارة تبعيّة من الفعل وما يشتقّ منه والحرف ك (نطقت) وناطقة ولام التّعليل في : نطقت الحال والحال ناطقة بكذا ، جعله السّكّاكي قرينة ، وما جعلوه قرينة التبعيّة من الفاعل والمفعول والمجرور في : نطقت الحال ، وقوله : «نقريهم لهذميّات» ، وقوله تعالى : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً)(١) مثلا ، جعله السّكّاكي استعارة بالكناية.

(١) أي اختار السّكّاكي ذلك ، أي ردّ الاستعارة التبعيّة إلى الاستعارة المكنّى عنها ، أي ردّ التبعيّة وقرينتها إلى المكنيّة وقرينتها بالجعل المذكور ، «إيثارا للضّبط» أي لأجل أن يكون أقرب للضّبط لما فيه من تقليل أقسام الاستعارة.

(٢) أي من قبيل عطف علّة على معلول ، وإنّما قلّت أقسام الاستعارة على ما اختاره لأنّه لا يقال عليه استعارة أصليّة وتبعيّة ، بل أصليّة فقطّ فتكون الأقسام قليلة ومضبوطة.

(٣) أي السّكّاكي ، ويحتمل أن يكون الضّمير للشّأن ، وقدر على الأوّل بالبناء للفاعل ، وعلى الثّاني بالبناء للمفعول.

وكيف كان فحاصل الردّ على السّكّاكي :

أنّه بعد فرض أنّ التبعيّة الّتي قال بها القوم باقية على معناها الحقيقي ، بأن جعل (نطقت) الّتي هي التبعيّة عند القوم في (نطقت الحال بكذا) مثلا مرادا به معناها الحقيقي وهو النّطق ، وجعل الحال استعارة بالكناية للمتكلّم الادّعائي ، لا تكون التبعيّة المجعولة قرينة المكنيّة عند السّكّاكي استعارة تخييليّة ، لأنّ هذه التبعيّة حقيقة والتّخييليّة مجاز عند السّكّاكي لا حقيقة ، وإذا انتفت التّخييليّة لكونها حقيقة ، يلزم أن توجد الاستعارة بالكناية ههنا بدون التّخييليّة ، وهو باطل باتفاق السّكّاكي وغيره ، لبطلان وجود الملزوم بلا لازم.

والحاصل :

إنّ ردّ التبعيّة إلى المكنّى عنها يستلزم عدم استلزام المكنيّة للتّخييليّة واللّازم باطل فالملزوم مثله.

__________________

(١) سورة القصص : ٨.

٢٢٩

بأن يراد بها معناها الحقيقي (١) [لم تكن] التبعيّة استعارة [تخييليّة لأنّها] أي التّخييليّة [مجاز عنده] أي عند السّكّاكي (٢) ، لأنّه جعلها (٣) من أقسام الاستعارة المصرّح بها المفسّرة بذكر المشبّه به وإرادة المشبّه ، إلّا أنّ المشبّه فيها (٤) يجب أن يكون ممّا لا تحقّق لمعناه حسّا ولا عقلا ، بل وهما ، فتكون مستعملة في غير ما وضعت له بالتّحقيق ، فتكون مجازا.

وإذا لم تكن التبعيّة تخييليّة [فلم تكن (٥) الاستعارة [المكنّى عنها مستلزمة للتّخييليّة] بمعنى (٦) أنّها لا توجد بدون التّخييليّة ، وذلك لأنّ المكنّى عنها قد وجدت بدون التّخييليّة في مثل : نطقت الحال بكذا ، على هذا التّقدير (٧).

________________________________________________________

(١) أي النّطق ـ نفسه لا معناه المجازي وهو دلّت.

(٢) أي لا عند المصنّف والسّلف ، أي وهي على فرض كونها حقيقة لم تكن مجازا فضلا عن كونها تخييليّة.

(٣) أي جعل السّكّاكي التّخييليّة من أقسام الاستعارة المصرّح بها ، أي الّتي هي من المجاز اللّغوي.

(٤) أي في التّخييليّة يجب أن يكون عند السّكّاكي «ممّا لا تحقّق لمعناه حسّا ولا عقلا ، بل وهما» أي بل ممّا له تحقّق بحسّب الوهم ، لكونه صورة وهميّة محضة كما مرّ.

(٥) أي فلم تكن الاستعارة المكنّى عنها على هذا التّقدير مستلزمة للتّخيليّة ، وإذا لم تستلزم المكنّى عنها التّخييليّة صحّ وجود المكنّى عنها بدون التّخييليّة ، كما في : نطقت الحال بكذا ، حيث جعل الحال استعارة بالكناية عن المتكلّم الادّعائي ، وجعل النّطق مستعملا في معناه الحقيقي ، لكنّ عدم استلزام المكنّى عنها للتّخيليّة باطل باتّفاق ، فبطل هذا التّقدير ، أي جعله التبعيّة مستعملة في معناها الحقيقي.

(٦) أي قوله :

«بمعنى ...» تفسير للمنفي لا للنّفي ، فلا يقال : الصّواب حذف لا ، وأشار الشّارح بهذا إلى أنّه ليس المراد هنا بالاستلزام امتناع الانفكاك عقلا ، بل المراد به عدم الانفكاك في الوجود ، لأنّه ليس المراد أنّ كلا منهما لا يوجد بدون الآخر لما تقدّم من أنّ التّخييليّة عند السّكّاكي قد تكون بدون المكنيّة.

(٧) أي تقدير كون التبعيّة حقيقة.

٢٣٠

[وذلك] أي عدم استلزام المكنّى عنها للتّخييليّة [باطل بالاتّفاق (١)] وإنّما الخلاف في أنّ التّخييليّة هل تستلزم المكنّى عنها (٢) ، فعند السّكّاكي لا تستلزم (٣) كما في قولنا : أظفار المنيّة الشّبيهة بالسّبع (٤).

وبهذا (٥) ظهر فساد ما قيل (٦) : إنّ مراد السّكّاكي بقوله : لا تنفكّ المكنّى عنها عن التّخييليّة ، أنّ التّخييليّة مستلزمة للمكنّى عنها لا العكس ، كما فهمه المصنّف.

________________________________________________________

(١) أي لاتّفاق أهل الفنّ على أنّ التّخييليّة لازمة للمكنيّة ، فالاستعارة بالكناية لا تنفكّ عن الاستعارة التّخييليّة.

(٢) أي أو لا تستلزمها.

(٣) أي وعند غيره التّخييليّة تستلزم المكنيّة ، كما أنّ المكنيّة تستلزم التّخييليّة ، فالتّلازم عند غير السّكّاكي من الجانبين ، وأمّا عنده فالمكنيّة تستلزم التّخييليّة دون العكس على ما قال المصنّف.

(٤) أي فقد ذكر السّكّاكي أنّ الأظفار أطلقت على أمور وهميّة تخييلا ، وليس في الكلام مكنّى عنها لوجود التّصريح بالتّشبيه ، ولا استعارة عند التّصريح بتشبيه الطّرف الّذي يستعار له.

(٥) أي وباعتبار السّكّاكي التّخييليّة دون المكنيّة ، في قولنا : أظفار المنيّة الشّبيهة بالسّبع أهلكت فلانا.

(٦) أي ما قاله صدر الشّريعة جوابا عن السّكّاكي وردّا لاعتراض المصنّف.

وحاصل ذلك الجواب أنّا لا نسلّم أنّ لفظ (نطقت) مثلا إذا استعمل في حقيقته لم توجد الاستعارة التّخييليّة ، وأمّا قولك : لكن عدم استلزام المكنيّة للتّخييليّة ، أي عدم وجودها معها باطل اتّفاقا ، فممنوع ، لأنّ معنى قول السّكّاكي في المفتاح لا تنفكّ المكنّى عنها عن التّخييليّة ، لأنّ التّخييليّة مستلزمة للمكنيّة ، فمتى وجدت التّخييليّة وجدت المكنيّة لا العكس.

وحاصل الردّ على هذا الجواب أنّ السّكّاكي بعد ما اعتبر في تعريف الاستعارة بالكناية ذكر شيء من لوازم المشبّه به ، والتزم في تلك اللّوازم أن تكون استعارة تخييليّة ، قال : وقد ظهر أنّ الاستعارة بالكناية لا تنفكّ عن الاستعارة التّخييليّة وهذا صريح في أنّ المكنيّة تستلزم التّخييليّة ، وقد صرّح فيما قبل ذلك بأنّ التّخييليّة توجد بدون المكنيّة ، كما في قولنا : أظفار

٢٣١

نعم (١) ، يمكن أن ينازع في الاتّفاق على استلزام المكنّى عنها للتّخييليّة ، لأنّ كلام الكشّاف مشعر (٢) بخلاف ذلك ، وقد صرّح في المفتاح (٣) أيضا في بحث المجاز العقلي بأنّ قرينة المكنّى عنها قد تكون أمرا وهميّا كأظفار المنيّة ، وقد تكون أمرا محقّقا كالإنبات في : أنبت الرّبيع البقل ،

________________________________________________________

المنيّة الشّبيهة بالسّبع أهلكت فلانا ، فعلم من مجموع كلاميه أنّ المكنيّة تستلزم التّخييليّة دون العكس ، وأنّ معنى قوله : لا تنفكّ المكنّى عنها عن التّخييليّة ، أنّ المكنّى عنها مستلزمة للتّخييليّة لا العكس كما فهمه قائل قيل.

(١) أي هذا استدراك على قوله : ظهر فساد ما قيل ، وذلك إنّ هذا القول الفاسد اعتراض على المصنّف ، وإذا كان فاسدا فلا اعتراض عليه من تلك الجهة ، ولمّا كان يتوهّم أنّه لا يعترض عليه من جهة أخرى ، استدرك على ذلك بقوله : «نعم يمكن ...».

وحاصله إنّ كلام المصنّف يبحث فيه من جهة حكاية الاتّفاق على أنّ المكنّى عنها ـ لا توجد بدون التّخييليّة ، وكيف يصحّ ذلك مع أنّ صاحب الكشّاف مصرّح بخلاف ذلك في قوله تعالى : (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ)(١) ، وإنّ النّقض استعارة تصريحيّة لإبطال العهد ، وهي قرينة للمكنّى عنها الّتي هي العهد ، إذ هو كناية عن الحبل ، فقد وجدت المكنّى عنها عنده بدون التّخييليّة ، لأنّ النّقص الّذي هو القرينة ليس تخييلا ، إذ التّخييل إمّا إثبات الشّيء لغير ما هو له كما عند الجمهور ، وإمّا إثبات صورة وهميّة كما عند السّكّاكي على ما تقدّم بيانه ، والنّقض ليس كذلك ، بل استعارة تصريحيّة تحقّيقيّة.

(٢) أي مصرّح بخلاف ذلك ، أي استلزام المكنّى عنها للتّخييليّة.

(٣) أي قوله : «وقد صرّح في المفتاح» جواب عمّا يقال نحمل الاتّفاق في كلام المصنّف على اتّفاق الخصمين السّكّاكي والمصنّف ، لا على اتّفاق القوم الشّامل لصاحب الكشّاف ، وحينئذ فلا يتوجّه ذلك ـ الاعتراض الوارد على المصنّف من جهة حكاية الاتّفاق.

وحاصل الجواب :

إنّ هذا أيضا لا يصحّ ، لأنّ السّكّاكي صرّح أيضا بما يقتضي عدم الاستلزام حيث قال في بحث المجاز العقلي : قرينة المكنّى عنها قد تكون أمرا وهميّا أي فتكون تخييليّة ، وقد

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٧.

٢٣٢

والهزم في : هزم الأمير الجند (١) ، إلّا أنّ هذا (٢) لا يدفع الاعتراض عن السّكّاكي ، لأنّه قد صرّح في المجاز العقلي بأنّ نطقت في : نطقت الحال بكذا ، أمر وهميّ (٣) جعل قرينة للمكنّى عنها ، وأيضا (٤) فلمّا جوّز وجود المكنّى عنها بدون التّخييليّة ، كما في : أنبت الرّبيع البقل ، ووجود التّخييليّة بدونها كما في : أظفار المنيّة الشّبيهة بالسّبع ، فلا جهة لقوله : إنّ المكنّى عنها لا تنفكّ عن التّخييليّة [وإلّا] أي وإن لم يقدّر التبعيّة

________________________________________________________

تكون أمرا محقّقا أي فلا تكون تخييليّة ، إذ لا تخييل في الأمر المحقّق عنده ، فقد أثبت المكنّى عنها بلا تخييل وقوله : «كالإنبات في أنبت الرّبيع البقل» ، فقد شبّه فيه الرّبيع بالفاعل الحقيقي تشبيها مضمرا في النّفس ، وقرينتها الإنبات والإنبات لم يكن عند السّكّاكي مجازا ، بل كان إثبات شيء لشيء كالتّرشيح.

(١) أي فتشبيه الأمير بالجيش استعارة بالكناية ، وإثبات الهزم الّذي هو من توابع الجيش له قرينتها.

(٢) أي ما صرّح به في المفتاح من إبطال قول المصنّف باستلزام المكنّى عنها للتّخييليّة ، وإن كان صالحا لدفع الاعتراض عليه بأنّ عدم الاستلزام باطل بالاتّفاق ، لكنّه ليس بصالح لدفع الاعتراض الآتي على السّكّاكي ، وهو لزوم القول بالتبعيّة.

(٣) أي فيكون (نطقت) مستعملا في غير ما وضع له ، لأنّ ذلك الأمر الوهميّ غير الموضوع له فيكون مجازا ، ولا شكّ أنّ علاقته المشابهة للنّطق فيكون استعارة ، ولا شكّ أنّه فعل ، والاستعارة في الفعل لا تكون إلّا تبعيّة ، فقد اضطرّ السّكّاكي إلى اعتبار الاستعارة التبعيّة ، فقد لزم القول بالتبعيّة.

(٤) أي هذا اعتراض آخر على السّكّاكي لازم له من كلامه أهمله المصنّف.

وحاصله :

إنّ السّكّاكي صرّح في هذا الباب بعدم انفكاك المكنّى عنها عن التّخييليّة ، وصرّح فيه أيضا بعدم استلزام التّخييليّة للمكنّى عنها كما في : أظفار المنيّة الشّبيهة بالسّبع ، وصرّح في المجاز العقلي بجواز وجود المكنيّة بدون التّخييليّة ، كما في : أنبت الرّبيع البقل ، فلمّا جوّز وجود كلّ منهما بدون الأخرى ، فلا وجه لقوله : إنّ المكنّى عنها لا تنفكّ عن التّخييليّة ، لأنّها قد أنفكت عنده في أنبت الرّبيع البقل وهزم الأمير الجند.

٢٣٣

الّتي جعلها السّكّاكي قرينة المكنّى عنها حقيقة (١) ، بل قدّرها مجازا [فتكون] التبعيّة كنطقت الحال مثلا [استعارة (٢)] ضرورة أنّه مجاز علاقته المشابهة ، والاستعارة في الفعل لا تكون إلّا تبعيّة [فلم يكن ما ذهب إليه] السّكّاكي من ردّ التبعيّة إلى المكنّى عنها [مغنيا عمّا ذكره غير] من تقسيم الاستعارة إلى التبعيّة وغيرها ، لأنّه (٣) اضطرّ آخر الأمر إلى القول بالاستعارة التبعيّة.

وقد يجاب (٤) بأنّ كلّ مجاز تكون علاقته المشابهة لا يجب أن يكون استعارة ، لجواز أن يكون له علاقة أخرى باعتبارها وقع الاستعمال كما بين النّطق والدّلالة فإنّها لازمة للنّطق ، بل إنّما يكون استعارة إذا كان الاستعمال باعتبار علاقة المشابهة وقصد المبالغة في التّشبيه.

________________________________________________________

(١) أي مفعول (جعل) في قوله : «جعلها».

(٢) أي لا قرينة للاستعارة بالكناية ولا مجازا مرسلا ، وإنّما كانت ـ استعارة لا مجازا مرسلا ، لكون العلاقة بين المعنيين هي المشابهة.

(٣) أي لأنّ السّكّاكي اضطرّ آخر الأمر إلى القول بالاستعارة التبعيّة ، فقد فرّ من شيء وعاد إليه ، لأنّه حاول إسقاط الاستعارة التبعيّة ، ثمّ آل الأمر على هذا الاحتمال إلى إثباتها ، كما أثبتها غيره.

(٤) أي قد يجاب عن لزوم القول بالاستعارة التبعيّة.

وحاصل الجواب :

أن نختار الشّق الثّاني ، وهو أنّ التبعيّة الّتي جعلها قرينة للمكنيّة ليست حقيقة ، بل مجاز ، وقولكم : فتكون استعارة في الفعل والاستعارة فيه لا تكون إلا تبعيّة ، ممنوع ، لأنّ ذلك لا يلزم إلّا لو كان السّكّاكي يقول إنّ كلّ مجاز يكون للمكنّى عنها يجب أن يكون استعارة ، فيلزم من كونها استعارة في الفعل أن تكون تبعيّة ، ولماذا لا يجوز أن يكون ذلك المجاز الّذي جعله قرينة للمكنّى عنها مجازا آخر غير الاستعارة بأن يكون مجازا مرسلا ، وحينئذ فلا يلزم القول بالاستعارة التبعيّة.

فللسّكّاكي أن يقول : إنّ (نطقت) في قولنا : نطقت الحال بكذا ، مجاز عن دلالة الحال ، أي إفهامه للمقصود لكن لا يلزم أن يكون استعارة ، لأنّ الاستعمال إنّما هو بعلاقة اللزّوم ، أي لاستلزام النّطق الدّلالة على المقصود لا باعتبار علاقة المشابهة وهو تشبيه النّطق بها في وجه مشترك بينهما وهو التّوصل بكلّ منهما إلى فهم المقصود.

٢٣٤

وفيه (١) نظر ، لأنّ السّكّاكي قد صرّح بأنّ ـ نطقت ـ ههنا أمر مقدّر وهميّ ، كأظفار المنيّة المستعارة للصّورة الوهميّة الشّبيهة بالأظفار المحقّقة ، ولو كان مجازا مرسلا عن الدّلالة لكان أمرا محقّقا عقليّا ، على أنّ هذا (٢) لا يجري في جميع الأمثلة ، ولو سلّم (٣) فحينئذ يعود الاعتراض الأوّل ، وهو وجود المكنّى عنها بدون التّخييليّة.

ويمكن الحواب (٤) بأنّ المراد بعدم انفكاك الاستعارة بالكناية عن التّخييليّة أنّ

________________________________________________________

(١) أي في الجواب المذكور نظر ، وحاصله : إنّ هذا لا يصلح أن يكون جوابا عن السّكّاكي ، لأنّه صرّح بأنّ (نطقت) أطلق ههنا على أمر وهميّ كأظفار المنيّة ، فإنّها استعارة لأمر وهميّ شبّه بالأظفار الحقيقيّة ، ومن المعلوم أنّ مقتضى هذا الكلام كون (نطقت) استعارة من النّطق الحقيقي للأمر الوهميّ ، لا أنّه مجاز مرسل ولو كان مجازا مرسلا عن الدّلالة كما هو مقتضى ذلك الجواب لكان مطلقا على أمر محقّق عقليّ لا على أمر وهمي كما صرّح به ، وبالجملة فالتزام السّكّاكي بأنّ قرينة المكنيّة إذا لم تكن حقيقة تكون مجازا مرسلا ، لا يصحّ لمنافاة ذلك لما صرّح به.

(٢) أي كون قرينة المكنيّة إذا لم تكن حقيقة تكون مجازا مرسلا ، لا يجري في جميع الأمثلة ، لأنّ بعضها لا يوجد فيه علاقة أخرى غير المشابهة ، فيكون هذا ردّا آخر للجواب المذكور بأنّه لو سلّم في بعض الصّور ، لكنّه لا يوجد في بعضها فلا يصلح جوابا.

(٣) أي لو سلّم جريانه في جميع الأمثلة يعود الاعتراض الأوّل ، وحاصله : أنّه لو سلّم أنّ قرينة المكنيّة إذا لم تكن حقيقة تكون مجازا مرسلا في جميع الأمثلة ، وألغى النّظر عمّا اقتضاه قوله : إنّ (نطقت) نقل للصّور الوهميّة ، يلزم عليه حينئذ أنّ المكنيّة خلت عن التّخييليّة ، لأنّ التّخييليّة عنده ليست إلّا تشبيه الصّور الوهميّة بالحسّيّة ، فإذا كان ما ذكر من القرينة مجازا مرسلا فلا تخييل ، إذ لا صورة وهميّة شبّهت بالمعنى الأصلي ، وإذا انتفى التّخييل بقيت المكنّى عنها بدون التّخييليّة ، والمصنّف قد ردّ هذا ، حيث قال سابقا ، وهو باطل بالاتّفاق ، وبالجملة أنّه لو سلّم جريانها في جميعها يعود الاعتراض وهو وجود المكنّى عنها بدون التّخييليّة ، مع أنّ المكنّى عنها لا تنفكّ عن التّخييليّة.

(٤) أي يمكن الجواب عن قوله : «ولو سلّم» ، يعود الاعتراض الأوّل لا عن أصل الاعتراض ، لأنّه قد صرّح بأنّ (نطقت) مستعمل في أمر وهميّ ، فقد اضطرّ آخر الأمر إلى القول

٢٣٥

التّخييليّة لا توجد بدونها (١) فيما شاع (٢) من كلام الفصحاء ، إذ (٣) لا نزاع في عدم شيوع مثل أظفار المنيّة الشّبيهة بالسّبع ، وإنّما الكلام في الصحّة ، وأمّا وجود الاستعارة بالكناية بدون التّخييليّة فشائع (٤) على ما قرّره صاحب الكشّاف في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ)(١)] (٥).

________________________________________________________

بالاستعارة التبعيّة.

وحاصل الجواب : إنّا لا نسلّم أنّ وجود المكنيّة بدون التّخييليّة ممنوع عند السّكّاكي ، بل هو قائل بذلك ، ثمّ قوله : «بأنّ المراد» أي مراد السّكّاكي بعدم الانفكاك المستفاد من قوله : «لا تنفكّ المكنّى عنها عن التّخييليّة ...» ، وقوله : «بأنّ المراد ...» توطئة للجواب ، ومحطّ الجواب قوله : «وأمّا وجود ...».

(١) أي بدون المكنيّة فتكون التّخييليّة هي الّتي حكم عليها بأنّها لا توجد بدون المكنّى عنها.

(٢) أي قوله : «فيما شاع» إشارة إلى جواب عمّا يقال : كيف تقول : إنّ التّخييليّة لا توجد بدون المكنيّة مع أنّها وجدت في قولك : أظفار المنيّة الشّبيهة بالسّبع أهلكت فلانا! وحاصل الجواب أنّ المنفى هو الوجود الشّائع الفصيح لا مطلق الوجود.

(٣) أي إنّما قيّدنا بقولنا : «فيما شاع» لأنّه لا نزاع ولا خلاف في عدم شيوع مثل ... ، وإنّما الكلام والخلاف في صحّة ذلك المثال ، فهو وإن كان صحيحا عند السّكّاكي إلّا أنّه لا يصحّ عند القوم إلّا إذا جعل الأظفار ترشيحا للتّشبيه لا على أنّه تخييليّة.

(٤) أي وحينئذ فلا يصحّ الاعتراض بوجود المكنيّة بدون التّخييليّة.

(٥) محلّ الشّاهد أنّ العهد استعارة بالكناية.

قال الزّمخشري : فإن قلت : من أين ساغ استعمال النّقض في إبطال العهد؟

قلت : من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين فالعهد مشبّه والحبل مشبّه به ، فوزان العهد وزان المنيّة في (أنشبت المنيّة أظفارها) والنّقض قرينة هذه لاستعارة والمستعار له ههنا هو إبطال العهد وهو أمر محقّق لا وهميّ حتّى يكون تخييليّة ، فظهر ممّا ذكره صاحب الكشّاف عدم استلزام المكنيّة للتّخييليّة ، وإلّا لم توجد بدونها ، والحال أنّها وجدت ههنا بدونها.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٧.

٢٣٦

وصاحب المفتاح في مثل : أنبت الرّبيع البقل (١) ، فصار الحاصل من مذهبه (٢) أنّ قرينة الاستعارة بالكناية قد تكون استعارة تخييليّة مثل : أظفار المنيّة ، ونطقت الحال ، وقد تكون استعارة تحقّيقيّة على ما ذكر في قوله تعالى : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ)(١) (٣) أنّ البلع استعارة عن غور الماء في الأرض ، والماء استعارة بالكناية عن

________________________________________________________

(١) أي فقد ذكر أنّ الرّبيع شبّه بالفاعل الحقيقي على طريق المكنيّة ، وأنّ الإنبات قرينة لها وهو حقيقة ، فقد وجدت المكنيّة بدون التّخييليّة.

(٢) أي من مذهب السّكّاكي في قرينة المكنيّة باعتبار ما ذكره في موارد متعدّدة.

(٣) والشّاهد في أنّ البلع بمعنى إدخال الطّعام للجوف من الحلق ، استعارة عن غور الماء في الأرض ، وأصله تشبيه غور الماء في الأرض ببلع الحيوان ما في فمه إلى داخله ، ثمّ حذف المشبّه واستعير له لفظ المشبّه به وهو البلع ، وقرينة هذه الاستعارة كون الخطاب للأرض والماء استعارة بالكناية عن الغذاء ، بتشبيه الماء بالغذاء بجامع أنّهما مادة حيويّة وادّعاء أنّه فرد منه ، وإنّ الغذاء كما يتناول الخبز بصورة متعارفة يتناول الماء بصورة غير متعارفة ، فحذف المشبّه به وأقيم مقامه لازمه وهو البلع المناسب للأغذيّة دون الماء وسائر الأشربة.

ووجه الشبّه في الاستعارتين ظاهر ، أمّا في البلع فهو إدخال ما يكون به الحياة إلى مقرّ خفيّ ، أي من ظاهر إلى باطن من مكان معتاد للإدخال من أعلى إلى أسفل ، وهذه الاستعارة في غاية الحسّن لكثرة التّفصيل في وجه الشبّه فيها ، وأمّا في الماء فهو كون كلّ من الطّعام والماء ممّا تقوم به الحياة ويتقوّى به ، فالأرض يتقوّى نباتها وأشجارها بالماء والحيوان يتقوّى بالغذاء ، ويدخل كلّ منهما بالتّدريج غالبا.

والحاصل :

أنّه شبّه الماء بالغذاء بجامع أنّ كلا منهما تقوم به الحياة ويتقوّى به على طريق الاستعارة بالكناية و (ابْلَعِي) مستعار لغور استعارة تحقّيقيّة ، وهي قرينة للمكنيّة.

__________________

(١) سورة هود : ٤٤.

٢٣٧

الغذاء ، وقد تكون (١) حقيقة كما في : أنبت الرّبيع (٢).

[فصل] في شرائط (٣) حسن الاستعارة

[حسن كلّ من] الاستعارة [التّحقيقيّة والتّمثيل (٤)] على سبيل الاستعارة [برعاية جهات حسن التّشبيه] كان يكون وجه (٥) الشّبه شاملا للطّرفين والتّشبيه (٦) وافيا بإفادة

________________________________________________________

(١) أي قد يكون قرينة الاستعارة بالكناية حقيقة ، فإنّ الإنبات حقيقة وقرينة على الاستعارة بالكناية.

(٢) أي قيل في بعض الحواشي : والحقّ بعد هذا كلّه أنّ هناك استعمالات كثيرة للبلغاء في الاستعارة التبعيّة ، يكون تشبيه المصادر هو الغرض الأصلي فيها ، وهناك استعمالات يكون التّشبيه في متعلّقات المصادر هو المقصود ، ولا شكّ أنّه لا يحسن في الاستعمالات الأولى ردّ التبعيّة إلى المكنيّة بخلاف الثّانيّة.

(٣) أي أطلق الجمع على ما فوق الواحد كما في اصطلاح أهل الميزان ، إذ المشترط في حسنها شرطان أشار إلى أحدهما بقوله : «حسن كلّ من الاستعارة التّحقيقيّة» ، أي قد تقدّم أنّها هي الّتي تحقّق معناها حسّا أو عقلا ، وهي ضدّ التّخييليّة.

(٤) أي الاستعارة التّمثيليّة ، وقد تقدّم أيضا أنّها اللّفظ المنقول من معنى مركّب إلى ما شبّه بمعناه ، وحينئذ إن خصّصت الاستعارة التّحقيقيّة بالمفردات كان عطف التّمثيليّة على التّحقيقيّة من عطف المباين على المباين ، وإلّا كان من عطف الخاصّ على العامّ.

(٥) أي هذا بيان للجهات الّتي يحسن التّشبيه بمراعاتها ، والمراد يكون وجه الشبّه شاملا للطّرفين أن يكون متحقّقا فيهما ، وذلك كالشّجاعة في زيد والأسد ، فإذا وجد وجه الشبّه في أحدهما دون الآخر ، فإنّ الحسن كاستعارة اسم الأسد للجبان من غير قصد التّهكّم هذا ، ولكن عدّ هذا الوجه من شروط الحسن غير وجيه ، لأنّه من شروط الصحّة لا من شروط الحسن إذ لا تشبيه مع انتفاء الجامع.

(٦) أي وأن يكون التّشبيه وافيا بإفادة ما علّق به من الغرض الّذي قصد إفادته كبيان إمكان المشبّه ، أو تزيينه أو تشويهه.

٢٣٨

ما علّق به من الغرض ، ونحو ذلك (١) [وأن لا يشمّ رائحته لفظا] أي وبأن لا يشمّ شيء (٢) من التّحقيقيّة والتّمثيل رائحة التّشبيه من جهة (٣) اللّفظ ، لأنّ ذلك (٤) يبطل الغرض من الاستعارة أعني ادّعاء دخول المشبّه في جنس المشبّه به ، لما في التّشبيه (٥) من الدّلالة على أنّ المشبّه به أقوى في وجه الشبّه.

________________________________________________________

(١) أي مثل ذلك كون وجه الشبّه غير مبتذل بأن يكون غريبا لطيفا ، لكثرة ما فيه من التّفصيل أو نادر الحضور في الذّهن كتشبيه الشّمس بالمرآة في كف الأشلّ ، وتشبيه البنفسج بأوائل النّار في أطراف كبريت ، ثمّ يستعار كلّ واحد منهما لما شبّه به بخلاف تشبيه الوجه الجميل بالشّمس ، ثمّ يستعار له وتشبيه الشّجاع بالأسد ، ثمّ يستعار له فإنّ ذلك ممّا يفوّت فيه الحسن لقوات حسن التّشبيه فيه لعدم الغرابة لوجود الابتذال فيه.

(٢) أي أشار بهذا إلى قول المصنّف ، و «أن لا يشمّ» عطف على «رعاية» إلى حسن الاستعارة حاصل برعاية الجهات المحصّلة لحسن التّشبيه.

(٣) أي أشار بقوله : «من جهة اللّفظ» إلى أنّ لفظا في كلام المصنّف نصب على التّمييز ، وإنّما قال لفظا ، لأنّ شمّ التّشبيه معنى موجود في كلّ استعارة بواسطة القرينة ، لأنّ الاستعارة لفظ أطلق على المشبّه بمعونة القرينة بعد نقله عن المشبّه به بواسطة المبالغة في التّشبيه ، فلا يمكن نفي إشمام الرّائحة مطلقا ، أي من جهة اللّفظ والمعنى.

(٤) أي شمّ رائحة التّشبيه لفظا يبطل الغرض من الاستعارة.

(٥) أي قوله : «لما في التّشبيه» علّة للعلّة أعني قوله : «لأنّ ذلك يبطل ...».

وحاصل ما ذكره أنّ شم رائحة التّشبيه إنّما أبطل كمال الغرض من الاستعارة ، لأنّ الغرض منها إظهار المبالغة في التّشبيه ، ويحصل ذلك الاظهار بادّعاء دخول المشبّه في جنس المشبّه ، وادّعاء أنّهما مشتركان في الحقيقة الجامعة لهما ، وأنّ اللّفظ موضوع لتلك الحقيقة ، إلّا أنّ أحد الفردين متعارف والآخر غير متعارف ، ومقتضى هذا الغرض استواؤهما في ذلك الجامع ، ولا شكّ أنّ إشمام رائحة التّشبيه فيه إشعار ما بأصل التّشبيه ، والأصل في التّشبيه أن يكون المشبّه به أقوى من المشبّه في الجامع ، وكونه أقوى منه ينافي الاستواء فيه الّذي هو مقتضى الغرض.

فالمتحصّل من الجميع أنّ شمّ رائحة التّشبيه مبطل لكمال الغرض من الاستعارة.

٢٣٩

[ولذلك] أي ولأنّ (١) شرط حسنه أن لا يشمّ رائحة التّشبيه لفظا [يوصى (٢) أن يكون الشّبه] أي ما به (٣) المشابهة [بين الطّرفين جليّا] بنفسه (٤) أو بواسطة عرف (٥) أو اصطلاح خاصّ [لئلّا تصير] الاستعارة [إلغاز] وتعمية

________________________________________________________

(١) أي ولأجل ما قلنا : من أنّ من شروط الحسن في كلّ من الاستعارتين ، أن لا يشمّ رائحة التّشبيه لفظا ، فضمير «حسنه» راجع إلى كلّ من الاستعارتين ، فالمعنى أي ولأنّ شرط حسن كلّ من الاستعارة التّحقيقيّة والتّمثيل على سبيل الاستعارة عدم إشمامه رائحة التّشبيه من جهة اللّفظ.

(٢) أي يوصى بالبناء للمفعول أن يوصى البلغاء بعضهم بعضا عند تحقّق حسن الاستعارة لوجود هذا الشّرط ، وهو عدم إشمام رائحة التّشبيه لفظا.

(٣) أي وجه الشبّه ، فالمعنى ولذلك يوصى البلغاء بعضهم بعضا على جلاء وجه الشبّه ، وإنّما رتّب التّوصّي المذكور على ذلك الشّرط ، وهو عدم إشمام رائحة التّشبيه لفظا لا باشتراط رعاية جهات حسن التّشبيه ، لأنّ التّوصّي إنّما يحتاج إليه لأنّه هو الّذي له دخل في الخفاء ، وصيرورة الاستعارة لغزا ، بخلاف رعاية جهات حسن التّشبيه ، فإنّه لا دخل له في ذلك كما يعلم ممّا يأتي.

(٤) أي لكونه يرى مثلا ، كما في تشبيه الثّريا بعنقود الملاحيّة.

(٥) أي عرف عامّ كما في تشبيه زيد مثلا بإنسان عريض القفا في البلادة ، فإنّ العرف حاكم بأنّ عرض القفا معه البلادة ، وكما في تشبيه الرّجل بالأسد في الجرأة ، فإنّ وصف الجرة ظاهر في الأسد عرفا ، ومثال الاصطلاح الخاصّ كما في تشبيه النّائب عن الفاعل بالفاعل في حكم الرّفع ، فإنّ الرّفع في الفاعل ظاهر في اصطلاح النّحاة فيشبّه به عند ما يحتاج المعلّم للتّشبيه مثلا ، أي وإنّما يوصى بكون وجه الشبّه جليّا في الاستعارة الّتي فيها عدم إشمام رائحة التّشبيه ، لئلّا تصير تلك الاستعارة إلغازا ، أي سبب الإلغاز أو ملغزة ، فالإلغاز بكسر الهمزة مصدرا لغز في كلامه إذا عمي مراده وأخفاه ، أطلق بمعنى اسم المفعول أو على حذف مضاف كما علمت ، وذلك لأنّه إذ لم يكن وجه الشبّه ظاهر بل كان خفيا وانضمّ ذلك لخفاء التّشبيه بواسطة عدم شمّ رائحته لاجتمع خفاء على خفاء ، فتكون الاستعارة لغزا.

٢٤٠