دروس في البلاغة - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٤

١

٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآله الطّيّبين الطّاهرين.

هذا هو الجزء الرّابع من كتابنا «دروس في البلاغة» أسأل الله أن يوفّقني لإتمامه لأنّه بالإجابة جدير.

٥
٦

[وأداته] أي أداة (١) التّشبيه [الكاف (٢) وكأنّ (٣) وقد تستعمل (٤) عند الظّن بثبوت الخبر من غير قصد إلى التّشبيه ، سواء (٥) كان الخبر جامدا أو مشتقّا ، نحو : كان زيدا أخوك ، وكأنّه قائم ، [ومثل وما في معناه (٦)] ممّا يشتقّ من المماثلة (٧) ، والمشابهة (٨) ، وما يؤدّي هذا المعنى (٩) ، [والأصل (١٠) في نحو الكاف]

________________________________________________________

(١) الأداة لغة الآلة ، سمي به عند الأدباء ما يتوسّل به إلى التّشبيه اسما كان أو فعلا أو حرفا ، نعم ، وما هو المصطلح عند المناطقة والفلاسفة إطلاق الأداة على ما يدلّ على معنى غير مستقلّ بالمفهوميّة ، وإن لم يكن مفيدا للتّشبيه.

(٢) قدّمها لأنّها الأصل لبساطتها اتّفاقا ، وتلزمها كلمة ما إذا دخلت على أنّ المفتوحة ، فيقال : عمرو فاضل كما أنّ زيدا كذلك ، ولا يقال : كأنّ زيدا كذلك لئلّا يلتبس بكلمة كأنّ الّتي هي من أخوات أنّ.

(٣) واختلفوا فيها ، فقيل : إنّها بسيطة ، وقيل إنّها مركّبة من الكاف وإن المشدّدة ، والأقرب الأوّل ، لجمود الحروف وعدم وقوع التّصرف فيها على التّصحّيح ، ولوقوعها فيما لا يصحّ فيه التّأويل بالمصدر الّذي هو شان أنّ المفتوحة ، فلا يصغي إلى دعوى الإجماع على التّركيب.

(٤) أي قد تستعمل كأنّ عند الظّن ، أي ظنّ المتكلّم ثبوت الخبر ، و «قد» هنا للتّقليل ، لأنّ استعمالها للظّنّ قليل بالنّسبة لاستعمالها للتّشبيه.

(٥) تعميم في استعمالها للظّنّ ، لأنّ استعمالها للتّشبيه مقيد بما إذا كان خبرها جامدا على هذا القول ، وحينئذ فهي في المثالين المذكورين للظّنّ لا للتّشبيه. والحقّ استعمالها للتّشبيه وللظّنّ مطلقا ، أي سواء كان الخبر جامدا أو مشتقّا.

(٦) أي ما معناه فيه ففي الكلام قلب.

(٧) أي كماثل ويماثل ومماثل.

(٨) أي كقولك : شابه ويشابه ومشابه.

(٩) أي كقولك ضاهى ويضاهي ومضاه ، فيقال : ماثل زيد وعمرو ، وهكذا.

(١٠) أي والكثير والغالب في الكاف ونحوها أن يقع المشبّه به بعدها بلا فصل ، كقولك زيد كالأسد.

٧

أي (١) في الكاف ونحوها كلفظ نحو ومثل وشبه (٢) بخلاف كأنّ ويماثل ويشابه (٣) ، [أن يليه المشبّه به] لفظا (٤) ، نحو : زيد كالأسد ، أو تقديرا ، نحو : قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ)(١) (٥)]

________________________________________________________

(١) قيل : إنّ هذا التّفسير إشارة إلى أنّ الكلام من قبيل الكناية ، كما تقرّر في قولك : مثلك لا يبخل ، لا أنّ في الكلام تقديرا ، وذلك لأنّ الحكم إذا ثبت لمماثل الشّيء ، ولما هو أدون منه كان ثابتا له بطريق أولى ، فإذا كان ما هو مثل الكاف في حكمه كذا ، فالكاف الّذي هو الأصل حكمه كذا بطريق أولى ، لكنّ الظّاهر أنّ الأمر ليس كذلك ، فإنّ الّذي قدّم في بحث المسند إليه أنّ نحو : مثلك لا يبخل ، كناية عن أنت لا تبخل ، فلو كان المقام من الكناية للزم أن لا يكون النّحو داخلا في الحكم ، فالظّاهر أنّ المراد من المثل معناه الظّاهر ، وثبوت الحكم للكاف إنّما هو بفحوى الكلام ، أي مفهومه الموافق.

(٢) أي كلّ ما يدخل على المفرد كلفظ مشابه ومماثل ونحوهما.

(٣) أي كلّ ما يدخل في الجملة ، أو يكون جملة بنفسه كالأمور المذكورة ، فإنّها لا يليها المشبّه به ، بل يليها المشبّه فإذا قيل : يماثل زيد عمروا كان المشبّه هو زيد ، لا عمرو ، فيلي الفعل هو المشبّه ، فالأصل فيها أن يليها المشبّه.

(٤) قوله : «لفظا» حال من «المشبّه به» أي حالة كونه ملفوظا به أو مقدّرا.

(٥) «الصّيّب» هو المطر ، «والسّماء» بمعنى العلوّ. والمعنى أو مثل هؤلاء المنافقين في جهلهم وشدّة تحيّرهم ، كأصحاب مطر نزل من السّماء فيه ظلمات ، أي ظلمة تكاثفه ، وظلمة إظلال غمامته ، وظلمة اللّيل.

والشّاهد إنّ المشبّه به وهو مثل ذوي الصّيب ، قد ولي الكاف والحال أنّه متعدّد ، ثمّ وجه الشّبه بين قصّة المنافقين ، وقصّة ذوي الصّيّب ، هو رفع الطّمع إلى حصول المطالب ، ونجح المآرب ، وسدّ ضدّها مسدّها ، وتحقّقه في المشبّه به ظاهر ، وكذلك في المشبّه ، حيث إنّ المنافقين كانوا يطمعون انتفاعهم بمزايا الإسلام بواسطة إيمانهم ظاهرا ، واتّباعهم المؤمنين صورة ، فرفع هذا الطّمع بنزول الوحي ، وسدّ مسدّ مطالبهم الأهوال ، حيث افتضحوا بنزول الوحي الكاشف عن أسرارهم وسوء سريرتهم ، كما في المفصّل للمرحوم الشّيخ موسى

__________________

(١) سورة البقرة : ١٩.

٨

على تقدير : أو كمثل ذوي صيّب. [وقد يليه] أي نحو الكاف [غيره] أي غير المشبّه به (١) [نحو : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ)(١) (٢)] الآية ، إذ ليس المراد تشبيه حال الدّنيا بالماء ، ولا بمفرد آخر يتمحّل تقديره ، بل المراد تشبيه حالها في نضارتها وبهجتها وما يعقبها من الهلاك والفناء بحال النّبات الحاصل من الماء ، يكون أخضر ناضرا شديد الخضرة ، ثمّ ييبس فتطيره (٣) الرّياح كأن لم يكن (٤) ، ولا حاجة (٥)

________________________________________________________

البامياني.

وإنّما قدّر ذوي الصّيّب ، لأنّ الضّمائر في قوله بعد ذلك : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) لا بدّ لها من مرجع ، وليس موجودا في اللّفظ ، فلا بدّ من أن يكون مقدّرا.

(١) أي ممّا له دخل فيه كبعض ما ينتزع منه المشبّه به.

(٢) أمر الله تعالى نبيّه الأعظم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يضرب مثلا للدّنيا تزهيدا ، وإعراضا عنها ، وترغيبا إلى الآخرة ، حيث قال : (وَاضْرِبْ لَهُمْ).

والشّاهد في الآية أنّها مشتملة على تشبيه مركّب بمركّب ، أي هيئة انتزعت من الحلول في الدّنيا والتّعيّش فيها ، ثمّ الانتقال منها بالموت ، وتناثر الجسد بهيئة انتزعت من نزول الماء من السّماء ، واختلاطه بالنّبات ونضرتها ، ثمّ اصفرارها وتفرّقها في وجه الأرض بجامع هيئة منتزعة من الهيئتين شاملة لهما ، ولم يأت المشبّه به بعد الكاف بلا فصل ، لأنّها هيئة منتزعة ، ولا معنى لوليها الكاف.

نعم ، لو كانت يعبّر عنها بمفرد ، أو مثل «يتمحّل» أي يتكلّف لتقديره حتّى يكون المشبّه به ، واليا للكاف تقديرا ، وبالجملة إنّ المشبّه هيئة منتزعة من حلول الإنسان في الدّنيا ، والتّعيش فيها بالانتفاع من نعمها ، ثمّ فناؤه بالموت وتناثر جسده في بطن الأرض ، والمشبّه به هيئة منتزعة من نضرة النّبات ويبسه ، آخر الأمر على التّفصيل المذكور ، ولا ريب أنّ الهيئة الّتي وقعت مشبّها بها لم تل الكاف بل لا يمكن أنّ تل بعدها لأنّها هيئة.

(٣) أي باب التّفعيل تفسير لقوله تعالى : (تَذْرُوهُ الرِّياحُ).

(٤) أي لم يكن شيئا مذكورا.

(٥) أي لا حاجة إلى تقدير حتّى يكون المشبّه به واليا للكاف تقديرا.

__________________

(١) سورة الكهف : ٤٥.

٩

إلى تقدير : كمثل ماء ، لأنّ المعتبر هو الكيفيّة (١) الحاصلة من مضمون الكلام المذكور بعد الكاف ، واعتبارها (٢) مستغن عن هذا التّقدير ، ومن زعم أنّ التّقدير كمثل ماء (٣) ، وإنّ هذا ممّا يلي الكاف غير المشبّه به بناء على أنّه (٤) محذوف فقد سها سهوا بيّنا (٥) ، لأنّ المشبّه به الّذي قد يكون ملفوظا به وقد يكون محذوفا على ما صرّح به في الإيضاح

________________________________________________________

(١) أي الصّفة ، والحالة الحاصلة من مضمون الكلام أي من مجموع الكلام الواقع بعد الكاف ، وهو النّبات النّاشئ من الماء واخضراره ، ثمّ يبوسته ، ثمّ تطيير الرّياح له.

(٢) أي اعتبار الهيئة والصّفة «مستغن عن هذا التّقدير» ، أي تقدير كمثل ماء ، فيكون المشبّه به يلي الكاف تقديرا.

وجه الاستغناء أنّ المعتبر في المشبّه به هي الهيئة الحاصلة من مضمون الكلام المذكور بعد الكاف ، فوجود التّقدير وعدمه سيّان ، وإنّما ارتكب هذا التّقدير في (أَوْ كَصَيِّبٍ) لأنّ الضّمائر (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) لما احتاجت إلى تقدير المرجع ، وهو ذوي صيّب انفتح باب الحذف والتّقدير ، فتقدير المرجع والمشبّه به جميعا أولى من الاقتصار على تقدير المرجع ، لأنّه أدلّ وأشدّ ملائمة للمعطوف عليه ، أعني قوله : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً).

(٣) أي من زعم واعتقد أنّ التّقدير في الآية كمثل ماء ، «وإنّ هذا» أي هذا المثال «ممّا يلي الكاف غير المشبّه به» وهو الماء ، والمشبّه به هو المثل.

(٤) أي المشبّه به محذوف ، والمحذوف ليس ممّا يلي الكاف ، بل هو مختصّ باللّفظ ، ويردّ هذا الزّعم بأنّا لا نسلّم ذلك ، لأنّه قد يلي الكاف المشبّه به المحذوف على ما صرّح به في الإيضاح.

(٥) أي هذا الزّاعم قد سها من وجهين : الأوّل : أنّا لا نسلّم أنّ المشبّه به هو مثل الماء وصفته ، بل هو الهيئة المنتزعة فلا حاجة إلى التّقدير أصلا.

الثّاني : أنّا لو سلّمنا أنّ المشبّه به هو مثل الماء ، فيكون في التّقدير ، إلّا أنّا لا نسلّم أنّ المقدّر لا يلي الكاف ، بل المقدّر عندهم كالملفوظ ، فكما أنّ المشبّه به الملفوظ يلي الكاف كذلك المقدّر ، فليس أنّ الكاف في هذه الآية قد وليها غير المشبّه به ، بل الوالي لها هو المشبّه به.

١٠

[وقد يذكر فعل ينبئ عنه] أي عن التّشبيه (١) ، [كما في علمت زيدا أسدا ، إن قرب (٢)] التّشبيه وادّعى (٣) كمال المشابهة ، لما في علمت ، من معنى التّحقيق (٤) ، [وحسبت] زيدا أسدا [إن بعد] التّشبيه (٥) ، لما في الحسبان من الإشعار بعدم التّحقيق والتّيقّن (٦) في كون مثل هذه الأفعال منبئا عن التّشبيه نوع خفاء (٧).

________________________________________________________

(١) أي يدلّ على التّشبيه من غير ذكر أداة ، وفي الأطول إنّ المراد بقوله : «فعل» غير الأفعال الموضوعة من أصلها للدّلالة على التّشبيه ، كالأفعال المشتقّة من المماثلة والمشابهة والمضاهاة.

(٢) أي إنّما يستعمل «علمت» لإفادة التّشبيه ، إن قرب التّشبيه ، أي إن أريد إفادة قرب زيد لأسد ، أي قريب المشبّه للمشبّه به.

(٣) هذا عطف تفسيري على قوله : «إن قرب» والمراد هو أنّه ادّعى على وجه التّيقّن.

(٤) أي المراد بالتّحقيق هو التّيقّن ، فمعنى العبارة حينئذ أي لما في علمت من الدّلالة على تحقيق التّشبيه وتيقّنه ، وهذا يناسب الأمور القويّة الظّاهرة البعيدة عن الخفاء.

(٥) أي أريد إفادة بعده وضعفه ، بأن تكون مشابهة زيد لأسد ضعيفة ، لكون وجه الشّبه خفيّا عن الإدراك وغير متيقّن.

(٦) لأنّ الحسبان إنّما يدلّ على الظّن والرّجحان ، فهو يشعر بأنّ تشبيه زيد بالأسد ليس بحيث يتيقّن أنّه هو ، بل هو يظنّ ذلك ويتخيّل.

(٧) وحاصل اعتراض الشّارح على قول المصنّف أنّه لا نسلّم أنّ الفعل المذكور منبئ عن التّشبيه للعلم وجدانا بأنّه لا دلالة للعلم والحسبان على ذلك ، وإنّما الدّالّ عليه عدم صحّة الحمل ، فإنّا نجزم بأنّ الأسد لا يصحّ حمله على زيد للمباينة بينهما ، فلا بدّ أنّ يكون نحو : علمت زيدا أسدا ، ونحو : زيد أسد ، على تقدير التّشبيه ، وممّا يدلّنا على ذلك عدم توقّف الحمل على التّشبيه على مثل هذا الفعل ، فإنّ نحو : علمت زيدا أسدا ، ونحو : زيد أسد سيّان في إفادة التّشبيه من دون تفاوت ، نعم ، يكون مثل هذا الفعل منبئا عن تحقّق التّشبيه وتيقّنه ، وهو من أحوال التّشبيه فهو منبئ عن حاله لا عن أصله ، كما أشار إليه بقوله : «والأظهر أنّ الفعل ينبئ عن حال التّشبيه في القرب» كقولنا علمت زيدا أسدا «والبعد» كقولنا حسبت زيدا أسدا.

١١

والأظهر أنّ الفعل ينبئ عن حال التّشبيه (١) في القرب والبعد. [والغرض منه] أي من التّشبيه (٢) [في الأغلب (٣) يعود إلى المشبّه (٤) ، وهو] أي الغرض العائد إلى المشبّه [بيان إمكانه] أي المشبّه ، وذلك إذا كان أمرا غريبا يمكن أنّ يخالف فيه ويدّعى امتناعه ، [كما في قوله (٥) :

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإنّ المسك بعض دم الغزال (٦)]

________________________________________________________

(١) أي يمكن الجواب من قبل المصنّف بأنّ في كلامه حذف مضاف أي الفعل ينبئ عن حال التّشبيه ، لا أنّه يدلّ عليه.

(٢) وإنّما قدّمه على البحث عن أقسام التّشبيه لكونه أهمّ.

(٣) أي مقابل الأغلب ما يأتي في قوله : «وقد يعود إلى المشبّه به».

(٤) أي عود الغرض إلى المشبّه لوجهين : الأوّل أنّ التّشبيه بمنزلة القياس في ابتناء شيء على شيء ، فالمشبّه هو المقيس والمشبّه به هو المقيس عليه ، ولا ريب أنّ المقصود في القياس بيان حال المقيس ، فمن ذلك يعود الغرض إلى المشبّه في الأغلب.

الثّاني : إنّ المشبّه بمنزلة المحكوم عليه ، والمشبّه به بمنزلة المحكوم به ، والمقصود في الكلام بيان حال المحكوم عليه ، فليكن الغرض عائدا إليه.

لا يقال : إنّ تعبير المصنّف هنا بالأغلب ينافي ما سيأتي من قوله : «وقد يعود إلى المشبّه به» ، فإنّ هذا التّعبير يفيد أنّ عوده إلى المشبّه به غالب ، والتّعبير الآتي يفيد أنّه قليل.

لأنّا نقول : إنّ القلّة المستفادة من العبارة الآتية ، هي قلّة إضافيّة ، فلا تنافي الغلبة الحقيقيّة ، والمراد من الإمكان في قوله «بيان إمكانه» هو الإمكان الوقوعي في مقابل الامتناع الوقوعي ، أي بيان أنّ المشبّه أمر ممكن الوجود ، أي لا يلزم من وقوعه محال في الخارج هذا في كلّ أمر غريب يدّعى امتناعه الوقوعي من أجل غرابته ، فيؤتى بالتّشبيه على طريق الدّليل على إثباته.

(٥) أي قول أبي الطّيّب :

(٦) شرح مفردات البيت «تفق» من فاق تفوق بمعنى علا تعلو ، «الأنام» بفتح الألف والنّون ، قيل : هو الإنس والجنّ ، وقيل : هو جميع ما في وجه الأرض ، والمستفاد من قوله : «تفق الأنام ...» أنّ الممدوح صار بسبب كونه فائقا لهم جنسا

١٢

فإنّه (١) لمّا ادّعى أنّ الممدوح قد فاق النّاس حتّى صار أصلا برأسه وجنسا بنفسه ، وكان هذا (٢) في الظّاهر (٣) كالممتنع ، احتجّ لهذه الدّعوى وبيّن إمكانها (٤) ، بأنّ شبّه هذه الحال بحال المسك الّذي هو من الدّماء ، ثمّ أنّه (٥) لا يعدّ من الدّماء ، لما فيه من الأوصاف الشّريفة الّتي لا يوجد في الدّم ، وهذا التّشبيه (٦) ضمنيّ (٧)

________________________________________________________

آخر ، فإنّ الدّاخل في الجنس لا بدّ أنّ يساويه فرد منه غالبا ، «المسك» طيب معروف.

والشّاهد في البيت : كونه مشتملا على التّشبيه ، والغرض منه بيان إمكان المشبّه ، حيث إنّ الشّاعر لمّا ادّعى أنّ الممدوح فاق النّاس على حدّ صار جنسا آخر بنفسه ، وأصلا مستقلا برأسه ، وكان هذا أمرا يمكن أن تدّعى استحالته ، احتجّ لمدّعاه بأنّ ألحق حالته بحالة مسلّمة الإمكان لوقوعها ، فشبّه حالة الممدوح بتلك الحالة.

ومن هذا التّقريب ظهر أنّ التّشبيه في البيت تشبيه مركّب بمركّب ، أي شبّهت الحالة المنتزعة من تفوّق الممدوح الأنام بصفاته الفاضلة ، وكونه منهم بحالة منتزعة من تفوّق المسك جنس الدّم ، وكونه منه في الأصل بجامع من الهيئتين ، وشامل لهما.

(١) أي أبو الطّيب «لمّا ادّعى أنّ الممدوح قد فاق النّاس» أي علا النّاس على حدّ صار أصلا برأسه.

(٢) أي صيرورته أصلا برأسه.

(٣) أي في بادئ الرّأي ، وقبل الالتفات إلى النّظائر ، وحاصل الكلام في المقام أنّه كان صيرورة الممدوح أصلا برأسه في بدء النّظر كالممتنع ، أتى بالحجّة لدعوى صيرورته أصلا برأسه ، وبيّن إمكانها بالتّشبيه المذكور.

(٤) أي إمكان تلك الدّعوى.

(٥) أي المسك لا يعدّ من الدّماء لما فيه من الأوصاف الشّريفة ، وليست في الدّم.

(٦) أي تشبيه الممدوح بالمسك ضمنيّ ، ومكنّى عنه ، لأنّه ليس فيه أداة التّشبيه لا لفظا ولا تقديرا.

(٧) أي مدلول عليه باللّازم ، لأنّه ذكر في الكلام لازم التّشبيه ، وهو وجه الشّبه ، أعني فوقان الأصل ، وأراد الملزوم وهو التّشبيه ، فعلى هذا قوله : «مكنّى عنه» عطف تفسير على قوله : «ضمّني» ، فالمعنى أنّ التّشبيه لم يذكر صراحة ، بل كناية بذكر لازمه.

١٣

ومكنّى عنه [أو حاله] عطف على إمكانه ، أي بيان حال المشبّه بأنّه على أيّ وصف من الأوصاف [كما (١) في تشبيه ثوب بآخر في السّواد] إذا علم (٢) السّامع لون المشبّه به [أو مقدارها] أي بيان مقدار حال المشبّه في القوّة والضّعف والزّيادة والنّقصان (٣) ، [كما في تشبيهه] أي تشبيه الثّوب الأسود [بالغراب في شدّته] أي في شدّة السّواد (٤) ، [أو تقريرها] مرفوع (٥) ، عطفا على بيان إمكانه ، أي تقرير حال المشبّه في نفس السّامع وتقوية شأنه (٦) ، [كما (٧)

________________________________________________________

وقيل : إنّ هذا التّشبيه سمّي ضمنيّا ، لأنّه يفهم من الكلام ضمنا ، ومكنيّا عنه ، لأنّه مكنّى أي خفيّ ومستتر.

(١) أي كبيان حال المشبّه الّذي «في تشبيه ثوب بآخر في السّواد».

(٢) أي إنّما يكون هذا التّشبيه لبيان حال المشبّه إذا علم لون المشبّه به دون المشبّه.

(٣) أي الفرق بين القوّة والضّعف ، وبين الزّيادة والنّقصان ، هو أنّ الزّيادة والنّقصان أعمّ من القوة والضّعف ، لأنّهما تجريان في الكيفيّات وغيرها ، والقوّة والضّعف تختصّان بالكيفيّات ، ثمّ بيان المقدار أيضا مقيّد بما إذا علم السّامع مقدار حال المشبّه به دون المشبّه ، وإنّما تركه الشّارح لظهوره وانفهامه ممّا ذكره في بيان حاله.

(٤) أي هذا إذا كان أصل سواد الثّوب معلوما للسّامع ، وإلّا لكان التّشبيه لبيان أصل الحال.

(٥) أي لا مجرور ، لأنّه عطف على المضاف أعني «بيان إمكانه» لا على المضاف إليه أعني «إمكانه» ، لأنّ التّقرير أخصّ من مطلق البيان ، إذ هو بيان على وجه التّمكّن ، فلو جرّ لكان المعنى أو بيان البيان على وجه التّمكّن ، ولا يخفى ما في ذلك من الاضطراب.

(٦) أي شأن المشبّه ، أي حاله ، فقوله : «تقوية شأنه» عطف على قوله : «تقرير حال المشبّه» عطف تفسير ، ويحتمل أن يكون الضّمير في «شأنه» راجعا إلى الحال ، أي تقوية شأن حال المشبّه ، فإذا يكون عطف لازم على ملزوم ، فإنّ تقرير حال المشبّه يستلزم تقوية شأن هذا الحال.

(٧) أي كالتّقرير الّذي يكون «في تشبيه من لا يحصل من سعيه» ، أي عمله وشغله «على طائل» ، أي على فائدة أو فضل ، يقال : هذا الأمر لا طائل فيه ، أي لا فائدة ولا ـ فضل فيه ،

١٤

في تشبيه من لا يحصل من سعيه على طائل بمن يرقم على الماء] فإنّك تجد فيه من تقرير عدم الفائدة وتقوية شأنه ما لا تجده في غيره ، لأنّ الفكر بالحسيّات أتمّ منه بالعقليّات ، لتقدّم (١) الحسّيّات وفرط (٢) إلف النّفس بها. [وهذه] أي الأغراض [الأربعة (٣) تقتضي أن يكون وجه الشّبه في المشبّه به أتمّ (٤) ، وهو (٥) به أشهر] أي وأن يكون المشبّه به بوجه الشّبه أشهر وأعرف (٦) ، وظاهر هذه العبارة أنّ كلا (٧) من

________________________________________________________

أي كالتّقرير الّذي يكون في تشبيه من لا يحصل من سعيه على طائل «بمن يرقم» ، أي يخطّط «على الماء» ، فإنّك تجد في هذا التّشبيه من تقرير عدم الفائدة «ما لا تجده في غيره» ، أي في غير هذا التّشبيه من التّشبيه بالمعقول ، «لأنّ الفكر» أي الذّهن ، أي ألف الذّهن «بالحسّيّات أتمّ منه» ، أي من ألف الذّهن بالعقليّات.

(١) أي علّة للأتميّة ، أي لتقدّم الحسيّات في الحصول عند النّفس على العقليّات ، لأنّ النّفس في مبدأ الفطرة خالية عن العلوم ، ثمّ تدرك الجزئيات بواسطة القوى الخمس الظّاهرة ، ثمّ تنبّه وتلتفت لما بينها من المشاركات والمباينات ، فينتزع من الجزئيات المتشاركة الكلّيات ، ويحصل لها العلوم الكلّيّة.

(٢) أي زيادة ألف النّفس بالحسّيّات.

(٣) أي بيان الإمكان ، والحال والمقدار والتّقرير.

(٤) أي أقوى.

(٥) أي المشبّه به بوجه الشّبه أشهر ، والمراد من الأتميّة والأشهريّة عند المخاطب ، لا عند كلّ النّاس ، إذ قلّما يوجد وصف كان أشهر عند جميع النّاس ، بل لا يوجد لاختلاف الرّسوم والعادات.

(٦) وفي عطف «الأعرف» على «الأشهر» إشارة إلى أنّ «الأشهر» بمعنى الأعرف ، فيكون العطف للتّفسير.

(٧) أي ظاهر العبارة أنّ كلّ واحد من الأربعة يقتضي الأتميّة والأشهريّة ، وليس الأمر كذلك ، لأنّ بيان إمكان المشبّه إنّما يقتضي أن يكون المشبّه به أشهر بوجه الشّبه ليصحّ قياس المشبّه عليه ، ولا يقتضي كون وجه الشّبه في المشبّه به أتمّ ، لأنّ المراد في بيان الإمكان إنّما هو مجرّد وقوع وجه الشّبه في الخارج في ضمن المشبّه به ، ليفيد عدم الاستحالة.

١٥

الأربعة يقتضي الأتميّة والأشهريّة ، لكنّ التّحقيق أنّ بيان الإمكان وبيان الحال لا يقتضيان إلّا الأشهريّة ، ليصحّ القياس ، ويتمّ الاحتجاج في الأوّل ، ويعلم الحال في الثّاني ، وكذا (١) بيان المقدار لا يقتضي الأتميّة ، بل يقتضي أن يكون المشبّه به على حدّ (٢) مقدار المشبّه لا أزيد ولا أنقص ، ليتعيّن مقدار المشبّه على ما هو عليه ، وأمّا تقرير الحال (٣) فيقتضي الأمرين (٤) جميعا ، لأنّ النّفس إلى الأتمّ والأشهر (٥) أميل ، فالتّشبيه به (٦) بزيادة التّقرير والتّقوية أجدر

________________________________________________________

نعم ، لا بدّ فيه أن يكون ثبوت وجه الشّبه للمشبّه به معلوما ومعروفا للمخاطب ، لامتناع تعريف المجهول بالمجهول ، وكذلك بيان حال المشبّه لا يقتضي إلّا كون المشبّه به أشهر بوجه الشّبه ، لامتناع تعريف المجهول بالمجهول ، إن كان المشبّه به أخفى معرفة بوجه الشّبه من المشبّه.

(١) أي كبيان الإمكان والحال بيان المقدار لا يقتضي الأتميّة.

(٢) أي على مرتبة هي مقدار المشبّه به ، وعلى الشّارح أن يقول : وأن يكون مقدار وجه الشّبه أشهر ، إذ لو لم يكن مقدار الوجه في المشبّه به أشهر ، لما حصل بيان المقدار.

نعم ، أصل ثبوته فيه لا يجب أنّ يكون أشهر من ثبوته للمشبّه ، إذ المطلوب فيه بيان مقداره بعد كون المخاطب عارفا بأصل ثبوته له ، ليتعيّن مقدار المشبّه على ما هو عليه من المساواة.

وتوضيح ذلك أنّ التّشبيه الّذي قصد به بيان مقدار حال المشبّه المخاطب به يعرف الحال في المشبّه ، وطالب لبيان مقدار تلك الحال ، فلا بدّ أن يكون الوجه الّذي هو الحال المطلوب مقداره في المشبّه به على قدره في المشبّه من غير زيادة ولا نقصان ، وإلّا لزم الكذب والخلل في الكلام ، فإنّه إذا قيل : كيف بيان الثّوب الّذي اشتريته ، والحال أنّه في مرتبة التّوسط أو التّسفل في البياض ، وقلت : هو كالثّلج ، ليكون وجه الشّبه في المشبّه به أتمّ كان الكلام كذبا.

(٣) أي حال المشبّه.

(٤) أي الأتميّة والأشهريّة معا.

(٥) أي لأنّ النّفس إلى المشبّه به الأتمّ والأشهر أميل.

(٦) أي فالتّشبيه بالأتمّ الأشهر بزيادة التّقرير ، والتقوية أجدر ، فقوله : «بزيادة التّقرير»

١٦

[أو تزيينه (١)] مرفوع عطفا (٢) على بيان إمكانه ، أي تزيين المشبّه في (٣)

________________________________________________________

متعلّق بقوله : «أجدر» ، والباء فيه للسّببيّة ، والمعنى حينئذ فالتّشبيه به أولى من التّشبيه بالخالي من الأتميّة والأشهريّة بسبب إفادته زيادة التّقرير أي التّقرير الزّائد في نفسه والتقوية ، وحينئذ فتقرير الحال مقتض للأمرين.

وحاصله إنّ المراد من تقرير حال المشبّه تمكّن ذلك الحال في نفس السّامع بحيث تطمئنّ إليه ، ولا يمكن لها مدافعة فيه بالوهم لغرض من الأغراض ، كالتّفسير عن السّعي بلا فائدة ، فإنّ صاحبه ربّما يدافع بوهمه عدم حصول الفائدة بتوهّم الحصول ، فإذا ألحق سعيه بالرّقم على الماء الّذي لا يمكن مدافعة عدم حصول الفائدة فيه بالوهم لقوّته فيه وظهوره ، تحقّق هذا عند النّفس في السّعي أيضا ، فتحصل نفرته عن ذلك السّعي ، فكلّما كان الوجه في المشبّه به أقوى وأظهر يكون حصول التّقرير والتّنفير بسبب التّشبيه أسهل.

فتحصّل من جميع ما ذكره الشّارح أنّ كلا من الأغراض الأربعة لا يقتضي الأتميّة والأشهريّة معا ، بل إنّما يقتضيهما كذلك أحدها ، وهو كون الغرض تقرير حال المشبّه في الذّهن ، وأمّا الباقي فيقتضي الأشهريّة لا الأتميّة ، وظاهر كلام المصنّف أنّ الأغراض الأربعة تقتضيهما معا.

ويمكن الجواب عن ذلك بأنّ مراد المصنّف أنّ مجموع الأغراض الأربعة يقتضي الأمرين على نحو التّوزيع ، وليس المراد أنّ كلّ واحد منها يقتضي الأتميّة والأشهريّة معا ، حتّى يرد عليه الاعتراض المذكور ، وكأنّ الشّارح كان ملتفتا إلى هذا المعنى ، حيث عبّر بأنّ ظاهر عبارته ذلك ، وهو يشعر بأنّ مقصوده الأصلي هو التّوزيع.

(١) أي جعل المتكلّم المشبّه ذا زينة للسّامع بأنّ يصوّره له بما يزيّنه ، فكان ذلك داعيا للرّغبة فيه.

(٢) أي «مرفوع» معطوف على «بيان إمكانه» ، وليس مجرورا معطوفا على نفس إمكانه ، لأنّ الغرض من تشبيه وجه أسود بمقلة الظّبي ـ مثلا ـ جعل المتكلّم الوجه الأسود ذا زينة عند المخاطب ، لا بيان جعله ذا زينة له.

(٣) وكان الأولى أن يقول عند السّامع بدل «في عين السّامع» ، لأجل أن يشمل تشبيه صوت بصوت داود ، وتشبيه جلد ناعم بالحرير ، وتشبيه طعم البطّيخ بالعسل.

١٧

عين السّامع [كما في تشبيه وجه أسود بمقلة (١) الظّبيّ أو تشويهه (٢)] ، أي تقبيحه [كما في تشبيه وجه مجدور (٣) بسلحة جامدة (٤) ، قد نقرتها الدّيكة] جمع ديك [أو استطرافه (٥)] ، أي عدّ المشبّه طريفا حديثا بديعا [كما (٦) في تشبيه فحم فيه جمر موقد

________________________________________________________

(١) وهي الشّحمة الّتي تجمع السّواد والبياض ، ويكون سوادها مستحسنا طبعا ، لما يلازمه من الصّفاء العجيب والاستدارة ، مع إحاطة لون مخالف غالبا من نفس العين ، أو خارجها ، فتشبيه الوجه الأسود بها يوجب كونه مصوّرا عند السّامع بصورة حسنة.

(٢) أي تقبيح المتكلّم المشبّه لأجل أن ينفر المخاطب عنه.

(٣) أي وجه عليه آثار الجدري.

(٤) عذرة يابسة «قد نقرتها» أي نقّبتها بالمنقار حال رطوبتها ، وفي «قد» إشعار بأنّ أثر النّقر باق في السّلحة بعد ، لأنّه يزول بطول الزّمان.

ووجه الإشعار أنّه مفيد للتّقريب ، ووصف السّلحة بالجمود ليتمّ شبه بلزوم تلك الحفرة ، وتقرّرها كما في الوجه المجدور ، والجامع بين الطّرفين الهيئة الحاصلة من شكل الحفر ، وما أحاط بها.

ووجه تقبيح المشبّه في هذا التّشبيه أنّ المشبّه به وهو السّلحة المذكورة صورتها في غاية القباحة ، فلمّا ألحق بها الوجه المجدور تخيّل قبحه ، ولو كان فيه حسن باستقامة رسومه ، وصار مظهرا في أقبح صورة لأجل التنّفير عنه.

(٥) أي من استطرفت الشّيء أي اتّخذته طريفا حديثا ، فالمراد باستطراف المشبّه ـ جعله جديدا بديعا لأجل الاستلذاذ به ، ووجه جعله جديدا أنّه أظهر متلبّسا بوصف أمر غريب مستحدث على ما يأتي.

(٦) أي كالاستطراف الّذي «في تشبيه فحم فيه جمر» أي النّار الموقدة ، فعليه لا حاجة إلى قوله : «موقد» ، إلّا أن يقال إنّما أوتي به لغرض التّأكيد ، ووجه الشّبه هي الهيئة الحاصلة من وجود شيء مضطرب مائل إلى الحمرة في وسط شيء أسود ، وقوله : «لإبرازه» متعلّق بمحذوف ، أي إنّما استطرف المشبّه في هذا التّشبيه الكائن في المثال لإبرازه ، أي المشبّه.

١٨

ببحر من المسك موجه الذّهب لإبرازه] أي إنّما استطرف المشبّه في هذا التّشبيه لإبراز المشبّه [في صورة الممتنع] الوقوع [عادة (١)] ، وإن كان ممكنا عقلا (٢) ، ولا يخفى أنّ الممتنع عادة مستطرف غريب (٣). ـ [وللاستطراف وجه آخر (٤)] غير الإبراز في صورة الممتنع عادة [وهو أن يكون المشبّه نادر الحضور في الذّهن إمّا مطلقا (٥) كما مرّ] في تشبيه فحم فيه جمر موقد [وإمّا عند حضور المشبّه ، كما (٦) في قوله (٧) :

________________________________________________________

(١) أي وهو بحر من المسك الّذي موجه الذّهب ، فإنّه وإن كان ممكنا عقلا إلّا أنّه ممتنع عادة ، والمراد بإبرازه في صورته إبرازه متّصفا بصفته حيث ألحق به ، والإلحاق يوجب تخيّل نقل الامتناع إليه ، فالجمر الموقد وإن كان أمرا مبتذلا ، إلّا أنّه لمكان هذا الإلحاق يصبح حديثا غريبا.

(٢) أي بأن يذوب المسك مع كثرته جدّا حتّى يعدّ بحرا ، ويذاب الذّهب فيه ، ويكون موجا له.

(٣) أي صيرورة الواقع المبتذل ممتنعا عادة مستطرف غريب.

(٤) أي لمطلق الاستطراف وجه آخر ، لا لخصوص الاستطراف في المثال ، ومن ذلك لم يأت بالضّمير.

والحاصل إنّ للاستطراف موجبين : الأوّل : إبراز المشبّه في صورة الممتنع في الخارج.

والثّاني : إبرازه في صورة نادر الحضور في الذّهن إمّا مطلقا ، وإمّا عند حضور المشبّه ، وهما مختلفان بالعموم والخصوص ، إذ كلّما تحقّق كون الشّيء ممتنع الحصول في الخارج يتحقّق كونه نادر الحضور في الذّهن ولا عكس.

(٥) أي ندورا مطلقا من غير تقييد بحالة حضور المشبّه في الذّهن ، كما مرّ في تشبيه فحم فيه جمر موقد ، ففي هذا المثال يصحّ أن يعتبر سبب الاستطراف إبراز غير الممتنع في صورة الممتنع ، وإن يعتبر إبراز غير النّادر في معرض النّادر.

(٦) أي كندرة حضور المشبّه به عند حضور المشبّه في قول أبي العتاهية حيث يصف البنفسج.

(٧) أي قول أبي العتاهية.

١٩

ولازورديّة (١)] يعني البنفسج [تزهو (٢)]. قال الجوهري في الصحّاح (٣) زهى الرّجل ، فهو مزهوّ إذا تكبّر (٤). وفيه (٥) لغة أخرى حكاها ابن دريد : زها يزهو زهوا [بزرقتها (٦) بين (٧) الرّياض على حمر اليواقيت] يعني الأزهار والشّقائق (٨) الحمر.

________________________________________________________

(١) أي قوله : «لازورديّة» منسوب إلى لازورد ، وهو بكسر الزّاء المعجمة وفتح الواو وسكون الرّاء والدّال المهملتين معرب لاجورد ، فحرف لا جزء من الكلمة ، وليست نافية ، والياء للنّسبة التّشبيهيّة ، أي ربّ أزهار مثل اللّازورد في اللّون ، الواو في قوله : «ولازورديّة» واو ربّ ، وقوله : «لازورديّة» صفة لمحذوف ، أي ربّ أزهار من البنفسج لازورديّة ، نسبها الشّاعر إلى الحجر المعروف باللّازورد بمعنى اللّاجورد ، لكونها على لونه فالنّسبة تشبيهيّة كما عرفت.

(٢) بالزّاء والهاء بمعنى تتكّبر ، ونسبة التّكبر للبنفسج تجوّز ، والمراد أنّ لها علوّا أو ارتفاعا في نفسها.

(٣) أي المقصود من نقل كلامه أنّ زهى ـ على ما ذكره ـ من الأفعال الملازمة للبناء للمفعول ، وإن كان المعنى للبناء للفاعل ، فما وقع في البيت خطأ بناء على مقالته ، إذ قوله : «تزهو» فيه مبني للفاعل ، فما وقع في البيت خطأ بناء على مقالته ، إذ قوله : «تزهو» فيه مبني للفاعل ، والصحّيح أن يقال تزهى ـ بالبناء للمفعول.

(٤) أي إذا علا.

(٥) أي يريد الشّارح أنّ يصحّح ما في البيت بحمله على ما يذكره ابن دريد ، أي في «زهى» لغة أخرى حكاها ابن دريد ، أي زها يزهو زهوا ، فقد جاء زها يزهو مبنيّين للفاعل ، فالبيت محمول على هذه اللّغة ، إذ لو كان على اللّغة الأولى ، لقيل : تزهى بضمّ الأوّل وفتح الثّالث ، فإنّه مضارع من زهى المبني للمجهول.

(٦) الباء للسّببيّة إن كانت الزّرقة راجحة على الحمرة عند القائل ، أو بمعنى مع إن كانت مرجوحة عنده ، والمعنى هو التّعجب من تكبّرها حينئذ ، وكيف كان فإضافة «حمر» إلى «اليواقيت» من إضافة الصّفة إلى الموصوف.

(٧) قوله : «بين الرّياض» حال من ضمير «تزهو» ، «الرّياض» جمع روض بمعنى البستان.

(٨) أي شقائق النّعمان ، وعطف «الشّقائق» على ما قبله من عطف الخاصّ على العامّ و «الحمر» نعت للأزهار والشّقائق ، والمعنى أنّها تزهو وتتكبّر على الأزهار الحمر الشّبيهة

٢٠