دروس في البلاغة - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

وأيضا العطف على المتبوع هو الأصل (١) [وعلى الثّاني] أي على تقدير أن لا يكون للأولى محلّ من الإعراب [إن قصد (٢) ربطها بها] أي ربط الثّانية بالأولى [على معنى عاطف سوى الواو عطفت] الثّانية على الأولى [به] أي بذلك العاطف من غير اشتراط أمر آخر (٣)

________________________________________

(١) أي الرّاجح ، فلا يعدل عنه من غير ضرورة.

(٢) أي حاصل ما ذكره المصنّف أنّه إذا لم يكن للأولى محلّ من الإعراب ، فإن لم يقصد ربط الثّانية بالأولى ، بأن لا يراد إفادة اجتماعهما في الوجود الخارجيّ ، فالفصل متعيّن ، سواء كان بينهما كمال الانقطاع بلا إيهام خلاف المقصود في الفصل ، أو كمال الاتّصال ، أو شبه كمال الاتّصال ، أو شبه كمال الانقطاع ، أو كمال الانقطاع مع إيهام خلاف المقصود في الفصل ، أو التّوسّط بين الكمالين ، وإن قصد ربطها بها ، فإن كان الرّبط على معنى عاطف سوى الواو بأن كان معنى ذلك العاطف متحقّقا ومقصودا ، وجب العطف بذلك الغير في الأحوال السّتّة ، وإن كان العطف على معنى عاطف هو الواو ، فإن كان للأولى قيد لم يقصد إعطاؤه للثّانية ، فالفصل متعيّن في الأحوال السّتّة ، ولا يجوز عليه الجري على طبق قصده في مقام الإثبات ، بل لا بدّ له من رفع اليد عن مقتضاه ، وإن لم يكن للأولى قيد أصلا ، أو لها قيد وقصد إعطاؤه للثّانية ، فالفصل متعيّن ، إن كان بين الجملتين كمال الانقطاع بلا إيهام لخلاف المقصود في الفصل ، أو كمال الاتّصال ، أو شبه كمال الانقطاع أو شبه كمال الاتّصال ، والوصل متعيّن إذا كان بينهما كمال الانقطاع مع إيهام خلاف المقصود في الفصل ، أو التّوسّط بين الكمالين ، وصعوبة هذا الباب ليست من جهة تعداد هذه الصّور ومعرفة أحكامها ، بل من جهة تشخيص تلك الصّور واستخراج الجهة الجامعة في الأخيرتين ، وإحراز عدمها في غيرهما.

(٣) أي كالجهة الجامعة لهما في العقل أو الوهم أو في الخيال وظاهر هذا أنّه في هذا الفرض يجب العطف بغير الواو عند تحقّق معناه وإرادته مطلقا ، أي في الأحوال السّتّة الآتية ، وقد بيّنّاها ، وسواء كان للأولى قيد قصد إعطاؤه للثّانية ، أو قصد عدم إعطائه لها أو لم يكن لها قيد أصلا ، وهو كذلك.

فالأوّل نحو قولك : جاء زيد راكبا فذهب عمرو راكبا ، والثّاني نحو قولك : جاء زيد راكبا فذهب عمرو راكبا ، والفرق بين المثالين بالقصد وعدمه ، بل قصدت في المثال الثّاني كون ذهابه ماشيا. والثّالث كمثال المصنّف ، أي قوله : دخل زيد فخرج عمرو ... قال

٦١

[نحو : دخل زيد فخرج عمرو ، أو ثمّ خرج عمرو إذا قصد التّعقيب (١) أو المهلة (٢)] وذلك (٣) لأنّ ما سوى الواو من حروف العطف يفيد (٤) مع الاشتراك معاني محصّلة (٥) مفصّلة في علم النّحو ،

________________________________________

المصنّف : «إن قصد ربطها بها» ، ولم يقل : إن قصد تشريك الثّانية لها في معنى عاطف غير الواو مع أنّه الأنسب بقوله في القسم الأوّل : إن قصد تشريك الثّانية لها في حكمه نظرا لكون الجملة الأولى في القسم الأوّل لها إعراب فناسب أن يعبّر بالتّشريك في جانبها ، ولمّا لم يكن للأولى هنا إعراب عبّر بقصد الرّبط ، أي ربطها ربطا يفيد فائدة تحصل من حرف العطف غير الواو.

(١) راجع وناظر إلى العطف بالفاء.

(٢) راجع وناظر إلى العطف بثمّ ولو قال : إذا قصد التّرتيب بلا مهلة ، أو التّرتيب بمهلة كان أحسن.

(٣) أي عدم اشتراط أمر آخر في صحّة العطف بغير الواو.

(٤) أي يفيد ما سوى الواو مع اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في حكم الإعراب ، أو مجرّد الحصول الخارجيّ.

(٥) أي حصّلها الواضع ووضعها بإزائها مفصّلة في علم النّحو ، فإذا وجد معنى منها كان كافيا في صحّة العطف بالحرف الدّالّ عليه ، وإن لم توجد جهة جامعة ، وقد علمت المعنى المحصّل للفاء وثمّ وهو التّعقيب في الأوّل ، والمهلة في الثّاني ، فهما وإن شاركا الواو في مطلق الجمع ، لكن لكلّ منهما معنى خاص به ، وهو ما ذكرناه.

وأمّا حتّى فإن قلنا إنّها لا تعطف إلّا المفردات فهي فيها لعطف الجزء على الكلّ ، ولا يكون ذلك الجزء إلّا غاية في الرّفعة ، كمات النّاس حتّى الأنبياء ، أو في الدّناءة كرزق النّاس حتّى الكافرون ، وهذا المعنى أخصّ من مطلق الاجتماع في الحكم ، فهو كاف فيها ، فلا يطلب جامع آخر ، وإن قلنا إنّها يعطف بها الجمل أيضا ، فمضمون الجملة المعطوفة يجب أن يوجد فيه ما روعي في المفرد ، فيكفي في الإفادة ، وذلك واضح.

وأمّا لا فهي لنفي الحكم عمّا بعدها ، ولا يكون إلّا مفردا ، أو بمنزلته ، فإذا قلت : جاء زيد لا عمرو ، أفاد نفي المجيء الثّابت لزيد عن عمرو ، وذلك كاف في حسن الكلام ، فلا يطلب

٦٢

فإذا عطفت الثّانية على الأولى بذلك العاطف ظهرت الفائدة (١) أعني حصول معاني هذه الحروف بخلاف (٢) الواو ، فإنّه لا يفيد إلّا مجرّد الاشتراك (٣) وهذا (٤) إنّما يظهر فيما

________________________________________

فيه شيء آخر ، بشهادة الاستعمال والذّوق.

وأمّا أو وأمّا الّتي بمعناها عند مصاحبة الواو فمعانيهما المعلومة كافية في الإفادة من الشّكّ والإبهام والتّخيير والتّقسيم والإباحة ، سواء في ذلك الجمل والمفردات ، لأنّ المعنى المراعى فيهما واحد في الأمرين ، وإذا استعملت أو مثلا للإضراب ، فهي لاستئناف كلام آخر لا عاطفة ، كما في قوله تعالى : (كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) فتخرج عن هذا الباب.

وأمّا لكن فهي لإثبات الضّدّ ، وذلك كاف في الحسن ، وكذا بل حيث كانت عاطفة ، فهي في الجمل لتقرير مضمونها ، وفي المفردات لتقرير الحكم بعد الإثبات والأمر ، ولإثبات الضّدّ بعد النّفي والنّهي ، وذلك كاف بشهادة الاستعمال والذّوق.

(١) أي لا يتوقّف ظهورها على شيء آخر حتّى أنّه يشترط لصحّة العطف.

(٢) أي فإنّه لا يفيد إلّا اشتراك الجملتين في حكم الإعراب إن كان لهما محلّ من الإعراب ، فإن لم يكن لهما محلّ لم تفد الواو إلّا اشتراكهما في التّحقّق ، ولا توجّه للنّفس إلى اشتراكهما في التّحقّق بعد معرفة تحقّقهما ، لأنّه ليس معنى يعجب النّفس ، وإنّما يعجبها ويجعلها طالبة له بشرائط لا تتيسّر معرفتها إلّا لأوحديّ ، فلهذا حصر بعضهم البلاغة فيه ، مبالغة في كونه مدارا لها.

(٣) أي اشتراك المتعاطفين في موجب الإعراب أو في التّحقّق في الحصول في الخارج ، وإضافة مجرّد للاشتراك من إضافة الصّفة للموصوف ، أي الاشتراك المجرّد عن المعاني المحصّلة لغيرها.

(٤) أي إفادة الواو للاشتراك ، إنّما يظهر فيما له حكم إعرابي كالمفردات والجمل الّتي لها محلّ ، فإذا كان للجملة الأولى محلّ من الإعراب ظهر المشترك فيه ، وهو الأمر الموجب للإعراب ، فيصحّ أن يقال : اشتركت الجملتان أو المفردان في الخبريّة أو الحاليّة مثلا ، وحيث ظهر المشترك فيه حصل للعطف بها فائدة ، ولا يحتاج إلى جامع.

فإن قلت : هذا يقتضي أنّ العطف بالواو على الجملة الّتي لها محلّ من الإعراب لا يفتقر إلى جامع ، وقد تقدّم ما يخالف ذلك في قوله : «فشرط كونه مقبولا بالواو أن يكون بينهما

٦٣

له حكم إعرابيّ ، وأمّا في غيره (١) ففيه خفاء (٢) وإشكال (٣)

________________________________________

جامع».

وقد يجاب بأنّ : المراد بالجامع الغير المفتقر إليه ، هو الجامع الّذي يحتاج فيه إلى معرفة كمال الانقطاع وكمال الاتّصال وشبه كلّ منهما والتّوسّط بين الكمالين ، وهذا لا ينافي الافتقار لجهة جامعة ، أي لوصف خاصّ يجمعهما ، ويقرب إحداهما من الأخرى في العقل أو الوهم أو الخيال ، فقول الشّارح إنّما يظهر فيما له حكم إعرابيّ ، أي وكان هناك جهة جامعة ، والحاصل : إنّ الجملة الّتي لها محلّ من الإعراب بمنزلة المفرد فلا يحتاج فيها إلّا إلى جامع واحد كالمفرد بخلاف الّتي لا محلّ لها ، فإنّه تعتبر نسبتها وما يتعلّق بها من المفردات ، فيراعى في تلك النّسبة كمال الانقطاع والاتّصال وغيرهما ، ولهذا خصّصوا التّفصيل بالجملتين اللّتين لا محلّ لهما ، فلو كان ذلك التّفصيل جاريا في القسمين ، لم يكن وجه لتخصيصه بما لا محلّ لها من الإعراب.

(١) أي وأمّا في إفادة الواو الاشتراك في غير ما له حكم إعرابيّ ، وهو ما لا محلّ له من الإعراب.

(٢) وذلك لعدم ظهور الأمر المشترك فيه أعني الجامع.

(٣) أي دقّة من حيث توقّفه على الجهة الجامعة المتوقّفة على النّظر بين الجملتين لما يأتي من الأحوال السّتّة ، وما له حكم إعرابيّ ، وإن توقّف على الجهة الجامعة أيضا ، فليس فيه الخفاء والإشكال ، لأنّ الجامع فيه لا يحتاج لمعرفة ما يأتي.

والحاصل : إنّ الجمل الّتي لا محلّ لها من الإعراب تحتاج في عطفها بالواو إلى جامع مخصوص يكون مشتركا بين الجملتين جامع لهما ، واستخراج ذلك الجامع يتوقّف على معرفة أنّه هل بين الجملتين كمال الانقطاع أو كمال الاتّصال ، أو شبه كلّ منهما أو التّوسّط بينهما ، فإذا عرف أنّ بين الجملتين التّوسّط بين الكمالين أو كمال الانقطاع مع الإيهام وصل ، لوجود الجامع بينهما ، وإلّا فلا لعدم وجوده ، ولا شكّ أنّ معرفة أنّ بين الجملتين شيئا من هذه الأمور خفيّة جدّا لا يدركها إلّا ذوق سليم وفهم مستقيم كعلماء المعاني.

٦٤

وهو (١) السّبب في صعوبة باب الفصل والوصل حتّى (٢) حصر بعضهم البلاغة في معرفة الفصل والوصل. [وإلّا] أي وإن لم يقصد ربط الثّانية بالأولى على معنى عاطف سوى الواو (٣) [فإن كان للأولى حكم (٤) لم يقصد إعطاؤه للثّانية فالفصل] واجب ، لئلّا يلزم من الوصل التّشريك في ذلك الحكم (٥) [نحو : (وَإِذا خَلَوْا) الآية (٦) لم يعطف (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) على (قالُوا) لئلّا يشاركه (٧) في الاختصاص بالظّرف لما مرّ] من أنّ تقديم

________________________________________

(١) أي ما ذكر من الخفاء ، السّبب في صعوبة باب الفصل والوصل ، أي صعوبة معرفة مسائل باب الفصل والوصل.

(٢) غاية للصّعوبة ، ومراد هذا القائل هو التّنبيه على دقّة هذا الباب وصعوبته ، وليس مراده الحصر حقيقة.

(٣) بأن لا يقصد ربطهما أصلا ولو من ناحية الاجتماع في الحصول ، كما إذا أردت أن تخبر عن قيام زيد فتقول : قام زيد فبدا لك أن تخبر عن قعود خالد ، فتقول : قعد خالد ، ففي هذا الفرض الفصل متعيّن في جميع الأحوال الّتي ذكرناها ، وسيجيء بيانها من الشّارح ، أو قصد ربطهما لكن بمعنى عاطف هو الواو بأن يراد بيان اجتماع مضموني الجملتين في مجرّد الحصول الخارجيّ ، ففي هذا الفرض يجيء التّفصيل الّذي بيّنه المصنّف ، وهذا هو السّرّ في ترك الفرض الأوّل ، والتّعرّض لهذا الفرض.

(٤) أي قيد زائد على مفهوم الجملة كالاختصاص بالظّرف في الآية الشّريفة ، وليس المراد به هنا الحكم الإعرابيّ حيث إنّ المفروض إنّ الجملة الأولى ممّا لا محلّ لها من الإعراب.

(٥) والحال إنّه غير مقصود.

(٦) أي اذكر الآية إلى آخرها ، وهو قوله تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

(٧) لئلّا يشارك (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) قوله تعالى : (قالُوا) في الاختصاص بالظّرف لما مرّ في باب القصر من أنّ تقديم المفعول ونحوه من الظّرف وغيره يفيد الاختصاص ، فيلزم أن يكون استهزاء الله بهم مختصّا بحال خلوّهم إلى شياطينهم ، وليس الأمر كذلك ، وحاصل مقالته : إنّ قوله تعالى : (قالُوا) له حكم زائد وهو الاختصاص لمكان تقديم الظّرف ، وهو (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) وقد عرفت في باب القصر أنّ تقديم ما حقّه التّأخير يفيد الحصر ، فمعنى هذه

٦٥

المفعول ونحوه من الظّرف وغيره يفيد الاختصاص فيلزم أن يكون استهزاء الله بهم مختصّا بحال خلوّهم إلى شياطينهم ، وليس كذلك (١).

فإن قيل (٢) إذا شرطيّة لا ظرفيّة.

قلنا (٣) إذا الشّرطيّة هي الظّرفيّة استعملت استعمال الشّرط.

________________________________________

الجملة أنّ إخبارهم إخوانهم عن الثّبات على اليهوديّة مختصّ بوقت خلوّهم إلى شياطينهم ، وهذا الحكم الزّائد لم يقصد إعطاؤه ل (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) لأنّ استهزاءه سبحانه لهم ليس مختصّا بوقت خلوّهم مع شياطينهم بل إنّما هو دائم مستمرّ ، فمن ذلك لم يعطف على الجملة الأولى ، وفصّل وجوبا إذ لو عطف عليها للزم التّشريك في الاختصاص ، وهو غير مقصود.

(١) أي ليس كون الاستهزاء مختصّا بحال خلوّهم مع شياطينهم ، لأنّ استهزاء الله بهم بمعنى مجازاته لهم بالخذلان مستمرّ في جميع أحوالهم ، ولا اختصاص لها بوقت دون وقت ، وحال دون حال.

(٢) هذا اعتراض على قول المصنّف : لئلّا يشاركه في الاختصاص بالظّرف.

وحاصل الاعتراض : أنّ إذا في قوله تعالى : (وَإِذا خَلَوْا) شرطيّة لا ظرفيّة ، وحيث كانت شرطيّة فتقديمها لكونها مستحقّة للصّدارة لا للتّخصيص ، وحينئذ فالعطف لا يوجب خلاف المراد ، وبعبارة أن يقال في تقريب السّؤال : إنّما يكون الاختصاص المذكور إذا كانت إذا ظرفا ، فيلزم من تقديمها على العامل وجود الاختصاص ، وأمّا إذا كانت شرطيّة فتقديمها لاقتضائها الصّدريّة ، فلا يتحقّق الاختصاص.

(٣) وحاصل الجواب : إنّ إذا وإن كانت شرطيّة إلّا أنّ تقديمها مفيد للاختصاص نظرا لأصلها ، لأنّ إذا الشّرطيّة هي الظّرفيّة في الأصل ، وإنّما توسّع فيها باستعمالها شرطيّة ، وحيث كانت في الأصل ظرفيّة ، أفاد تقديمها الاختصاص ، ولو كانت فعلا شرطيّة ، إلّا أنّها يفيد تقديمها الاختصاص نظرا لأصلها.

٦٦

ولو سلّم (١) ، فلا ينافي ما ذكرناه (٢) ، لأنّه (٣) اسم معناه الوقت ، لا بدّ له من عامل ، وهو (٤) (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) بدلالة المعنى (٥) وإذا قدّم متعلّق الفعل وعطف فعل آخر

________________________________________

(١) أي ولو سلّم كون إذا شرطيّة غير ظرفيّة.

(٢) أي من لزوم الاختصاص بأن يكون استهزاء الله بهم مختصّا بحال خلوّهم إلى شياطينهم ، فيلزم ذلك أيضا عند كون إذا شرطيّة.

توضيح ذلك : أنّه لو سلّمنا شرطيّة إذا ، وعدم كون الظّرفيّة أصلا لها ، نقول : إنّها ولو كانت شرطيّة هي اسم فضلة يحتاج إلى عامل ، وهو هنا (قالُوا) لا الشّرط الّذي هو (خَلَوْا) إذ ليس المراد قطعا أنّ لهم وقتا يخلون فيه ، وإذا وقعت خلوتهم في ذلك الوقت ، نشأ عن ذلك قولهم في غير الخلوة أيضا ، لأنّهم منافقون ، وإنّما يقولون ما ذكر في الخلوة على ما هو معلوم من الخارج ، وإذا كان معمولا ل (خَلَوْا) وقد تقدّم عليه لشرطيّته ، أفاد بمفهومه أنّ القول ليس إلّا في وقت الخلوة ، فيلزم من العطف على (قالُوا) كون المعطوف مقيّدا بحكم المعطوف عليه بشهادة الذّوق والفحوى ، أي الاستعمال ، فإنّك إذا قلت : يوم الجمعة سرت وضربت زيدا على أنّ (ضربت) معطوف على (سرت) ، أفاد اختصاص الفعلين بالظّرف بخلاف ما إذا أخّر المعمول وقيل : سرت يوم الجمعة وضربت زيدا ، فلا يدّل على اشتراك الفعلين في الظّرف ، فضلا عن اختصاصهما به ، وهذا الجواب الثّاني محقّق لكون تقديم الشّرط يفيد الاختصاص نظرا لكونه معمولا كالظّرف.

(٣) أي إذا اسم معناه الوقت مع كونه شرطا.

(٤) أي العامل (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) أي الجزاء لا الشّرط الّذي هو (خَلَوْا) ، وهذا إنّما يصحّ على قول الجمهور : من أنّ العامل في إذا الشّرطيّة جوابها.

وأمّا على ما ذهب إليه الرّضي وأبو حيّان : من أنّ العامل فيها الشّرط ، فلا يتمّ ما ذكره من الجواب ، لأنّ (قالُوا) لم يتقدّم عليه معموله حينئذ ، فلا يتأتّى أن يقال : (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) تقدّم معموله فيؤذن تقدّمه بالاختصاص.

(٥) وهو أنّ قولهم مقيّد بوقت الخلوة ، لأنّهم منافقون ، وليس العامل (خَلَوْا) لعدم صحّة المعنى ، لأنّه ليس المراد أنّ لهم وقتا يخلون فيه ، وإذا وقعت خلوتهم فيه نشأ من ذلك قولهم في غير الخلوة أيضا ، وإنّما يقولون ما ذكر في الخلوة على ما هو معلوم من الخارج.

٦٧

عليه يفهم اختصاص الفعلين به ، كقولنا : يوم الجمعة سرت وضربت زيدا ، بدلالة (١) الفحوى والذّوق [وإلّا] عطف على قوله : فإن كان للأولى حكم ، أي وإن لم يكن للأولى حكم لم يقصد إعطاؤه للثّانية ، وذلك (٢) بأن لا يكون لها حكم زائد على مفهوم الجملة ، أو يكون ، ولكن قصد إعطاؤه للثّانية أيضا ، [فإن كان (٣) بينهما] أي بين الجملتين [كمال الانقطاع (٤) بلا إيهام] أي بدون أن يكون في الفصل إيهام خلاف المقصود (٥) [أو كمال الاتّصال (٦) أو شبه أحدهما] أي أحد الكمالين.

________________________________________

(١) متعلّق بقوله : «يفهم اختصاص الفعلين به» الفحوى قوّة الكلام باعتبار قرائن الأحوال ، وملخّص الكلام في المقام : أنّ القيد إذا تقدّم على المعطوف عليه وجب بحسب الاستعمال اعتباره في المعطوف أيضا ، وإن تأخّر عن المعطوف عليه ، وتقدّم على المعطوف صار المتقدّم عليه هو المستحقّ له أعني المعطوف ، فإذا صار المعطوف هو المستحقّ في فرض تقدّم القيد عليه فقطّ ، كان هو المستحقّ في فرض تقدّم القيد على المعطوف ، فالمعطوف عليه بطريق أولى.

(٢) أي النّفي المذكور يكون بطريقين هما بأن لا يكون للجملة الأولى حكم زائد على مفهوم الجملة ، أو يكون لها حكم زائد ولكن قصد إعطاؤه للثّانية أيضا ، أي كالأولى ، وذلك كقولك بالأمس : خرج زيد ودخل صديقه ، ومثال الأوّل كقولك : قام زيد وأكل عمرو ، حيث لا يكون للجملة الأولى حكم زائد على مفهومها.

(٣) تفصيل لما لا يكون للأولى حكم زائد على مفهوم الجملة لا تفصيل ما يكون للأولى مفهوم زائد ، وقصد إعطاؤه للثّانية ، فإنّ فيه الوصل لا الفصل.

(٤) أي بأن كانتا مختلفتين خبرا وإنشاء لفظا ومعنى.

(٥) بمعنى أنّ الجملتين إذا فصلتا لم يحصل فيهما إيهام خلاف المقصود والمراد ، بل يظهر المراد مع الفصل ، ولا يظهر مع الوصل.

(٦) كما إذا كانت الثّانية مؤكّدة للأولى ، ثمّ إنّه قد يقال : إنّه يمكن اعتبار الإيهام مع كمال الاتّصال أيضا ، أي كما كان يمكن اعتباره مع كمال الانقطاع والوجه فيه حينئذ العطف مثل كمال الانقطاع مع الإيهام ، فكان على المصنّف أن يقول : أو كمال الاتّصال بلا إيهام ، ويجعل الأقسام سبعة بزيادة كمال الاتّصال مع الإيهام على السّتّة ، ويحكم فيه بلزوم الوصل دفعا

٦٨

[فكذلك (١)] أي يتعيّن الفصل ، لأنّ الوصل يقتضي مغايرة ومناسبة. [وإلّا] أي وإن لم يكن بينهما كمال الانقطاع بلا إيهام (٢) ولا كمال الاتّصال ولا شبه أحدهما

________________________________________

لتوهّم خلاف المقصود في الفصل ، مثل إذا سألت : هل تشرب خمرا فقلت لا ، وتركت شربه يكون قولك : تركت شربه تأكيدا للنّفي السّابق ، ولو لم يؤت بالواو لتوهّم تعلّق النّفي بالتّرك فيلزم الوصل دفعا له بعين ما ذكره المصنّف في فرض كمال الانقطاع مع الإيهام ، كما في قولك : لا ، وأيّدك الله.

وقد أجيب عن ذلك بأنّه يمكن أنّ المصنّف حذف قوله : بلا إيهام من كمال الاتّصال اعتمادا على ذكره في كمال الانقطاع ، فعليه قوله الآتي أعني : وإلّا وصلت دخل تحته ثلاثة أمور : كمال الانقطاع مع الإيهام كما تعرّض له ، وكمال الاتّصال كذلك ، والتّوسّط بين الكمالين.

وردّ هذا الجواب : بأنّ الأمر لو كان كذلك لتعرّض هذا الفرض فيما يأتي من التّفصيل ، كما تعرّض لكمال الانقطاع بقسميه ، والحال أنّه لم يتعرّضه أصلا ، والصّحيح ما ذكره عبد الحكيم من أنّ عدم تقسيمه كمال الاتّصال إلى قسمين لمكان أنّ الفصل متعيّن فيه ، وإن كان فيه إيهام خلاف المقصود ، وذلك لأنّ المغايرة من جهة شرط في العطف جدّا ، ولا يرفع اليد عن اعتبارها بواسطة دفع إيهام خلاف المقصود مع إمكان هذا الدّفع بوجه آخر ، وفي المقام يمكن الدّفع بوجه آخر ، بأن يقال في المثال المذكور : لا قد تركت شربه ، هذا بخلاف كمال الانقطاع ، فإنّ مصحّح العطف وهو المغايرة متحقّق فيه ، والتّباين بينهما المنافي لكون العطف مقبولا بالواو لا يضرّ شيئا ، إذ لا يترتّب عليه دفع الإيهام ، واعتبار الاتّحاد من جهة في العطف ليس في الأهمّيّة بمكان لا يرفع اليد عنه لمراعاة دفع الإيهام إذا كان الدّفع ممكنا بغيره ، إنّما هو شرط استحسانيّ ، فترفع اليد عنه بأدنى نكتة مترتّبة على العطف بخلاف اعتبار المغايرة ، فإنّه وجوبيّ عند البلغاء ، لئلّا يلزم عطف الشّيء على نفسه ، أو ما شابه ذلك.

(١) هذا جواب لقوله : «فإن كان للأولى حكم» ومجموع الشّرط الثّاني وجوابه جواب لقوله : «وإلّا» ، واسم الإشارة في قوله : «فكذلك» إشارة إلى قوله : «فإن كان للأولى حكم لم يقصد إعطاؤه للثّانية ، فالفصل واجب» ، كما قال الشّارح «يتعيّن الفصل».

(٢) بأن لم يكن بينهما كمال الانقطاع أصلا ، أو كان ولكن مع إيهام.

٦٩

[فالوصل] متعيّن (١) لوجود الدّاعي (٢) وعدم المانع (٣) ، والحاصل أنّ للجملتين اللّتين لا محلّ لهما من الإعراب ولم يكن للأولى حكم لم يقصد إعطاؤه للثّانية ستّة أحوال : الأوّل : كمال الانقطاع بلا إيهام ، الثّاني : كمال الاتّصال ، الثّالث : شبه كمال الانقطاع ، الرّابع : شبه كمال الاتّصال ، الخامس : كمال الانقطاع مع الإيهام ، السّادس : التّوسّط بين الكمالين ، فحكم الأخيرين (٤) الوصل ، وحكم الأربعة (٥) السّابقة الفصل. فأخذ (٦) المصنّف في تحقيق الأحوال السّتّة فقال : [أمّا كمال الانقطاع] بين الجملتين [فلاختلافهما خبرا وإنشاء (٧) لفظا ومعنى (٨)]

________________________________________

(١) إذ فيه التّنصيص بالجمع بلا محذور ، سيّما في فرض أن يكون للأولى حكم قصد إعطاؤه للثّانية.

لا يقال : كان عليه أن يقول : فالوصل متعيّن إذا كان هناك جامع بينهما.

لأنّا نقول : إنّ هذا الفرض ثابت ومتحقّق ، إذ لو لم يكن هناك جامع لتحقّق كمال الانقطاع ، كما سيجيء.

(٢) وهو وجود المغايرة والمناسبة ، أي المغايرة من وجه ، والمناسبة من وجه في التّوسّط ، وكون الإيهام في كمال الانقطاع من إيهام.

(٣) أي عدم المانع من الوصل ، حيث لم يكن بينهما أحد الكمالين مع الإيهام المذكور ، ولا شبهه.

(٤) أي كمال الانقطاع مع الإيهام والتّوسّط بين الكمالين.

(٥) يعني كمال الانقطاع بلا إيهام ، وكمال الاتّصال وشبه كمال الانقطاع ، وشبه كمال الاتّصال.

(٦) الفاء واقعة في جواب شرط مقدّر ، أي وإذا أردت تحقيقها ، فقد أخذ ، أي فنقول لك : قد أخذ المصنّف في تحقيقها ، أي ذكرها على الوجه الحقّ.

(٧) منصوبان على التّمييز ، أي كونهما تمييزا عن النّسبة بين المصدر والضّمير المتّصل به ، أو على الخبريّة للكون المحذوف ، أي فلاختلافهما في كون إحداهما خبرا والأخرى إنشاء.

(٨) منصوبان بنزع الخافض ، أي في اللّفظ وفي المعنى ، فمعنى العبارة أنّ إحداهما خبر

٧٠

بأن تكون إحداهما (١) خبرا لفظا ومعنى ، والأخرى إنشاء لفظا ومعنى [نحو : وقال رائدهم] هو الّذي يتقدّم القوم لطلب الماء والكلأ (٢) [أرسوا] أي أقيموا (٣) ، من أرسيت السّفينة ، حبستها بالمرساة (٤) [نزاولها (٥)] أي نحاول (٦) تلك الحرب ونعالجها [فكلّ حتف امرئ يجري بمقدار (٧)]

________________________________________

لفظا ومعنى ، والأخرى إنشاء لفظا ومعنى ، فهذا هو كمال الانقطاع الّذي يمنع العطف عند انتفاء الإيهام.

(١) قصّر الشّارح كلام المصنّف على صورتين : وهما ما إذا كان الأولى خبريّة لفظا ومعنى ، والثّانية إنشائيّة لفظا ومعنى ، وبالعكس ، وهذا القصر إنّما جاء من جعل قوله : «لفظا ومعنى» راجعا لكلّ من قوله : «خبرا وإنشاء» ، مع أنّ مدلول العبارة الّتي ذكرها المصنّف يشمل أربع صور ، الصّورتين المذكورتين ، وما إذا كانت الأولى خبريّة لفظا إنشائيّة معنى والثّانية إنشائيّة لفظا خبريّة معنى ، والعكس ، وحينئذ فلا معنى لتخصيصها باثنين منها على ما في عروس الأفراح لابن السّبكي.

(٢) أي لأجل نزولهم عليه الكلأ هو العشب ، وقيل : ما ليس له ساق رطبة ويابسة ، وهذا تفسير للرّائد بحسب الأصل ، والمراد به هنا عرّيف القوم ، أي الشّجاع المقدام منهم ، وقول الرّائد مثال لكمال الانقطاع.

(٣) يعني بهذا المكان المناسب للحرب.

(٤) وهي بكسر الميم حديدة تلقى بالماء متّصلة بالسّفينة فتقف.

(٥) بالرّفع لا بالجزم ، جوابا للأمر ، لأنّ الغرض تعليل الأمر بالإرساء بالمزاولة ، فكأنّه قيل : لماذا أمرت بالإرساء؟ فقال : نزاولها ، أي لنزاول أمر الحرب ، ولو جزم لانعكس ذلك ، فيصير الإرساء علّة للمزاولة ، لأنّ الشّرط علّة في الجزاء ، لأنّه سبب له ، وتقدير الكلام عليه ، إن وقع الإرساء نزاولها ، أي إن وقع كان سببا وعلّة لمزاولتها ، لأنّه لا يمكن مزاولتها إلّا بالإرساء.

(٦) قوله : «نحاول تلك الحرب» أي نحاول أمرها ونعالجه ، أي نحتال لإقامتها بإعمالها.

(٧) البيت للأخطل ، وهو من شعراء الدّولة الأمويّة ، وقوله : «فكلّ حتف» علّة لمحذوف ، أي ولا تخافوا من الحتف ، لأنّ كلّ حتف امرئ يجري بمقدار.

٧١

أي أقيموا (١) نقاتل ، فإنّ موت كلّ نفس يجري بقدر الله تعالى (٢) ، لا الجبن ينجيه ، ولا الإقدام يرديه (٣) ، لم يعطف (٤) ، ـ نزاولها ـ على أرسوا ، لأنّه (٥) خبر لفظا ومعنى ، وأرسوا إنشاء لفظا ومعنى (٦) ، وهذا (٧) مثال لكمال الانقطاع بين الجملتين

________________________________________

(١) أي أقيموا في هذا المكان الملائم للحرب نقاتل.

(٢) فقال تعالى : (يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ).

(٣) أي لا الجبن ينجيه من الموت ، ولا الإقدام يهلكه ، وهذا المعنى مبنيّ على أنّ ضمير «نزاولها» للحرب.

(٤) هذا بيان لكمال الانقطاع ، وعدم الوصل.

(٥) أي لأنّ «نزاولها» خبر لفظا ومعنى.

(٦) لأنّ «أرسوا» أمر ، وكلّ أمر إنشاء لفظا ومعنى ، وذلك مانع من العطف ، باتّفاق البيانيّين باعتبار مقتضى البلاغة ، وما يجب أن يراعى فيها ، وأمّا عند أهل اللّغة ففيه خلاف ، فالجمهور على أنّه لا يجوز ، وجوّزه الصّفّار ، فيجوز أن يقال : حسبي الله ونعم الوكيل ، بناء على أنّ إحدى الجملتين خبر ، والأخرى إنشاء ، وقيل : إنّ المنع بالنّظر للبلاغة ، ومراعاة المطابقة لمقتضى الحال ، والجواز إذا لم تراع المطابقة لمقتضى الحال ، وحينئذ فتجويزه بالنّظر للّغة ، لا بالنّظر للبلاغة ، فلا خلاف بين الفريقين.

(٧) هذا جواب عمّا يقال اعتراضا على المصنّف : إنّ الكلام في الجمل الّتي لا محلّ لها من الإعراب ، والجملتان في البيت الّذي مثّل به لهما محلّ من الإعراب ، لأنّهما معمولتان ل «قال» ، وحينئذ فالتّمثيل غير مطابق.

وحاصل ما أجاب به الشّارح : إنّ هذا مثال لكمال الانقطاع بين الجملتين مع قطع النّظر عن كونهما معا لا محلّ لهما من الإعراب والحاصل : إنّ كمال الانقطاع نوعان :

أحدهما : فيما ليس له محلّ من الإعراب ، وهذا يوجب الفصل.

وثانيهما : فيما له محلّ من الإعراب ، وهذا لا يوجبه ، وهذا المثال من الثّاني دون الأوّل ، وحينئذ فهو مثال لمطلق كمال الانقطاع ، لا الّذي كلامنا فيه ، وهو ما يوجب الفصل.

وقيل : إنّ منع العطف بين الإنشاء والخبر له ثلاثة شروط : أوّلا : أن يكون بالواو ، وثانيا : أن يكون فيما لا محلّ له من الإعراب من الجمل ، وثالثا : أن لا يوهم خلاف المراد.

٧٢

باختلافهما (١) خبرا وإنشاء لفظا ومعنى مع قطع النّظر عن كون الجملتين ممّا ليس له محلّ من الإعراب ، وإلّا فالجملتان في محلّ النّصب (٢) على أنّه مفعول ، قال : [أو] لاختلافهما خبرا وإنشاء [معنى فقطّ] بأنّ تكون إحداهما (٣) خبرا معنى والأخرى إنشاء معنى ، وإن (٤) كانتا خبريّتين أو إنشائيّتين لفظا [نحو مات فلان (٥) رحمه‌الله]

________________________________________

(١) الباء للسّببيّة.

(٢) أي كلّ واحدة منهما في محلّ نصب ، وهذا مبنيّ على أنّ جزء المقول له محلّ إذا كان مقيّدا ، ومبنيّ أيضا على الاستشهاد بهما على اعتبار حال وقوعهما من الحاكي للكلام ، وهو الشّاعر ، وأمّا لو كان الاستشهاد بهما باعتبار حال وقوعهما من الرّائد ، فالجملتان لا محلّ لهما قطعا ، واختلف في المحكيّ بالقول : هل هو في محلّ المفعول المطلق ، أو المفعول به ، والأوّل لابن الحاجب ، والثّاني لغيره ، وقوله : «وإلّا فالجملتان» أي وإن لم نقطع النّظر عن كون الجملتين ليس لهما محلّ من الإعراب ، بل نظرنا لذلك ، فلا يصحّ التّمثيل ، لأنّ كلّا من الجملتين في محلّ النّصب مفعول «قال».

(٣) أي الجملة الأولى أو الثّانية خبرا معنى والأخرى إنشاء معنى ، فهاتان صورتان تضربان في الصّورتين المفهومتين من قوله : «وإن كانتا خبريّتين أو إنشائيّتين» فالصّور أربع.

(٤) الواو للحال ، وإن وصليّة ودخل تحت هذا أربع صور : الأولى خبريّة معنى ، والثّاني إنشائيّة معنى ، وهما خبريّتان لفظا أو إنشائيّتان لفظا ، أو الأولى إنشائيّة معنى والثّانية خبريّة معنى ، وهما خبريّتان لفظا ، أو إنشائيّتان كذلك ، ولا يصحّ أن يكون قوله : «وإن كانتا ...» للمبالغة وإلّا لكان هذا القسم أعمّ من الأوّل لشموله للمختلفين لفظا أيضا ، وهذا هو الأوّل بعينه فلا تتباين الأقسام مع أنّ الأوّل لا يعطف بأو ، وخرج ما إذا اختلفا لفظا فقطّ ، فلا يكون هذا من كمال الانقطاع.

وبقي من صور اختلافهما ما إذا كانت أولاهما خبرا لفظا ومعنى ، والأخرى إنشاء معنى فقطّ ، أو العكس.

(٥) مثال لاختلافهما معنى فقطّ ، فإنّ جملة «مات فلان» خبريّة معنى و «رحمه‌الله» إنشائيّة معنى ، أي ليرحمه‌الله ، ولفظهما معا خبر ، فلاختلافهما في المعنى لم يعطف إحداهما على الأخرى.

٧٣

لم يعطف رحمه‌الله على مات ، لأنّه إنشاء معنى ، ومات خبر معنى ، وإن كانتا جميعا خبريّتين لفظا ، [أو لأنّه] عطف على ـ لاختلافهما ـ والضّمير (١) للشّان [لا جامع بينهما كما سيأتي] بيان الجامع (٢) فلا يصحّ العطف في مثل زيد طويل وعمرو نائم. [وأمّا كمال الاتّصال (٣)] بين الجملتين [فلكون الثّانية مؤكّدة للأولى (٤)] تأكيدا معنويّا (٥)

________________________________________

وبعبارة أحرى : لم يعطف «رحمه‌الله» على «مات فلان» ، لأنّ «رحمه‌الله» إنشاء معنى ، «ومات فلان» خبر لفظا ومعنى ، وكذا لا يصحّ العطف في نحو : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) ، اتّق الله أيّها العبد ، فإنّهما وإن كانتا إنشائيّتين صورة ، لكنّ الأولى خبريّة معنى ، لأنّ الهمزة للإنكار ، فمعناها : الله كاف عبده ، ولم يمثّل المصنّف بما يكون لفظهما معا إنشاء وهما مختلفان معنى ، كالمثال الّذي ذكرناه لقلّة وجوده.

(١) أي الضّمير في لأنّه للشّأن ، فمعنى العبارة يحصل كمال الانقطاع لأجل اختلافهما خبرا وإنشاء ، أو لأنّ الشّأن فيهما «لا جامع بينهما» وإن كانتا موافقتين من حيث الخبريّة والإنشائيّة معنى.

(٢) أي الجامع الّذي يكون بحيث إذا انتفى يتحقّق كمال الانقطاع بين الجملتين مماثل للجامع الّذي سيأتي بيانه عند تفصيله وتقسيمه إلى عقليّ ووهميّ وخياليّ ، ثمّ إنّ ما لا يصلح فيه العطف لانتفاء الجامع ، إمّا لانتفاء الجامع بالنّسبة إلى المسند إليهما فقطّ ، كقولك : زيد طويل وعمرو قصير ، حيث لا جامع بين زيد وعمرو من صداقة وغيرها ، وإن كان بين الطّول والقصر جامع التّضادّ ، وإمّا لانتفائه عن المسندين فقطّ ، كمثال الشّارح ، أي زيد طويل وعمرو نائم عند فرض الصّداقة بين زيد وعمرو ، وإمّا لانتفائه عنهما معا ، نحو : زيد قائم والعلم حسن.

(٣) أي الّذي إذا وجد بين الجملتين يمنع من العطف بالواو ، إذ عطف إحداهما على الأخرى ، كعطف الشّيء على نفسه ، وأمّا غير الواو فلا يضرّ العطف به ، كما هو المفهوم من كلام المصنّف.

(٤) أو بدلا عنها ، أو بيانا لها فيتحقّق ذلك الكمال بين الجملتين لأجل الأمور المذكورة.

(٥) أي بأن يختلف مفهومهما ، ولكن يلزم من تقرّر معنى إحداهما تقرّر معنى الأخرى ، والمراد تأكيدا معنويّا لغة ، وإلّا فالتّأكيد المعنويّ في الاصطلاح إنّما يكون بألفاظ معلومة ،

٧٤

[لدفع (١) توهّم تجوّز أو غلط (٢) نحو : (لا رَيْبَ فِيهِ) (٣) بالنّسبة إلى (ذلِكَ الْكِتابُ) إذا جعلت (٤) (الم) طائفة من الحروف أو جملة مستقلّة ،

________________________________________

وليس ما يأتي منها ، والمراد بقوله : «تأكيدا معنويّا» ، أي كالتّأكيد المعنوي في حصول مثل ما يحصل منه ، ومثل هذا يقال في كون الجملة بدلا أو بيانا ، وممّا يدلّ على كون الجملة المذكورة ليست تأكيدا معنويّا في الاصطلاح ، قول المصنّف فيما يأتي «فوزانه وزان نفسه ...».

(١) مصدر مضاف إلى مفعوله ، أي لدفع المتكلّم توهّم السّامع تجوّزا.

(٢) اعترض الجرجانيّ بأنّ التّوكيد المعنويّ في المفردات كما في جاءني زيد نفسه لا يكون لدفع توهّم النّسيان والغلط ، بل لدفع توهّم التّجوّز فقط ، فكذا ما هو بمنزلته ، وهو المعنويّ في الجمل نحو : (رَيْبَ فِيهِ) فهذا من المصنّف قد وقع في غير محلّه ، ولكن يمكن الجواب عن ذلك بأنّ التّأكيد المعنوي يجيء لدفع توهّم الغلط أيضا كما في قولك : جاءني الرّجلان كلاهما ، فإنّ كلاهما يفيد دفع توهّم الغلط في التّلفّظ بالتّثنية مكان المفرد ، أو الجمع ، فإنّ قولك : جاء زيد نفسه يفيد دفع توهّم الغلط بالإضافة إلى من توهّم أنّ الجائيّ زيدان ، وقد غلّط المتكلّم بالتّلفّظ بالمفرد مكان التّثنية ، فيكون نفسه دفعا لهذا التّوهّم ، وحينئذ لا مجال لاعتراض الجرجاني أصلا.

(٣) أي بعد قوله تعالى : (الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ) أي حالة كون (لا رَيْبَ فِيهِ) منسوبا ل (ذلِكَ الْكِتابُ).

(٤) أي كون جملة (لا رَيْبَ فِيهِ) مؤكّدة لقوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ) مبنيّ على أحد أمرين :

الأوّل : جعل (الم) طائفة من الحروف ، والثّاني : جعلها جملة مستقلّة.

فالحاصل : إنّ (ذلِكَ الْكِتابُ) جملة مستقلّة ، فتكون (لا رَيْبَ فِيهِ) تأكيدا له على ما سيقرّر المصنّف و (الم) حينئذ طائفة من الحروف ، والغرض من ذكرها فيصحّ أن يلتزم بكون (لا رَيْبَ فِيهِ) تأكيدا لها ، وكذا على تقدير أن تكون (الم) جملة مستقلّة اسميّة كانت بأن يكون التّقدير : ألم هذا ، أو هذا ألم ، مع حذف أحد جزأيها ، إمّا المبتدأ أو الخبر ، أو كانت فعليّة بأن يكون التّقدير : أقسم بألم ، فيكون الجارّ محذوفا ، أو أذكر ألم ، فيكون منصوبا ، وعلى جميع التّقادير ألم إمّا اسم السّور ، أو اسم القرآن أو اسم من أسمائه تعالى ، وتكون جملة (لا

٧٥

و (ذلِكَ الْكِتابُ) جملة ثانية (١) و (لا رَيْبَ فِيهِ) ثالثة (٢) [فإنّه (٣) لمّا بولغ (٤) في وصفه] أي وصف الكتاب [ببلوغه] متعلّق بوصفه ، أي في أن وصف بأنّه (٥) بلغ [الدّرجة القصوى (٦) في الكمال] ، وبقوله بولغ تتعلّق الباء في قوله : [بجعل المبتدأ (ذلِكَ)] الدّالّ على كمال العناية بتمييزه ، والتّوسّل ببعده إلى التّعظيم وعلوّ الدّرجة.

________________________________________

رَيْبَ فِيهِ) مؤكّدة لها ، إلّا فيما إذا كانت القسم ، فإنّها حينئذ جواب لها.

نعم إذا جعل (ذلِكَ الْكِتابُ) مبتدأ وجملة (لا رَيْبَ فِيهِ) خبر عنه ، فلا يجري فيه ما ذكره.

الإشارة إلى أنّ القرآن الّذي عجزتم عن معارضته من جنس هذه الحروف الّتي تتحاورون بها في خطبكم وكلماتكم ، فإذا لم تقدروا عليه فاعلموا أنّه من عند الله سبحانه.

والحاصل : إنّه لو كان (الم) طائفة من حروف المعجم لا إعراب لها ، وليست مبتدأ أو خبرا ، أو نحوهما ف (ذلِكَ الْكِتابُ) عندئذ يمكن أن تجعل جملة مستقلّة ، و (ذلِكَ الْكِتابُ)

(١) بأن يكون (ذلِكَ) مبتدأ و (الْكِتابُ) خبره.

(٢) يعني كالأوليين في الاستقلال وعدم المحلّ من الإعراب ، واحترز الشّارح بقوله : إذا جعلت (الم) طائفة من الحروف عمّا إذا جعلت (الم) طائفة من الحروف قصد تعدادها ، أو جملة مستقلّة اسميّة أو فعليّة على ما مرّ ، و (ذلِكَ الْكِتابُ) مبتدأ ، و (لا رَيْبَ فِيهِ) خبرا ، أو جعلت (الم) مبتدأ و (ذلِكَ الْكِتابُ) خبرا ، أو جعلت (الم) مبتدأ و (لا رَيْبَ فِيهِ) خبرا ، وجملة (ذلِكَ الْكِتابُ) اعتراضا ، فإنّه لا تكون (لا رَيْبَ فِيهِ) جملة لا محلّ لها من الإعراب مؤكّدة لجملة قبلها كذلك.

(٣) أي الشّأن ، أعني الضّمير في قوله : «فإنّه» للشّأن.

(٤) بيان لكون (لا رَيْبَ فِيهِ) تأكيدا معنويّا ل (ذلِكَ الْكِتابُ).

(٥) أي الكتاب بلغ الدّرجة القصوى في الكمال ، والمعنى : إنّ الشّأن لمّا وقعت المبالغة في وصف الكتاب بأنّه بلغ في الكمال إلى الدّرجة الأعلى في الرّفعة والكمال.

(٦) أي قوله : «الدّرجة القصوى» معمول البلوغ ، و «في الكمال» متعلّق به.

٧٦

[وتعريف الخبر باللّام (١)] الدّالّ على الانحصار مثل حاتم الجواد (٢) ، فمعنى (ذلِكَ الْكِتابُ) أنّه الكتاب الكامل الّذي يستأهل (٣) أن يسمّى كتابا ، كأنّ ما عداه من الكتب (٤) في مقابلته ناقص ، بل ليس (٥) بكتاب [جاز (٦)] جواب لمّا أي جاز بسبب هذه المبالغة المذكورة (٧) [أن يتوهّم (٨) السّامع قبل التّأمّل أنّه] أعني قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) [ممّا يرمى به جزافا] من غير صدور عن رويّة وبصيرة.

________________________________________

(١) أي وقعت المبالغة في وصف الكتاب بسبب جعل المبتدأ اسم الإشارة ، وتعريف الخبر باللّام ، لأنّ تعريف المسند إليه بالإشارة يدلّ على كمال العناية بتمييزه ، لأنّ اسم الإشارة موضوع للمشاهد المحسوس ، وأنّ تعريف المسند باللّام يفيد الانحصار حقيقة ، نحو : الله الواجب ، أي ليس واجب الوجود واقعا إلّا الله.

(٢) حيث يكون الحصر إضافيّا ، ومن باب المبالغة ، أي يعدّ وجود غيره بمنزلة العدم بالإضافة إلى وجوده.

(٣) أي يستحقّ أن يسمّى كتابا ، كما تقول : هو الرّجل ، أي الكامل في الرّجوليّة ، كأنّ غيره ليس برجل.

(٤) أي من الكتب السّماويّة كالتّوراة والإنجيل والزّبور في مقابلة القرآن ناقص ، أتى بلفظ كأنّ رعاية للتّأدّب في إطلاق النّاقص على ما عداه ، من الكتب الإلهيّة ، أو للإشارة إلى أنّ المقصود من الحصر الدّلالة على كماله ، لا التّعريض لنقصان غيره ، كما أنّ قولك : زيد الشّجاع ، قد يقصد به مجرّد إظهار كمال شجاعته ، وقد يتوسّل بذلك إلى التّعريض بنقصان شجاعة غيره ، ممّن يدّعي مساواته له في الشّجاعة ، وهذا الوجه ألطف من الأوّل.

(٥) أي بل ليس ما عداه كتابا بالإضافة إلى القرآن ، ولو كان ذلك الغير كتابا كاملا في نفسه.

(٦) جواب لمّا في قوله : «ولمّا بولغ في وصفه ...».

(٧) أي بأنّه بلغ الدّرجة القصوى في الكمال بحيث إنّ غيره من الكتب السّماويّة كأنّه لا يستأهل أن يسمّى كتابا.

(٨) حيث إنّ كثرة المبالغة تجوّز ، توهم المجازفة لما جرت العادة غالبا أنّ المبالغ في مدحه لا يكون على ظاهره ، إذ لا تخلو المبالغة غالبا من تجوّز وتساهل ، فيتوهّم السّامع

٧٧

[فأتبعه (١)] على لفظ المبنيّ للمفعول ، والمرفوع المستتر عائد إلى (لا رَيْبَ فِيهِ) والمنصوب البارز إلى (ذلِكَ الْكِتابُ) أي جعل (لا رَيْبَ فِيهِ) تابعا ل (ذلِكَ الْكِتابُ) [نفيا لذلك] التّوهّم (٢) [فوزانه (٣)] أي وزان (لا رَيْبَ فِيهِ) مع (ذلِكَ الْكِتابُ) [وزان نفسه (٤)]

________________________________________

قبل التّأمّل في كمالات الكتاب ، إنّ قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) المفيد للمبالغة في المدح من جملة الكلام الّذي يتكلّم به جزافا ، أي من غير تقدير ومعرفة وخبرة ، (الجزاف) بالضّمّ والفتح سماعيان ، وبالكسر قياس مصدر جازف جزافا ومجازفة ، أي يرمي به رمي جزاف ، أي رميا بطريق الجزاف ، فلا يكون (ذلِكَ الْكِتابُ) صادرا عن رويّة وبصيرة ، فيكون قول الشّارح : «من غير صدور عن رويّة وبصيرة» تفسيرا للجزاف.

(١) بضمّ الهمزة وسكون التّاء وكسر الباء وفتح العين ، لأنّه مبنيّ للمفعول ، من باب الإفعال ، والضّمير المرفوع المستتر فيه نائب الفاعل يعود إلى قوله في المتن المتقدّم (لا رَيْبَ فِيهِ).

(٢) أي توهّم الجزاف في (ذلِكَ الْكِتابُ) فكأنّه قيل : لا ريب فيه ، أي في قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) ولا مجازفة ، ثمّ دفع هذا التّوهّم على تقدير كون الضّمير المجرور في (لا رَيْبَ فِيهِ) راجعا إلى الكلام السّابق ، أعني (ذلِكَ الْكِتابُ) ظاهر ، كأنّه قيل : لا ريب فيه ولا مجازفة فيه ، بل هو صادر عن إتقان ، وأمّا على تقدير كونه راجعا إلى الكتاب ، كما هو الظّاهر فمبنيّ على أنّ نفي الرّيب عن الشّيء شهادة على تبجيل بكماله قطعا ، وأنّه كامل على نحو القطع ولا مجازفة فيه أصلا.

(٣) أي الوزان مصدر قولك : وازن الشّيء ، أي ساواه في الوزن ، وقد يطلق على النّظير باعتبار كون المصدر بمعنى اسم الفاعل ، فيقال : زيد وزان عمرو ، أي شبيهه ونظيره ، وقد يطلق على مرتبة الشّيء إذا كانت مساوية لمرتبة شيء آخر في أمر من الأمور ، وهو المراد هنا ، لأنّ المعنى فمرتبة (لا رَيْبَ فِيهِ) مع (ذلِكَ الْكِتابُ) في دفع توهّم الجزاف مرتبة نفسه مع زيد في قولك : جاءني زيد نفسه.

(٤) أي مرتبة نفسه من جهة كونه رافعا لتوهّم المجاز أي توهّم أنّ الجائي نفسه أو رسوله أو عسكره أو كتابه ، فالحاصل : إنّ فائدة (لا رَيْبَ فِيهِ) نظير فائدة التّأكيد المعنويّ ، أي نفسه من حيث كونه لدفع التّوهّم ، أي توهّم المجازفة بالمجاز ، كأن يتوهّم أنّ الجائي متاعه أو عبده ، وجازف المتكلّم ، ونسب المجيء إليه مجازا.

٧٨

مع زيد [في جاءني زيد نفسه] فظهر (١) أنّ لفظ وزان في قوله : وزان نفسه ليس بزائد كما توهّم (٢) أو تأكيدا (٣) لفظيّا ، كما أشار إليه بقوله [ونحو : (هُدىً) (٤)] أي هو (٥)

________________________________________

(١) أي فظهر من التّقرير السّابق المفيد أنّ «وزان» بمعنى مرتبة لا بمعنى الموازنة والمشابهة بأن يكون الوزان مصدرا بمعنى اسم الفاعل كي يكون معنى قول المصنّف : «فوزانه وزان نفسه» فمشابهه وموازنه نفسه في جاءني زيد نفسه ، أي فموازن (لا رَيْبَ فِيهِ) ومشابهه هو نفسه ، فيكون الوزان الثّاني زائدا يدرك كونه زائدا بالذّوق السّليم.

(٢) أي كما توهّم بعضهم أنّ وزان الثّاني زائد ، هذا إنّما يصحّ لو كان الوزان بمعنى النّظير والمثل والمشابه ، إلّا أنّ الأمر ليس كذلك بل الوزان مصدر بمعنى المرتبة فحينئذ لا يكون ال «وزان» الثّاني زائدا ، لأنّ المعنى حينئذ أنّ مرتبة (لا رَيْبَ فِيهِ) مع (ذلِكَ الْكِتابُ) مرتبة نفسه في جاءني زيد نفسه من جهة كونه رافعا لتوهّم المجاز.

(٣) عطف على قوله : «تأكيدا معنويا» أي بأن يكون مضمون الجملة الثّانية هو مضمون الأولى وليس المراد بالتّأكيد اللّفظي التأكيد بنفس تكرار اللّفظ ووجه منع العطف في التّأكيد هو كون التّأكيد مع المؤكّد كالشّيء الواحد.

(٤) الهدى هو الهداية ، وهي عبارة عن الدّلالة على سبيل النّجاة.

(٥) أي التّفسير إشارة إلى جواب عن سؤال مقدّر تقرير السّؤال : إنّ الكلام في كون الجملة الثّانية بمنزلة التّأكيد اللّفظي بالقياس إلى الجملة الأولى ، وقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ليس جملة كي يكون بمنزلة التّأكيد اللّفظي لجملة (ذلِكَ الْكِتابُ) فلا يصحّ التّمثيل به.

وحاصل الجواب : إنّ (هُدىً) خبر لمبتدأ محذوف ، أي هو هدى ، فلا مجال للاعتراض.

نعم ، كان له مجال لو جعل (هُدىً) خبرا عن (ذلِكَ الْكِتابُ) بعد الإخبار عنه ب (لا رَيْبَ فِيهِ) أو جعل حالا ، والعامل اسم الإشارة لم يكن ممّا نحن فيه ، إلّا أنّ التّمثيل مبنيّ على كونه خبرا لمبتدأ محذوف ، وإنّما لم يجعل مبتدأ محذوفا خبره ، أي فيه هدى ، فيكون ممّا نحن فيه ، لفوات المبالغة المطلوبة.

٧٩

هدى [(لِلْمُتَّقِينَ) (١)] أي الضّالّين الصّائرين إلى التّقوى ، [فإنّ (٢) معناه أنّه] أي الكتاب [في الهداية بالغ درجة لا يدرك كنهها] أي غايتها ، لما (٣) في تنكير (هُدىً) من الإبهام والتّفخيم [حتّى كأنّه هداية محضة (٤)] حيث (٥) قيل هدى ولم يقل هاد [وهذا (٦) معنى (ذلِكَ الْكِتابُ) لأنّ معناه (٧) كما مرّ (٨) الكتاب الكامل ، والمراد (٩)

________________________________________

(١) والمراد بهم المتّقون بالقوّة ، أي هو هدى للضّالّين الصّائرين إلى التّقوى والمشرفون عليه ، فلا يرد أنّه لا معنى لكون القرآن هاديا للمتّقين ، فإنّهم المهديّون ، فلو تعلّق بهم الهداية لزم تحصيل الحاصل ، فإرادة المشرفين على التّقوى من المتّقين يكون من باب مجاز الأوّل.

(٢) هذا من المصنّف تعليل لكون هو هدى للمتّقين تأكيدا لفظيّا ل (ذلِكَ الْكِتابُ) ، أي إنّما كان الأمر كذلك ، لأنّ الثّانية متّحدة مع الأولى في المعنى ، لأنّ معناه «أنّه» أي الكتاب «في الهداية» متعلّق بقوله : «بالغ».

(٣) علّة لقوله : «فإنّ معناه ...» وحاصل الكلام إنّ قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) تأكيد لفظيّ ل (ذلِكَ الْكِتابُ) أي إنّما كانت هذه الجملة تأكيدا لفظيّا لهذه الجملة الّتي قبلها لاتّحادهما في المعنى. ثمّ تفسير الشّارح الكنه بالغاية ، حيث قال : «أي غايتها» ، إشارة إلى أنّ المراد بالكنه ليس الحقيقة لمنافاته لقوله بعد ذلك «حتّى كأنّه هداية محضة».

وجه المنافاة : إنّ الكنه بمعنى الحقيقة لا يدرك ، فكيف يحكم بأنّه كأنّه هداية محضة؟! لأنّ ذلك لا يتفرّع إلّا على إدراك حقيقته لا على عدم إدراكها.

نعم ، لا مانع من التّفريع على عدم معرفة منتهاه مع درك أصل الحقيقة في الجملة.

(٤) أي كقولنا : زيد عدل ، حيث جعل المصدر خبرا ، لا اسم فاعل ، ولم يقل هاد للمتّقين.

(٥) الحيثيّة للتّعليل.

(٦) أي كون الكتاب بالغا في الهداية درجة لا يدرك كنهها.

(٧) أي المعنى الّذي يكون مرادا بالإرادة الجدّيّة.

(٨) في أحوال المسند.

(٩) جواب عن سؤال مقدّر تقريره : إنّ كون معنى (ذلِكَ الْكِتابُ) الكتاب الكامل لا يثبت ما هو المطلوب من اتّحاد الجملتين معنى ، لأنّ معنى الأولى إثبات الكمال له من دون التّقييد بالهداية ومعنى الثّانية أنّه الكامل في الهداية ، والمغايرة بين الطّبيعة المطلقة والطّبيعة المقيّدة

٨٠