دروس في البلاغة - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٤

تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ)(١) (١) أي ضالا فهديناه] استعار الإحياء (٢) من معناه الحقيقي ، وهو جعل الشّيء حيّا للهداية الّتي هي الدّلالة على طريق يوصل إلى المطلوب ، والإحياء والهداية ممّا يمكن احتماعهما في شيء واحد. وهذا (٣) أولى من قول المصنّف : إنّ الحياة والهداية ممّا يمكن اجتماعهما في شيء واحد ، لأنّ المستعار منه هو الإحياء لا الحياة. ـ وإنّما (٤) قال نحو : أحييناه ، لأنّ الطّرفين في استعارة الميّت للضّالّ ممّا لا يمكن

________________________________________________________

(١) والشّاهد في أنّه شبّهت الهداية أوّلا بالإحياء ، بجامع أنّ كلا منهما فتح طريق للوصول إلى الغايات والمطالب ، ثمّ طوى ذكر المشبّه وأقيم لفظ المشبّه به مكانه وهو الإحياء ، وهكذا شبّه الضّلال بالموت في كون كلّ منهما فقدانا لوسيلة الوصول إلى المقاصد ، ثمّ طوى ذكر المشبّه وأقيم المشبّه به مكانه وهو الموت ، لكن عنواني الإحياء والهداية ممّا يجوز اجتماعهما في موضوع واحد يتّصف بالحياة والاهتداء ، بخلاف عنواني الموت والضّلال فإنّهما ممّا لا يجوز فيهما الاجتماع في شيء واحد ، لأنّ الميّت لا يتّصف بضلال ولا بهداية.

(٢) أي استعار هذا اللّفظ قوله : «للهداية» متعلّق باستعار ، أي استعار لها بعد تشبيه الهداية بمعنى الدّلالة على طريق يوصل إلى المطلوب بالإحياء.

(٣) أي تعبيرنا وقولنا : بالإحياء والهداية أولى من قول المصنّف في الإيضاح.

إنّما لم يحكم بفساد كلام المصنّف لاحتمال أن يكون مراده إيقاع الاستعارة بين لازمي الهداية والإحياء المتعدّيّين ، فالمراد من الهداية في كلامه ما هو المصدر المبني للمفعول وهو الاهتداء.

(٤) أي إنّما قال المصنّف في تمثيل كون الطّرفين في شيء ممّا يمكن نحو : أحييناه ، ولم يقل : نحو (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) حتّى يكون ميّتا داخلا في التّمثيل أيضا ، مع أنّ ميّتا مستعار للضّالّ ، كما أنّ (أحييناه) مستعار ل (هديناه) ، لأنّ الطّرفين في استعارة الميّت للضّالّ ممّا لا يمكن اجتماعهما في شيء ، إذ الميّت لا يوصف بالضّلال كما لا يوصف الضّلال بالميّت ، والمراد تمثيل ما يمكن اجتماعهما في شيء واحد ، فحينئذ لو قال : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) لما طابق المثال الممثّل ، فاقتصر على قوله : نحو أحييناه ليطابق المثال للممثّل ، وهو الاستعارة الّتي يمكن اجتماع الطّرفين في شيء واحد.

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٢٢.

١٢١

اجتماعهما في شيء ، إذ الميّت لا يوصف بالضّلال (١) [ولتسّم] (٢) الاستعارة الّتي يمكن اجتماع طرفيها في شيء [وفاقيّة] لما (٣) بين الطّرفين من الاتّفاق. [وإمّا ممتنع] عطف على ـ أمّا ممكن ـ [كاستعارة (٤) اسم المعدوم للموجود لعدم غنائه] هو (٥) بالفتح النّفع ، أي لانتفاء النّفع في ذلك الموجود كما في المعدوم ، ولا شكّ أنّ اجتماع الوجود والعدم في شيء ممتنع ، وكذلك استعارة اسم الموجود (٦) لمن عدم وفقد ، لكن بقيت آثاره الجميلة الّتي تحيي ذكره ، وتديم في النّاس اسمه

________________________________________________________

(١) أي لأنّ المراد بالضّلال الكفر وهو جحد الحقّ ، والجحد لا يقع من الميّت لانتفاء شرطه وهو الحياة ، ولا يمكن اجتماع الموت والضّلال في شيء ، فإنّ الموت هو انعدام الحياة والضّلال هو سلوك طريق لا يوصل إلى المطلوب ، ومن المعلوم أنّ اجتماع السّلوك وعدم الحياة ممتنع.

(٢) أي قوله : «لتسمّ» أمر غائب مبني للمفعول.

(٣) أي قوله : «لما بين الطّرفين» علّة لتسميته بالوفاقيّة ، وكان الأولى أن يقول : لما بين الطّرفين من الوفاق ، لأنّ المفاعلة على بابها ، إذ كلّ من الطّرفين وافق صاحبه في الاجتماع معه في موصوف واحد.

(٤) أي كامتناع اجتماع الطّرفين في استعارة اسم المعدوم للموجود ، فيقال : رأيت معدوما يتحرّك ، أو نحو قولك : صعد المنبر اليوم المعدوم ، فشبّه الواعظ الّذي لا يعرف الشّعير من البرّ ، حيث لا نفع ولا فائدة في كلامه بالعدم ، واستعير العدم للوجود ، واشتقّ منه المعدوم بمعنى الموجود الّذي لا نفع فيه ، فهو استعارة عناديّة ، لامتناع اجتماع العدم والوجود في شيء واحد.

(٥) أي الغناء بفتح الغين المعجمة والمدّ ، معناه النّفع والفائدة ، وبكسر الغين معناه التّرنّم بالصّوت ، وبكسر الغين مع القصر معناه اليسار.

(٦) أي هذا عكس مثال المصنّف فيشبه عدم الشّيء مع بقاء آثاره الجميلة بوجود ويستعار الوجود للعدم ويشتقّ من الوجود موجود بمعنى معدوم بقيت آثاره الجميلة فهو استعارة عناديّة أيضا لامتناع الوجود والعدم في شيء واحد.

١٢٢

[ولتسمّ] الاستعارة الّتي لا يمكن اجتماع طرفيها في شيء [عناديّة] لتعاند (١) الطّرفين وامتناع اجتماعهما.

[ومنها] أي من العناديّة الاستعارة [التّهكّميّة (٢) والتّمليحيّة (٣) ، وهما ما استعمل في ضدّه] أي الاستعارة الّتي استعملت في ضدّ معناها الحقيقي [أو نقيضه لما مرّ] أي لتنزيل التّضادّ أو التّناقض (٤) منزلة التّناسب بواسطة تمليح أو تهكّم (٥) على ما سبق تحقيقه في باب التّشبيه [نحو : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(١)] (٦) أي أنذرهم ، أستعيرت البشارة الّتي هي الإخبار بما يظهر سرورا في المخبر به للإنذار الّذي هو ضدّه بإدخال الإنذار في جنس البشارة على سبيل التّهكّم والاستهزاء ، وكقولك : رأيت أسدا ، وأنت تريد جبانا على سبيل التّمليح والظّرافة.

________________________________________________________

(١) أي قوله :

«لتعاند الطّرفين» علّة لتسمية الاستعارة بالعناديّة ، لأنّ طرفيها يتعاندان ولا يجتمعان في شيء واحد.

(٢) أي وهي ما كان الغرض منها التّهكّم والهزء والسّخريّة.

(٣) أي وهي ما كان الغرض منها إتيان القبيح بصورة شيء مليح ، أي شيء حسن ليستلذّ السّامع بذلك.

(٤) أي الفرق بين التّضادّ والتّناقض ، أنّ الضّدين لا يجتمعان ولكن قد يرتفعان ، وأمّا النّقيضان فلا يجتمعان ولا يرتفعان ، بل يلزم وجود أحدهما كاللّيل والنّهار.

(٥) أي الفرق بين التّهكّم والتّمليح من جهة أنّه إن كان الغرض الحامل على استعمال اللّفظ في ضدّ معناه الحقيقي الاستهزاء والسّخريّة فهو تهكّم ، وإن كان الغرض الحامل على ذلك بسط السّامعين وإزالة السّآمة عنهم بواسطة الإتيان بشيء مليح مستظرف فهو تمليح.

(٦) والشّاهد في الآية أنّه نزّل التّضادّ منزلة التّناسب ، فشبّه الإنذار بالبشارة بجامع إدخال السّرور في كلّ ، وإن كان تنزيليّا بالنّسبة إلى المشبّه ، واستعير اسم البشارة للإنذار بسبب إدخال الإنذار في جنس البشارة ، واشتقّ من البشارة بشّر بمعنى أنذر على طريق الاستعارة التّصريحيّة التبعيّة التّهكّميّة أو التّمليحيّة.

__________________

(١) سورة التّوبة : ٣٤.

١٢٣

ولا يخفى (١) امتناع اجتماع التبشير والإنذار من جهة واحدة ، وكذا الشّجاعة والجبن.

[و] الاستعارة [باعتبار الجامع] (٢) أي ما قصد (٣) اشتراك الطّرفين فيه [قسمان : لأنّه] أي الجامع [إمّا داخل في مفهوم (٤) الطّرفين] المستعار والمستعار منه.

[نحو] قوله عليه الصّلاة والسّلام : خير النّاس رجل ممسك بعنان (٥) فرسه [كلّما سمع هيعة طار (٦) إليها] ،

________________________________________________________

(١) أي هذا بيان لكون الاستعارة في قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ) عناديّة إذ لا يمكن اجتماع التبشير والإنذار من جهة واحدة بحيث يكون المبشّر به هو المنذر به ، والمبشّر هو المنذر ، وكذا لا يمكن اجتماع الشّجاعة والجبن من جهة واحدة.

(٢) أي وقد يقال : ينبغي أن تكون الاستعارة باعتبار الجامع أربعة أقسام لأنّه إمّا داخل في مفهوم الطّرفين ، أو خارج عنهما ، أو داخل في مفهوم أحدهما وخارج عن مفهوم الآخر ، ويمكن أن يقال : إنّ المصنّف أراد الاختصار ، حيث تندرج الأقسام الأربعة في القسمين.

(٣) أي الّذي يسمّى في التّشبيه وجه الشّبه ، لأنّه سبّب للتّشبيه ، وسمّوه هنا جامعا ، لأنّه أدخل المشبّه تحت جنس المشبّه به ادّعاء ، وجمعه مع إفراد المشبّه به تحت مفهومه.

(٤) أي بأن يكون جزء من مفهوم الطّرفين ، لكونه جنسا أو فصلا لذلك المفهوم.

(٥) أي العنان بكسر العين هو اللّجام.

(٦) أي عدّا إليها فشبّه العدو الّذي هو قطع المسافة بسرعة في الأرض بالطّيران الّذي هو قطع المسافة بسرعة في الهواء ، واستعار اسم المشبّه به للمشبّه ، واشتقّ من الطّيران طار بمعنى عدا ، والجامع قطع المسافة بسرعة ، وهو داخل في مفهوم كلّ من المستعار له وهو العدو والمستعار منه وهو الطّيران ، لأنّه جنس لكلّ منهما ، وفصل العدو المميّز له عن الطّيران كونه في الأرض ، كما أنّ الفصل المميّز للطّيران كونه في الهواء ، وإسناد الطّيران في الحديث للرّجل مجاز عقلي ، والأصل طار فرسه بسعيه.

١٢٤

أو (١) رجل في شعفة في غنيمة له يعبد الله حتّى يأتيه الموت ، قال جار الله : الهيعة الصّيحة (٢) الّتي يفزع منها ، وأصلها من هاع يهيع إذا جبن (٣) ، والشّعفة رأس الجبل ، والمعنى خير النّاس رجل أخذ بعنان فرسه واستعدّ (٤) للجهاد في سبيل الله ، أو رجل اعتزل النّاس وسكن في رؤوس بعض الجبال في غنم له قليل (٥) يرعاها ، أو يكتفي بها في أمر معاشه ، ويعبد الله حتّى يأتيه الموت ، واستعار الطّيران للعدو ، والجامع داخل في مفهومهما [فإنّ الجامع (٦) بين العدو والطّيران هو قطع المسافة بسرعة وهو داخل فيهما] ، أي في مفهوم العدو والطّيران ، إلا أنّه (٧) في الطّيران أقوى منه في العدو.

________________________________________________________

(١) أي أو في قوله : «أو رجل» للتّقسيم ، فخير النّاس مقسم لهذين القسمين وليست للتّرديد والشّعفة بفتح الشّين المعجمة وتحريك العين المهملة وبعدها فاء بمعنى رأس الجبل ، و «في» في قوله : «في غنيمة» بمعنى مع غنيمة تصغير غنم ، أي قطعة قليلة.

(٢) أي الصّيحة هي الصّوت المفزع ، أي الموجب للفزع والخوف ، فقوله : «الّتي يفزع منها» أي يخاف من أجلها.

(٣) أي فالهيعة في الأصل معناها الجبن ، واستعمالها في الصّيحة مجاز مرسل ، من باب استعمال اسم المسبّب في السّبب ، وذلك لأنّ الصّيحة لمّا أوجبت الخوف الّذي هو الجبن سمّيت باسمه ، وهو الهيعة.

(٤) أي بحيث إذا سمع أصوات المسلمين المجاهدين عند المحاربة والمقاتلة قدّم لهم بسرعة ، وأخذ قوله : «واستعدّ للجهاد» من قوله : «ممسك بعنان فرسه» فهو كناية عن الاستعداد للجهاد لاستلزامه إيّاه.

(٥) أي القلّة مستفادة من التّصغير ، أي غنيمة.

(٦) أي الجامع بين العدو الّذي هو المستعار له وبين الطّيران الّذي هو المستعار منه ، أعني قطع المسافة بسرعة داخل فيهما ، لأنّه جنس من مفهوم كلّ منهما ، لأنّ الطّيران قطع المسافة بسرعة في الهواء ، والعدو قطع المسافة بسرعة في الأرض.

(٧) أي إلّا أنّ الجامع الّذي هو قطع المسافة بسرعة في الطّيران أقوى منه في العدو ، فلذا جعل الطّيران مشبّها به والعدو مشبّها ، لوجوب كون المشبّه به أقوى من المشبّه في وجه الشّبه الّذي هو الجامع.

١٢٥

والأظهر (١) أنّ الطّيران هو قطع المسافة بالجناح ، والسّرعة لازمة له في الأكثر لا داخلة في مفهومه ، فالأولى أن يمثّل باستعارة التّقطيع (٢) الموضوع لإزالة الاتّصال بين الأجسام الملتزقة بعضها ببعض لتفريق الجماعة ، وإبعاد بعضها عن بعض في قوله تعالى : (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ)(١) (٣) ، والجامع إزالة الاجتماع الدّاخلة في مفهومهما ، وهي (٤) في القطع أشدّ.

________________________________________________________

(١) أي هذا اعتراض من الشّارح على المصنّف ، وحاصل الاعتراض أنّ ما ذكره المصنّف من أنّ الجامع ، أعني قطع المسافة بسرعة ، داخل في مفهوم الطّرفين أعني الطّيران والعدو غير صحيح ، لأنّ الجامع داخل في مفهوم العدو دون الطّيران ، لأنّ الطّيران هو قطع المسافة بالجناح والسّرعة لازمة له في الأكثر ، أي بالنّظر إلى الغالب إذ قد يكون الطّيران قطع المسافة بالجناح من غير سرعة ، فالسّرعة غير داخلة في مفهومه ، بحيث إنّه لا يوجد بدونها ، بخلاف العدو فإنّ السّرعة داخلة في مفهومه ، وحينئذ فلا يتمّ ما قاله المصنّف من التّمثيل.

ثمّ تعبير الشّارح بالأظهر إشارة إلى إمكان الجواب عن الاعتراض المذكور بأنّ الجامع يمكن أن يكون قطع المسافة لا قطع المسافة بسرعة ، ولا شكّ أنّ قطع المسافة داخل في مفهوم الطّرفين ، ولهذا قال فالأولى أنّ يمثل ...

(٢) أي هذا اللّفظ الموضوع لإزالة الاتّصال ... أي استعارة هذا اللّفظ لتفريق الجماعة وإبعاد بعضها عن بعض ، أي الموضوع لإزالة الاجتماع بقيد كون الأشياء المجتمعة غير ملتزق بعضها ببعض.

(٣) والشّاهد في ذكر القطع وإرادة التّفريق ، والجامع وهو إزالة الاجتماع داخل في مفهومهما.

(٤) أي إزالة الاجتماع في القطع أشد وأقوى لتأثير الاتّصال الأشدّ ، وبيان الاستعارة في الآية أن يقال اعتبر تشبيه التّفريق بالتّقطيع بجامع إزالة الاجتماع في كلّ واحد منهما ، واستعير التّقطيع للتّفريق ، واشتقّ من التّقطيع قطعنا بمعنى فرّقنا ، فهي استعارة تصريحيّة تبعيّة.

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٦٨.

١٢٦

والفرق (١) بين هذا وبين إطلاق المرسن على الأنف ، مع أنّ في كلّ من المرسن والتّقطيع خصوص وصف ليس في الأنف ، وتفريق الجماعة هو أنّ خصوص الوصف الكائن في التّقطيع مرعيّ وملحوظ في استعارته لتفريق الجماعة ، بخلاف خصوص الوصف في المرسن.

والحاصل (٢) إنّ التّشبيه ههنا منظور بخلافه (٣) ثمّة.

________________________________________________________

(١) أي قوله :

والفرق جواب عن سؤال مقدّر ، وتقرير السّؤال كيف جعلوا إطلاق التّقطيع على تفريق الجماعة استعارة! وإطلاق المرسن على أنف الإنسان مجازا مرسلا! مع اشتراك التّقطيع والمرسن الّذي هو اسم لمحلّ الرّسن في وصف ليس ذلك في المعنى المجازي ، وذلك أنّه قد اعتبر في كلّ من المعنى الحقيقي للتّقطيع والمرسن وصف خاصّ به غير موجود في المعنى المستعمل فيه اللّفظ مجازا ، وهو في المرسن التّسطيح في أنف البهيمة يجعل فيه الرّسن ، وفي التّقطيع إزالة الاتّصال بين الأجسام الملتزق بعضها ببعض ، وليس ذلك الوصف الّذي هو في المرسن في الأنف ولا الّذي هو في التّقطيع في تفريق الجماعة ، فلماذا جعل إطلاق التّقطيع على تفريق الجماعة استعارة؟

وإطلاق المرسن على أنف الإنسان مجازا مرسلا؟ بل الحقّ أن يجعل كلّ منهما مجازا مرسلا أو استعارة لعدم الفرق بينهما.

وحاصل الجواب هو الفرق بينهما ، وملخّص الفرق بينهما أنّ العلاقة المعتبرة في المجاز إن كانت مشابهة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي يسمّى استعارة ، وإن كانت غير المشابهة يسمّى مجازا مرسلا ، ثمّ العلاقة بين التّقطيع والتّفريق هي المشابهة كما عرفت ، وهي بين المرسن بمعنى محلّ الرّسن من أنف الدّابّة ، وبين أنف الإنسان هي الإطلاق والتّقييد ، حيث استعمل اسم المقيّد في المطلق ، فلذا كان مجازا مرسلا من باب إطلاق المقيّد على المطلق ، وقوله : «هو أنّ خصوص» خبر عن قوله : «والفرق».

(٢) أي وحاصل الفرق بين التّقطيع والمرسن أنّ المشابهة الّتي هي علاقة الاستعارة ملحوظة في استعارة التّقطيع لتفريق الجماعة.

(٣) أي بخلاف استعمال المرسن في الأنف حيث إنّ التّشبيه غير ملاحظ فيه ، بل لوحظ فيه الإطلاق والتّقييد حيث استعمل اسم المقيّد في المطلق فكان مجازا مرسلا.

١٢٧

فإن قلت (١) : قد تقرّر في غير هذا الفنّ أنّ جزء الماهية لا يختلف بالشّدّة والضّعف ، فكيف يكون جامعا؟ والجامع يحب أن يكون في المستعار منه أقوى. قلت : امتناع الاختلاف إنّما هو في الماهية الحقيقيّة ، والمفهوم لا يجب أن يكون ماهية حقيقيّة ، بل قد يكون أمرا مركّبا من أمور بعضها قابل للشّدّة والضّعف ، فيصحّ كون الجامع داخلا في مفهوم الطّرفين مع كونه في أحد المفهومين أشدّ وأقوى ، ألا ترى أنّ السّواد جزء من مفهوم (٢) الأسود ، أعني المركّب من السّواد والمحلّ (٣) مع اختلافه (٤) بالشّدّة والضّعف.

[وأمّا غير داخل] (٥) عطف على ـ إمّا داخل ـ [كما مرّ] من استعارة الأسد للرّجل

________________________________________________________

(١) أي هذا اعتراض على قول المصنّف : «لأنّ الجامع إمّا داخل في مفهوم الطّرفين».

وحاصل الاعتراض : إنّ الحكم بدخول الجامع في الطّرفين مخالف لما تقرّر في فنّ الحكمة من أنّ جزء الماهية لا يختلف بالشّدّة والضّعف ، ومعلوم أنّ الجامع في الاستعارة يجب أن يكون في المستعار منه أقوى منه في المستعار له ، فالدّخول في مفهوم الطّرفين يقتضي عدم التّفاوت ، وكونه جامعا يقتضي التّفاوت ، وليس هذا إلّا الجمع بين متناقضين وهو باطل ، فما أدّى إلى ذلك أعني كون الجامع داخلا في مفهوم الطّرفين باطل.

وحاصل الجواب :

إنّ امتناع الاختلاف بالشّدّة والضّعف في أجزاء الماهية ليس مطلقا ، بل بالنّسبة إلى الماهية الحقيقيّة ، وهي المركّبة من الذّاتيات لا الماهية الاعتباريّة الّتي اعتبروا لها مفهومها مركّبا من أمور غير ذاتيات لها ، ثمّ الماهية من اللّفظ قد تكون حقّيقيّة وقد تكون اعتباريّة مركّبة من أمور ، بعضها قابل للشّدّة والضّعف ، فيصحّ كون الجامع داخلا في مفهوم الطّرفين مع كون أحدهما أشدّ.

(٢) أي الأسود شيء ثبت له السّواد فالسّواد جزء من مفهوم الأسود وداخل فيه ، مع أنّه يقبل الشّدّة والضّعف ، فصحّ كون الجامع في أحد الطّرفين أقوى من الآخر.

(٣) أي الذّات ، فمفهوم الأسود مركّب من أمرين : الجوهر الّذي هو الذّات ، والعرض الّذي هو وصف السّواد.

(٤) أي مع اختلاف السّواد بالشّدّة والضّعف.

(٥) أي غير داخل في مفهوم الطّرفين ، وهذا صادق على ثلاثة أقسام :

١٢٨

الشّجاع ، والشّمس للوجه المتهلّل (١) ، ونحو ذلك ، لظهور أنّ الشّجاعة عارض (٢) للأسد لا داخل في مفهومه ، وكذا (٣) التّهلّل للشّمس. [وأيضا] للاستعارة تقسيم آخر باعتبار الجامع وهو أنّها (٤) [أمّا عامّيّة ، وهي المبتذلة (٥) لظهور الجامع فيها ، نحو : رأيت أسدا يرمي (٦) ، أو خاصّة (٧) وهي الغريبة (٨)] الّتي لا يطّلع عليها إلّا الخاصّة الّذين أوتوا ذهنا ، به ارتفعوا عن طبقة العامّة.

________________________________________________________

الأوّل : بأن يكون الجامع خارجا عن مفهومهما معا.

والثّاني : أن يكون خارجا عن مفهوم المشبّه فقطّ.

والثّالث : أن يكون خارجا عن مفهوم المشبّه به فقطّ.

(١) أي المتلألئ أي المتنوّر ، ففي مختار اللّغة تلألأ السّحاب ببرقه ، وتهلّل وجه الرّجل من فرحه ، أي تلألأ وتنوّر.

(٢) أي الشّجاعة عارض للأسد ، كما أنّه عارض للرّجل الشّجاع ، لأنّ المشبّه ذات الرّجل بالشّجاعة ، والمشبّه به هو الحيوان المقيّد بها أيضا ، والقيد خارج عن المقيّد.

(٣) أي كذا التهلّل للشّمس ، أي للوجه ، فالجامع في المثالين خارج عن الطّرفين.

(٤) أي الاستعارة إمّا عاميّة ، أي يدركها عامّة النّاس ، فإنّهم يفهمون أنّ وجه الشّبه بين الأسد والرّجل الشّجاع هو الشّجاعة ، أي الجرأة ، لأنّه واضح يدركه كلّ أحد لاشتهار الأسد بالجرأة ، فعاميّة نسبة للعامّة ، كما أنّ الخاصّيّة نسبة للخاصّة.

(٥) أي المبتذلة من البذلة ، وهي المهنة ، فكأنّ الاستعارة لمّا بلغت إلى حدّ تستعمله العامّة صارت ممتهنة مبتذلة ، أي معلومة لكلّ أحد.

(٦) أي فإنّ الأسد في المثال المذكور مستعار للرّجل الشّجاع ، والجامع بينهما هو الجرأة أمر واضح يدركه كلّ أحد لاشتهار الأسد بها.

(٧) أي لا يعرفها إلّا الخواصّ من النّاس ، وهم الّذين أوتوا ذهنا صافيا ، به ارتفعوا عن طبقة العامّة.

(٨) أي البعيدة عن العامّة ، قوله : «الّتي لا يطّلع عليها ...» بيان للغريبة ، أي وهي الّتي لا يطّلع عليها إلّا الخاصّة ... فيكون قوله : «الّتي ...» خبرا لمحذوف ، لا أنّه وصف مخصّص.

١٢٩

[والغرابة قد تكون (١) في نفس الشّبه]. بأن يكون تشبيها فيه نوع غرابة ، [كما في قوله :] (٢) في وصف الفرس بأنّه مؤدّب ، وأنّه إذا نزل صاحبه عنه وألقى عنانه في قربوس (٣) سرجه وقف مكانه إلى أن يعود إليه ، [وإذا احتبى (٤) قربوسه] أي مقدّم سرجه [بعنانه (٥) علك (٦) الشّكيم إلى انصراف الزّائر (٧)] الشّكيم والشّكيمة هي الحديدة المعترضة (٨) في فم الفرس ، وأراد بالزّائر نفسه ،

________________________________________________________

(١) أي أشار بهذا إلى أنّ الغرابة في الاستعارة كما تكون بخفاء الجامع بين الطّرفين بحيث لا يدركه إلّا المتّسع في الحقائق والدّقائق ، المحيط علما بما لا يمكن لكلّ أحد ، تكون أيضا بالغرابة في نفس الشّبه ، أي إيقاع المشابهة بين الطّرفين فقوله : «في نفس الشّبه» أي في التّشبيه نفسه لا في وجه الشّبه ، كما يدلّ عليه قول الشّارح بأن يكون تشبيها فيه نوع غرابة.

(٢) أي قول يزيد بن مسلمة بن عبد الملك.

(٣) أي القربوس محرّكة لا يسكن إلّا لضرورة ، وهو حشو السّرج كما في القاموس ، وقيل :

القربوس بفتح الرّاء هو مقدّم السّرج ، فلا حاجة إلى حذف مضاف ، أي مقدّم السّرج ، كما يتوهّم من عبارة الشّارح ، وكيف كان فهو اسم عجميّ غير منصرف للعلميّة والعجميّة.

(٤) أي قال في المصباح حبا الصّغير يحبو حبوا ، إذا دحرج على بطنه ، إلى أن قال :

واحتبى الرّجل جميع ظهره وساقيه بثوب أو غيره.

(٥) أي بلجامه.

(٦) أي مضغ دالاك الشّكيم.

(٧) أي المراد بالزّائر نفسه أي نفس القائل لا شخص آخر ، والأصل إلى انصرافي ، فعبّر عن نفسه بالزّائر للدّلالة على كمال تأدبّه ، حيث يقف مكانه وإن طال مكثه ، كما هو شان الزّائر للحبيب.

(٨) أي المدخلة في فم الفرس مجعولا في ثقبتها الحلقة الجامعة لذقن الفرس إلى تلك الحديدة.

١٣٠

شبّه (١) هيئة وقوع العنان في موقعه من قربوس السّرج ممتدّا إلى جانبي فم الفرس بهيئة وقوع الثّوب في موقعه من ركبتي المحتبي ممتدّا إلى جانبي ظهره ، ثمّ استعار الاحتباء وهو أن يجمع الرّجل ظهره وساقيه بثوب أو غيره ، لوقوع العنان في قربوس السّرج ، فجاءت الاستعارة غريبة لغرابة الشّبه (٢) [وقد تحصل (٣)] أي الغرابة

________________________________________________________

(١) أي الشّاهد في أنّ الشّاعرة «شبّه هيئة وقوع العنان» ، أي شبّهت الهيئة الحاصلة من وقوع العنان في موضعه من قربوس السّرج بالهيئة الحاصلة من وقوع الثّوب في موضعه من ركبتي المحتبي ، ووجه الشّبه هو هيئة إحاطة شيء لشيئين ضامّا أحدهما إلى الآخر على أن يكون أحدهما أعلى والآخر أسفل ، واستعير الاحتباء وهو ضمّ الرّجل ظهره وساقيه بثوب وشبهه ، لإلقاء العنان وقوعه في قربوس السّرج لأجل ضمّ رأس الفرس إلى جهته ، واشتقّ من الاحتباء احتبى بمعنى وقع على طريق الاستعارة التّصريحيّة التبعيّة ، والكلام في هذا المقام طويل تركناه رعاية للاختصار.

والشّاهد في غرابة تشبيه الهيئة بالهيئة ، حيث إنّ لاجتماع ظهر الرّجل وساقيه بثوبه هيئة ، وهذه الهيئة مستعار منه ، ولاجتماع قربوس السّرج بعنانه أيضا هيئة ، وهذه الهيئة مستعار له ، والجامع بينهما هي الهيئة فيها الغرابة.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ الشّاعر أوقع المقابلة والتّشبيه بين وقوع العنان على القربوس وبين وقوع الثّوب على الرّكبة ، فكلاهما عاليان ، وأوقع أيضا المقابلة بين جانبي فم الفرس وبين جانبي الظّهر ، فكلاهما سافلان ، فتكون الرّكبتان بمنزلة القربوس ، والظّهر بمنزلة فم الفرس.

(٢) أي وجه الغرابة في هذا الشّبه أنّ الانتقال إلى الاحتباء الّذي هو المشبّه به عند استحضار إلقاء العنان على القربوس للفرس في غاية النّدور ، لأنّ أحدهما من وادي الرّكوب والآخر من وادي القعود ، مع ما في الوجه من دقّة التّركيب ، وكثرة الاعتبارات الموجبة لغرابة إدراك وجه الشّبه ، وبعده عن الأذهان.

(٣) أي قوله : «وقد تحصل ...» عطف على قوله سابقا : «قد تكون» أي إنّ الغرابة قد تكون في نفس التّشبيه ، وقد تحصل بتصرّف في الاستعارة ، أي ذلك التّصرف هو أن يضمّ إلى تلك الاستعارة تجوّز آخر لطيف اقتضاه الحال.

١٣١

[بتصرّف في] الاستعارة [العامّيّة ، كما في قوله (١):] أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا [وسالت بأعناق المطى الأباطح (٢)] جمع أبطح وهو مسيل الماء فيه دقاق الحصى ، استعار سيلان السّيول الواقعة في الأباطح لسير (٣) الإبل سيرا حثيثا في غاية السّرعة المشتملة على لين وسلاسة ، والشّبه (٤) فيها ظاهر عامي لكن قد تصرف فيه بما أفاد اللطّف والغرابة [إذا أسند الفعل (٥)] أعني سالت [إلى الأباطح دون المطي] وأعناقها ، حتّى أفاد (٦) أنّه امتلأت الأباطح من الإبل.

________________________________________________________

(١) أي كثير عزّة من شعراء الدّولة الأمويّة ، وهو أبو صخر بن عبد الرّحمن بن أبي جمعة الخزاعي الشّاعر المشهور.

(٢) أي «الأباطح» فاعل لقوله : «سالت».

(٣) أي «لسير» متعلّق بقوله : «استعار» ، والشّاهد في أنّ الشّاعر استعار سيلان السّيول الواقعة في الأباطح لسير الإبل ، وجه الشّبه فيها ظاهر ، أي وهو غاية السّرعة واللّين والسّلاسة ، يقال : شيء سلس ، أي سهل ، ورجل سلس ، أي ليّن ، فالمستعار هنا هو «سالت» والمستعار منه هو سيلان السّيول ، والمستعار له هو سير الإبل ، والجامع هو غاية السّرعة ، فوجه الشّبه ظاهر عامي إلّا أنّ الشّاعر قد تصرّف فيه بما أفاد اللطّف والغرابة ، وقد أشار إلى التّصرف الموجب للغرابة بقوله : «إذا أسند الفعل إلى الأباطح».

(٤) أي ووجه الشّبه وهو قطع المسافة بسرعة «عامّي» أي يعرفه الخاصّة والعامّة.

(٥) أي أسند الفعل مجازا ، أي «سالت» المستعار لسارت إلى الأباطح دون المطي ، مع أنّه كان من حقّه أنّ يسند إلى المطي ، أو إلى أعناقها.

(٦) أي أفاد ذلك الإسناد أنّ الأباطح امتلأت من الإبل ، وذلك لأنّ نسبة الفعل الّذي هو صفة الحالّ إلى المحلّ تتغيّر بشيوعه في المحلّ ، وإحاطته بكلّه.

وتوضيح ذلك : إنّ السّيلان المستعار للسّير حقّه أن يسند إلى المطي ، لأنّها هي الّتي تسير فأسنده الشّاعر إلى الأباطح الّتي هي محلّ السّير ، فإسناد الفعل إلى المحلّ إشارة إلى كثرة الإبل ، وأنّها ملأت الأباطح ، لأنّ نسبة الفعل الّذي هو صفة الحالّ إلى المحلّ تشعر بشيوع الحالّ في المحلّ وإحاطته بكلّه ، فلا يقال : سارت الأباطح إلّا إذا امتلأت بالسّائر فيها ، لأنّه قد جعل كلّ محلّ منها سائرا لاشتماله على ما هو سائر فيه.

١٣٢

كما في قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً)(١) (١) [وأدخل الأعناق في السّير (٢)] لأنّ السّرعة (٣) والبطء في سير الإبل يظهران غالبا في الأعناق

________________________________________________________

(١) حيث نسب الاشتعال إلى الرّأس لا إلى الشّيب الّذي فيه إشعارا بأنّ الشّيب قد ملأ الرّأس ، فترى الرّأس كلّه بياضا ، ولا يقال : اشتعل الرّأس شيبا إلّا إذا انتشر شيب الرّأس ، وظهر ظهورا تامّا ، ففيه إسناد الاشتعال الّذي هو وصف للشّعر الحالّ في الرّأس إلى محلّه وهو الرّأس ، لإفادة استغراق الحالّ وشيوعه ، حتّى صار كأنّه المحلّ.

وكان الكلام من قبيل الاستعارة بالكناية أو التّخييليّة ، حيث شبّه المشيب شواظ النّار تشبيها مضمرا في النّفس ، وجعل إثبات الاشتعال للمشيب قرينة للتّشبيه المضمر ، وإثبات الاشتعال استعارة تخييليّة.

(٢) أي أراد بإدخالها في السّير جرّها بباء الملابسة المقتضية لملابسة الفعل لها ، وإنها سائرة ، لأنّ مرجع الملابسة إلى الإسناد مجاز عقليّ ، وحينئذ فيكون السّيل مسندا للأعناق تقديرا ، وذلك الإسناد مجاز عقليّ.

وحينئذ ففي الكلام مجازان عقليّان : لفظيّ وهو إسناد السّيل إلى الأباطح ، وتقديريّ وهو إسناده إلى الأعناق.

فالبيت مشتمل على ثلاثة مجازات : أحدها مجاز بالاستعارة ، والآخران مجازان عقليّان ، فلمّا أضاف إلى الاستعارة هذين مجازين صارت الاستعارة غريبة.

(٣) أي قوله : «لأنّ السّرعة والبطء ...» علّة لمحذوف ، أي وإنّما أدخل الأعناق في السّير ، وأسنده لها تقديرا ، لأنّ سرعة السّير وبطأه يظهران غالبا فيها ، لأنّ الإبل إذا سرحت أعناقها ولم تتجاوز جهة الأمام في النّظر ، فهي قد جدّت في سيرها ، وإذا كانت ميّلتها إلى اليمين واليسار ، فقد تباطأت في سيرها ، ولم تعزم عليه.

وكيف كان فأعناقها هي سبب في فهم سرعة السّير وبطئه ، فصارت كأنّها سبب لوجود السّير ، وحينئذ فإسناد السّير تقديرا إلى الأعناق من باب إسناد الشّيء إلى ما ـ هو كالسّبب فيه.

والحاصل : إنّ الشّاعر استعار سيل الماء لسير الإبل في المحلّ الّذي فيه دقيق الحصى

__________________

(١) سورة مريم : ٤.

١٣٣

ويتبيّن أمرهما (١) في الهوادي (٢) وسائر الأجزاء تستند إليها في الحركة ، وتتبعها في الثّقل والخفّة (٣). [و] الاستعارة [باعتبار الثّلاثة (٤)] المستعار منه والمستعار له والجامع [ستّة أقسام] ، لأنّ المستعار منه والمستعار له إمّا حسّيّان ، أو عقليّان ، أو المستعار منه حسّيّ والمستعار له عقليّ ، أو بالعكس ، تصير أربعة ، والجامع في الثّلاثة الأخيرة (٥) عقليّ لا غير ، لما سبق (٦) في التّشبيه لكنّه (٧) في القسم الأوّل إمّا حسّيّ ، أو عقليّ ، أو مختلف ، تصير ستّة (٨).

________________________________________________________

استعارة مبتذلة لكثرة استعمالها ، ثمّ أضاف إليها ما أوجب غرابتها من المجازين العقليّين اللذّين عرفتهما.

(١) أي أمر السّرعة والبطء.

(٢) أي الهوادي هي جمع هادية وهي العنق ، يقال : أقبلت هوادي الخيل إذا بدت أعناقها ، وسمّيت الأعناق هوادي ، لأنّ البهيمة تهتدي بعنقها إلى الجهة الّتي تميل إليها.

(٣) أي ثقل السّير وخفّته.

(٤) أي بعد اعتبار حال الطّرفين ، أعني المشبّه والمشبّه به وحال الجامع أعني وجه الشّبه تحصل ستّة أقسام كما بينه الشّارح ، وإن كان تقسيم كلّ واحد في نفسه يوجب أنّ تكون سبعة ، لأنّ أقسام الطّرفين أربعة وأقسام الجامع ثلاثة.

(٥) أي كون الطّرفين عقليّين ، أو أحدهما عقليّا ، أعمّ من أن يكون هو المستعار منه أو المستعار له.

(٦) أي من أنّ وجه الشّبه المسمّى هنا بالجامع أمر مأخوذ من الطّرفين ، فلا بدّ أن يقوم بهما معا ، فإذا كان الطّرفان أو أحدهما عقليّا وجب كون الجامع عقليّا ، وامتنع كونه حسّيّا لاستحالة قيام الحسّي بذلك العقليّ منهما ، أو من أحدهما ، لأنّ المدرك بالحسّ لا يكون إلّا حسّيّا أو قائما بالحسّيّ.

(٧) أي لكنّ الجامع في القسم الأوّل ، أي فيما كان طرفاه حسّيّين على ثلاثة أقسام إمّا حسّيّ صرف ، وإمّا عقليّ كذلك ، أو مركّب منهما ، أي بعضه عقليّ وبعضه الآخر حسّيّ.

(٨) أي لأنّ القسم الأوّل باعتبار الجامع ثلاثة أقسام ، والأقسام بعده ثلاثة فالمجموع ستّة ، وحاصلها أنّ الطّرفين إن كانا حسّيّين فالجامع إمّا حسّيّ ، أو عقليّ ، أو بعضه حسّيّ وبعضه الآخر عقليّ ، فهذه ثلاثة ، وإن كانا غير حسّيّين فإمّا أن يكونا عقليّين أو المستعار منه حسّيّا

١٣٤

وإلى هذا (١) أشار بقوله : [لأنّ الطّرفين إن كانا حسّيّيّن فالجامع إمّا حسّيّ ، نحو : (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ)(١) (٢) فإنّ المستعار (٣) منه ولد البقرة والمستعار له الحيوان الّذي خلقه الله تعالى من حليّ القبط (٤)] الّتي سبكتها (٥) نار السّامري عند إلقائه في تلك الحليّ التّربة (٦) الّتي أخذها من موطئ (٧) فرس جبرائيل عليه‌السلام [والجامع الشّكل (٨)] فإنّ ذلك الحيوان كان على شكل ولد البقرة [والجميع] من المستعار منه والمستعار له والجامع [حسّيّ] أي مدرك بالبصر (٩).

________________________________________________________

والمستعار له عقليّا ، أو بالعكس ، فهذه ثلاثة أيضا ولا يكون الجامع فيها إلّا عقليّا.

(١) أي إلى انحصار الأقسام في هذه السّتة ، وإلى أمثلتها أشار بقوله.

(٢) أي فأخرج السّامري لبني إسرائيل عجلا ، أي ولد بقرة ، قوله : (خُوارٌ) بمعنى صوت البقرة ،

والشّاهد :

في أنّ الجامع في الآية حسّيّ ، وهو الشّكل ، أي شكل ولد البقرة مع حسّيّة الطّرفين.

(٣) أي فإنّ الّذي استعير منه لفظ العجل ولد البقرة ، لأنّه موضوع له.

(٤) أي القبط بكسر القاف وسكون الباء قبيلة فرعون من أهل مصر.

(٥) أي قوله :

«الّتي سبكتها» صفة للحليّ ، لأنّه اسم جنس ، والسّامري كان رجلا حدّادا في زمن نبيّنا موسى عليه‌السلام ، واسم ذلك الرّجل أيضا موسى منسوب لسامرة قبيلة بني إسرائيل.

(٦) أي التّربة هي لغة في التّراب.

(٧) أي من محلّ وطء فرس جبرائيل الأرض بحوافرها.

(٨) أي الصّورة الحاصلة في الحيوان وولد البقرة ، فإنّ ذلك الحيوان كان على شكل ولد البقرة كما يقال للصّورة المنقوشة على الجدار إنّه فرس بجامع الشّكل.

(٩) أي كلّ واحد منه هذه الثّلاثة يدرك بالبصر.

__________________

(١) سورة طه : ٨٨.

١٣٥

[وإمّا عقليّ نحو : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ)(١) (١) ، فإنّ المستعار منه (٢)] معنى (٣) السّلخ وهو [كشط الجلد عن نحو الشّاة ، والمستعار له كشف الضّوء عن مكان اللّيل (٤)] وهو موضع إلقاء ظلّه [وهما (٥) حسّيّان والجامع ما يعقل (٦) من ترتّب أمر على آخر] أي حصوله عقب حصوله دائما أو غالبا (٧) ،

________________________________________________________

(١) قوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ) أي وعلامة لهم على قدرة الله ، قوله : (نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) أي نكشف ونزيل عنه ، أي عن مكان ظلمته ، أي عن المكان الّذي فيه ظلمته ، فمن بمعنى عن الّتي للمجاوزة ، وفي الكلام حذف مضافين ، أي نسلخ منه ، أي ونزيل عن مكان ظلمته النّهار ، أي ضوء النّار فشبّه إزالة ضوء النّهار عن المكان الّذي فيه ظلمة اللّيل بكشط الجلد ، واستعير السّلخ للإزالة ، واشتقّ من السّلخ (نَسْلَخُ) بمعنى نزيل ، والجامع ترتّب أمر على آخر ، كترتّب ظهور اللّحم على السّلخ ، وترتّب حصول الظّلمة على إزالة ضوء النّهار ، والتّرتّب أمر عقليّ.

(٢) أي الّذي انتقل منه لفظ السّلخ.

(٣) أي معنى لفظ السّلخ.

(٤) أي مكان اللّيل موضع إلقاء ظلّ اللّيل ، والمراد بإلقاء الظّلّ ظهوره ، والمراد بظلّه ظلمته ، والمكان للظّلمة إمّا الهواء أو سطح الأرض على الخلاف فيه.

(٥) أي الكشط وكشف الضّوء أمران حسّيّان باعتبار الهيئة المحسوسة الحاصلة عندهما ، أو باعتبار متعلّقهما وهو اللّحم والضّوء ، وذلك كاف في حسّيّتهما وإلّا فالكشط والكشف مصدران ، والمعنى المصدري لا وجود له في الخارج ، فكيف يكونان محسوسين بالحواسّ الظّاهريّة؟

(٦) أي والجامع بين الطّرفين هو الأمر الّذي يدرك بالعقل ، وهو مطلق ترتّب أمر على آخر ، ولا شكّ أنّه في الأوّل ترتّب ظهور اللّحم على كشط الجلد ، وفي الثّاني ترتّب ظهور ظلمة اللّيل على كشف ضوء النّهار.

(٧) أي سواء كان حصوله عقب حصول الأمر الآخر دائما أو غالبا.

__________________

(١) سورة يس : ٣٧.

١٣٦

كترتّب (١) ظهور اللّحم على الكشط ، وترتّب ظهور الظّلمة على كشف الضّوء عن مكان اللّيل ، والتّرتّب (٢) أمر عقليّ. وبيان ذلك (٣) : إنّ الظّلمة هي الأصل (٤) والنّور (٥) طار عليها يسترها بضوئه (٦) ، فإذا غربت الشّمس فقد سلخ النّهار (٧) من اللّيل (٨) ، أي كشط وأزيل ، كما يكشط عن الشّيء الشّيء الطّارئ عليه السّاتر له ، فجعل ظهور الظّلمة (٩) بعد ذهاب ضوء النّهار

________________________________________________________

(١) أي راجع إلى قوله : «غالبا» ، وقوله : «وترتّب ظهور الظّلمة» راجع إلى قوله : «دائما» على نحو لفّ ونشر مشوّش ، وذلك فإنّ ترتّب ظهور اللّحم على الكشط ليس دائما ، لأنّه قد يكشط الجلد عن اللّحم بدسّ عود ونحوه بينهما ، بحيث لا يصير لازقا به من غير إزالة له عنه فقد وجد الكشط بدون ظهور اللّحم.

(٢) أي الترتّب مطلقا ، فلا فرق بين كشط الجلد وكشف الضّوء وغيرهما أمر عقليّ.

(٣) أي وبيان ترتّب ظهور الظّلمة على كشف الضّوء عن مكان اللّيل ، وقيل : أي وبيان التّشبيه بين كشط الجلد وكشف الضّوء عن مكان ظلمة اللّيل.

(٤) أي الظّلمة هي الأصل في كلّ حادث ، لأنّ الأصل عدم ظهوره وإنّما يظهر إذا طرأ الضّوء عليه.

(٥) أي والضّوء طار على الظّلمة.

(٦) أي وجعل الضّوء ساترا للظّلمة مبنيّ على أنّ الظّلمة وجوديّة ، وحيث كان الضّوء طارئا على الظّلمة يسترها ، كان كالجلد الطّارئ على عظام الشّاة ولحمها فيسترها.

(٧) أي أراد بالنّهار النّور والضّوء لا الزّمان المقدّر بحركة الفلك من طلوع الشّمس إلى غروبها.

(٨) أي عن مكان ظلمة اللّيل ، فمن بمعنى عن ، وفي الكلام حذف مضافين أي المكان المضاف إلى الظّلمة ، والظّلمة المضافة إلى اللّيل.

(٩) أي كان الأولى أن يقول :

فجعل إظهار الظّلمة كإظهار المسلوخ ، لأنّ السّلخ في الآية بمعنى الإظهار لكن لمّا كان تشبيه الإظهار بالإظهار مستلزما لتشبيه الظّهور بالظّهور اختار التّعبير به.

١٣٧

بمنزلة ظهور المسلوخ بعد سلخ إهابه (١) عنه ، وحينئذ (٢) صحّ قوله تعالى : (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ)(١) ، لأنّ الواقع (٣) عقب إذهاب الضّوء عن مكان اللّيل هو الإظلام. وأمّا على ما ذكر في المفتاح (٤) من أنّ المستعار له ظهور النّهار من ظلمة اللّيل ففيه إشكال ، لأنّ الواقع بعده (٥) إنّما هو الإبصار دون الإظلام.

________________________________________________________

(١) أي جلده ، قال في المصباح : الإهاب الجلد قبل أن يدبغ.

(٢) أي وحين إذ جعل السّلخ بمعنى كشف الضّوء ، أي نزعه وإزالته لا بمعنى ظهوره صحّ قوله تعالى : (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) ، أي داخلون في الظّلام.

(٣) أي قوله : «لأنّ الواقع» علّة لقوله : «صحّ» ، فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ علامة قدر الله أنّه جلّ جلاله يزيل ضوء النّهار ، فيظهر ظلمة اللّيل ، فيقع النّاس في الظّلام فلا يبصرون شيئا ، ولذلك قال جلّ شأنه : (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ).

(٤) أي قوله :

«وأمّا على ما ذكر في المفتاح» ، مقابل لمحذوف ، أي أمّا على ما ذكره المصنّف من أنّ المستعار له كشف ضوء النّهار وإزالته عن مكان ظلمة اللّيل ، فلا إشكال في قوله : (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) ، أي داخلون في الظّلام ، لأنّ الواقع عقب إزالة الضّوء عن مكان ظلمة اللّيل هو الإظلام ، وأمّا على ما ذكر في المفتاح من أنّ المستعار له ظهور النّهار ، أي الأولى أن يقول إظهار ضوء النّهار من ظلمة اللّيل بطلوع الفجر ، فهو يقول : شبّه إظهار ضوء النّهار من ظلمة اللّيل بطلوع الفجر بكشط الجلد عن نحو الشّاة ، واستعير اسم المشبّه به وهو السّلخ للمشبّه ، واشتقّ منه (نَسْلَخُ) بمعنى نظهر منه النّهار.

«ففيه إشكال» أي ففي قوله : (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) إشكال ، إذ هذا يدلّ على عكس ما تحصل ممّا ذكرنا ، أي إنّ علامة قدرة الله أنّه يزيل ظلمة اللّيل فيظهر ضوء النّهار ، فيقع النّاس في الضّياء ، فيبصرون الأشياء ، فلو أريد من الآية ذلك لقيل فيها :

فإذا هم مبصرون بدل قوله : (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) ، لأنّ الواقع عقيب ظهور النّهار من ظلمة اللّيل إنّما هو الإبصار لا الإظلام.

(٥) أي بعد ظهور النّهار من ظلمة اللّيل.

__________________

(١) سورة يس : ٣٧.

١٣٨

وحاول بعضهم التّوفيق بين الكلامين (١) بحمل كلام صاحب المفتاح على القلب ، أي ظهور ظلمة اللّيل من النّهار (٢) ، أو بأنّ المراد من الظّهور التّمييز (٣) أو بأنّ الظّهور بمعنى الزّوال (٤) كما (٥) في قول الحماسي : وذلك عار يابن ربطة ظاهر. وفي قول أبي ذؤيب : وتلك شكاة (٦) ظاهر عنك عارها ، أي زائل ، وذكر العلّامة (٧) في شرح المفتاح إنّ السّلخ قد يكون بمعنى النّزع مثل : سلخت الإهاب عن الشّاة ، وقد يكون بمعنى الإخراج نحو : سلخت الشّاة عن الإهاب ، فذهب صاحب المفتاح إلى الثّاني (٨) ،

________________________________________________________

(١) أي كلام المصنّف القائل بأنّ المستعار له كشف الضّوء وإزالته عن مكان ظلمة اللّيل ، كلام السّكاكى القائل بأنّ المستعار له ظهور النّهار من ظلمة اللّيل ، وحاصل ما ذكره ذلك البعض أوجه ثلاثة يحصل بكلّ منها التّوفيق.

(٢) أي هذا قلب لقوله : «ظهور النّهار من ظلمة اللّيل» ، هذا هو الوجه الأوّل.

(٣) أي هذا إشارة إلى الوجه الثّاني ، ومن في كلام المفتاح بمعنى عن ، والمعنى أنّ المستعار له تمييز النّهار عن ظلمة اللّيل ، والواقع بعد تمييز النّهار عن ظلمة اللّيل هو الإظلام.

(٤) أي هذا هو الوجه الثّالث ، فمعنى العبارة أنّ المستعار له زوال ضوء النّهار عن ظلمة اللّيل ، فيصحّ (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) ، وهذه الوجوه لا تخلو عن الإشكال ، تركناه رعاية للاختصار.

(٥) أي كالظّهور الّذي في قول الشّاعر الحماسي ، فإنّه بمعنى الزّوال ، وصدر هذا البيت : أعيّرتنا ألبانها ولحومها.

(٦) أي الشّكاة مصدر بمعنى الشّكاية ، وكأنّه يقول : وتلك شكاية زائل عنك عارها ، فالظّاهر في كلا البيتين بمعنى الزّائل.

(٧) أي هذا إشارة إلى وجه رابع لتصحيح كلام المفتاح ، ودفع الإشكال الوارد عليه من غير احتياج لدعوى قلب في كلامه ، ولا تأويل الظّهور في كلامه بالتّمييز أو الزّوال ، لأنّ الكلام إنّما هو مسوق لهذا صريحا.

(٨) أي إنّ السّلخ بمعنى الإخراج تبعا لعبد القاهر ، وذهب المصنّف إلى الأوّل ، لأنّه قال : فإنّ المستعار منه كشط الجلد ، أي نزعه عن نحو الشّاة فيصير المعنى على ما ج ذهب إليه صاحب المفتاح ، إنّ علامة قدرة الله إخراج ضوء النّهار من ظلمة اللّيل ، فإنّ المستعار له هو ظهور النّهار ، بمعنى إخراج ضوء النّهار من ظلمة اللّيل.

١٣٩

وصحّ قوله تعالى : (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) بالفاء ، لأنّ التّراخي وعدمه ممّا يختلف باختلاف الأمور والعادات ، وزمان النّهار (١) وإن توسّط بين إخراج النّهار من اللّيل (٢) وبين دخول الظّلام ، لكن لعظم (٣) شأن دخول الظّلام بعد إضاءة النّهار ، وكونه ممّا ينبغي أنّ لا يحصل إلّا في أضعاف ذلك الزّمان من اللّيل عدّ الزّمان قريبا ، وجعل اللّيل كأنّه

________________________________________________________

فأجاب الشّارح عنه بقوله :

وصحّ قوله تعالى : (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) ، وحاصل الجواب : إنّ اللّيل لمّا كان عمومه لجميع الأقطار أمرا مستعظما كان الشّأن أنّه لا يحصل إلّا بعد مضيّ مقدار النّهار بأضعاف ، ولكن هذا الفاصل الزّماني نزّل منزلة العدم نظرا إلى العادة.

فيرد عليه :

أنّه لا يصحّ حينئذ التّعبير بقوله : بعد (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) ، لأنّ إخراج النّهار من ظلمة اللّيل إنّما هو بطلوع الفجر ، والإظلام إنّما يحصل عند الّغروب ، والفاصل الزّماني بينهما هو النّهار بكامله ، فلا يصحّ الإتيان بإذا الفجائيّة ، فإنّ الفاء وإذا الفجائيّة للاتّصال بأن يكون الدّخول في الظّلام مفاجئا بعد إخراج ضوء النّهار من ظلمة اللّيل.

وبعبارة أخرى :

إنّ الفاء وإن كانت موضوعة لما يعدّ في العادة مترتّبا غير متراخ ، ولكن هذا المعنى يختلف باختلاف الأمور والعادات الجارية فيها ، فقد يطول الزّمان بين أمرين ، ولا يعدّ ذلك الزّمان متراخيا لكون العادة تقتضي أطول منه ، فيلحقه المتكلّم بالعدم ، ويجعل الأمر الثّاني غير متراخ ، فيستعمل الفاء كما في قولك : تزوّج زيد فولد له ، مع أنّ الفاصل بين عقد الزّواج والولادة مدّة الحمل إلّا أنّ العادة تعدّه معاقبا لعقد الزّواج والمقام من هذا القبيل.

(١) أي الّذي مبدؤه طلوع الفجر وإضافة «زمان» إلى «النّهار» بيانيّة.

(٢) أي النّهار وقع وسط اللّيل السّابق ودخول الظّلام اللّاحقّ.

(٣) أي لكن لمّا كان دخول الظّلام بعد إضاءة النّهار شأنه عظيم حتّى أنّ من حقّه أنّه لا يحصل إلّا بعد نهارات متعدّدة صار حصوله بعد نهار واحد أمرا قريبا ، فلذا أتى بالفاء.

١٤٠