دروس في البلاغة - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٤

دون الرّداء (١) تجريدا للاستعارة ، والقرينة (٢) سياق الكلام ، أعني قوله : [إذا تبسّم (٣) ضاحكا] أي شارعا (٤) في الضّحك آخذا فيه ، وتمامه (٥) : غلقت (٦) لضحكته رقاب المال ، أي إذا تبّسم غلقت رقاب أمواله في أيدي السّائلين ، يقال غلق الرّهن (٧) في يد المرتهن إذا لم يقدر على انفكاكه (٨).

________________________________________________________

(١) أي دون الرّداء الّذي هو المستعار منه ، فإنّه لا يقال رداء كثير ، بل يقال رداء واسع أو ضيّق.

(٢) أي القرينة على أنّ الرّداء مستعار للإعطاء ، لا أنّه مستعمل في معناه الحقيقي وهو الثّوب.

(٣) أي أنّه إذا تبسّم ضاحكا أخذ الفقراء ماله ، فهذا يدلّ على أنّ المراد بالرّداء الإعطاء ، لا حقيقته الّتي هي الثّوب الّذي يجعل على الكتفين.

(٤) أي لمّا كان التّبسم دون الضّحك على ما في الصّحّاح ، ولم يكن الضّحك مجامعا له فسّره ب «شارعا» في الضّحك ، فجعلها حالا مقارنة ، لأنّ الشّروع فيه عبارة عن الأخذ في مباديه ، وهو مقارن للتّبسم في الوقوع ، وقوله : «أخذا» تفسير لقوله : «شارعا» ، وفي قوله : «تبسّم ضاحكا» مدح بأنّه وقور لا يقهقه ، وأنّه باش بالسّائلين.

(٥) أي هذا البيت لكثير بالتّصغير ، أي كثير عزّة بن عبد الرّحمن الخزاعي ، وهو شاعر معروف ، وإنّما صغّروه لشدة قصره ، حتّى قيل في شأنه : إنّه من حدثّك أنّه يزيد على ثلاثة أشبار فلا تصدّقه.

(٦) أي غلق بفتح الغين المعجمة وكسر اللّام ، بمعنى تمكّن ، والضّحكة بفتح الضّاد المرّة من الضّحك ، فالمعنى إذا تبسّم الممدوح غلقت رقاب أمواله في أيدي السّائلين ، أي تمكّنت أيديهم على أخذها ، فيأخذون أمواله بدون أن يأذن لهم ، وهو من حسن خلقه وكرمه ، لا يقدر على نزعها من أيديهم. وحاصل المعنى أنّ السّائلين يأخذون أموال ذلك الممدوح من غير علمه ، ويأتون بها إلى حضرته فيتبسّم ولا يأخذها منهم ، فضحكه موجب لتمكّنهم من المال بحيث لا ينفكّ من أيديهم ، فكأنّه يباح لهم بضحكه.

(٧) أي المال المرهون.

(٨) أي إذا لم يقدر الرّاهن على انفكاك الرّهن لمضيّ أجل الدّين.

١٦١

[و] الثّالث : [مرشحة (١)] ، وهي ما قرن (٢) بما يلائم المستعار منه نحو : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ)(١) (٣)] استعير الاشتراء للاستبدالّ والاختيار (٤) ، ثمّ فرع عليها (٥) ما يلائم الاشتراء من الرّبح والتّجارة.

________________________________________________________

وحاصله أنّ عادة الجاهليّة إذا حلّ أجل الدّين الّذي له رهن ، ولم يوف فإنّ المرتهن يتملّك الرّهن ، ويتمّكن منه ولا يباع كما في الأطول.

(١) أي مرشّحة عطف على «مجرّدة» كما أنّ المجرّدة عطف على مطلقة ، والثّلاثة خبر مبتدأ محذوف ، أي هي مطلقة ومجرّدة ومرشّحة ، والمرشّحة من التّرشيح ، وهو التّقوية سمّيت الاستعارة الّتي ذكر فيها ما يلائم المستعار منه مرشّحة ، لأنّها مبنيّة على تناسي التّشبيه ، حتّى كأنّ الموجود في نفس الأمر هو المشبّه به دون المشبّه ، كان ذلك موجبا لقوّة ذلك المبنى ، فتقوى الاستعارة بتقوى مبناها لوقوعها على الوجه الأكمل ، أخذا من قولك : رشّحت الصّبي ، إذا ربّيته باللّبن قليلا قليلا حتّى يقوى على المصّ.

(٢) أي وهي استعارة قرنت بما يلائم المستعار منه ، أي زيادة على القرينة ، فلا تعدّ قرينة المكنيّة ترشيحا ، وسواء كان ما يلائم المستعار منه الّذي قرنت به الاستعارة صفة أو تفريعا.

(٣) والشّاهد في الآية أنّه شبّه الاستبدال بالاشتراء بجامع أنّ كلّا منهما معاوضة ثمّ طوى ذكر المشبّه ، وأقيم المشبّه به وهو الاشتراء مقامه ، ثمّ فرّع على ذلك ما يلائم المستعار منه وهو الرّبح والتّجارة.

(٤) أي أنّه شبه استبدال الحقّ ، واختياره عليه بالشّراء الّذي هو استبدالّ مال بآخر ، ثمّ استعير اسم المشبّه به للمشبّه ، والقرينة على أنّ الاشتراء ليس مستعملا في حقيقته ، لاستحالة ثبوت ـ الاشتراء الحقيقي للضّلالة بالهدى.

(٥) أي على الاستعارة المذكورة ، وقرينة الاستعارة ههنا المفعول ، لأنّ الضّلالة والهدى ليس ممّا يشترى حقيقة ، فيكون المراد الاستبدال والاختيار كما في قولك : قتل البخل وأحيى السّماح ، فذكر الوصف أي الرّبح والتّجارة ترشيح تفريع ، والمراد من الرّبح هو الرّبح المنفي بمعنى الخسران.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٦.

١٦٢

[وقد يجتمعان] أي التّجريد والتّرشيح (١) [كقوله : (٢) : لديّ أسد شاكي السّلاح (٣)] هذا (٤) تجريد ، لأنّه وصف يلائم المستعار له أعني الرّجل الشّجاع. [مقذّف* له لبد أظفاره لم تقلم] هذا (٥) ترشيح ، لأنّ هذا الوصف (٦) ، ممّا يلائم المستعار منه ، أعني الأسد الحقيقي ، واللّبد جمع لبدة ، وهي ما تلبّد من شعر الأسد على منكبيه ، والتّقليم مبالغة القلم وهو القطع (٧). ـ [والتّرشيح أبلغ (٨)] من الإطلاق والتّجريد ،

________________________________________________________

(١) أي في استعارة واحدة.

(٢) أي قول الشّاعر ، وهو زهير بن أبي سلمى.

(٣) أي تامّ السّلاح ، الشّاكي من الشّوكة بمعنى شدّة البأس والحدّة في السّلاح ، وقد يحذف الياء ويجرى الإعراب على الكاف وتقديره أنا لديّ أسد شاكي السّلاح.

(٤) أي شاكي السّلاح «تجريد ، لأنّه وصف يلائم المستعار له أعني الرّجل الشّجاع».

(٥) أي مجموع ما ذكر في المصراع الثّاني ترشيح.

(٦) أي الوصف الحاصل ممّا يلائم المستعار منه ، أعني الأسد الحقيقي ، ويمكن أن يكون قوله : «شاكي السّلاح» ، وقوله : «مقذّف» بمعنى من قذف به ورمى به في الوقائع والحروب تجريدان ، وقوله : «لبد» وقوله : «أظفاره لم تقلم» ترشيحان ، فأتى لكلّ واحد من التّجريد والتّرشيح بمثالين.

(٧) أي وحينئذ فالمعنى أظفاره انتفى تقليمها انتفاء مبالغا فيه ، نظير ما قيل في قوله تعالى :

(وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(١) إنّ هذا من المبالغة في النّفي ، أي انتفى الظّلم عن المولى انتفاء مبالغا ، فيه لا من نفي المبالغة ، وإلّا لاقتضى ثبوت أصل الظّلم لله وهو محال ، فيكون ذكر تقليم الأظفار في البيت ترشيحا.

(٨) أي أقوى في البلاغة وأنسب بمقتضى الحال ، وإنّما كان أقوى في البلاغة ، لأنّ مقام الاستعارة هو حال إيراد المبالغة في التّشبيه والتّرشيح يقوى تلك المبالغة ، فيكون أنسب بمقتضى حال الاستعارة ، وأحقّ بذلك المقتضى من الاطلاق ومن التّجريد ، لعدم تأكد متاسبتهما لحال الاستعارة ، لأنّ في ذكر صفات المستعار له ما يفوّت المبالغة في شبهه بالمستعار منه.

__________________

(١) سورة فصّلت : ٤٦.

١٦٣

ومن جمع التّجريد (١) والتّرشيح [لاشتماله على تحقيق المبالغة (٢)] في التّشبيه ، لأنّ في الاستعارة مبالغة في التّشبيه ، فترشيحها بما يلائم المستعار منه تحقيق لذلك (٣) وتقوية له.

[ومبناه] أي مبني التّرشيح [على تناسي التّشبيه (٤)] وادّعاء (٥) أنّ المستعار له نفس المستعار منه (٦) ، لا شيء شبيه به [حتّى (٧) أنّه يبنى على علوّ القدر (٨)] الّذي يستعار له علوّ المكان [ما يبنى على علوّ المكان ،

________________________________________________________

(١) أي من الاستعارة الّتي جمع فيها التّجريد والتّرشيح ، لتساقطهما بتعارضهما.

(٢) أي تقوية المبالغة ، فأصل المبالغة جاء من الاستعارة بجعل المشبّه فردا من أفراد المشبّه به ، وتقويتها حصلت بالتّرشيح.

(٣) أي لمّا ذكر من المبالغة ، وقوله : «وتقوية» تفسير للتّحقيق.

(٤) أي إظهار نسيان التّشبيه الكائن في الاستعارة وإن كان موجودا في نفس الأمر.

ولو قال المصنّف ، ومبناه على كمال تناسي التّشبيه ، أي كمال إظهار نسيانه كان واضحا ، لأنّ البناء على تناسي التّشبيه لا يختصّ بالتّرشيح بل غيره كالاستعارة أيضا يبنى عليه.

(٥) أي عطف تفسير للتّناسي ، أو أنّه عطف سبب على مسبّب ، أي ويحصل ذلك التّناسي بسبب ادّعاء أنّ المستعار له نفس المستعار منه.

(٦) أي الأولى أن يقول :

إنّ المستعار له جزئيّ من جزئيّات المستعار منه ، أو من أفراد المستعار منه ، لكنّه لعلّ نظر إلى تحقيق الماهية في الفرد.

(٧) أي «حتّى» تفريعيّة ، والضمّير للشّأن ، والمعنى أنّه يجري لأجل التّناسي على المستعار له ما يجري على المستعار منه ، وكأنّه فرد من أفراد المستعار منه.

(٨) أي المرتّبة والمنزلة ، يعني أنّهم يستعرون الوصف المحسوس للشّيء المعقول ويعتقدون كأنّ ذلك

الوصف ثابت لذلك الشّيء المعقول في الحقيقة ، وكأنّ التّشبيه لم يوجد أصلا كاستعارة علوّ المكان لزيادة الرّجل على غيره في الفضل.

١٦٤

كقوله : (١)

ويصعد (٢) حتّى يظن (٣) الجهول

بأنّ له حاجة في السّماء]

استعار الصّعود لعلوّ القدر والارتقاء في مدارج (٤) الكمال ، ثمّ بنى (٥) عليه ما يبنى على علوّ المكان والارتقاء إلى السّماء ، من ظنّ الجهول (٦) أنّ له حاجة في السّماء ، وفي لفظ الجهول زيادة مبالغة في المدح ، لما فيه من الإشارة

________________________________________________________

(١) أي كقول أبي تمّام من قصيدة يرثي بها خالد بن يزيد الشّيباني ، ويذكر فيها مدح أبيه ، وهذا البيت في مدح أبيه وذكر علوّ قدره.

(٢) أي ويرتقي ذلك الممدوح في مدارج الكمال ، فليس المراد بالصّعود هنا معناه الأصلي الّذي هو الارتقاء في المدراج الحسّيّة ، إذ لا معنى له هنا وإنّما المراد به العلوّ في مدارج الكمال والارتقاء في الأوصاف الشّريفة ، فهو استعارة من الارتقاء الحسّي إلى الارتقاء المعنوي ، والجامع مطلق الارتقاء المستعظم في النّفوس ، بحيث يبعد التّوصّل إليه ، وإلى هذا أشار الشّارح بقوله : «استعار» أي الشّاعر «الصّعود ...».

(٣) أي إلى أن يبلغ إلى حيث يظنّ الجهول ، وهو الّذي لا ذكاء عنده ، إنّ له أي الممدوح حاجة في السّماء لبعده عن الأرض وقربه من السّماء.

(٤) أي مراتب الكمال.

(٥) أي ثمّ رتّب على علوّ القدر المستعار له ما يبنى على علوّ المكان أي وهو الارتفاع الحسّي الّذي هو المستعار منه ، وذلك البناء بعد تناسي تشبيه علوّ القدر بالعلوّ الحسّي ، وادّعاء أنّه ليس ثمّة إلّا الارتفاع الحسّي الّذي وجه الشّبه فيه أظهر.

(٦) أي قوله : «من ظنّ الجهول» بيان لما في قوله : «ما يبنى» ، ولا شكّ أنّ القرب من السّماء وظنّ أنّ له حاجة فيها ممّا يختصّ بالصّعود الحسّي ويترتّب عليه ، لا على علوّ القدرة والمنزلة.

ثمّ إنّ ظنّ الجهول أنّ له حاجة في السّماء لم ينقل من معناه الأصلي الملائم للمستعار منه لمعنى ملائم للمستعار له ، وإنّما هو ذكر لازم من لوازم المشبّه به لإظهار أنّه الموجود في التّركيب لا شيء شبيه به ، وبهذا يعلم أنّ التّرشيح قد يستعمل في معناه الأصلي الملائم

١٦٥

إلى أنّ هذا (١) إنّما يظنّه الجهول (٢) ، وأمّا العاقل فيعرف أنّه لا حاجة له في السّماء لاتّصافه بسائر الكمالات (٣) ، وهذا المعنى (٤) ممّا خفي على بعضهم ، فتوهّم (٥) أنّ في البيت تقصيرا في وصف علوّه حيث أثبت هذا الظّن للكامل في الجهل بمعرفة الأشياء [ونحوه] أي مثل البناء على علوّ القدر ما يبنى على علوّ المكان لتناسي التّشبيه. [ما مرّ (٦) من التّعجّب] في قوله :

قامت تظللنّي ومن عجب

شمس تظللنّي من الشّمس

________________________________________________________

للمستعار منه ، وليس ذلك من الكذب ، لأنّ الغرض إفادة المبالغة وتقوية الاستعارة بذكر اللّازم ، وذلك كاف في نفي الكذب ، كما أنّه قد ينقل من معناه الأصلي لمعنى ملائم للمستعار له.

(١) أي كونه له حاجة في السّماء.

(٢) أي لأنّه الّذي لا كمال لعقله.

(٣) أي وحيث كان العاقل يعرف أنّه لا حاجة له في السّماء لاتّصافه بسائر الكمالات كان عالما بأنّ إفراطه في العلوّ لمجرّد التّعالي على الأقران ، وفي قوله : «لاتّصافه ...» إشارة إلى أنّ المراد بالحاجة المنتفية عند العاقل هنا هي الحاجة المعتادة الّتي يطلبها المحتاج في الأرض ، فلا يرد أنّ نفي حاجة السّماء سوء أدب لما فيه من نفي الحاجة إلى الرّحمة السّماوية ، والتّوجه لها بالدّعاء لا بالصّعود.

(٤) أي التّفصيل بين العاقل والجاهل.

(٥) أي منشأ ذلك التّوهّم أنّ القصد من البيت الإشارة بمزيد صعوده المشار له بقوله : «حتّى يظنّ الجهول ...» إلى علوّ قدره ، وإذا كان مزيد الصّعود إنّما هو في ظنّ كامل الجهل لا العارف بالأشياء ، فلا يكون له ثبوت ، فلا يحصل كبير مدح بذلك.

وحاصل الرّدّ أنّ مزيد الصّعود مجزوم به ، ومسلّم من كلّ أحد ، وإنّما النّزاع في أنّه هل له الحاجة في السّماء أم لا؟ فذكر أنّ كثير الجهل هو الّذي يتوهّم أنّ ذلك الارتقاء المفرط لحاجة ، وأمّا العاقل ذو النّظر الصّحيح فيعلم أنّ ذلك الإفراط في العلوّ لمجرّد التّعالي على الأقران ، لا لحاجة له في السّماء لاتّصافه بسائر الكمالات واستغنائه عن جميع الحاجات.

(٦) أي ما مرّ في أوّل بحث لاستعارة من التّعجّب في قوله : «قامت تظللنّي ...» ، إنّما كان

١٦٦

[والنّهي عنه] أي عن التّعجّب في قوله :

لا تعجبوا من بلى غلالته

قد زرّ أزراره على القمر

إذ لو لم يقصد تناسي التّبشبيه وإنكاره (١) لما كان للتّعجّب والنّهي عنه جهة على ما سبق ، ثمّ أشار إلى زيادة تقرير لهذا الكلام (٢) فقال : [وإذا جاز البناء (٣) على الفرع] أي المشبّه به [مع الاعتراف بالأصل] أي المشبّه ،

________________________________________________________

هذا التّعجّب نحو ما ذكر من البناء ، لأنّ إيجاد هذا التّعجّب على تناسي التّشبيه ، إذ لو لا تناسي التّشبيه لم يوجد له مساغ ، كما أنّ إيجاد ذلك البناء لو لا التّناسي لم يكن له معنى ، وتحقيقه في التّعجّب ما تقدّم من أنّه لا عجب من تظليل إنسان جميل كالشّمس من الشّمس الحقيقيّة ، وإنّما يتحقّق التّعجّب من تظليل الشّمس الحقيقيّة من الشّمس المعلومة ، لأنّ الإشراق مانع من الظّل ، فكيف يكون صاحبه موجبا للظّلّ ، ومعلوّم أنّه لو لا التّناسي ما جعل ذلك الإنسان الجميل نفس الشّمس ليتعجّب من تظليله بل شبّه بها.

(١) أي إنكار التّشبيه بحيث لم يخطر بالبال غير المشبّه به ، أعني الشّمس في البيت الأوّل ، والقمر في البيت الثّاني ، لما كان للتّعجّب في البيت الأوّل ، والنّهي عنه في البيت الثّاني وجه ، وحاصله أنّه لو لا تناسي التّشبيه لا وجه للتّعجّب في البيت الأوّل ، إذ لا عجب من تظليل إنسان جميل كالشّمس من الشّمس الحقيقيّة ، وإنّما يتحقّق التّعجّب من تظليل الشّمس الحقيقيّة من الشّمس الّتي في السّماء ، وكذلك لا وجه للنّهي عن التّعجّب من بلى الغلالة في البيت الثّاني ، لو لا تناسى التّشبيه وجعل اللّابس القمر الحقيقيّ ، لأنّ غيره لا يوجب البلى المذكور فيصحّ التّعجّب فلا يصحّ النّهي عنه.

(٢) أي قوله : «ومبناه على تناسي التّشبيه» ، وفيه حذف ، أي لما تضمّنه هذا الكلام ، وهو صحّة البناء على تناسي التّشبيه.

(٣) أي هذا تأييد وتقوية لقوله : «ومبناه على تناسي التّشبيه» ، وحاصل ذلك أنّه إذا جاز البناء على الفرع أعني المشبّه به ، لأنّه الفرع بحسب القصد في باب الاستعارة ، أي إذا جاز البناء على الفرع في التّشبيه ففي الاستعارة أولى وأقرب ، لأنّ وجود المشبّه الّذي هو الأصل ، كأنّه ينافي ذلك البناء ، فإذا جاز البناء مع وجود منافيه ، فالبناء مع عدمه أولى

١٦٧

وذلك (١) لأنّ الأصل في التّشبيه وإن كان هو المشبّه به من جهة أنّه أقوى وأعرف إلّا أنّ المشبّه هو الأصل من جهة أنّ الغرض يعود إليه ، وأنّه المقصود في الكلام بالنّفي والإثبات [كما في قوله : (٣) : هي الشّمس مسكنها في السّماء* فعزّ] أمر من ـ عزاه (٣) ـ ـ حمله على العزاء ، وهو الصّبر ، [الفؤاد عزاء جميلا* فلن تستطع] أنت [إليها] أي إلى الشّمس [الصّعودا* ولن تستطيع] الشّمس [إليك النّزول] والعامل في إليها وإليك ، هو المصدر (٤) بعدهما إن جوزّنا تقديم الظّرف على المصدر (٥) وإلّا (٦) فمحذوف يفسّره الظّاهر ، فقوله : هي الشّمس ،

________________________________________________________

وأقرب ، ثمّ المراد بالبناء عليه ذكر ما يلائمه ، والمراد بالاعتراف بالأصل ذكره ، وحينئذ فالمعنى وإذا جاز ذكر ما يلائم المشبّه به في التّشبيه الخالي عن الاستعارة ، وهو الّذي ذكر طرفاه ومع جحد الأصل ، كما في الاستعارة البناء على الفرع أولى بالجواز.

(١) أي بيان ذلك ، أي كون المشبّه به فرعا والمشبّه أصلا ، وهذا جواب عمّا يقال : كيف سمّى المصنّف المشبّه به فرعا والمشبّه أصلا مع أنّ المعروف عندهم عكس هذه التّسمية ، لأنّ المشبّه به هو الأصل المقيس عليه ، ولأنّه أقوى من المشبّه غالبا في وجه الشّبه ، وأعرف به.

وحاصل جواب الشّارح : أنّ المصنّف إنّما سمّى المشبّه أصلا نظرا إلى كونه هو المقصود في التّركيب من جهة أنّ الغرض من التّشبيه يعود إليه ، ولكونه هو المقصود في الكلام بالنّفي والإثبات ، فإنّ النّفي والإثبات في الكلام يعود إليه ، أي إلى شبهه ، فإنّك إذا قلت : زيد كالأسد ، فقد أثبتّ للمشبّه شبهه بالأسد ، وهو المقصود بالذّات ، وإذا قلت : ليس زيد كالأسد ، فقد نفيت شبهه به أيضا بالقصد الأوّل ، وإن كان ثبوت الشّبه ونفيه للمشبّه به حاصلا أيضا لكن تبعا.

(٢) أي قول الشّاعر ، وهو العبّاس بن الأحنف قوله : «هي الشّمس» ، أي هذه الحبيبة هي الشّمس ، ثمّ قوله : «مسكنها في السّماء» صفة للشّمس.

(٣) أي حينئذ فالمعنى فاحمل فؤادك على الصّبر.

(٤) أي وهو الصّعود والنّزول.

(٥) أي على عامله المصدر ، وهو الحقّ عند الشّارح.

(٦) أي وإن لم نجوّز تقديم الظّرف على عامله المصدر ، فيكون العامل في «إليها» ، وفي «إليك» محذوفا ، والتّقدير فلن تستطيع أن تصعد إليها الصّعود ، ولن تستطيع الشّمس أن

١٦٨

تشبيه (١) لا استعارة (٢) ، وفي التّشبيه اعتراف بالمشبّه (٣) ، ومع ذلك (٤) فقد بني الكلام على المشبّه به ، أعني الشّمس (٥) وهو واضح ، فقوله : وإذا جاز البناء ، شرط جوابه قوله : [فمع جحده (٦)] أي جحد الأصل كما في الاستعارة البناء على الفرع [أولى] بالجواز ، لأنّه قد طوي فيه ذكر المشبّه أصلا ، وجعل الكلام خلوا عنه ، ونقل الحديث (٧) إلى المشبّه به. وقد وقع في بعض أشعار العجم النّهي عن التّعجّب مع التّصريح بأداة التّشبيه ، وحاصله (٨) لا تعجبوا من قصر ذوائبه (٩) فإنّها كاللّيل ووجهه كالرّبيع (١٠)

________________________________________________________

تنزل إليك المنزل ، ويكون المصدر المذكور مفسّرا لذلك العامل المحذوف.

(١) أي بليغ بحذف الأداة ، والأصل هي كالشّمس ، فحذفت الأداة للمبالغة في التّشبيه بجعل المشبّه عين المشبّه به.

(٢) أي ليس قوله : «هي الشّمس» استعارة ، لأنّه يشترط فيها أن لا يذكر الطّرفان على وجه ينبئ عن التّشبيه ، وهما هنا مذكوران كذلك المشبّه بضميره والمشبّه به بلفظه الظّاهر.

(٣) أي الحبيبة هنا ، أي ذكر المشبّه.

(٤) أي ومع الاعتراف بالمشبّه «فقد بنى الكلام على المشبّه به» ، أي ذكر ما يناسبه وهو قوله : «مسكنها في السّماء».

(٥) أي أعنى بالمشبّه به الشّمس ، وكيف كان فالشّاهد في قوله : «مسكنها في السّماء» حيث بناه على المشبّه به ، أعني الشّمس مع ـ الاعتراف بالمشبّه أعني المحبوبة.

(٦) أي مع ظرف لمحذوف ، أي فالبناء على الفرع مع جحد الأصل وإنكاره ، وعدم ذكره أولى بالجواز ، ووجه الأوّلوية أنّه عند الاعتراف بالأصل قد وجد ما ينافي البناء ، لأنّ ذكر المشبّه يمنع تناسي التّشبيه المقتضي للبناء على الفرع ، ومع جحد الأصل يكون الكلام قد نقل للفرع الّذي هو المشبّه به لطيّ ذكر المشبّه ، فيناسبه التّناسي المقتضي أنّه لا خطور للمشبّه في العقل ، ولا وجود له في الخارج ، وذلك مناسب لذكر ما يلائم ذلك الفرع ، فإذا جاز البناء في الأوّل مع وجود ما ينافي ، فجوازه مع عدم المنافي أحرى وأولى.

(٧) أي نقل الكلام إلى المشبّه به فقطّ.

(٨) أي وحاصل شعر العجم.

(٩) أي شعره.

(١٠) أي ووجهه كالرّبيع في البهجة والنّضارة.

١٦٩

واللّيل في الرّبيع مائل إلى القصر (١) ، وفي هذا المعنى (٢) من الغرابة والملاحة بحيث لا يخفى.

المجاز المركب

[وأمّا] المجاز [المركّب (١) فهو اللّفظ المستعمل فيما (٢) شبّه بمعناه الأصلي] أي بالمعنى الّذي يدلّ عليه ذلك اللّفظ بالمطابقة (٣)

________________________________________________________

(١) أي من المعلوّم أنّ المائل إلى القصر في الرّبيع هو اللّيل الحقيقي ، والّذي لا يتعجّب من قصر ليله هو الرّبيع ، فلمّا حصل تناسي التّشبيه ، وادّعى أنّ الذّوائب نفس اللّيل الحقيقي ، وأنّ وجه المحبوب نفس الرّبيع الحقيقي نهى عن التّعجّب من قصر الذّوائب الّتي هي اللّيل الحقيقي الكائن في زمان الرّبيع ، فقد بنى على الفرع ما يناسبه مع ـ الاعتراف بالأصل والتّصريح بالأداة.

(٢) أي اسم الإشارة مبتدأ ، وقوله : «بحيث ...» خبر ، أي في هذا المعنى ، أي تشبيه ذوائب المحبوب باللّيل في السّواد ، وتشبيه وجهه بالرّبيع في النّظافة بحيث لا يخفى ما فيه من الغرابة والملاحة لما بين الرّبيع وليله من المناسبة ، وما بين الوجه والذّوائب من الملاحة ، والحاصل إنّ هذا المعنى غريب ومليح لا خفاء فيه جدا.

(٣) أي لمّا فرغ المصنّف من المجاز المفرد شرع في المجاز المركّب ، وهو المسمّى بالتّمثيل ، ورسمه المصنّف بأنّه اللّفظ المركّب المستعمل ، فأخرج المهمل واللّفظ قبل الاستعمال ، فقوله : «وأمّا المركّب» عطف على قوله : «وأمّا المفرد» من قوله سابقا : والمجاز إمّا مفرد أو مركّب ، أمّا المفرد فهو الكلمة ... وأمّا المركّب فهو اللّفظ ...

(٤) أي في معنى ، شبّه ذلك المعنى بمعنى اللّفظ الأصلي ، أي من حيث إنّه شبّه بمعناه الأصلي ، فخرج المجاز المرسل الّذي ليس معناه مشبّها بمعناه الأصلي قبل الاستعمال لعدم وجود الشّبه بين المعينين.

(٥) أي بالوضع ، وهذا بيان لما هو المراد بمعنى اللّفظ الأصلي ، ثمّ قوله : «بالمطابقة» يقتضي أنّ دلالة اللّفظ على المعنى المجازي ليست بالمطابقة ، وهو خلاف ما صرّح به الشّارح في غير هذا الشّرح ، وأجيب بأنّ مراد الشّارح بالمطابقة المطابقة الّتي لا يحتاج معها إلى توسّط قرينة وهذا إنّما يكون في الحقيقة.

١٧٠

[تشبيه التّمثيل (١)] وهو ما يكون وجهه منتزعا من متعدّد ، واحترز بهذا (٢) عن الاستعارة في المفرد [للمبالغة (٣)] في التّشبيه [كما يقال للمتردّد في أمر (٤) : إنّي أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى (٥)] ، شبّه (٦) صورة تردّده في ذلك الأمر بصورة تردّد من قام ليذهب ، فتارة يريد الذّهاب فيقدّم رجلا ، وتارة لا يريد

________________________________________________________

(١) أي قوله : «تشبيه التّمثيل» معمول لقوله : «شبّه» ، وأتى المصنّف بذلك للتّنبيه على أنّ التّشبيه الّذي يبنى عليه المجاز المركّب لا يكون إلّا تمثيلا ، ولم يكتف بقوله : «تمثيلا» ، لأنّ التّمثيل مشترك بين التّشبيه الّذي وجهه منتزع من متعدّد ، وإن كان الطّرفان مفردين ، كما في شبيه الثّريّا بعنقود الملاحيّة ، وبين الاستعارة التّمثيليّة ، فاحترز عن أخذ اللّفظ المشترك في التّعريف.

(٢) أي احترز بقوله : «تشبيه التّمثيل» عن الاستعارة في المفرد ، أي عن نوع الاستعارة في المجاز المفرد ، إذ هو ما يكون وجه التّشبيه فيه غير منتزع من متعدّد ، بل إمّا مفرد أو متعدّد ، والحاصل إنّ المستعمل للمبالغة في التّشبيه الّذي وجهه منتزع من متعدّد مجاز مركّب.

(٣) أي علّة لقوله : «المستعمل فيما شبّه ...» ، أي وإنّما استعمل اللّفظ المركّب فيما شبّه بمعناه الأصلي لأجل المبالغة في التّشبيه ، وأشار المصنّف بهذا إلى اتّحاد الغاية في الاستعارة في المفرد والمركّب.

وحاصل المجاز المركّب أن يشبّه إحدى الصّورتين المنتزعتين من متعدّد بالأخرى ، ثمّ يدّعى أنّ الصّورة المشبّهة من جنس الصّورة المشبّه بها فيطلق على هذه الصّورة المشبّهة اللّفظ الدالّ بالمطابقة على الصّورة المشبّه بها للمبالغة في التّشبيه.

(٤) أي يتردّد في فعله وتركه.

(٥) أي المراد بالرّجل هنا الخطوة ، يعني يخطو خطوة إلى قدّام وخطوة إلى خلف ، ثمّ المراد بالرّجل الأخرى هو الرّجل الأولى المتقدّمة بالذّات ، وإنّما سمّاها بأخرى باعتبار أنّ صفتها في المرة الثّانيّة ، وهي التّأخّر غير صفتها في المرة الأولى أعني التّقدّم.

(٦) أي وإنّما كان هذا القول مجازا مركّبا مبنيّا على تشبيه التّمثيل ، لأنّه شبّه صورة تردّده في ذلك الأمر ، أي الهيئة الحاصلة من تردّده في ذلك الأمر ، فتارة يقدّم على فعله بالعزم عليه ، وتارة يتركه ويحجم عنه ، أي شبّه صورة تردّده هذه بصورة تردّد من قام ... ، أي بالهيئة

١٧١

فيؤخّر أخرى ، فاستعمل في الصّورة الأولى الكلام الدالّ بالمطابقة على الصّورة الثّانية ، ووجه الشبّه وهو (١) الإقدام تارة والإحجام أخرى منتزع من عدّة أمور (٢) كما ترى. [وهذا] المجاز المركّب [يسمّى التّمثيل] لكون وجهه منتزعا (٣) من متعدّد [على سبيل الاستعارة] ، لأنّه قد ذكر فيه المشبّه به ، وأريد المشبّه كما هو شأن الاستعارة. [وقد يسمّى (٤) التّمثيل مطلقا] من غير تقييد بقولنا : على سبيل الاستعارة ، ويمتاز (٥) عن التّشبيه بأن يقال له : تشبيه تمثيل أو تشبيه تمثيلي ،

________________________________________________________

الحاصلة من تردّد من قام ليذهب ... ولا شك أنّ الصّورة الأولى عقليّة والثّانيّة حسّيّة.

وبهذا التّقرير تعلم أنّ المشبّه ليس هو التّردّد في الأمر والمشبّه به ليس هو التّردّد في الذّهاب ، بل كلّ من المشبّه والمشبّه به هيئة يلزمها التّردّد.

(١) أي وجه الشبّه ، ثمّ قوله : «وهو الإقدام تارة والإحجام أخرى» جملة معترضة ، أي وجه الشبّه هي الهيئة المركّبة من الإقدام والإحجام ، أي وهو ضدّ الإقدام يعني الامتناع.

وحاصل الكلام إنّ وجه الشّبه وهو الجامع بين الصّورتين أمر عقليّ منتزع من عدّة أمور ، فهو مركّب باعتبار تعلّقه بمتعدّد ، لأنّه هيئة اعتبر فيها إقدام متقدّم وإحجام متعقّب.

(٢) أي هي التّقدّم والتّأخّر ، والرّجل والأخرى.

(٣) أي إنّ التّمثيل لا بدّ فيه من انتزاع وجهه من متعدّد وهو كذلك ، ووجه ذلك أنّ التّمثيل في الأصل هو التّشبيه ، يقال : مثّله تمثيلا إذا جعل له مثلا ، أي شبيها ، ثمّ خصّ بالتّشبيه المنتزع وجهه من متعدّد ، لأنّه أجدر أن يكون صاحبه مثيلا ، وشبيها لكثرة ما اعتبر فيه إذ كثرة ما اعتبر في التّشبيه ممّا يوجب غرابته ، وكلّ ما كثر ما اعتبر فيه ازدادت غرابته فهو أحقّ بالمماثلة ، لأنّ المماثلة الحقيقيّة لا تكون إلّا بعد وجود أشياء.

(٤) أي قد يسمّى المجاز المركّب التّمثيل مطلقا.

(٥) أي يمتاز التّمثيل عن التّشبيه المطلق المذكور سابقا ، بأن يقال للتّمثيل تشبيه تمثيل ، أو تشبيه تمثيلي ، ويمكن أن يكون قوله : «ويمتاز» جواب سؤال مقدّر ، والسّؤال أنّه إذا أطلق التّمثيل ، ولم يقيّد بقولنا : «على سبيل الاستعارة» ، يلتبس بالتّشبيه الحقيقي ، فإنّ من أنواعه نوع يسمّى التّمثيل كما تقدّم بيانه.

١٧٢

وفي تخصيص (١) المجاز المركّب بالاستعارة نظر ، لأنّه كما أنّ المفردات موضوعة بحسب الشّخص (٢) فالمركّبات موضوعة بحسب النّوع (٣) ، فإذا استعمل المركّب في غير ما وضع له فلا بد من أن يكون ذلك (٤) بعلاقة (٥).

________________________________________________________

وحاصل الجواب :

أنّه يفرّق بين التّمثيل في الاستعارة والتّمثيل في التّشبيه ، بأنّ التّمثيل في الاستعارة يقال له :

تشبيه تمثيل بالإضافة ، وتشبيه تمثيلي بالقطع عنها ، بخلاف التّمثيل في التّشبيه الحقيقي ، فإنّه لا يقال فيه ذلك ، بل يطلق عليه التّمثيل من دون قيد.

(١) أي في حصر المجاز المركّب في الاستعارة فقطّ نظر وعدول عن الصّواب ، لأنّ المجاز المركّب مثل المجاز المفرد قد يكون استعارة وقد يكون غير استعارة ، ثمّ التّخصيص مستفاد من تعريف المجاز المركّب ، وتعريف الطّرفين باللّام حيث إنّ قول المصنّف في تعريف المجاز المركّب بأنّه هو اللّفظ المستعمل فيما شبّه بمعناه الأصلي يقتضي أنّ المجاز المركّب لا يوجد في غير ما شبّه بمعناه الأصلي لامتناع صدق المعرّف على غير التّعريف ، وكون المجاز المركّب لا يوجد في غير ما شبّه بمعناه ، يقتضي أنّه مختصّ بالاستعارة ومنحصر فيها ، وهو عدول عن الصّواب لأنّ الواضع كما وضع المفردات لمعانيها بحسب الشّخص كذلك وضع المركّبات لمعانيها التّركيبيّة بحسب النّوع.

وقد اتّفقوا على أنّ المفرد إذا استعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة فهو ـ استعارة ، وإلّا فهو مجاز مرسل ، فكذلك المركّب إذا استعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة فاستعارة تمثيليّة وإلّا كان مجازا وغير استعارة.

(٢) أي التّشخّص والتّعيّن بأن يعيّن الواضع اللّفظ المفرد للدّلالة على معناه المعيّن.

(٣) أي من غير نظر إلى خصوص لفظ ، والمراد بالوضع النّوعي أن يقول الواضع وضعت هيئة التّركيب في نحو : زيد قائم لثبوت المخبر به للمخبر عنه ، فالهيئة التّركيبيّة المخصوصة في زيد قائم موضوعة لثبوت القيام لزيد.

(٤) أي الاستعمال.

(٥) أي بعلاقة بين المعنى المنقول عنه والمعنى المنقول إليه ، وإلّا كان الاستعمال فاسدا.

١٧٣

فإن كانت هي المشابهة فاستعارة ، وإلّا (١) فغير استعارة ، وهو (٢) كثير في الكلام ، كالجمل الخبريّة الّتي لم تستعمل في الأخبار (٣) ، [ومتى فشا (٤) استعماله] أي المجاز المركّب [كذلك] أي على سبيل الاستعارة [يسمّى مثلا (٥) ولهذا] أي ولكون المثل تمثيلا فشا استعماله على سبيل الاستعارة [لا تغيّر الأمثال (٦)] ، لأنّ (٧) الاستعارة يجب أن تكون لفظ المشبّه به المستعمل في المشبّه ، فلو غيّر المثل (٨) لما كان لفظ المشبّه به بعينه ، فلا يكون استعارة ، فلا يكون مثلا ، ولهذا (٩) لا يلتفت في الأمثال إلى مضاربها (١٠)

________________________________________________________

(١) أي وإن لم تكن العلاقة المشابهة ، بل كانت غيرها كاللزّوم.

(٢) أي استعمال المركّب في غير ما وضع له لعلاقة غير المشابهة كثير في الكلام.

(٣) أي بل استعملت في الإنشاء ، مثل بعث واشتريت وزوّجت وغير ذلك.

(٤) أي ظهر وكثر دوره على الألسن.

(٥) أي يسمّى المجاز المركّب مثلا ، أي تمثيلا لفشوّه وشيوعه.

(٦) أي لا تغيّر بتذكير ولا بتأنيث ، ولا بإفراد أو تثنية أو جمع في حال مضربها عن حال موردها.

(٧) أي قوله : «لأنّ الاستعارة» علّة للمعلّل مع علّته ، أي وصحّ هذا الحكم ، وهو عدم تغيّر الأمثال بهذه العلّة ، لأنّ الاستعارة يجب أن تكون عين لفظ المشبّه به المستعمل في المشبّه الّذي هو مضربه.

(٨) أي فلو تطرّق تغيير إلى المثل لما كان لفظ المشبّه به بعينه ، فلا يكون المثل استعارة فلا يكون مثلا ، لأنّ الاستعارة أعمّ من المثل فإنّ المثل فرد منها إلّا أنّه مخصوص بالفشوّ ، فإذا لم يكن استعارة لم يكن مثلا ، لأنّ رفع الأعمّ يستلزم رفع الأخصّ.

والحاصل إنّ تغيير اللّفظ يستلزم رفع كونه لفظ المشبّه به ، ورفع لفظ المشبّه به يستلزم رفع الاستعارة ، لأنّها أخصّ منه ، إذ كلّ استعارة لفظ المشبّه به ، وليس كلّ لفظ المشبّه به استعارة ، فيلزم من رفعه رفعها ، ويلزم من رفعها رفع ما هو أخصّ منها ، وهو المثل.

(٩) أي لأجل كون الأمثال لا تغير.

(١٠) أي المضارب جمع مضرب ، وهو الموضع الّذي يضرب فيه المثل ، ويستعمل فيه لفظه ، والمستعار له وذلك كحالة من طلب شيئا بعد ما تسبّب في ضياعه ، وأمّا المورد فهو

١٧٤

تذكيرا وتأنيثا وإفرادا وتثنية وجمعا ، بل ينظر إلى مواردها كما يقال للرّجل : الصّيف ضيعت اللّبن ، بكسر تاء الخطاب ، لأنّه في الأصل لامرأة (١).

[فصل] في بيان الاستعارة بالكناية والاستعارة التّخييليّة

ولمّا كانتا عند المصنّف (٢) أمرين معنويّين غير داخلين في تعريف المجاز (٣) أورد لهما فصلا على حدة ، ليستوفي المعاني الّتي يطلق عليها لفظ الاستعارة ، فقال [قد

________________________________________________________

المستعار منه لفظ المثل ، وذلك كحالة المرأة الّتي طلبت اللّبن بعد تسبّبها في ضياعه ، والحاصل إنّ المثل كلام استعمل في مضربه بعد تشبيهه بمورده ، فمضربه ما استعمل فيه الكلام الآن ومورده ما استعمل فيه الكلام أوّلا.

(١) أي امرأة كانت تحت شيخ كبير السّن فكرهته ، وطلبت منه الطّلاق ، فطلّقها في زمن الصّيف ، ثمّ تزوّجت شابّا فقيرا فأصابها جدب ، فأرسلت تطلب لبنا من زوجها الأوّل ، فقال زوجها الأوّل للرّسول : قل لها في الصّيف ضيعت اللّبن ، يعنى لمّا سئلت الطّلاق في الصّيف أوجب ذلك أن لا يعطى لها لبن ، وإنّما خصّ زمان الصّيف ، لأنّ سؤالها الطّلاق كان في الصّيف ، ثمّ ضرب في كلّ قضيّة تضمّنت طلب شيء بعد تضييعه ، وشبّه في ذلك حال المضرب بحال المورد على سبيل الاستعارة التّمثيليّة.

(٢) أي هذا الكلام من الشّارح كالاعتذار من قبل المصنّف حيث قال المصنّف : «فصل» ، ولم يستصحب اتّصال الكلام بعضه ببعض ، مع أنّ البحث بعد الفصل أيضا في الاستعارة.

وحاصل الاعتذار :

إنّ البحث بعد الفصل وإن كان في الاستعارة ، إلّا أنّ الاستعارة بالكناية والتّخييليّة عند المصنّف غير داخلين في تعريف المجاز الّذي هو الاستعارة التّمثيليّة ، أورد المصنّف لهما فصلا مستقلا ليكمل بحث الاستعارة.

(٣) أي في اللّفظ المستعمل في غير ما وضع له مع قرينة مانعة من إرادته ، ووجه عدم دخولهما فيه أنّ المجازيّة من عوارض الألفاظ ، وهما عند المصنّف ليستا بلفظين ، بل هما فعلان من أفعال النّفس ، أحدهما كما سيصرّح هو التّشبيه المضمر في النّفس ، والآخر إثبات لوازم المشبّه به للمشبّه.

١٧٥

يضمر التّشبيه في النّفس فلا يصرّح بشيء من أركأنه (١) سوى المشبّه (٢)] وأمّا وجوب (٣) ذكر المشبّه به فإنّما هو في التّشبيه المصطلح عليه ، وقد عرفت أنّه غير الاستعارة بالكناية. [و (٤) يدلّ عليه] أي على ذلك التّشبيه المضمر في النّفس [بأن يثبت للمشبّه أمر مختصّ بالمشبّه به] من غير أن يكون هناك (٥) أمر متحقّق حسّا أو عقلا ، يطلق عليه اسم ذلك الأمر ، [فيسمّى التّشبيه (٦)] المضمر في النّفس [استعارة بالكناية أو مكنيّا عنها] أمّا الكناية فلأنّه لم يصرّح به ، بل إنّما دلّ عليه بذكر خواصّه ولوازمه ، وأمّا

________________________________________________________

(١) أي أركانه الأربعة ، أي المشبّه والمشبّه به والإداة ووجه الشبّه.

(٢) أي لا يصرّح إلّا بالمشبّه ، وإنّما اقتصر على التّصريح به ، لأنّ الكلام يجري على أصله ، والمشبّه هو الأصل ، ولو صرّح معه بالمشبّه به أو بالأداة لم يكن التّشبيه مضمرا.

(٣) أي قوله : «وأمّا وجوب ذكر المشبّه» جواب عمّا يقال : قد سبق في التّشبيه أنّ ذكر المشبّه به واجب في التّشبيه البتّة ، وهذا يناقض قول المصنّف ، فلا يصرّح ...

وحاصل الجواب : إنّ ما سبق من وجوب ذكر المشبّه به في التّشبيه إنّما هو في التّشبيه المصطلح عليه ، وهو ما لا يكون على وجه الاستعارة بحيث يدلّ عليه بالأداة ظاهرة أو مقدّرة ، وأمّا التّشبيه الّذي على وجه الاستعارة فلا يذكر فيه المشبّه به باقيا على معناه الحقيقي.

(٤) أي قيل الواو بمعنى مع ، أي مع الدّلالة على التّشبيه من المتكلّم بأمر هو أن يثبت للمشبّه أمر مختصّ بالمشبّه به ، أي لا يوجد ذلك الأمر في المشبّه كالأظفار مثلا ، لا أنّه لا يوجد في غير المشبّه به أصلا ، فإنّ الأظفار توجد في غير السّبع لكن لا توجد في المنيّة.

(٥) أي من غير أن يكون هناك للمشبّه أمر متحقّق حسّا أو عقلا يطلق عليه اسم ذلك الأمر الخاصّ بالمشبّه به ، كما في قولك أظفار المنيّة نشبت بفلان ، فإنّه ليس للمشبّه أعني : المنيّة أظفار محقّقة حسّا أو عقلا يطلق عليها لفظ الأظفار ، وإنّما وجد مجرّد إثبات لازم المشبّه به للمشبّه لأجل الدّلالة على التّشبيه المضمر.

(٦) أي وحاصل الكلام في المقام أنّه قد وجد على ما ذكره المصنّف فعلان : أحدهما إضمار التّشبيه في النّفس على الوجه المذكور والآخر إثبات لازم المشبّه به للمشبّه ، وكلاهما يحتاج لأن يسمّى باسم لاسم الآخر ، فذكر المصنّف أنّ الأمر الأوّل وهو التّشبيه المضمر في النّفس يسمّى باسمين أحدهما استعارة بالكناية والآخر استعارة مكنّى عنها ، وذكر أنّ الأمر

١٧٦

الاستعارة فمجرّد تسمية خالية عن المناسبة ، [و] يسمّى [إثبات ذلك الأمر] المختصّ بالمشبّه به [للمشبّه استعارة تخييليّة] لأنّه قد استعير للمشبّه ذلك الأمر الّذي يخصّ المشبّه به ، وبه يكون كمال المشبّه به (١) أو قوامه (٢) في وجه الشبّه ، ليخيّل أنّ المشبّه من جنس المشبّه به [كما في قول الهذلي : وإذا المنيّة (٣) أنشبت] أي علّقت [أظفارها (٤)] ألفيت (٥) كلّ تميمة لا تنفع ، التّميمة الخرزة (٦) الّتي تجعل معاذة أي تعويذا ، أي إذا علّق الموت مخلبه في شيء ليذهب به (٧) بطلت عنده الحيل. [شبّه] الهذلي في نفسه [المنيّة بالسّبع في اغتيال (٨) النّفوس بالقهر والغلبة من غير تفرقة (٩) بين نفّاع وضرّار] ولا رقّة لمرحوم ، ولا بقيا (١٠) على ذي فضيلة [فأثبت لها] أي

________________________________________________________

الثّاني وهو إثبات الأمر المختصّ بالمشبّه به للمشبّه يسمّى استعارة تخييليّة.

(١) أي ذلك إذا كان ذلك الأمر خارجا عن وجه الشبّه.

(٢) أي قوام المشبّه به في وجه الشبّه ، وذلك إذا كان الأمر خارجا عن وجه الشبّه.

(٣) أي المنيّة من منى الشّيء إذا قدر سمّى الموت بها ، لأنّه مقدّر.

(٤) أي مكّنتها فيمن جاء أجله.

(٥) أي وجدت كلّ تميمة لا تنفع يعنى عن ذلك الأنشاب.

(٦) أي الخرزة بفتح الخاء والرّاء المهملة ، وبعدها الزّاء المعجمة المفتوحة الّتي تجعل معاذة ، ثمّ المعاذة والتّعويذ والعوذة كلّها بمعنى واحد ، وهي الشّيء الّذي يعلّق على عنق الصّبيان حفظا لهم عن العين ، أو الجنّ على زعم عوام النّاس.

(٧) أي ليهلكه «بطلت عنده» ، أي وقت التّعليق «الحيل» جمع الحيلة.

(٨) أي إهلاك النّفوس.

(٩) أي في النّاس بين نفّاع ، أي كثير النّفع منهم ، وضرّار أي كثير الضّرر منهم ، أي أنّها لا تبالي بأحد ولا ترحمه ، بل تأخذ من نزلت به أيّا كان بلا رقّة منها على من يستحقّ الرّحمة ، لا تبقي على ذي فضيلة ، وذلك شأن السّبع عند غضبه.

(١٠) أي بقيا اسم من أبقيت على فلان إذا رحمته ، والمعنى أنّه لا رحمة على ذي فضيلة كعالم صالح.

١٧٧

المنيّة [الأظفار الّتي لا يكمل ذلك (١)] الاغتيال [فيه] أي في السّبع [بدونها] تحقيقا للمبالغة (٢) في التّشبيه ، فتشبيه المنيّة بالسّبع استعارة بالكناية (٣) وإثبات الأظفار لها استعارة تخييليّة. [وكما في قول الآخر :

ولئن نطقت (٤) بشكر برّك مفصحا

فلسان حالي بالشّكاية أنطق

________________________________________________________

(١) أي وفيه إشارة إلى أنّ اغتيال النّفوس وإهلاكها يتقوّم ويحصل من السّبع بدون الأظفار ، كالأنياب لكنّه لا يكمل الاغتيال فيه بدونها.

(٢) أي قوله : «تحقيقا» علّة لقوله : «فأثبت لها الأظفار ...» ، أي لأجل تحقيق المبالغة الحاصلة من دعوى أنّ المشبّه فرد من أفراد المشبّه به.

(٣) أي على مذهب المصنّف ، واعلم أنّه قد اتّفقت الآراء على أنّ في مثل قولنا : أظفار المنيّة نشبت بفلان ، استعارة بالكناية واستعارة تخييليّة ، لكن اختلفت في تعيين المعنيين اللذّين يطلق عليهما هذان اللّفظان.

ومحصّل الاختلاف في المكنيّة يرجع إلى ثلاثة أقوال :

أحدها : مذهب السّلف ، وهو أنّها اسم المشبّه به المستعار في النّفس للمشبّه ، وإنّ إثبات لازمه للمشبّه استعارة تخييليّة.

وثانيها : مذهب السّكاكى ، أنّها لفظ المشبّه المستعمل في المشبّه به ادّعاء بقرينة استعارة ما هو من لوازم المشبّه به لصورة متوهمة متخيّلة شبّهت به أثبتت للمشبّه.

وثالثها : مذهب المصنّف ، أنّها التّشبيه المضمر في النّفس المدلول عليه بإثبات لازم المشبّه به للمشبّه ، وهو الاستعارة التّخييليّة.

ومحصّل الخلاف في التّخييليّة يرجع إلى قولين :

أحدهما : مذهب المصنّف والقوم وصاحب الكشّاف ، أنّها إثبات لازم المشبّه به للمشبّه.

والآخر : مذهب السّكاكي ، أنّها اسم لازم المشبّه به المستعار للصّورة الوهميّة الّتي أثبتت للمشبّه.

فعلم مما ذكرنا أنّ في المكنيّة ثلاثة أقوال ، وفي التّخييليّة قولين.

(٤) أي قوله : «ولئن نطقت» شرط وجوابه محذوف ، أي فلا يكون لسان مقالي أقوى من

١٧٨

شبّه (١) الحال بإنسان متكلّم في الدّلالة على المقصود]. وهو (٢) استعارة بالكناية [فأثبت لها] أي للحال [اللسّان الّذي به (٣) قوامها (٤)] أي قوام الدّلالة [فيه] أي في الإنسان المتكلّم ، وهذا الإثبات استعارة تخييليّة ، فعلى هذا (٥) كلّ من لفظي الأظفار والمنيّة حقيقة مستعملة في معناها الموضوع له ، وليس في الكلام مجاز لغوي (٦)

________________________________________________________

لسان حالي ، فحذف الجواب وأقام لازمه ، وهو قوله : «فلسان حالي» مقامه ، وقوله : «بشكر برّك» متعلّق ب «مفصحا» أي ولئن نطقت بلسان المقال مفصحا بشكر برّك ، وقوله : «بالشّكاية» متعلّق بأنطق ، أي فلسان حالي أنطق بالشّكاية من لسان مقالي ، لأنّ ضرّك أكثر من برّك.

(١) أي والشّاهد في أنّ الشّاعر «شبّه الحال بإنسان متكلّم في الدّلالة على المقصود».

(٢) أي تشبيه الحال استعارة بالكناية ، وليس للحال أمر ثابت حسّيّا أو عقلا أجري عليه اسم اللسّان ، بل إطلاق الاسم ههنا على ما هو وهميّ ، فتشبيه الحال استعارة بالكناية ، وإثبات اللسّان للحال استعارة تخييليّة.

(٣) أي بسبب اللسّان وجود الدّلالة على المقصود ، إذ لو لم يكن للإنسان لسانه لم تحصل الدّلالة على المقصود.

(٤) أي الّذي حصل به قوام تلك الدّلالة ، وأصل قوام الشّيء ما يقوم به ويوجد منه ، كأجزاء الشّيء ولذلك يقال للخيوط الّتي يصنع منها الحبل إنّها قوامه ، والمراد به هنا وجوده وتحقّقه ، ومن المعلوّم أنّ قوام الدّلالة في الإنسان المتكلّم من حيث إنّه متكلّم إنّما هو باللسّان.

(٥) أي فعلى ما ذكرنا من أن تشبيه المنيّة بالسّبع استعارة بالكناية ، وإثبات الأظفار لها استعارة تخييليّة.

(٦) أي لأنّ المجاز اللّغوي عبارة عن الكلمة المستعملة في غير ما وضع له لعلاقة مع قرينة ، وليس في الكلام أعني قوله : «وإذا المنيّة أنشبت أظفارها» ، لفظ مستعمل في غير ما وضع له على كلام المصنّف ، وإنّما المجاز الّذي في ذلك الكلام هو إثبات شيء لشيء ليس هو له وهذا مجاز عقليّ ، كإثبات الإنبات للرّبيع على ما سبق في المجاز العقليّ.

١٧٩

والاستعارة بالكناية والاستعارة التّخييليّة فعلان (١) من أفعال المتكلّم متلازمان (٢) ، إذ التّخييليّة يجب أن تكون قرينة للمكنيّة البتّة (٣) ، والمكنيّة يجب أن تكون قرينتها تخييليّة (٤) البتّة فمثل قولنا (٥) : أظفار المنيّة الشّبيهة بالسّبع أهلكت فلانا ، يكون ترشيحا للتّشبيه ، كما أنّ أطولكنّ في قوله (٦) عليه‌السلام : [أسرعكنّ لحوقا أطولكنّ

________________________________________________________

(١) الفعل الأوّل هو التّشبيه المضمر والثّاني إثبات لازم المشبّه به للمشبّه فلا يكون من المجاز اللّغوي ، لأنّه من عوارض الألفاظ.

(٢) أي كلّ منهما لازمة للأخرى فلا توجد أحدهما بدون الأخرى.

(٣) أي فلا توجد التّخييليّة بدون المكنيّة ، قوله : «إذ التّخييليّة» تعليل لقوله : «متلازمان» ، وإنّما يجب أن تكون التّخييليّة قرينة للمكنيّة ، لأنّ الاستعارة المكنيّة لا بدّ لها من أن يثبت للمشبّه شيء من اللّوازم المساوية للمشبّه به ، وهذا الإثبات لا يتصوّر إلّا بطريق التّخييليّة.

(٤) أي عند المصنّف كالقوم خلافا لصاحب الكشّاف ، واعلم أنّ المصنّف إنّما خالف القوم في المكنيّة بخلاف التّخييليّة ، فإنّه موافق لهم فيها ، والسّكاكى يخالفهم في كلّ من المكنيّة والتّخييليّة.

(٥) أي الأولى ، فمثل الأظفار في قولنا ... ، وهذا جواب عمّا يقال كيف تقول : إنّ المكنيّة والتّخييليّة متلازمتان مع أنّ التّخييليّة قد وجدت بدون المكنيّة في المثال المذكور ، لأنّه صرّح فيه بالتّشبيه ، وهو كما يمنع في المصرّحة يمنع في المكنيّة.

وحاصل الجواب بالمنع ، لأنّ الأظفار في المثال المذكور ترشيح للتّشبيه لا تخييل ، إذ كما ترشّح الاستعارة يرشّح التّشبيه ، وكذلك المجاز المرسل كما في الحديث.

والحاصل إنّ التّرشيح لا يختصّ بالاستعارة التّصريحيّة ، بل يكون للتّشبيه ، ويكون للمجاز المرسل وللمجاز العقليّ ، ويكون للمكنّى عنها بعد وجود قرينتها الّتي هي التّخييليّة ، ويصحّ جعله في هذه الحالة ترشيحا للتّخييليّة الواقعة قرينة للمكنيّة ، لأنّها إمّا مصرّحة كما يقوله السّكّاكي ، أو مجاز عقليّ كما يقوله غيره ، وكلّ منهما يجوز ترشيحه.

(٦) أي قول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأزواجه : «أسرعكنّ لحوقا أطولكنّ يدا» ، فإنّ اليد مجاز مرسل عن النّعمة لصدورها عن اليد ، وقوله : «أطولكنّ» ترشيح لذلك المجاز ، لأنّه مأخوذ من الطّول بالفتح ، وهو الإنعام والإعطاء ، وذلك ملائم لليد الأصليّة ، لأنّ الإنعام إنّما

١٨٠