دروس في البلاغة - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

بكماله كماله في الهداية ، لأنّ الكتب السّماوية بحسبها] أي (١) بقدر الهداية واعتبارها [تتفاوت في درجات الكمال] لا بحسب غيرها (٢) لأنّها (٣) المقصود الأصليّ من الإنزال [فوزانه] أي وزان (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (٤) [وزان زيد الثّاني

________________________________________

أظهر من الشّمس.

وحاصل الجواب : إنّ المراد من الجملة الأولى أيضا إثبات الكمال المقيّد بالهداية للقرآن ، وذلك لأنّ تفاوت الكتب السّماويّة في درجات الكمال إنّما هو بسبب الهداية لا غيرها ، فالكمال المطلق في الجملة الأولى مطلق ظاهرا ، ومقيّد واقعا ، فحينئذ اتّحدت الجملتان من حيث المعنى فيصحّ عدّ الثّانية بمنزلة التأكيد اللّفظي للأولى في إفادة التّقرير مع اتّحاد المعنى.

(١) وفي تفسير قوله : «بحسبها» بقوله : «بقدر الهداية» إشارة إلى أنّ الحسب بمعنى القدر ، يقال عمل هذا بحسب عمل فلان ، أي على قدره ، وقول المصنّف «بحسبها» متعلّق بقوله : «تتفاوت» وتقديم الجارّ والمجرور لإفادة الحصر ، أي تتفاوت بحسب الهداية لا بحسب غيرها ، فإذا الكمال في الجملة الأولى وإن كان مطلقا ظاهرا لكنّه مقيّد بالهداية لبّا ، فعليه تكون الجملتان متّحدتين معنى.

(٢) أي لا بحسب غير الهداية.

(٣) أي لأنّ الهداية هي المقصودة من إنزال الكتب السّماويّة ، فما هو أكثر هداية ، فهو أرقى درجة ، وإنّ كمال حال القرآن إنّما هو بحسب حال هدايته ، فكلّ ما دلّ على كمال حاله دلّ على كمال هدايته بالضّرورة ، فحصر التّفاوت في الهداية للمبالغة بشأن هذا التّفاوت ، بتنزيل غيره منزلة العدم ، كما أشار إليه الشّارح بقوله : «لأنّها المقصود الأصليّ من الإنزال» ، فلا وجه لما قيل من أنّ الكتب السّماويّة تتفاوت أيضا بحسب جزالة النّظم وبلاغته كالقرآن حيث إنّه فاق سائر الكتب باعتبارهما ، فكيف يحصر المصنّف تفاوت الكتب السّماويّة في الهداية ، فيقال : إنّ حصر التّفاوت في الهداية للمبالغة بشأن هذا التّفاوت بتنزيل غيره منزلة العدم فحينئذ اتّحدت الجملتان في إرادة الكمال في الهداية ، وصار هو هدى تأكيدا لفظيّا ل (ذلِكَ الْكِتابُ).

(٤) أي مرتبة (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) بالنّسبة إلى (ذلِكَ الْكِتابُ) في إفادة التّقرير مرتبة زيد الثّاني في جاءني زيد زيد.

٨١

في جاءني زيد زيد] لكونه (١) مقرّرا ل (ذلِكَ الْكِتابُ) مع اتّفاقهما في المعنى بخلاف (لا رَيْبَ فِيهِ) (٢) فإنّه يخالفه معنى [أو (٣)] لكون الجملة الثّانية [بدلا منها] أي من الأولى

________________________________________

(١) علّة لكون وزان (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وزان زيد الثّاني ، أي لكون (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) مقرّرا لقوله تعالى :

(ذلِكَ الْكِتابُ) «مع اتّفاقهما» أي اتّفاق (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) و (ذلِكَ الْكِتابُ) «في المعنى» ، لأنّ كلّا منهما بمعنى أنّ القرآن هو الكامل في الهداية.

وحاصل الكلام : إنّ مماثلة جملة هو هدى للمتّقين لزيد الثّاني في اتّحاد المعنى المراد ، أعني دفع توهّم الغلط والسّهو ونحوهما ، لأنّ التّأكيد اللّفظي كما مرّ في باب المسند إليه ، إنّما يؤتى به للتّقرير أو لدفع توهّم السّامع أنّ ذكر زيد الأوّل كان على وجه السّهو أو الغلط أو نحوهما ، وأنّ المراد عمرو مثلا ، فيؤتى بزيد الثّاني للتّقرير ، أو لدفع ذلك التّوهّم ، فكذلك قوله : هو هدى ، فإنّه إنّما أتى بها لكونه مقرّرا لقوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) ودافعا للتّوهّم المذكور ، أي كونه ممّا يرمى به جزافا.

(٢) أي إنّ قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) وإن كان مقرّرا ل (ذلِكَ الْكِتابُ) حيث نفى الرّيب عن شيء شهادة تبجيل بكماله قطعا ، فيكون مقرّرا ل (ذلِكَ الْكِتابُ) باعتبار حاصل معناه ومآله ، إلّا أنّ (ذلِكَ الْكِتابُ) يخالف (لا رَيْبَ فِيهِ) معنى ، أي من جهة مدلولهما المطابقيّ ، فلذا جعل (لا رَيْبَ فِيهِ) بمنزلة التّأكيد المعنويّ ل (ذلِكَ الْكِتابُ) هذا بخلاف (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) فإنّه متّحد ل (ذلِكَ الْكِتابُ) معنى ومقرّر له ، فيكون أشبه شيء بالتّأكيد اللّفظيّ الاصطلاحيّ الكائن في المفردات حيث إنّ المؤكّد موافق فيه للمؤكّد في المعنى ، مع كونه مفيدا لتقريره ، فجدير أن ينزّل (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) بمنزلة التّأكيد اللّفظيّ ل (ذلِكَ الْكِتابُ) ولو لا المغايرة في اللّفظ لكان تأكيدا لفظيّا من دون مؤنة التّنزيل.

(٣) أي قول المصنّف «أو بدلا منها» عطف على قوله : «مؤكّدة للأولى» فمعنى العبارة أنّ القسم الثّاني من كمال الاتّصال أن تكون الجملة الثّانية بدلا من الأولى ، فلا تعطف الثّانية على الأولى كما لا تعطف عليها إذا كانت مؤكّدة لها لما بين المؤكّد والتّأكيد والبدل والمبدل منه من كمال الاتّصال وربّما يقال : إنّ في كون الفصل في البدل من أجل كمال الاتّصال والاتّحاد نظرا ، وذلك لأنّ المبدل منه في البدل في حكم السّقوط وكالمعدوم ، ولا معنى لاتّحاد ما هو موجود مع ما هو بمنزلة المعدوم ، فالصّحيح أن يعلّل عدم جواز

٨٢

[لأنّها] أي الأولى [غير (١) وافية بتمام المراد ، أو كغير الوافية (٢)]

________________________________________

العطف ولزوم الفصل في البدل بأنّ المبدل منه في نيّة الطّرح عن القصد ، فصار العطف عليه كالعطف على المعدوم ، وهذا غير ممكن ، فإنّ العطف لا بدّ فيه من الطّرفين.

الجواب : إنّ الظّاهر عدم رجوع الإشكال إلى محصّل صحيح ، لأنّ المبدل منه في البدل إنّما هو في حكم السّقوط لا أنّه ساقط بالمرّة ، كيف أنّه يذكر توطئة لذكر البدل ، حتّى أنّه لا يجوز حذفه في غير باب الاستثناء ، فإذا ليس لحديث امتناع اتّحاد ما هو موجود مع ما هو في حكم المعدوم أساس صحيح ، فإنّ الممتنع هو اتّحاد الموجود مع المعدوم لا اتّحاد ما هو في حكم المعدوم مع كونه مقصودا توطئة وموجودا حقيقة مع ما هو موجود ومقصود بالذّات ، كما أنّه لا يضرّ على حديث الاتّحاد اشتمال البدل على معنى زائد ، أو كونه بعضا من المبدل منه فإنّ ما يجعل عطف بيان أيضا مشتمل على أمر زائد يوجب الإيضاح ، وما يجعل تأكيدا معنويّا ، أيضا لا يكون مدلوله المطابقيّ عين ما يدلّ عليه الأولى مطابقة ، وإنّ المراد الجدّي من المبدل منه في بدل البعض هو البعض لا الكلّ ، وإن كان مرادا بالإرادة الاستعماليّة ، فبالإضافة إلى المراد الجدّي يجري حديث الاتّحاد ، فيكون كافيا في الفصل ، ثمّ كون الجملة الثّانية بدلا من الأولى يمكن أن يكون بدل بعض أو اشتمال لا بدل غلط ، لأنّه لا يقع في فصيح من الكلام ولا بدل كلّ ، إذ لم يعتبره المصنّف في الجمل الّتي لا محلّ لها من الإعراب ، لأنّه لا يفارق الجملة التّأكيديّة إلّا باعتبار قصد نقل النّسبة إلى مضمون الجملة الثّانية في البدليّة دون التّأكيديّة ، وهذا المعنى لا يتحقّق في الجمل الّتي لا محلّ لها من الإعراب ، لأنّه لا نسبة بين الأولى منها وبين شيء آخر حتّى ينتقل إلى الثّانية ، وتجعل بدل من الأولى ، وإنّما يقصد من تلك الجمل استئناف إثباتها.

(١) قوله : «لأنّها غير وافية» علّة لمحذوف ، والتّقدير تبدل الثّانية من الأولى ، لأنّها أي الأولى غير وافية ... كما في بدل البعض وبدل الاشتمال.

(٢) أي لكونها مجملة أو خفيّة الدّلالة ، وملخّص الكلام أنّه : يمكن أن تكون الأولى كغير الوافية لإمكان أن يكون فيها إبهام ما مع كون المطلوب ممّا من شانه أن يعتنى به ، والثّانية وافيه بتمام المراد لكونها مفيدة للتّقرير ورافعة لما في الأولى من إجمال ما ، كما في بدل الكلّ بناء على القول باعتباره في الجمل.

٨٣

حيث يكون في الوفاء قصور ما (١) أو خفاء ما (٢) [بخلاف الثّانية] فإنّها (٣) وافية كمال الوفاء [والمقام يقتضي اعتناء بشأنه (٤)] أي بشأن المراد [لنكتة (٥) ككونه (٦)] أي المراد [مطلوبا في نفسه أو فظيعا (٧)

________________________________________

لا يقال : إنّ هذا بنافي مذهب المصنّف من عدم جريان بدل الكلّ في الجمل.

لأنّا نقول : إنّه لا منافاة بينهما لصحّة أن يكون هذا الكلام من المصنّف ناظرا إلى مذهب غيره ، حيث قال بجريان الكلّ في الجمل الّتي لا محلّ لها من الإعراب ، فقول المصنّف : «أو كغير الوافية» إشارة إلى مذهب غيره من جريان بدل الكلّ في الجمل كأنّه قال : أو كغير الوافية على ما مشى عليه غيرنا.

(١) أي حيث يكون في وفاء الأولى بالمراد قصور لكونها مجملة ، كما في الآية الآتية ، و «حيث» علّة لقوله : «كغير الوافية».

(٢) أي أو يكون في الأولى خفاء في الدّلالة على المراد ، كما في البيت الآتي.

(٣) أي الجملة الثّانية وافية كمال الوفاء بلا قصور ، ولا خفاء.

(٤) الجملة يمكن أن تكون حاليّة ، فالمعنى حينئذ لكون الأولى غير وافية بالمراد ، والحال إنّ المقام يقتضي اعتناء بشأنه ، فمن ثمّ أتى بالمبدل منه ، ثمّ بالبدل ، ولم يقتصر على البدل مع أنّ الوفاء إنّما هو به ، لأنّ قصد الشّيء مرّتين أوكد ، ويمكن أن تكون جوابا عمّا يقال : إنّ الجملة الأولى غير وافية كلّ الوفاء بالمراد ، فلم لم يقتصر عليها؟ ويوكّل فهم المراد للسّامع ، إذ الغرض قد يتعلّق بالإبهام. وحاصل الجواب إنّ البدل إنّما يؤتى به في مقام يقتضي الاعتناء بشأنه فتقصد النّسبة مرّتين في الجمل.

(٥) متعلّق بقوله : «يقتضي».

(٦) أي تلك النّكتة مثل كون المراد مطلوبا في نفسه ، أي بأن يكون ممّا يعتنى بشأنه وبيانه ، كما في الآية الآتية.

(٧) أي ككونه عظيما من القبح والشّناعة ، فلفظاعته كأنّ العقل لا يدركه ابتداء ، فيعتنى بشأنه ويبدّل منه ليتقرّر في ذهن السّامع بقصده مرّتين ، كأن يقال لامرأة : تزنين وتتصدّقين ، توبيخا لها ، أي لا تجمعي بين الأمرين ، ولا تزني ولا تتصدّقي ، هذا المثال بناء على صحّة جريان بدل الكلّ في الجمل الّتي لا محلّ لها من الإعراب.

٨٤

أو عجيبا (١) أو لطيفا (٢)] فتنزّل الثّانية من الأولى منزلة بدل البعض (٣) أو الاشتمال (٤) ، فالأوّل [نحو : (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)(١) (٥)

________________________________________

(١) أي لكونه عجيبا ، فيعتنى به لإعجاب المخاطب قصدا لبيان غرابته ، وكونه أهلا لأن ينكر إن ادّعى نفيه ، أو أهلا لأن يتعجّب منه كما في قولك : قال زيد لي قولا قال : أنا أهزم الجند وحدي ، وهذا بناء على جريان بدل الكلّ في الجمل الّتي لا محلّ لها من الإعراب ، وكما إذا رأيت زيدا محتاجا ويتعفّف ، فتقول : زيد جمع بين أمرين يحتاج ويتعفّف ، ونحو قوله تعالى : (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)(٢) فإنّ البعث والحياة بعد صيرورة العظام ترابا عجيب بل منكر عند من هو غافل عن قدرة الباري جلّت كبرياؤه ، وهذا المثال أيضا مثال بدل الكلّ والمثال العرفيّ نحو قولك : أعجبكم ما تعلمون من زيد ، أعجبكم مقادته الأسد ، إذا كان له أفعال عجيبة كثيرة يعرفها المخاطبون.

(٢) أي ظريفا مستحسنا فيقضى ذلك الاعتناء به كما قولك : أضحككم ما تعلمون من زيد أضحككم أنّه يصوت صوت حمار إذا كان له أفعال مضحكة كثيرة ، كأن يصوّت صوت ديك أو صوت كلب ، وهكذا ويعرفها المخاطبون.

(٣) أي في المفرد ، وإلّا فهي بدل حقيقة ، فلا معنى للتّنزيل.

(٤) أي تنزّل الثّانية من الأولى منزلة بدل الاشتمال ، ويمكن أن يقال بأنّ ضابط بدل الاشتمال أن يكون المبدل منه مقتضيا لذكر البدل ، وهو غير موجود هنا.

وأجيب بأنّ هذا ضابط البدل في المفردات ، ومحلّ الكلام هو البدل في الجمل.

(٥) الشّاهد في قوله تعالى : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) الآية حيث هذه الجملة بمنزلة البعض عن الجملة الأولى أعني قوله تعالى : (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) فيكون مثالا للقسم الأوّل ، أي تنزيل الثّانية منزلة بدل البعض من الأولى ، فلهذا لم تعطف الثّانية على الأولى ، وذلك للاتّصال بين البدل والمبدل منه.

لا يقال : الكلام فيما لا محلّ له من الإعراب ، و (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) لها محلّ من الإعراب وهو النّصب لأنّها مفعول لقوله : (اتَّقُوا) قبله.

__________________

(١) سورة الشّعراء : ١٣٢ ـ ١٣٤.

(٢) سورة المؤمنون : ٨١ و ٨٢.

٨٥

فإنّ المراد (١) التّنبيه على نعم الله تعالى] والمقام (٢) يقتضي اعتناء بشأنه ، لكونه (٣) مطلوبا في نفسه وذريعة إلى غيره (٤) [والثّاني] أعني قوله : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ) [أوفى بتأديته (٥)] أي تأدية المراد الّذي هو التّنبيه [لدلالته] الثّاني [عليها] أي على نعم الله تعالى [بالتّفصيل من غير إحالة (٦) على علم المخاطبين المعاندين ،

________________________________________

لأنّا نقول : هذه الجملة صلة الموصول ، وقد صرّح ابن هشام بأنّ المحلّ للموصول دون الصّلة فلا محلّ للصّلة.

(١) أي المراد من هذا الخطاب.

(٢) أي والحال إنّ المقام يقتضي اعتناء بشأن التّنبيه المذكور ، فتكون الجملة حاليّة.

(٣) أي لكون التّنبيه مطلوبا في نفسه ، لأنّ إيقاظهم عن سنة غفلتهم عن نعم الله أمر مطلوب في نفسه حيث إنّه مبدأ كلّ خير ، ويتوجّه الإنسان به إلى تفضّله تعالى ولطفه سبحانه ، وذلك يوجب أن يتصدّى لشكره هذه النّعم والإقدام بما هو وظيفة العبوديّة والمولويّة.

(٤) وهو التّقوى المذكور قبله بقوله تعالى : (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) بأن يعلموا بذلك التّنبيه إلى أنّ من قدر أن يتفضّل عليهم بهذه النّعم ، فهو قادر على الثّواب والعقاب ، فاتّقوه.

(٥) أي وجه كونه أوفى بتأدية المراد الّذي هو التّنبيه المذكور أنّ فيه تصريحا بنعم الله ، ولا ريب أنّ التّصريح أقوى في باب التّنبيه من الإشارة والبيان الإجمالي ، كما قال المصنّف : «لدلالته» أي دلالة الثّاني «عليها» أي على نعم الله تعالى بالتّفصيل.

(٦) أي من غير أن يحال تفصيلها على علم الخاطبين المعاندين للحقّ والكافرين به ، لأنّه لو أحيل تفصيلها إلى علمهم لربّما نسبوا تلك النّعم إلى قدرتهم جهلا منهم ، وينسبون له تعالى نعما آخر كالإحياء والتّصوير ونحوهما ممّا لا يتوهّم أحد كونه من قبل البشر.

٨٦

فوزانه (١) وزان وجهه في أعجبني زيد وجهه لدخول الثّاني (٢) في الأوّل (٣)] لأنّ (بِما تَعْلَمُونَ) يشمل الأنعام وغيرها (٤) [والثّاني] أعني المنزّل منزلة بدل الاشتمال (٥) [نحو أقول له :

ارحل (٦) لا تقيمنّ عندنا

وإلّا فكن في السّرّ والجهر مسلما

فإنّ المراد به] أي بقوله : ارحل [كمال إظهار الكراهة (٧) لإقامته] أي

________________________________________

(١) أي فمرتبة قوله تعالى : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) بالنّسبة إلى قوله تعالى : (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) مرتبة وجهه بالقياس إلى زيد في قولك : أعجبني زيد وجهه.

(٢) أي مضمون (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ).

(٣) أي (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) كما يدخل وجهه في زيد ويكون بدل بعض عن الكلّ.

(٤) أي غير الأنعام كالسّمع والبصر واللّمس والذّوق والإدراك والخيال والوهم والعزّ والرّاحة وسلامة البدن والأعضاء ومنافعها ، فما ذكر من النّعم في الجملة الثّانية بعض ما ذكر في الأولى كما أنّ الوجه بعض زيد ، فيكون قوله تعالى : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) بمنزلة بدل بعض لقوله تعالى : (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) كالوجه بالقياس إلى زيد.

(٥) أي المنزّل منزلة بدل الاشتمال في المفرد ، فلا يرد عليه أنّ قوله : «لا تقيمنّ» نفس بدل الاشتمال لما قبله ، فلا معنى للتّنزيل.

(٦) قوله : «ارحل» من الرّحل بمعنى خلاف الإقامة ، ومعنى البيت : أقول له اذهب لأنّك مسلم في الجهر وكافر في السّرّ ، ولا تقيمنّ في حضرتنا ، وإن لم ترحل فكن على ما يكون عليه المسلم من استواء الحالين في السّرّ والجهر ، أي في الباطن والظّاهر.

والشّاهد في البيت : هو كون الجملة الثّانية فيه بمنزلة بدل الاشتمال للأولى ، ولهذا فصلت عنها.

(٧) والأولى أن يقال : كمال إظهار الكراهة ، إذ ليس المقصود كمال إظهار الكراهة فقطّ بحيث يجوز كون الكراهة غير كاملة بل المقصود كمال الكراهة ، وكمال إظهارها معا ، ولعلّ هذا هو مراد المصنّف ، لكنّه حذفه ، لأنّ الاعتناء بشأن إظهار الكراهة يدلّ في الجملة على كمالها وشدّتها ، ثمّ إنّه ليس المراد بقوله ، فإنّ المراد به كمال إظهار الكراهة ، إنّ «ارحل»

٨٧

المخاطب [وقوله : لا تقيمنّ عندنا أوفى بتأديته (١) لدلالته] ، أي لدلالة لا تقيمنّ [عليه] أي على كمال إظهار الكراهة [بالمطابقة (٢) مع التّأكيد] الحاصل من النّون ، وكونها (٣) مطابقة باعتبار الوضع العرفيّ حيث يقال : لا تقم عندي ، ولا يقصد كفّه عن الإقامة ، بل

________________________________________

موضوع لكمال إظهار الكراهة لأنّه إنّما وضع لطلب الرّحيل ، لكن لمّا كان طلب الشّيء عرفا يقتضي غالبا محبّته ، ومحبّة الشّيء تستلزم كراهة ضدّه ، وهو الإقامة هنا ، فهم منه كراهة الإقامة ، والدّليل على ذلك قوله : «وإلّا فكن في السّرّ والجهر مسلما» فإنّه يدل على أنّ المراد ب «ارحل» كراهة إقامته لسوئه لا أنّه مأمور بالرّحيل مع عدم المبالاة بإقامته وعدم كراهتها ، بل لمصلحة له فيه مثلا ، والحاصل إنّ لفظ «ارحل» يكون دالّا على كراهة الإقامة التزاما ، وذكر هذا اللّفظ يفيد كمال إظهار الكراهة.

(١) أي تأدية المراد وهو كمال إظهار الكراهة ، وبعبارة أخرى تأدية المراد الّذي هو التّنبيه على كمال إظهار الكراهة لإقامة المخاطب.

(٢) أي دلالة مسمّاة مطابقة ، وحاصل الكلام في المقام : إنّ كلّا من «ارحل» و «لا تقيمنّ» وإن دلّ على كمال إظهار الكراهة إلّا أنّ دلالة «لا تقيمنّ» عليه بالمطابقة العرفيّة ودلالة «ارحل» عليه بالالتزام ، ولا ريب أنّ الدّلالة المطابقيّة أوفى من الدّلالة الالتزاميّة ، هذا مع أنّ «لا تقيمنّ» مؤكّدة بالنّون الثّقيلة والتّأكيد بها أيضا يفيد كمال الإظهار ، ف «لا تقيمنّ» أوفى ببيان المراد من «ارحل» لوجهين :

الأوّل : كونها دالّة عليه بالمطابقة العرفيّة.

والثّاني : اشتمالها على النّون الثّقيلة الّتي هي للتّأكيد ، فقول المصنّف مع التّأكيد حال من ضمير «دلالته» أي دلالته عليه بالمطابقة حال كونه مصاحبا للتّأكيد.

(٣) أي الدّلالة مطابقة ، هذا من الشّارح جواب عمّا يقال : إنّ قوله «لا تقيمنّ عندنا» إنّما يدلّ بالمطابقة على طلب الكفّ عن الإقامة ، لأنّه موضوع للنّهي ، وأمّا إظهار كراهة المنهيّ عنه ، وهو الإقامة ، فمن لوازمه ومقتضياته ، وحينئذ فدلالته عليه تكون بالالتزام دون المطابقة ، فكيف يدّعي المصنّف أنّها بالمطابقة.

وحاصل الجواب : إنّا نسلّم أنّ دلالته على إظهار كراهة الإقامة بالالتزام ، لكن هذا بالنّظر للوضع اللّغويّ ، ودعوى المصنّف أنّ دلالته عليه بالمطابقة بالنّظر للوضع العرفيّ

٨٨

مجرّد إظهار كراهة حضوره [فوزانه] أي وزان (١) لا تقيمنّ عندنا [وزان حسنها في ـ أعجبني الدّار حسنها (٢) ـ لأنّ (٣) عدم الإقامة مغاير للارتحال] فلا يكون (٤) تأكيدا [وغير داخل فيه (٥)]

________________________________________

لا اللّغويّ ، لأنّ لا تقم عندي ، صار حقيقة عرفيّة في إظهار كراهة إقامته حتّى أنّه كثيرا ما يقال : لا تقم عندي ، ولا يقصد بحسب العرف كفّه عن الإقامة الّذي هو المدلول اللّغويّ ، بل مجرّد إظهار حضوره وإقامته عنده سواء وجد معها ارتحال أم لا.

(١) أي مرتبة «لا تقيمنّ» مع قوله «ارحل» مرتبة «حسنها» مع «الدّار» في قولك : «أعجبني الدّار حسنها» في كونه بدل اشتمال.

(٢) أي بالقياس إلى الدّار ، هذا بناء على ما هو الحقّ من أنّ الأمر بالشّيء لا يقتضي تضمّنا النّهي عن ضدّه الخاصّ ، وأمّا على القول بالاقتضاء ، فمرتبة «لا تقيمنّ عندنا» بالنّسبة إلى «ارحل» مرتبة رأسه في ضرب زيد رأسه بالنّسبة إلى زيد ، إلّا أنّ هذا القول مزيّف.

(٣) أي إنّما كان وزانه وزان «حسنها» ، لأنّ عدم الإقامة الّذي هو مطلوب ب «لا تقيمنّ» ، «مغاير للارتحال» أي الّذي هو مطلوب بقوله : «ارحل» ، أي عدم الإقامة المطلوب ب «لا تقيمنّ» مغاير للارتحال المطلوب ب «ارحل» مفهوما ، لأنّ الارتحال إنّما يكون بعد الإقامة ولو ساعة ، وعدم الإقامة تدلّ على العدم الأزليّ الأصليّ والمغايرة بينهما ظاهرة ظهور الشّمس في رابعة النّهار.

(٤) أي فلا يكون قوله : «لا تقيمنّ» تأكيدا مطلقا لما عرفت من المغايرة بين «ارحل» و «لا تقيمنّ» بحسب المفهوم ، إذ يعتبر الاتّحاد الذّاتيّ بل المفهوميّ في التّأكيد اللّفظيّ ، وقد عرفت فقدان الاتّحاد الذّاتيّ في المقام ، وبهذا البيان لا يرد ما قيل : من أنّه إن أراد نفي التّأكيد اللّفظيّ ، فلا يكون مخرجا للتّأكيد المعنويّ ، وحينئذ لم يتمّ التّعليل ، وإن أراد نفي التّأكيد مطلقا فيرد عليه أنّ هذا يفيد أنّ التّأكيد المعنويّ لا يكون مغايرا في المعنى ، وهو مشكل بما تقدّم من قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) فإنّه تأكيد لقوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) مع مغايرته له في المعنى.

(٥) أي عدم الإقامة غير داخل في مفهوم الارتحال.

٨٩

فلا يكون (١) بدل بعض ، ولم يعتدّ (٢) ببدل الكلّ ، لأنّه إنّما يتميّز عن التّأكيد بمغايرة اللّفظين وكون المقصود (٣) هو الثّاني ، وهذا (٤) لا يتحقّق في الجمل لا سيّما الّتي لا محلّ لها من الإعراب (٥)

________________________________________

(١) أي فلا يكون «لا تقيمنّ» بدل بعض عن «ارحل».

(٢) أي لم يعتدّ المصنّف ببدل الكلّ ، أي لم يذكر ما يخرجه كما ذكر ما يخرج به بدل بعض ، كقوله : «وغير داخل فيه» ، وحاصل الكلام إنّ المصنّف لم يذكر ما ينفي به كون «لا تقيمنّ» بدل كلّ عن «ارحل» إذ يكفي في نفي «لا تقيمنّ» بدل كلّ عن «ارحل» نفى كونه تأكيدا عنه ، وذلك لعدم الفرق بين بدل الكلّ ، والتّأكيد في الجمل فحينئذ نفي التّأكيد يغني عن نفي بدل الكلّ فيها.

نعم ، يفرق بين بدل الكلّ ، والتّأكيد في المفردات كما أشار إليه الشّارح بقوله : «لأنّه إنّما يتميّز عن التّأكيد بمغايرة اللّفظين» ن وكون المقصود هو الثّاني.

وحاصل الفرق أنّه تجب مغايرة اللّفظين في البدل بخلاف التّأكيد اللّفظيّ حيث لا تجب فيه مغايرة اللّفظين ، بل تارة يتغايران وأخرى لا يكونان متغايرين ، هذا هو الفرق الأوّل ، والفرق الثّاني هو كون المقصود في البدل هو الثّاني ، أي بأن ننقل بسبب العامل إليها ، وهذا الفرق لا يتحقّق في الجمل.

(٣) أي كون المقصود بالنّسبة هو التّابع.

(٤) أي ما ذكر من الفرقين لا يتحقّق في الجمل ، لأنّ التّأكيد اللّفظيّ في الجمل فيه المغايرة بين اللّفظين دائما ، فلو كان بدل الكلّ يجري في الجمل لما تميّز عن التّأكيد ، فحينئذ لا بدل كلّ في الجمل ، لأنّ التّأكيد يغنى عنه فيها ، فلذا لم يعتدّ المصنّف ببدل الكلّ لفقد وجوده في الجمل.

(٥) أي لأنّه لا يتصوّر فيها أن تكون الثّانية هي المقصودة بالنّسبة ، إذ لا نسبة هناك بين الأولى وشيء آخر حتّى تنقل للثّانية وتجعل الثّانية بدلا من الأولى ، ويظهر من كلام الشّارح أنّ بدل الكلّ لا يكون في الجمل مطلقا سواء كان لها محلّ أم لا ، وهذا مخالف لما ذكره العلّامة السّيّد في حاشية الكشّاف من أنّ ذلك خاصّ بما لا محلّ له ، ثمّ الظّاهر إنّ قوله : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بدل كلّ من قوله : (إِنَّا مَعَكُمْ) وأرباب البيان لا يقولون بذلك في الجملة الّتي لا محلّ لها من

٩٠

[مع ما بينهما] أي بين عدم الإقامة والارتحال [من الملابسة] اللّزوميّة (١) فيكون (٢) بدل اشتمال والكلام (٣) في أنّ الجملة الأولى أعني ارحل ذات محلّ من الإعراب (٤) مثل ما مرّ (٥) في ارسوا نزاولها. وإنّما قال في المثالين (٦) إنّ الثّانية أوفى (٧) ، لأنّ الأولى

________________________________________

الإعراب ، ومقتضى ذلك أنّ الجمل الّتي لها محلّ يجرى فيها بدل الكلّ ، لأنّه يتأتّى فيها قصد الثّانية بسبب قصد نقل نسبة العامل إليها بخلاف الّتي لا محلّ لها من الإعراب ، فإنّه لا نسبة فيها للعامل حتّى تنقل إلى مضمون الجملة الثّانية.

(١) حيث إنّ الارتحال ملازم خارجا بعدم الإقامة ، لأنّ الأمر بالشّيء كالرّحيل يستلزم النّهي عن الضّدّ كالإقامة.

(٢) أي فيكون «لا تقيمنّ» بدل اشتمال عن «ارحل» ، لأنّه متقوّم على ركيزة واحدة ، وهي الملازمة والملابسة ، وقد عرفت أنّها موجودة في المقام.

(٣) مبتدأ وخبره قوله : «مثل ما مرّ» ، وهذا الكلام من الشّارح إشارة إلى ردّ ما يرد على المصنّف من أنّ التّمثيل بقول الشّاعر لكون الجملة الثّانية بدلا من الأولى لا يصحّ في المقام ، لأنّ محلّ الكلام هنا في الجملة الّتي لا محلّ لها من الإعراب ، والجملتان ـ أعني «ارحل» و «لا تقيمنّ» ـ في قول الشّاعر منصوبان محلّا بأقول ، فمحلّهما نصب بالقول.

وحاصل الرّدّ : إنّا لا نسلّم أنّ محلّ الكلام هو خصوص الجمل الّتي لا محلّ لها من الإعراب ، بل محلّ الكلام بيان كمال الاتّصال بين الجملتين لكون الثّانية بدلا عن الأولى بقطع النّظر عن كون الجملتين لهما محلّ من الإعراب أم لا.

(٤) أي ارحل منصوبة المحلّ باعتبار كون قوله : «ارحل» مفعولا للقول ، أعني أقول.

(٥) حيث تكون الجملة الأولى أعني ارسوا ، في محلّ النّصب ، لأنّها مفعول به لقوله : قال ، ونزاولها خبر مبتدأ محذوف ، أي نحن نزاولها ، وقيل : إنّ ما وقع في كلام الرّائد من الجملتين ليس لهما محلّ من الإعراب ، لأنّ كلّ واحدة منهما مستأنفة لا محلّ لها من الإعراب.

(٦) أي الآية والبيت.

(٧) أي أوفى بتأدية المراد ، فيدلّ لمكان أفعل التّفضيل على أنّ الجملة الأولى فيهما وافية بتمام المراد ، وذلك لما بيّن في علم النّحو من أنّه يجب في أفعل التّفضيل اشتراك المفضّل عليه والمفضّل في أصل المادّة.

٩١

وافية مع ضرب من القصور باعتبار الإجمال (١) وعدم مطابقة الدّلالة فصارت كغير الوافية [أو] لكون الثّانية [بيانا لها (٢)] أي للأولى [لخفائها (٣)] أي الأولى [نحو : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى)(١) (٥)

________________________________________

(١) أي الإجمال في الآية والبيت ، أمّا في الآية فلأنّ الجملة الأولى فيها تدلّ على النّعم المذكورة بالعموم بخلاف الثّانية ، فإنّها تدلّ عليها بالخصوص ، فتفوق الأولى من جهة كونها نصّا على المراد ، وأمّا الإجمال في البيت فواضح لا يحتاج إلى بيان ، لأنّ المراد ب «ارحل» هو إظهار الكراهة لإقامة المخاطب ، والجملة الأولى تدلّ على ذلك بمعونة قرينة متأخّرة ، وهي قوله : «وإلّا فكن في السّرّ والجهر مسلما» بخلاف الجملة الثّانية فإنّها تدلّ عليه بالمطابقة العرفيّة من دون الاحتياج إلى قرينة ، فالدّلالة في الجملة الثّانية مطابقيّة ، بخلاف الجملة الأولى حيث إنّ فيها قصور لأجل عدم مطابقة الدّلالة.

(٢) عطف على قوله : «مؤكّدة» أي وأمّا كمال الاتّصال فلكون الثّانية مؤكّدة للأولى أو بيانا لها ، أي القسم الثّالث من كمال الاتّصال أن تكون الجملة الثّانية بيانا للأولى. والقسم الأوّل أن تكون الثّانية مؤكّدة للأولى ، والقسم الثّاني من كمال الاتّصال أن تكون الجملة الثّانية بدلا للأولى ، وقد تقدّم الكلام في القسم الأوّل والثّاني.

(٣) علّة لكون الثّانية بيانا للأولى ، وذلك بأن تنزّل منزلة عطف البيان من متبوعه في إفادة الإيضاح ، والمقتضي للتّبيين أن يكون في الأولى نوع خفاء مع اقتضاء المقام إزالته لكون الحكم ممّا يعتنى به.

(٤) فعل ماض من الوسوسة ، وهي القول الخفيّ المقصود به الإضلال.

(٥) والشّاهد في الآية : في أنّ جملة (قالَ يا آدَمُ) عطف بيان لجملة (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ) ، ولذا فصّلت عمّا قبلها ، وبالجملة إنّ الجملة الأولى فيها خفاء ، إذ لم تتبيّن تلك الوسوسة ، فبيّنت بقوله : (قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) وأضاف الشّجرة للخلد بادّعاء أنّ الأكل منها سبب للخلود ، وعدم الموت ، ومعنى (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) لا يتطرّق إليه نقصان فضلا عن الزّوال ، وقول المصنّف : «فإنّ وزانه وزان أقسم بالله أبو حفص عمر» إشارة إلى ما روي أنّ إعرابيّا أتى عمر بن الخطّاب فقال : إنّ أهلي بعيد ، وإنّي على ناقة دبرا ،

__________________

(١) سورة طه : ١١٨.

٩٢

فإنّ وزانه] أي وزان (قالَ يا آدَمُ) [وزان عمر في قوله : أقسم بالله أبو حفص عمر] ما مسّها من نقب ولا دبر ، حيث جعل الثّاني (١) بيانا وتوضيحا للأوّل فظهر (٢) أنّ ليس لفظ (قالَ) بيانا وتفسيرا للفظ (فَوَسْوَسَ) حتّى يكون هذا من باب بيان الفعل لا من بيان الجملة ، بل المبيّن هو مجموع الجملة. [وأمّا كونها] أي الجملة الثّانية [كالمنقطعة عنها (٣)] أي عن الأولى [فلكون

________________________________________

عجفاء ، نقباء ، واستحمله فظنّه كاذبا ، فلم يحمله ، فأخذ الإعرابيّ بعيره ، واستقبل البطحاء ، وهو يقول : أقسم بالله أبو حفص عمر ما إنّ بها من نقب ولا دبر اغفر اللهمّ إن كان فجر ، أعني كذب ، حيث أقسم على أنّها ليست بنقباء ولا دبراء ، المسّ بمعنى اللّمس ، وهنا بمعنى الإصابة ، وما نافية ، النّقب ضعف أسفل الخفّ في الإبل من خشونة الأرض ، والدّبر جراحة الظّهر ، والفجر بمعنى الكذب.

(١) أي حيث جعل الثّاني في الآية وقول الأعرابيّ بيانا للأوّل ، فكما جعل عمر بيانا وتوضيحا لأبي حفص ، لأنّه كنية يقع فيها الاشتراك كثيرا كذلك وسوسة الشّيطان بيّنت بالجملة بعدها مع متعلّقاتها لخفاء تلك الوسوسة كما عرفت.

(٢) هذا جواب عمّا يقال اعتراضا على المصنّف : بأنّه لم لا يجوز أن يكون البيان في الآية المذكورة من باب بيان الفعل بالفعل ، فيكون البيان في المفردات لا في الجمل وحينئذ فلا يصحّ التّمثيل بالآية المذكورة.

وحاصل الجواب : إنّه ليس لفظ (قالَ) فقطّ بيانا للفظ (فَوَسْوَسَ) كي يكون البيان في المفردات ، بل المبيّن بفتح الياء بصيغة اسم المفعول مجموع الجملة ، وكذا المبيّن بصيغة اسم الفاعل هو مجموع الجملة ، والوجه في ذلك أنّه إذا اعتبر مطلق القول بدون اعتبار الفاعل لم يكن بيانا لمطلق الوسوسة ، إذ لا إبهام في مفهوم الوسوسة ، فإنّه القول الخفيّ بقصد الإضلال ، ولا في مفهوم القول أيضا ، بخلاف ما إذا اعتبر الفاعل فإنّه حينئذ يكون المراد منها فردا صادرا من الشّيطان ، ففيه إبهام يزيله قول مخصوص صادر منه.

(٣) أي فيجب فصلها عنها كما يجب الفصل بين كاملتي الانقطاع ، وهذا شروع في شبه كمال الانقطاع ، فكان المناسب أن يقول : وأمّا شبه كمال الانقطاع ، فلكون عطفها عليها موهما لعطفها على غيرها.

٩٣

عطفها عليها] أي عطف الثّانية على الأولى [موهما (١) لعطفها على غيرها] ممّا (٢) ليس بمقصود وشبّه (٣) هذا بكمال الانقطاع باعتبار اشتماله على مانع من العطف (٤) إلّا أنّه (٥) لمّا كان خارجيّا يمكن دفعه بنصب قرينة لم يجعل هذا من كمال الانقطاع [ويسمّى الفصل (٦) لذلك (٧)]

________________________________________

(١) أي موقعا في ذهن السّامع ، ووهمه عطف الجملة الثّانية على غير الجملة الأولى.

(٢) بيان ل «غيرها» ، أي الغير الّذي ليس العطف عليه مقصودا لأداء العطف عليه خللا في المعنى ، كما يتّضح ذلك في المثال الآتي.

(٣) هو بصيغة الفعل الماضيّ المبنيّ للفاعل ، أي وشبّه المصنّف «هذا» أي كون عطف الثّانية على الأولى موهما لعطفها على غيرها ممّا ليس بمقصود «بكمال الانقطاع ...».

(٤) أي مع وجود المصحّح للعطف فيه ـ لو لا المانع ـ وهو التّغاير والمانع هو إيهام خلاف المقصود.

(٥) أي المانع لمّا كان خارجيّا يمكن دفعه بنصب قرينة لم يجعل هذا من كمال الانقطاع ، وحاصل الكلام في هذا المقام : أنّه يمكن أن يكون قوله : «إلّا أنّه لمّا خارجيّا ...» جوابا عن سؤال مقدّر تقريره : أنّه لمّا كان إيهام العطف على غير المقصود مانعا من العطف فليكن ذلك من كمال الانقطاع ، كما أنّ الجملتين اللّتين بينهما الاختلاف في الخبريّة والإنشائيّة من كمال الانقطاع والمانع من العطف في مورد الاختلاف هو نفس الاختلاف في الخبريّة والإنشائيّة.

وحاصل الجواب : أنّه لم تجعل الجملتان اللّتان بينهما مانع الإيهام ممّا بينهما كمال الانقطاع مع مشاركتهما لهما في وجود المانع ، لأنّ مانع الإيهام عارض يمكن دفعه بالقرينة ، بخلاف ما بينهما كمال الانقطاع ، فالمانع فيهما ذاتيّ لا يمكن دفعه ، وبعبارة أخرى : إنّ المانع فيهما من نفس الجملتين ، وهو كون إحداهما خبرا والأخرى إنشاء.

(٦) أي ترك العطف.

(٧) أي لدفع إيهام العطف على غير المقصود.

٩٤

قطعا (١) ، مثاله (٢) :

وتظنّ سلمى (٣) أنّني أبغي بها بدلا

أراها في الضّلال تهيم (٤)]

فبين الجملتين (٥) مناسبة ظاهرة لاتّحاد المسندين (٦) ، لأنّ معنى أراها أظنّها ، وكون المسند إليه في الأولى محبوبا وفي الثّانية محبّا ، لكن ترك العاطف لئلّا يتوهّم أنّه (٧)

________________________________________

(١) مفعول ثان لقوله : «يسمّى» والأوّل نائب الفاعل الّذي هو الفصل سمّي قطعا ، إمّا لكونه قاطعا للوهم ، أي لتوهّم خلاف المراد ، أو لأنّ كلّ فصل قطع فيكون من تسميّة المقيّد باسم المطلق.

(٢) أي مثال الفصل لدفع الإيهام المسمّى بالقطع ، وإنّما عبّر بالمثال دون الشّاهد ، لمكان احتمال الاستئناف في قوله : «أراها» فيكون الفصل حينئذ لما بينهما من شبه كمال الاتّصال لا لما بينهما من شبه كمال الانقطاع والاحتمال لا يضرّ في المثال ، ويضرّ في الشّاهد.

(٣) سلمى كسكرى ، اسم امرأة ، أي تظنّ سلمى أنّي أطلب عنها بدلا ، «أراها» بصيغة المجهول بمعنى أظنّها بصيغة المعلوم أي أظنّها متحيّرة في أودية الضّلال.

(٤) مضارع من هيما ، يقال : هام على وجهه ، يهيم هيما وهيمانا ذهب في الأرض من العشق وغيره. والشّاهد في البيت : أنّه فصل أراها عمّا قبلها ، أعني تظنّ سلمى ، لدفع توهّم خلاف المقصود ، أي لئلّا يتوهّم عطفها على «أبغي» فيكون من مظنونات سلمى وهو خلاف المراد.

(٥) أي قوله : «وتظنّ سلمى» ، وقوله : «أراها» ، «مناسبة ظاهرة».

لا يقال : إنّ الوصل يقتضي مناسبة ، فالمناسبة لا تناسب كمال الانقطاع ، ولا شبهه.

فإنّه يقال : بأنّ المناسبة الّتي لا تناسبه هي المصحّحة للعطف بخلاف الّتي معها الإيهام المنافي للعطف فيصحّ وجودها فيه.

(٦) وهما «تظنّ» و «أراها» حيث يكون «أراها» أظنّها وهما متّحدان معنى ، وكذلك بينهما مناسبة باعتبار المسند إليهما لأنّ المسند إليه في الأولى محبوب ، وفي الثّانية محبّ وكلّ من المحبّ والمحبوب يشبه أن يتوقّف تعقّله على تعقّل الآخر ، فيكون بينهما شبه التّضايف ، فبين الجملتين مناسبة باعتبار المسندين والمسند إليهما.

(٧) أي الجملة الثّانية ، وذكر ضمير المذكّر باعتبار أنّها كلام ، وحاصل الكلام في

٩٥

عطف على أبغي ، فيكون (١) من مظنونات سلمى [ويحتمل الاستئناف (٢)] كأنّه قيل : كيف تراها في هذا الظّنّ (٣)؟ فقال : أراها تتحيّر في أودية الضّلال. [وأمّا كونها] أي الثّانية [كالمتّصلة بها] أي بالأولى [فلكونها] أي الثّانية [جوابا لسؤال اقتضته (٤) الأولى فتنزّل] الأولى [منزلته] أي السّؤال لكونها (٥)

________________________________________

المقام : أنّه لو عطف جملة «أراها» على جملة تظنّ سلمى لكان صحيحا إذ لا مانع من العطف عليه ، إذ المعنى حينئذ أنّ سلمى تظنّ كذا ، وأظنّها كذا ، وهذا المعنى صحيح ، ومراد للشّاعر ، إلّا أنّه قطعها ، ولم يقل : وأراها ، لئلّا يتوهّم السّامع أنّها عطف على «أبغي» وحينئذ يفسد المعنى المراد ، إذ المعنى حينئذ أنّ سلمى تظنّ أنّني أبغي بها بدلا ، وتظنّ أيضا أنّني أظنّها تهيم في الضّلال ، وليس هذا مراد الشّاعر ، لأنّ مراده أنّني أحكم على سلمى بأنّها أخطأت في ظنّها أنّي أبغي بها بدلا.

(١) أي فيكون قوله : «أراها» من مظنونات سلمى ، وليس الأمر كذلك ، كما عرفت ، لأنّ مراد الشّاعر : أنّني أحكم على سلمى بأنّها أخطأت في ظنّها أنّي أبغي بها بدلا.

(٢) أي يحتمل أن يكون قوله : «أراها» استئنافا بيانيّا ، أي جوابا عن سؤال مقدّر ، وهو كيف تراها في هذا الظّنّ؟ فقال : أراها مخطئة تتحيّر في أودية الضّلال.

(٣) أي هل هذا الظّنّ صحيح أم لا؟ الجواب : أراها تتحيّر في أودية الضّلال ، أي الضّلال الشّبيه بالأودية ، فهو من إضافة المشبّه به إلى المشبّه ، فعليه يكون الفصل لأجل شبه كمال الاتّصال ، ولا يكون البيت مثالا لما نحن فيه ، بل يكون مثالا لشبه كما الاتّصال ، كما يأتي في قوله : «وأمّا كونها كالمتّصلة بها» فيكون المانع من العطف حينئذ كون الجملة الثّانية كالمتّصلة بما قبلها ، لاقتضاء ما قبلها السّؤال أو تنزيله منزلة السّؤال ، والجواب ينفصل عن السّؤال لما بينهما من الاتّصال.

(٤) أي السّؤال لما اشتملت عليه الجملة الأولى ، ودلّت عليه بالفحوى ، وذلك لكونها مجملة في نفسها باعتبار الصّحّة وعدمها ، كما في المثال السّابق أعني قوله : «وتظنّ سلمى ...» فإنّ الظّنّ يحتمل الصّحّة وعدمها ، أو لكونها مجملة السّبب ، أو غير ذلك ممّا يقتضي السّؤال على ما سيأتي تفصيله.

(٥) أي الأولى.

٩٦

مشتملة عليه (١) ومقتضية له [فتفصل] الثّانية [عنها] أي عن الأولى [كما يفصل الجواب عن السّؤال (٢)] لما بينهما (٣) من الاتّصال ، قال [السّكاكي (٤) : فينزّل ذلك] السّؤال الّذي تقتضيه الأولى ، وتدلّ عليه بالفحوى [منزلة السّؤال الواقع] ويطلب (٥) بالكلام الثّاني وقوعه (٦)

________________________________________

(١) أي على السّؤال ، وقوله : «مقتضية له» عطف تفسير على قوله : «مشتملة عليه» أي بسبب اقتضاء الأولى للسّؤال ، واشتمالها عليه تنزّل تلك الجملة الأولى منزلة ذلك السّؤال المقدّر ، لأنّ السّبب ينزّل منزلة المسبّب لكونه ملزوما له ، ومقتضيا له.

(٢) أي كما يفصل الجواب عن السّؤال المحقّق لما بين السّؤال والجواب من الاتّصال والرّبط الذّاتيّ المنافي للعطف المقتضي للحاجة إلى العاطف.

(٣) أي بين السّؤال المحقّق والجواب من الاتّصال المانع من العطف ، فكما أنّ الاتّصال بين السّؤال المحقّق وجوابه مانع عن العطف ، فكذلك الاتّصال بين السّؤال التّنزيلي وجوابه مانع عن العطف.

(٤) الفرق بين ما ذكره المصنّف ، وما ذهب إليه السّكّاكي : أنّ مذهب المصنّف هو تنزيل الجملة الأولى منزلة السّؤال فيعطي لها بالنّسبة إلى الثّانية حكم السّؤال بالنّسبة إلى الجواب ، وهو منع عطف الثّانية على الأولى ، كمنع عطف الجواب على السّؤال.

وحاصل ما ذهب إليه السّكّاكي : أنّ السّؤال الّذي اقتضته الجملة الأولى بالفحوى ـ أي بقوّة الكلام باعتبار قرائن الأحوال ـ ينزّل منزلة الواقع الموجود بالفعل ، وتجعل الثّانية جوابا عن ذلك السّؤال ، وحينئذ فتقطع الجملة الثّانية عن الجملة الأولى ، إذ لا يعطف جواب سؤال على كلام آخر ، وعلى هذا فالمقتضى لمنع العطف على مذهب السّكّاكي هو كون الجملة الثّانية جوابا لسؤال محقّق موجود ، وعلى مذهب المصنّف : تنزيل الجملة الأولى منزلة السّؤال ، فالجملة الثّانية عند المصنّف جواب عن الجملة الأولى ، وعند السّكّاكي جواب عن السّؤال المقدّر المنزّل بمنزلة السّؤال المحقّق.

(٥) أي ويقصد بالكلام الثّاني ، أعني الجملة الثّانية.

(٦) أي وقوع الكلام الثّاني ، فوقوعه نائب فاعل ل «يطلب» والضّمير المجرور راجع إلى الكلام الثّاني.

٩٧

جوابا له (١) فيقطع عن الكلام الأوّل لذلك ، وتنزيله منزلة الواقع إنّما يكون [لنكتة كإغناء (٢) السّامع عن أن يسأل (٣) أو] مثل (٤) [أن لا يسمع (٥) منه] أي من السّامع [شيء] تحقيرا له ، وكراهة لكلامه (٦) ، أو مثل أن لا ينقطع كلامك بكلامه (٧) ،

________________________________________

(١) أي للسّؤال ، فيقطع الكلام الثّاني عن الكلام الأوّل «لذلك» أي لأجل كون الكلام الثّاني جوابا للسّؤال المقدّر ، إذ لا يعطف جواب سؤال على كلام آخر ، وذلك لعدم مناسبة له ، إن لم يكن منشأ للسّؤال المذكور ، ولشبه كمال اتّصاله به إن كان منشأ له ، والظّاهر إنّ صنع المصنّف أولى من صنع السّكّاكي ، لأنّ كلام كلّ واحد منهما لا يخلو عن التّنزيل ، ولكن في كلام المصنّف بيان ارتباط الجملتين بالذّاتّ ، وفي كلام السّكّاكي بالواسطة ، لأنّه ينزّل السّؤال المقدّر منزلة الواقع ، فيكون الجواب مرتبطا به ، ولمّا كان السّؤال ناشئا عن الجملة السّابقة ، فيكون الجواب مرتبطا بها بواسطة السّؤال ، بخلاف ما إذا تنزّلت الجملة الأولى منزلة السّؤال ، فإنّ ارتباط الجواب بها بالذّاتّ ، لأنّها عين السّؤال ادّعاء.

(٢) أي تنزيل السّؤال المقدّر منزلة السّؤال الواقع لأجل أن يكون الكلام الثّاني جوابا له ، إنّما يكون لنكتة ، وظاهر كلام الشّارح أنّ النّكتة خاصّة بالتّنزيل على كلام السّكّاكي ، مع أنّ التّنزيل على مذهب المصنّف أيضا إنّما يكون لنكتة ، فكان الأولى للشّارح أن يعمّم في كلامه بأن يقول : والتّنزيل ، إنّما يكون لنكتة ، ليشمل التّنزيلين ، اعني تنزيل الجملة الأولى منزلة السّؤال ، كما هو مذهب المصنّف ، وتنزيل السّؤال المقدّر منزلة السّؤال الواقع ، كما هو مذهب السّكّاكي.

(٣) أي كإغناء المتكلّم السّامع من أن يسال تعظيما له أو شفقة عليه.

(٤) تقدير «مثل» إشارة إلى أنّ قوله : «أو أن لا يسمع منه» عطف على قوله : «إغناء» أي ومثل إرادة أن لا يسمع منه شيء ، ولا يكون عطفا على «أن يسأل» وإنّما قدّر «مثل» لا الكاف ، لأنّها حرف واحد يستكره مزجها بالمتن من الشّارح.

(٥) مبنيّ للمفعول ، أي لا يسمع شيء من السّامع «تحقيرا له» أي عدّ السّامع حقيرا.

(٦) أي لكلام السّامع.

(٧) أي أو مثل عدم انقطاع كلامك أيّها المتكلّم بكلام السّامع ، وأنت تحبّ ذلك ، أي مثل إرادة عدم تخلّل كلامك بسؤاله لئلّا يفوت انسياق الكلام الّذي قصد أن لا ينسى منه شيء.

٩٨

أو مثل القصد إلى تكثير المعنى بتقليل اللّفظ (١) ، وهو (٢) تقدير السّؤال وترك العاطف (٣) أو غير (٤) ذلك ، وليس (٥) في كلام السّكّاكي دلالة على أنّ الأولى تنزّل منزلة السّؤال ، فكأنّ المصنّف (٦) نظر إلى أنّ قطع الثّانية عن الأولى مثل قطع الجواب عن السّؤال ،

________________________________________

(١) أي مع تقليل اللّفظ ، فتكون الباء بمعنى مع.

(٢) أي تكثير المعنى مع تقليل اللّفظ ، يحصل بتقدير السّؤال وترك العاطف ، فكان الأولى أن يقول : وهو بتقدير السّؤال ، أي بسبب تقدير السّؤال ، كما في المطوّل.

(٣) فترك العاطف سبب لتقليل اللّفظ ، وتقدير السّؤال سبب لتكثير المعنى.

(٤) عطف على «إغناء» أو على «القصد» أي أو غير ما ذكر مثل التّنبيه على فطانة السّامع ، وأنّ المقدّر عنده كالمذكور.

(٥) هذا الكلام من الشّارح إشارة إلى الاعتراض على المصنّف.

وحاصله : أنّ المصنّف مختصر لكلام السّكّاكي ، وتابع له ، وهو لم يقل بما قاله المصنّف من تنزيل الجملة الأولى منزلة السّؤال المقدّر ، فهو مخطئ في كلامه ، وناسب إليه ما لم يقله.

(٦) هذا الكلام من الشّارح اعتذار عن المصنّف في مخافته للسّكّاكي ، وجواب عن الاعتراض الوارد على المصنّف.

وحاصله : أنّ المصنّف لم يخطأ فيما ذكره بسبب نسبته إلى السّكّاكي ما لم يقله ، لأنّه وإن كان مختصرا لكلام السّكّاكي ، لكنّه مجتهد في هذا الفنّ ، فتارة يخالف اجتهاده اجتهاد السّكّاكي ، وتارة يوافقه ، فما ذكره هنا مبنيّ على مخالفة اجتهاده له.

والسّرّ في هذه المخالفة أنّه نظر إلى أنّ قطع الثّانية عن الأولى لمّا كان كقطع الجواب عن السّؤال ، لكونها كالمتّصلة بها ، لزم كون الأولى تنزّل منزلة السّؤال ، لأنّ إلحاق القطع بالقطع يقتضي إلحاق المقطوع عنه الّذي هو الأولى بالمقطوع عنه الّذي هو السّؤال ، وإلّا كان القطع لا من جهة الاتّصال المنسوب للجواب والسّؤال ، بل من جهة أخرى ، فما ذكره ليس دالّا على خطئه في فهم كلام السّكّاكي ، أو تعمّده في الكذب ، بل دالّ على المخالفة في الاجتهاد.

٩٩

إنّما يكون (١) على تقدير تنزيل الأولى منزلة السّؤال وتشبيهها به ، والأظهر أنّه (٢) لا حاجة إلى ذلك (٣) ، بل مجرّد كون الأولى منشأ للسّؤال كاف في ذلك (٤) ، أشير إليه (٥) في الكشّاف.

________________________________________

(١) قوله : «إنّما يكون ...» خبر أنّ في قوله : «أنّ قطع الثّانية ...» فالمعنى فكأنّ المصنّف نظر إلى أنّ قطع الثّانية عن الأولى مثل قطع الجواب عن السّؤال إنّما يكون في تلك الحالة ، أي حالة تنزيل الأولى منزلة السّؤال لا في حالة تنزيل السّؤال المقدّر منزلة الواقع. كما قال السّكّاكي : وأمّا قوله : «مثل قطع الجواب عن السّؤال» فهو مفعول مطلق ، أي أنّ قطع الثّانية عن الأولى يكون قطعا ممّاثلا لقطع الجواب عن السّؤال «وتشبيهها به» أي تشبيه الجملة الأولى بالسّؤال.

(٢) أي الضّمير للشّأن.

(٣) أي إلى تنزيل الجملة الأولى منزلة السّؤال لقطع الجملة الثّانية عنها. وبعبارة أخرى إنّ قطع الجملة الثّانية عن الأولى لا يحتاج إلى التّنزيل المذكور ، بل مجرّد كون الجملة الأولى منشأ للسّؤال يكفي في قطع الثّانية عن الأولى ، وعدم عطفها عليها ، فهذا اعتراض على المصنّف بحسب اجتهاده بمعنى أنّه وإن لم يكن مخطئا في نقل كلام السّكّاكي ، إلّا أنّه مخطئ في اجتهاده ، وذلك لأنّ كون الجملة الأولى منشأ للسّؤال كاف في قطع الجملة الثّانية عن الأولى ، ولا حاجة إلى التّنزيل المذكور ، لأنّ الثّانية الّتي هي الجواب تكون كالمتّصلة بالجملة الأولى.

(٤) أي في قطع الثّانية عن الأولى وعدم عطفها عليها.

نعم ، لازم هذا الكلام أن يكون السّكّاكي أيضا مخطئا في اجتهاده ، إذ لو كان مجرّد كون الأولى منشأ للسّؤال كافيا في قطع الثّانية عن الأولى ، لأنّ الثّانية كالمتّصلة بها لمّا كان حاجة إلى تنزيل السّؤال المقدّر منزلة السّؤال المحقّق ، كما صنعه السّكّاكي.

(٥) أي إلى عدم الحاجة إلى التّنزيل مطلقا ، فالمتحصّل ممّا ذكرناه أنّ كلّا من المصنّف والسّكّاكي مخطئ في اجتهاده ، وإنّما المصيب هو صاحب الكشّاف حيث جعل الاستئناف كالجاري على المستأنف عنه ، وكالمتّصل به ، ولهذا لا يصحّ عطفه عليه لما بينه وبينه من الاتّصال ، ولو كان على تقدير السّؤال ، وتنزيل المستأنف عنه منزلة السّؤال لم يصلح كون الجواب كالجاري عليه ، إذ لا يجرى الجواب على السّؤال ، فقد اكتفى بمجرّد

١٠٠