دروس في البلاغة - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

[و] في الاستفهام [أين بيتك أزرك] أي إن تعرّفنيه (١) أزرك [و] في الأمر [أكرمني أكرمك] أي إن تكرمني أكرمك ، [و] في النّهي [لا تشتمني يكن خيرا لك] أي إن لا تشتمني يكن خيرا لك (٢) ، وذلك (٣) لأنّ الحامل للمتكلّم على الكلام الطّلبيّ كون المطلوب مقصودا للمتكلّم إمّا لذاته أو لغيره. لتوقّف ذلك الغير على حصوله (٤) ، وهذا (٥) معنى الشّرط ، فإذا ذكرت الطّلب ، وذكرت بعده ، ما يصلح توقّفه (٦) على المطلوب غلب (٧) على ظنّ المخاطب

________________________________________

(١) إنّ الأولى والظّاهر أن يكون التّقدير إن أعرفه أزرك ، لأنّ سبب الزّيارة هو المعرفة ، سواء كانت بتعريف المخاطب أو بدونه.

(٢) يفهم من تقدير المصنّف الشّرط في الأمثلة المذكورة ، إنّ الشّرط يقدّر من جنس ما قبله من إثبات أو نفي ، ففي «لا تشتم» يقدّر إن لا تشتم ، لا إن تشتم ، وفي «أكرمني» يقدّر : إن تكرمني لا إن لم تكرمني ، لأنّ الطّلب لا يشعر إلّا بما هو من سنخه.

(٣) أي بيان ذلك ، أي بيان تقدير الشّرط بعد الأربعة المذكورة ، وحاصله إنّ هذه الأربعة للطّلب ، والمتكلّم بالكلام الطّلبيّ إمّا أن يكون مقصوده المطلوب لذاته ، وهو نادر ، وإمّا أن يكون مقصوده المطلوب لغيره ، بحيث يتوقّف ذلك الغير على المطلوب ، فإذا ذكر بعد الكلام الطّلبيّ ما يصلح توقّفه على المطلوب ، ظنّ المخاطب أنّ المطلوب مقصود لأجل ما ذكر بعد الطّلب لا لنفسه ، فيكون معنى الشّرط ظاهرا في الكلام الطّلبيّ المصاحب لذلك الشّيء الّذي يصلح توقّفه على المطلوب ، فناسب تقدير الشّرط لوجود معناه في الكلام ، هذا بخلاف الكلام الخبريّ ، فإنّ الحامل للمتكلّم على الكلام هو إفادته للمخاطب مضمون الكلام ، أو لازم مضمونه.

(٤) أي حصول المطلوب.

(٥) أي توقّف ذلك الغير على حصول ذلك المطلوب معنى الشّرط ، لأنّ معناه هو تعليق شيء بشيء آخر.

(٦) أي توقّف ذلك الشّيء نحو : أكرمك بعد أكرمني ، بأن قلت مثلا : أكرمني أكرمك ، فقد ذكرت الطّلب ، وهو أكرمني وذكر بعده ما يصلح توقّفه على المطلوب الّذي هو الإكرام المتعلّق بالمخاطب.

(٧) جواب لقوله : «فإذا ذكرت».

٤١

كون المطلوب مقصودا لذلك المذكور بعده لا لنفسه ، فيكون إذن معنى الشّرط في الطّلب (١) مع ذكر ذلك الشّيء ظاهرا ، ولمّا جعل (٢) النّحاة الأشياء الّتي يضمر حرف الشّرط بعدها خمسة أشياء ، أشار المصنّف إلى ذلك (٣) بقوله : [وأمّا العرض (٤) كقولك : ألا تنزل عندنا تصب خيرا] أي إن تنزل تصب خيرا [فمولّد (٥) من الاستفهام] وليس (٦) شيئا آخر برأسه ، لأنّ (٧) الهمزة فيه للاستفهام دخلت على فعل منفيّ ، وامتنع حملها على حقيقة الاستفهام للعلم (٨) بعدم النّزول مثلا ، فتولّد عنه (٩) بمعونة قرينة الحال عرض النّزول على المخاطب وطلبه منه. [ويجوز] تقدير الشّرط [في

________________________________________

(١) أي في الكلام الطّلبيّ ، وهو متعلّق بقوله : «ظاهرا» الّذي هو خبر «يكون».

(٢) جواب عن سؤال مقدّر ، وتقريره : أن يقال : إنّ المصنّف قد ذكر أنّ الأمور الّتي يقدّر الشّرط بعدها أربعة ، مع أنّ النّحاة عدّوها خمسة ، بزيادة العرض ، فما وجه مخالفة المصنّف لهم؟ وحاصل الجواب : إنّ العرض لمّا كان مولّدا من الاستفهام ، وليس مستقلّا ، كان داخلا فيه فذكر الاستفهام مغن عنه ، والنّحاة نظروا إلى التّفصيل فعدّوها خمسة ، وإن كانت ترجع إلى الأربعة.

(٣) أي إلى ردّ ذلك ، أي إلى ردّ جعلها خمسة ، وأنّه كان عليهم أن يجعلوها أربعة ، لأنّ العرض مولّد من الاستفهام.

(٤) أي وهو طلب الشّيء طلبا بلا حثّ وتأكيد.

(٥) جواب عن قوله : «وأمّا العرض».

(٦) أي وليس العرض شيئا آخر.

(٧) أي علّة لعدم العرض غير الاستفهام ، وحاصل الكلام في المقام : إنّ الهمزة في المثال المذكور للاستفهام دخلت على فعل منفيّ ، ويمنع حمله على حقيقة الاستفهام عن عدم النّزول للعلم به فحمل على الإنكار لعدم النّزول ، فتولّد منه عرض النّزول على المخاطب ، وطلبه منه.

(٨) علّة لامتناع حملها على الاستفهام الحقيقيّ ، لأنّه إنّما يكون عند الجهل.

(٩) أي فتولّد عن العلم بعدم النّزول ، وقيل : فتولّد عن الامتناع المذكور عرض النّزول على المخاطب ، وطلب النّزول من المخاطب.

٤٢

غيرها] أي في غير (١) هذه المواضع [لقرينة] تدلّ عليه (٢) [نحو : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ)(١) (٣) ، أي إن أرادوا أولياء بحقّ (٤)] فالله هو الوليّ الّذي يجب أن يتولّى (٥) وحده ، ويعتقد أنّه المولى والسّيّد ، وقيل (٦) : لا شكّ أنّ قوله : (أَمِ اتَّخَذُوا) إنكار توبيخ ، بمعنى أنّه لا ينبغي أن يتّخذ من دونه أولياء ، وحينئذ يترتّب عليه قوله تعالى : (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) من غير تقدير شرط ، كما يقال : لا ينبغي أن يعبد

________________________________________

وكيف كان ففي المثال المذكور إنكار عدم النّزول يتضمّن طلب النّزول وعرضه على المخاطب ، فيكون اللّفظ الموضوع لطلب الفهم مستعملا في طلب الحصول.

(١) أي بعد غير غير هذه المواضع الأربعة الّتي جزم فيها المضارع.

(٢) أي على تقدير الشّرط ، هذا بخلاف تلك الأربعة فإنّها نفسها قرينة على تقدير الشّرط.

(٣) والقرينة على تقدير الشّرط هي الفاء في قوله تعالى : (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ) ، فالفاء الدّاخلة على الجملة الاسميّة تدخل في تلك الحالة على جواب الشّرط مع دلالة الاستفهام في الجملة قبلها على إنكار اتّخاذ سواه تعالى وليّا.

فالحاصل إنّ قوله : (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) دليل لجواب الشّرط المحذوف لا نفس الجواب ، والجواب الحقيقيّ هو يجب أن يتولّى وحده ، وذلك لأنّ ولايته سبحانه وتعالى ثابت في نفس الأمر مطلقا ، ولا يتوقّف على شيء ، وحينئذ فإرادة الوليّ لا تكون سببا في كون الله تعالى هو الوليّ ، فلا معنى لتعليقه على ذلك الشّرط.

وتعريف المسند وضمير الفصل لقصر الأفراد ، كما يشير إليه قول الشّارح ، فالله هو الّذي يجب أن يتولّى وحده ، لأنّ الآية نزلت في حقّ المشركين القائلين بشركة الغير مع الله في كونه وليّا معبودا بالحقّ.

(٤) أي بلا فساد ولا خلل وصفا وذاتا ، لا حالا ولا مآلا.

(٥) أي يتّخذ وليّا وحده ، ثمّ قوله : «ويعتقد» عطف تفسير لقوله : «أن يتولّى».

(٦) وهذا القول مقابل لقول المصنّف حيث يجعل المصنّف الفاء في الآية رابطة لجواب شرط مقدّر ، وهذا القيل يجعل الفاء للتّعليل ، وليست عاطفة لجملة على جملة أخرى ولا حاجة إلى تقدير الشّرط.

__________________

(١) سورة الشّورى : ٩.

٤٣

غير الله ، فالله هو المستحقّ للعبادة ، وفيه (١) نظر ، إذ ليس (٢) كلّ ما فيه معنى الشّيء حكمه حكم ذلك الشّيء ، والطّبع المستقيم شاهد صدق على صحّة قولنا : لا تضرب زيدا فهو أخوك ، بالفاء بخلاف أتضرب زيدا فهو أخوك ، استفهام إنكار ، فإنّه لا يصحّ إلّا بالواو الحاليّة.

________________________________________

وحاصل هذا القيل : إنّ الاستفهام هنا إنكاريّ ، بمعنى النّفي ، والنّفي هنا يصحّ أن يترتّب عليه ما بعد الفاء ترتّب العلّة على المعلول ، والسّبب على المسبّب ، إذ لا شكّ أنّه لو قيل : لا ينبغي أن يتّخذ غير الله وليّا بسبب أنّ الله هو الوليّ بحقّ ، كان المعنى صحيحا ، وحينئذ فلا داعي لتقدير الشّرط لعدم الحاجة إليه ، وحينئذ فالفاء للسّببيّة عطفت جملة السّبب على المسبّب.

(١) أي في ذلك القيل نظر.

(٢) أي ليس كلّ لفظ فيه معنى لفظ آخر حكمه لحكم لفظ آخر ، أي ليس الاستفهام الإنكاريّ كالنّفي مطلقا ، وفي جميع الأحكام مثلا ، الهمزة الّتي للإنكار في قوله : (أَمِ اتَّخَذُوا)، وإن كان فيها معنى لا ينبغي ، لكن ليس حكمها حكم لا ينبغي ، لأنّ الفاء بعد لا ينبغي للتّعليل بخلافها بعد (أَمِ اتَّخَذُوا).

وبعبارة أخرى : أنّه سلّمنا أنّ الاستفهام الإنكاريّ في الآية بمعنى لا ينبغي ، وسلّمنا أنّ الفاء بعد لا ينبغي عاطفة ، ولكن لا نسلّم استلزامه كون الفاء في الاستفهام الإنكاريّ أيضا عاطفة ، لأنّ كلّ لفظ فيه معنى لفظ آخر ، لا يجري عليه جميع أحكام هذا اللّفظ ، فإنّا نرى أنّ الإتيان بالفاء التّعليليّة العاطفة يصحّ بعد الفعل المنفيّ الّذي هو بمعنى لا ينبغي ، ولكن لا يصحّ بعد الاستفهام الإنكاريّ الّذي هو أيضا بهذا المعنى مثلا يصحّ أن يقال : لا تضرب زيدا فهو أخوك ، أي لا ينبغي لك أن تضربه بسبب أنّه أخوك ، ولا يصحّ أن يقال : أتضرب زيدا فهو أخوك ، مع أنّ هذا أيضا بالمعنى المذكور.

والشّاهد على ذلك هو الذّوق السّليم والوجدان لا البرهان ، فمن ذلك نستكشف أنّ مجرّد اتّحاد اللّفظين في معنى لا يستلزم اشتراكهما في جميع الأحكام.

ففي المقام أيضا نقول : إنّ مجرّد اتّحاد قولنا : لا ينبغي أن يتّخذ وليّا ، فالله هو

٤٤

النّداء

[ومنها] أي من أنواع الطّلب [النّداء] وهو طلب الإقبال (١) بحرف نائب مناب أدعو (٢) لفظا أو تقديرا (٣) [وقد تستعمل صيغته] أي صيغة النّداء [في غير معناه] وهو طلب الإقبال [كالإغراء (٤) في قولك لمن أقبل (٥) يتظلّم : يا مظلوم] قصدا إلى إغرائه ، وحثّه على زيادة التّظلّم وبثّ الشّكوى ، لأنّ الإقبال حاصل [والاختصاص (٦)

________________________________________

الوليّ ، مع قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) لا يوجب أن تكون الفاء عاطفة تعليليّة في الآية ، كما في المثال المتّحد معها معنى ، والشّاهد على ذلك هو الذّوق ، والسّرّ في ذلك إنّ الاستفهام الإنكاريّ مآل معناه ومرجعه إلى عدم الانبغاء لا معناه الطّلبيّ ، فإنّه هو طلب حصول شيء في الذّهن ، وهذا لا يلائم الفاء التّعليليّة.

(١) أي طلب المتكلّم إقبال المخاطب حسّا ، أو معنى ، فالأوّل مثل يا زيد ، والثّاني نحو : يا جبال ، ويا سماء ، والمراد الطّلب اللّفظيّ ، لأنّه هو الّذي من أقسام الإنشاء.

(٢) أي ليس هذا الحرف بمعنى أقبل ، كما يتوهّم من قولهم : إنّه لطلب الإقبال ، بل هو نائب مناب أدعو ، وهذا هو السّرّ في عدم انجزام المضارع بعده بأن المضمرة ، ولو كان بمعنى أقبل لكان ذلك جائزا.

(٣) مثل : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا).

(٤) وهو الحثّ والتّرغيب على لزوم الشّيء.

(٥) أي يظهر ظلم أحد عليه ، ويبثّ الشّكوى به ، فيا مظلوم ليس لطلب الإقبال ، أي ليس لطلب إقبال المتظلّم إليك ، لكونه حاصلا ، بل الغرض الإغراء ، أي حثّه على لزوم زيادة التّظلّم وكثرة الشّكوى.

(٦) وهو في الأصل قصر الشّيء على الشّيء ، وفي اصطلاح أئمّة العلوم العربيّة : تخصيص حكم علّق بضمير باسم ظاهر ، صورته صورة منادى ، أو معرّف بأل أو بالإضافة أو بالعلميّة ، كما في نحو : أنا أفعل كذا أيّها الرّجل ، ونحن العرب أسخى من بذل ، ونحن معاشر الأنبياء لا نورّث ، بنا تميما يكشف الضّباب.

٤٥

في قولهم : أنا أفعل كذا أيّها الرّجل (١)] فقولنا : أيّها الرّجل أصله (٢) تخصيص المنادى بطلب إقباله عليك ، ثمّ جعل (٣) مجرّدا عن طلب الإقبال ، ونقل (٤) إلى تخصيص مدلوله (٥) من بين أمثاله بما نسب (٦) إليه. إذ (٧) ليس المراد بأيّ ووصفه (٨)

________________________________________

(١) أنا مبتدأ ، وجملة أفعل كذا خبره ، وأيّ مبنيّ على الضّمّ في محلّ نصب مفعول لمحذوف وجوبا ، أي أخصّ ، و «الرّجل» بالرّفع نعت لأيّ باعتبار لفظها ، والجملة في محلّ نصب على الحال ، والمنادى في الحقيقة هو الرّجل ، وأيّ وصلة لندائه ، ومفيدة لتخصيص المنادى بطلب الإقبال الّذي مستفاد من يا.

(٢) أي أصل «أيّها الرّجل» تخصيص المنادى بطلب إقباله عليك.

(٣) أي جعل «أيّها الرّجل» مجرّدا عن طلب الإقبال ، أي بنقله لمطلق التّخصيص ، لأنّ المتكلّم لا يطلب إقبال نفسه.

(٤) أي نقل بعد التّجريد عن طلب الإقبال إلى تخصيص مدلوله بما نسب إليه.

(٥) أي مدلول «أيّها الرّجل» وهو ذات المتكلّم هنا المعبّر عنها بالضّمير.

(٦) أي بالحكم الّذي إليه وربط به كافعل كذا في المثال المذكور.

(٧) علّة لقوله : «ونقل إلى تخصيص مدلوله» ، وإنّما نقل عن أصله لما ذكر من أنّ المراد من أيّ ووصفها ما دلّ عليه ضمير المتكلّم السّابق ، ولم يرد به المخاطب فقولنا : «يا أيّها الرّجل» صورته صورة النّداء ، وليس بنداء ، وحينئذ فلا يجوز فيه إظهار حرف النّداء ، لأنّه لم يبق فيه معنى النّداء أصلا لا حقيقة ، كما في يا زيد ، ولا مجازا في المتعجّب منه ، والمندوب فإنّهما منادى دخلهما معنى التّعجّب والتّفجّع ، فمعنى يا للماء ، احضر أيّها الماء ، حتّى يتعجّب منك ، ومعنى يا محمّداه ، احضر فأنا مشتاق إليك ، فلمّا لم يبق في الكلام معنى النّداء أصلا ، لا وجه لذكر أداته.

(٨) وهو الرّجل في المثال المذكور ، لأنّه بمعنى الكامل المختصّ.

٤٦

المخاطب بمنادى ، بل ما دلّ عليه ضمير المتكلّم ، فأيّها مضموم (١) والرّجل مرفوع ، والمجموع في محلّ االنّصب على أنّه حال ، ولهذا قال : [أي متخصّصا (٢)] أي مختصّا [من بين الرّجال] وقد تستعمل صيغة النّداء في الاستغاثة (٣) نحو : يا الله (٤). والتّعجّب (٥) نحو : يا للماء (٦) ، والتّحسّر (٧) والتّوجّع ، كما في نداء الأطلال (٨) والمنازل ، والمطايا وما أشبه ذلك (٩)

________________________________________

(١) أي مبنيّ على الضمّ ، لأنّه نكرة مقصودة في محلّ نصب بفعل محذوف وجوبا تقديره أخصّ.

(٢) أي أنا أفعل كذا حال كوني متخصّصا بهذا الفعل من بين الرّجال ، لما في ذلك من الصّعوبة ، وتفسير الشّارح بقوله : «مختصّا» إشارة إلى أنّ كثرة الحروف في قول المصنّف لا تدلّ على زيادة التّخصيص ، فالمعنى واحد.

(٣) على سبيل المجاز المرسل ، من باب استعمال ما للأعمّ في الأخصّ ، وذلك لأنّ صيغة النّداء موضوعة لمطلق طلب الإقبال ، فاستعملت في طلب الإقبال الخاصّ ، أي الإغاثة فقطّ.

(٤) قوله : «يا الله» أي يا الله أقبل علينا لإغاثتنا من شدائد الدّنيا والآخرة.

(٥) العلاقة بينه وبين النّداء المشابهة من جهة أنّه ينبغي الإقبال على كلّ من المنادى والمتعجّب منه

(٦) يقال ذلك عند مشاهدة كثرته ، أو كثرة حلاوته ، أو برودته ، فكأنّه لغرابة الكثرة المذكورة يدعوه ، ويستحضره ليتعجّب منه.

(٧) العلاقة بين هذه الأشياء وبين النّداء المشابهة في كون كلّ ينبغي الإقبال عليه بالخطاب للاهتمام به وامتلاء القلب بشأنه.

(٨) أمثلة للتّحسّر ، ومثال التّوجّع : يا مرضى ويا سقمى ، والأطلال جمع طلل ، وهو ما شخّص من آثار الدّيار.

(٩) عطف على الإغاثة ، وذلك كالنّدبة وهي نداء المتوجّع منه ، أو المتفجّع عليه ، كقولك : يا رأساه ، ويا محمّداه ، كأنّك تدعوه ، وتقول له : تعال فأنا مشتاق إليك.

٤٧

[ثمّ الخبر (١) قد يقع موقع الإنشاء (٢) إمّا للتّفاؤل] بلفظ الماضيّ دلالة على أنّه كأنّه وقع ، نحو : وفّقك الله للتّقوى ، [أو لإظهار الحرص في وقوعه (٣) كما مرّ] في بحث الشّرط ، من أنّ الطّالب إذا عظمت رغبته في شيء يكثر تصوّره إيّاه ، فربّما يخيّل (٤) إليه حاصلا ، نحو : رزقني الله لقاءك [والدّعاء (٥) بصيغة الماضيّ من البليغ] كقوله : رحمه‌الله [يحتملهما] أي التّفاؤل وإظهار الحرص ، وأمّا غير البليغ فهو ذاهل عن هذه الاعتبارات.

________________________________________

(١) أي الكلام الخبريّ ، وهو ما يدلّ على نسبة خارجيّة تطابقه أو لا تطابقه.

(٢) أي يقع مجازا لعلاقة الضّديّة أو غيرها ممّا سيأتي بيانه قريبا. أي يقع موقع الإنشاء وهو الكلام الّذي لم يقصد مطابقته لنسبته الخارجيّة ، ولا عدم مطابقته لما لا نسبة له خارجا ، وإنّما توجد نسبته بنفسه. والحاصل : إنّ الخبر قد يقع موقع الإنشاء إمّا للتّفاؤل ، أي إدخال السّرور على المخاطب ، كأن يقصد طلب الشّيء ، ثمّ صيغة الأمر هي الدّالّة عليه ، إلّا أنّه يعدل عنها إلى صيغة الماضيّ الدّالّة على تحقّق الوقوع تفاؤلا تحقّقه نحو : وفّقك الله للتّقوى ، فعبّر بالفعل الماضيّ الدّالّ على تحقّق الحصول موضع الإنشاء ، لإدخال السّرور على المخاطب بتحقّق حصول التّقوى.

(٣) ضمّن الحرص معنى الرّغبة فلذا عدّه بفي ، ولم يعدّه بعلى ، ويشير للتّضمين المذكور قول الشّارح : إذا عظمت رغبته. فمعنى العبارة حينئذ : أو لإظهار المتكلّم رغبته في وقوع المطلوب.

(٤) أي فربّما يخيّل غير الحاصل حاصلا ، وحاصله إنّ الطّالب لشيء إذا عظمت رغبته فيه كثر تصوّره له ، انتقشت صورة مطلوبه في خياله ، فيخيّل له أنّ مطلوبه غير الحاصل حاصل في زمان ماض ، فيعبّر بالماضي المفيد للحصول للدّلالة على الحرص في وقوعه ، لأنّ التّعبير بصيغة الحصول يفهم منها تخيّل الحصول الملزوم لكثرة التّصوّر الملزوم لكثرة الرّغبة والحرص في وقوعه.

(٥) قوله : «والدّعاء مبتدأ» ، وقوله : «يحتملهما» خبره ، وأشار المصنّف بذلك إلى أنّ إظهار الحرص والتّفاؤل لا تنافيّ بينهما ، فللبليغ إظهارهما معا في التّعبير بصيغة الماضي عن الطّلب ، وله استحضار أحدهما ، فقوله : «رحمه‌الله» يحتمل أن يريد التّفاؤل بوقوع الرّحمة للمخاطب قصدا لإدخال السّرور عليه ، أو يريد إظهار الحرص في الوقوع حيث عبّر بالماضي

٤٨

[أو للاحتراز (١) عن صورة الأمر] كقول العبد للمولى : ينظر المولى إليّ ساعة ، دون انظر ، لأنّه في صورة الأمر (٢) وإن قصد به الدّعاء أو الشّفاعة [أو لحمل المخاطب على المطلوب (٣) بأن يكون] المخاطب [ممّن لا يحبّ أن يكذّب الطّالب] أي ينسب (٤) إليه الكذب ، كقولك لصاحبك الّذي لا يحبّ تكذيبك : تأتيني غدا (٥) مقام ائتني (٦) تحمله (٧) بألطف وجه على الإتيان ، لأنّه إن لم يأتك غدا صرت كاذبا من حيث الظّاهر (٨) ، لكون كلامك في صورة الخبر

________________________________________

لكثرة التّصوّر الناشئ عن كثرة الرّغبة قضاء لحقّ المخاطب ، أو يريدهما معا. فقوله : «أمّا غير البليغ فهو ذاهل ...» أي فهو غافل عن الاعتبارات المناسبة لمقامات إيراد الكلام ، وإنّما يقول ما يسمع من غير ملاحظته فيه خصوصيّة من الخصوصيّات.

(١) عطف على قوله : «للتّفاؤل» أي أو الخبر قد يقع موقع الإنشاء ، للاحتراز عن صورة الأمر.

(٢) المشعر بالاستعلاء المنافيّ للأدب ، وإن كان دعاء أو شفاعة في الحقيقة.

(٣) أي أو يقع الخبر موقع الإنشاء لحمل المتكلّم المخاطب على المطلوب ، أي على تحصيل المطلوب ، لكن لا بسبب إظهار الرّغبة ، بل بسبب كون المخاطب لا يحبّ تكذيب المتكلّم ، فالباء في قوله : «بأن يكون» للسّببيّة ، والحاصل : إنّه قد يعبّر بالخبر موضع الإنشاء لأجل حمل المخاطب وهو السّامع على تحصيل المطلوب لكون المخاطب لا يحبّ تكذيب المتكلّم ، فلمّا يلقى له الكلام الخبريّ المقصود منه الإنشاء يسعى ويبادر في تحصيل المطلوب خوفا من نسبة المتكلّم للكذب ، والفرض أنّ المخاطب لا يحبّ ذلك قوله : «أن يكذّب الطّالب» بصيغة المبنيّ للمفعول مع تشديد الذّالّ ، ورفع الطّالب.

(٤) أي هذا التّفسير إشارة إلى أنّ قوله : «أن يكذّب» في عبارة المتن على صيغة المجهول من باب التّفعيل.

(٥) أي بلفظ الإخبار.

(٦) أي بلفظ الإنشاء ، أعني الأمر.

(٧) أي أنت تحمل صاحبك على الإتيان بوجه لطيف.

(٨) لأنّك قد أخبرت ظاهرا عن إتيانه غدا ، فلو لم يأتك يصبح كلامك غير مطابق للواقع ، فصرت كاذبا ، وهو لا يحبّ أن تصير كذلك. بحيث لا يبالي عن صيرورة نفسه مخالفا

٤٩

[تنبيه : الإنشاء كالخبر في كثير (١) ممّا ذكر في الأبواب الخمسة السّابقة] يعني أحوال الإسناد والمسند إليه ، والمسند ومتعلّقات الفعل والقصر [فليعتبره] أي ذلك الكثير الّذي يشارك فيه الإنشاء الخبر [النّاظر (٢)] بنور البصيرة في لطائف الكلام ، مثلا الكلام الإنشائيّ أيضا إمّا مؤكّد (٣) أو غير مؤكّد (٤) والمسند إليه فيه إمّا محذوف (٥) أو مذكور ، إلى غير ذلك (٦)

________________________________________

لأمرك ، ولكن يحترز من أن تجعل منسوبا إلى الكذب ، لفرط محبّته لك ، وإنّما قال : من حيث الظّاهر ، إذ من حيث نفس الأمر ، لا مجال للكذب ، لأنّ كلامك في المعنى إنشاء ، والصّدق والكذب من أوصاف الخبر ، ثمّ استعمال الخبر في موقع الإنشاء في جميع هذه الصّور مجاز لاستعماله في غير ما وضع له ، بعلاقة الإطلاق والتّقييد ، أو بعلاقة المشابهة.

أمّا الأوّل : فلأنّ اللّفظ الموضوع للمقيّد قد استعمل في المطلق.

وأمّا الثّاني : فلأنّ الأنشاء يباين الخبر ، إلّا أنّ غير الحاصل شبّه بالحاصل في تحقّق الوقوع ، وإن كان غير حقيقيّ ، بل فرضيّ لأجل التّفاؤل أو إظهار غاية الحرص ، ثمّ استعمل اللّفظ الموضوع للمشبّه به في المشبّه ، والسّرّ في ذلك أنّ معنى «وفّقك الله» مثلا عندهم إيجاديّ لا وقوعيّ ، فقد انعدم معناه الخبريّ عند وقوعه موقع الإنشاء رأسا ، ولم يبق مقيّد ولا قيد ، فلا يجرى اعتبار علاقة الإطلاق والتّقييد.

(١) وإنّما قال : «في كثير» لأنّ الإنشاء قد لا يكون كالخبر في بعض أحواله كالتّقييد بالشّرط ، فإنّ الشّرط يحتمل الصّدق والكذب ، بخلاف الإنشاء وكذا مسند الإنشاء غالبا لا يكون إلّا مفردا ، بخلاف مسند الخبر ، فإنّه قد يكون جملة.

(٢) بالرّفع فاعل ليعتبر.

(٣) أي فإنّ الإسناد الإنشائيّ أيضا إمّا مؤكّد كما إذا كان المخاطب بعيدا من الامتثال ، أو كان قريبا منه ، ولكن نزّل منزلة البعيد لما فيه من أمارات البعد ، كاشتغاله في أمور تنافي المسارعة في الامتثال ، فيقال له على الفرضين : أكرمنّ زيدا.

(٤) كما إذا كان قريبا من الامتثال أو بعيدا منه ، ولكن نزّل منزلة القريب ، فيقال له : أكرم زيدا.

(٥) كما يقال : قائم بعد السّؤال ، هل زيد قائم أو قاعد ، أو مذكور نحو زيد قائم.

(٦) ككونه مؤخّرا ، نحو : هل قام زيد ، أو مقدّما نحو : أزيد قام.

٥٠

الفصل والوصل

[الفصل والوصل (١)] بدأ (٢) بذكر الفصل لأنّه (٣) الأصل ، والوصل طار ، أي عارض عليه (٤) حاصل (٥) بزيادة حرف من حروف العطف ، لكن (٦) لمّا كان الوصل

________________________________________

(١) من أسرار البلاغة العلم بمواطن الفصل والوصل في الكلام ، أي العلم بما ينبغي أن يصنع في الجمل من عطف بعضها على بعض أو ترك العطف فيها.

وقال بعض : «البلاغة معرفة الفصل من الوصل» وذلك لغموض هذا الباب ، ودقّة مسلكه ، وهو الباب السّابع من الفنّ الأوّل.

(٢) أي بدأ المصنّف في التّقسيم بذكر الفصل حيث قال : الفصل والوصل.

(٣) أي الفصل بمعنى عدم العطف هو الأصل حيث لا يفتقر فيه إلى زيادة بشيء ، بخلاف الوصل حيث إنّه مفتقر إلى زيادة شيء ، أعني حرف العطف ، ومعلوم أنّ ما يفتقر فيه إلى زيادة حرف فرع عمّا لا يفتقر فيه إلى شيء.

(٤) أي على الفصل.

(٥) تعليل في المعنى لما قبله ، أي لأنّ الوصل حاصل بزيادة حرف من حروف الوصل على الجملتين ، وذلك الحرف ليس من الحروف الأصليّة ، وإنّما زيد بين اللّفظين ليوصل به أحدهما إلى الآخر.

(٦) هذا استدراك لدفع ما يتوهّم من الكلام السّابق ، وتقريب التّوهّم : أنّه حيث كان الفصل هو الأصل ، فلماذا لم يقدّمه في التّعريف أيضا.

وحاصل الدّفع : إنّ تقديم الوصل على الفصل في التّعريف فبالنّظر إلى شيء آخر ، وهو أنّه لمّا كان الفصل ترك العطف ، والتّرك عدم والأعدام لا تعرف إلّا بملكاتها ، قدّم تعريف الوصل لكونه بمنزلة الملكة ، والحاصل إنّ تعريف الوصل وجوديّ ، وتعريف الفصل عدميّ ، ولا شكّ أنّ الوجود في التّصوّر مقدّم على العدم ، فقدّمه في الذّكر أيضا ، ليكون ما في الذّكر موافقا لما في التّصوّر.

٥١

بمنزلة (١) الملكة والفصل بمنزلة عدمها ، والأعدام إنّما تعرف بملكاتها ، بدأ في التّعريف بذكر الوصل ، فقال : [الوصل عطف بعض (٢) الجمل على بعض ، والفصل تركه] أي ترك (٣) عطفه عليه

________________________________________

(١) زاد المنزلة ، لأنّ الفصل والوصل أمران اعتباريان عارضان لنوع من الكلام ، وتقابل العدم والملكة إنّما يكون في الأمور الموجودة في الخارج ، لا في الأمور الاعتباريّة ، فلذا قال : «كان الوصل بمنزلة الملكة ، والفصل بمنزلة عدمها».

اعلم أنّ للملكة فردين : الأوّل : ما من شأنه أن يقوم بالشّيء باعتبار جنسه بأن يكون جنسه شأنه أن يقوم به ذلك الأمر ، كالبصر لأفراد الحيوان.

والثّاني : ما من شأنه أن يقوم بالشّيء باعتبار شخصه كالعلم لأفراد الإنسان ، ولا شكّ أنّ الجملتين شأنهما الوصل جنسا ، وقد لا يكون شأنهما الوصل شخصا بأن كان بينهما كمال الانقطاع ، فقول الشّارح : «بمنزلة الملكة» ، إنّما زاد لفظة «منزلة» نظرا للفرد الثّاني ، وقوله في المطوّل : (فبينهما تقابل العدم والملكة) بإسقاط المنزلة ناظر إلى الفرد الأوّل على ما قيل.

(٢) أي الوصل في الاصطلاح : هو عطف بعض الجمل على بعض ، وفي اللّغة : ضدّ الافتراق الّذي هو معنى الفصل فيها.

لم يقل : عطف جملة على جملة ، وقال : «عطف بعض الجمل على بعض» ليشمل العطف الواقع بين جملتين فقطّ ، والواقع بين الجمل المتعدّدة كعطف جملتين على جملتين مثلا ، وظاهر تعريفه للفصل والوصل أنّهما لا يجريان في المفردات ، وليس كذلك ، بل الفصل والوصل ، كما يجريان في الجمل يجريان في المفردات ، ولا يختصّان بالجمل ، كما يوهمه كلام المصنّف.

(٣) التّفسير إشارة إلى ردّ ما يقال : إنّ ما ذكره المصنّف من أنّ الفصل تركه ، لا يصحّ لصدقه على ترك العطف في الجملة الواحدة المبتدأ بها.

وجه الرّدّ : إنّ الضّمير في قوله : «تركه» لا يكون راجعا إلى العطف المطلق ، بل راجع إلى عطف بعض الجمل على البعض ، على ما هو المتفاهم عرفا ، فإذا لا مجال لدعوى صدقه على تركه في جملة واحدة مبتدأ بها ، فإنّ المتبادر من العبارة على التّقدير المذكور أن يكون في الكلام ما يمكن أن يعطف عليه ، فترك فيه العطف ، والجملة الواحدة ممّا لا يمكن العطف فيه.

٥٢

[فإذا (١) أتت جملة بعد جملة فالأولى إمّا أن يكون لها (٢) محلّ من الإعراب أو لا (٣) ، وعلى الأوّل] أي على تقدير أن يكون للأولى محلّ من الإعراب [إن قصد تشريك الثّانية لها] أي للأولى (٤) [في حكمه] أي في حكم الإعراب (٥) الّذي لها ، مثل

________________________________________

(١) أي رتّب المصنّف على التّعريف بيان الأحكام ، فقوله : «فإذا أتت جملة ...» إشارة إلى معرفة الحكم بعد معرفة الشّيء ، أي إذا عرفت ما ذكرناه من تعريف الفصل والوصل فاستمع أحكامهما ، وهي أنّه إذا أتت جملة بعد جملة ، «فالأولى» المراد بالأولى الأولى الإضافيّ لا الحقيقيّ ، لأنّ العطف قد يكون بين أكثر من جملتين.

(٢) أي الأولى «محلّ من الإعراب» بأن تكون في محلّ رفع كالخبريّة أو نصب كالمفعوليّة أو جرّ كالمضاف إليها.

(٣) أي بأن لا يكون لها محلّ من الإعراب كالاستئنافيّة والمعترضة ، والّتي يجاب بها القسم والتّفسيريّة ، والّتي تقع جوابا لشرط غير جازم مطلقا أو جازم ولم تقترن بالفاء ، ولا بإذا الفجائيّة ، وما تكون تابعة لأحد ما لا محلّ لها من الإعراب.

(٤) وحاصل كلامه : أنّه إذا أتت جملة بعد جملة ، فإن لم يكن للأولى محلّ من الإعراب ، فسيأتي حكمها ، وإن كان لها محلّ من الإعراب ، ولم يقصد تشريك الثّانية لها في حكمه ، فيجب الفصل ، وإن كانت الشّركة موجودة في الواقع ، كما في الخبر بعد الخبر ، والصّفة بعد الصّفة ، ونحوهما ، إذ مجرّد وجود شيء في الواقع لا يستلزم اعتباره ، وذلك لأنّ الوصل يضادّ مقصوده ، وإن قصد تشريك الثّانية لها فيجب العطف ، لأنّ الفصل حينئذ ينافي مقصوده ، لكن العطف إن كان بغير الواو وما بمعناه فهو صحيح في نفسه ، ومقبول عند البلغاء سواء كان بين الجملتين جهة جامعة غير خصوصية في معنى حرف العطف أم لا ، وإن كان بالواو أو نحوه ممّا يجيء بمعناه ، فشرط كونه مقبولا عند البلغاء أن يكون بينهما جهة جامعة ، وإلّا فيكون مردودا عندهم وإن كان صحيحا في نفسه ومقبولا عند الأوساط.

(٥) أي الإعراب عبارة عن الحركات وما ينوب منابها من الحروف كالألف والياء والواو ، والمراد بالحكم هنا الحال الموجب للإعراب مثل كونها خبرا لمبتدأ ، فإنّه يوجب الرّفع ، وكونها حالا أو مفعولا ، فإنّه يوجب النّصب ، فإضافة الحكم إلى الإعراب من إضافة السّبب إلى المسبّب.

٥٣

كونها خبر مبتدأ أو حالا أو صفة ، أو نحو ذلك (١) [عطفت] الثّانية [عليها] أي على الأولى (٢) ، ليدلّ العطف على التّشريك المذكور [كالمفرد (٣)] فإنّه إذا قصد تشريكه لمفرد قبله في حكم إعرابه من كونه (٤) فاعلا أو مفعولا ، أو نحو ذلك (٥) وجب عطفه (٦) عليه ، [فشرط كونه] أي كون عطف الثّانية على الأولى [مقبولا (٧) بالواو

________________________________________

(١) أي ككونها مفعولا ، كما في نحو : ألم تعلم أنّي أحبّك وأكرمك ، ومثال كونها خبرا نحو : زيد يعطي ويمنع ، ومثل كونها حالا نحو : جاء زيد يعطي ويمنع ، ومثال كونها صفة نحو : مررت برجل يعطي ويمنع.

(٢) أي يجب العطف سواء كان بالواو أو بغيرها لكنّه لو كان بالواو فشرط قبوله عند البلغاء وجود الجهة الجامعة بين الجملتين.

(٣) إنّما شبّه المصنّف عطف الجملة الّتي لها محلّ من الإعراب بالمفرد في كيفيّة العطف ، لأنّ الأصل والغالب في مثل هذه الجملة أن تكون واقعة موقع المفرد ومؤوّلة به ، وإنّما قلنا : الغالب كذا ، لأنّ الجملة الواقعة خبر الضّمير الشّأن لها محلّ من الإعراب ، ولكن ليست في محلّ مفرد ولا مؤوّلة به.

أو نقول : إنّما شبّهها به لكونها واقعة موقعا يكون الأصل وقوع المفرد فيه ، وإن لم تكن هذه الجملة مؤوّلة به فلا يرد النّقض بالجمل الواقعة خبر الضّمير الشّان ، لأنّ الأصل في الخبر هو الإفراد ، فهذه الجملة وقعت موقع يكون الأصل أن يقع المفرد فيه ، فإذا لا نحتاج إلى اعتبار الغلبة.

(٤) أي المفرد السّابق فاعلا أو مفعولا أو حالا.

(٥) ككونه تمييزا أو مفعولا له أو مفعولا فيه.

(٦) أعني وجب عطف المفرد الثّاني على المفرد الأوّل ، أي غالبا ، لأنّه يجوز تركه في الأخبار ، وكذا في الصّفات المتعدّدة مطلقا ، أي قصد التّشريك أو لم يقصد ، نحو : زيد كاتب شاعر ، أو زيد الكاتب الشّاعر ، بل تركه فيهما أحسن.

(٧) أي مقبولا عند البلغاء.

٥٤

ونحوه (١) أن يكون بينهما] أي بين الجملتين [جهة جامعة نحو : زيد يكتب ويشعر] ، لما بين الكتابة والشّعر من التّناسب الظّاهر (٢) [أو يعطي ويمنع] لما بين الإعطاء والمنع من التّضادّ (٣) ، بخلاف نحو : زيد يكتب ويمنع ، أو يعطي ويشعر (٤) ، وذلك (٥) لئلّا يكون الجمع بينهما (٦) كالجمع بين الضّبّ والنّون ، وقوله : ونحوه ،

________________________________________

(١) أي ما يكون بمعنى الواو مجازا ، مثل أو والفاء ، فإنّهما قد يجيئان بمعنى الواو.

(٢) لأنّ كلّا منهما تأليف كلام فإنّ المراد بالكتابة هنا إنشاء النّثر ، كما أنّ المراد بالشّعر إنشاء النّظم ، فهذا التّناسب يوجب اجتماعهما في المفكّرة عند أربابهما ، فالجامع هنا قياسيّ باعتبار المسندين ، وأمّا باعتبار المسند إليهما ، فعقليّ على ما سيجيء ، ثمّ الجامع يتفاوت بحسب المقامات ، فربّ جامع في مقام لا يصلح جامعا في مقام آخر ، فإن كنت في مقام دعوى أنّ الموجودات متفاوتة يقبل منك قولك : الشّجر طويل والنّخلة قصيرة ، والسّماء متعالية وماء البحر راكد ، وهكذا ، فإنّ مجرّد الاشتراك في الشّيئيّه والكون والوجود يكفي في العطف في هذا المقام.

ولا يكفي فيما إذا كنت في مقام مجرّد الإخبار عن حكمها فتدّبر.

(٣) وهو موجب للتّلازم في صقع الذّهن ، إذ ضدّ الشّيء أقرب خطورا بالبال عند خطوره ، فهما متناسبان ، والتّناسب يوجب اجتماع المتناسبين في المفكّرة ، فهو جامع خياليّ ، وذكر المصنّف مثال العطف في الجمل عند وجود الجامع ، وترك مثال عطف المفرد على مثله عند وجود الجهة الجامعة بينهما ، ومثاله : جاء زيد وابنه ، وتكلّم عمرو وأبوه ، فالجهة الجامعة بين زيد وابنه وعمرو وأبيه التّضايف ، وهو أمر يوجب اجتماعهما في المفكّرة ، وحينئذ فيكون الجامع بينهما خياليّا.

(٤) أي العطف في الأمثلة المذكورة غير مقبول ، وذلك لانتفاء الجامع الّذي يكون شرطا لقبول العطف ، هذا بالنّسبة إلى الجمل ، وبخلاف ما لو قيل في المفردين : جاءني زيد وحمار ، أو زيد وعمرو حيث لا صداقة بينهما ولا عداوة ، فإنّه لا يقبل.

(٥) أي بيان وجه اشتراط الجهة الجامعة بين الجملتين في قبول العطف.

(٦) أي عند انتفاء الجهة الجامعة «كالجمع بين الضّبّ والنّون» في عدم التّناسب ، لأنّ النّون ، وهو الحوت حيوان بحريّ لا يعيش إلّا في البحر ، والضّبّ حيوان برّيّ لا يشرب الماء وإذا

٥٥

أراد به (١) ما يدلّ على التّشريك كالفاء وثمّ وحتّى (٢) ، وذكره (٣) حشو مفسد ، لأنّ هذا الحكم (٤) مختصّ بالواو ، لأنّ لكلّ من الفاء وثمّ وحتّى معنى محصّلا غير التّشريك والجمعيّة (٥) ، فإنّ تحقّق هذا المعنى (٦) حسن العطف ، وإن لم توجد جهة جامعة (٧) ،

________________________________________

عطش روى بالرّيح ، فلا مناسبة بينهما ، فمن جمع بينهما في مكان يضحك عليه النّاس ، فكذلك عطف المفردين لا مناسبة بينهما يضحك عليه البلغاء.

نعم عند البسطاء صحيح ، بل مقبول كما أنّ الجمع بين الضّبّ والنّون عند المجانين لا قبح فيه ، وقول المصنّف : «ونحوه» الظّاهر أنّه أراد به نحو الواو من حروف العطف الدّالّة على التّشريك في الحكم ، وهذا شأن جميع حروف العطف.

(١) أي «نحوه».

(٢) أي بناء على أنّه يعطف بها الجمل كما في قولك : فعلت معه كلّ ما أقدر عليه حتّى خدمته بنفسي أو مطلقا ، لأنّ الشّرط يعتبر في المفردات أيضا.

ثمّ إنّ الظّاهر أنّ ذكر هذه الثّلاثة ، أعني الفاء وثمّ وحتّى إنّما هو من باب المثال لا الحصر ، لأنّ الدّلالة على التّشريك لا يختصّ بها ، بل تجري في جميع حروف العطف ، وأيضا ذكر حتّى هنا مبنيّ على مذهب البعض ، إذ سيأتي منه أنّه لا يقع في عطف الجمل.

(٣) أي وذكر نحوه حشو ومفسد.

(٤) أي الشّرط مخصوص بالواو ، وهذا الاعتراض إنّما جاء من جعل قوله : «ونحوه» عطفا على قوله : «بالواو» وهو غير متعيّن ، لجواز أن يكون عطفا على قوله : «مقبولا» فيكون التّقدير : وشرط كونه مقبولا ، وكونه نحو المقبول ، والمراد بنحو المقبول على هذا أن لا يبلغ في القبول بأن يكون مستحسنا فقطّ. وفيه نظر ، لأنّ المقبول يشمل المستحسن والكامل والأحسن.

(٥) أي زائدا عليه ، والمراد بالتّشريك التّشريك في حكم الإعراب ، وبالجمعيّة الاجتماع في المقتضي للإعراب ، وحينئذ فالعطف مرادف ، والحاصل إنّ التّشريك في حكم الإعراب موجود في جميع حروف العطف ، لكن ثمّ والفاء وحتّى لها معان أخر غير التّشريك.

(٦) أي قصد التّشريك.

(٧) أي أمر يجمعهما في العقل أو في الوهم أو في الخيال ، ويقرب أحدهما من الآخر ، أي غير التّشريك ، إذ هو لازم لكلّ عطف بأيّ حرف كان.

٥٦

بخلاف الواو (١) [ولهذا] أي ولأنّه لا بدّ في الواو (٢) من جهة جامعة [عيب على أبي تمّام قوله :

لا والّذي هو عالم أنّ النّوى (٣)

صبر (٤) وأنّ أبا الحسين كريم

إذ (٥) لا مناسبة بين كرم أبي الحسين ومرارة النّوى ، فهذا العطف غير مقبول سواء جعل عطف مفرد على مفرد ، كما هو الظّاهر (٦) ، أو عطف جملة على جملة باعتبار وقوعه موقع مفعولي ـ عالم (٧) ـ ،

________________________________________

(١) أي فإنّه لا يحسن العطف بها إلّا إذا وجدت الجهة الجامعة بين المسند إليهما والمسندين في الجملتين ، ولا يكفي لصحّة العطف مجرّد تحقّق الجامع بين المسندين فقطّ ، أو المسند إليهما فقطّ ، كما صرّح به الشّارح آخر بحث الجامع.

(٢) أي في قبول العطف بالواو.

(٣) النّوى بالنّون والواو ، كفتى بمعنى البعد والفراق ، ثمّ يحتمل أنّ الشّاعر أراد نواه أو أراد نوى غيره ، أو ما أعمّ.

(٤) صبر من الصّبر بالصّاد والرّاء بينهما الباء السّاكنة للضّرورة أصله ككتف ، وهو عصارة شجرة مرّ ، والمراد هنا الدّواء المرّ ، وحينئذ فالكلام من باب التّشبيه البليغ بحذف الكاف ، أي إنّ فراق الأحبّة كالصّبر في المرارة.

والشّاهد في البيت كونه مشتملا على عطف أمرين لا جامع بينهما.

(٥) علّة لقوله : «عيب» ، وقد انتصر بعض النّاس لأبي تمّام ، فقال الجامع خياليّ لتقارنهما في خيال أبي تمّام أو وهميّ ، وهو ما بينهما من شبه التّضادّ ، وأنّ مرارة النّوى كالضّدّ لحلاوة الكرم ، لأنّ كرم أبي الحسين حلو ويدفع بسببه ألم احتياج السّائل ، والصّبر مرّ ، ويدفع به بعض الآلام ، والتّناسب موجود ، لأنّ كليهما دواء ، فالصّبر دواء العليل ، والكرم دواء الفقير.

وقد يقال : المراد لا مناسبة ظاهرة ، إذ هي الّتي تعتبر في العطف لا نفي مطلق المناسبة.

(٦) حيث إنّ أن تؤوّل مع مدخولها بالمفرد.

(٧) أي باعتبار أنّ أن مع مدخولها واقعة موقع مفعولي العلم وسادّة مسدّهما ومفعولاه أصلهما مبتدأ وخبر ، فعلى هذا يكون العطف في المقام بتأويل عطف الجملة على الجملة

٥٧

لأنّ (١) وجود الجامع شرط في الصّورتين وقوله (٢) : لا ، نفي لما ادّعته الحبيبة عليه من (٣) اندراس هواه ، بدلالة (٤) البيت السّابق [وإلّا] أي وإن لم يقصد تشريك الثّانية للأولى في حكم إعرابها [فصلت] الثّانية [عنها] (٥)

________________________________________

باعتبار الأصل.

وقد يقال : إنّه ليس في تأويل المفرد ، إذ المفتوحة لا تغيّر معنى الجملة ، فهي بمعنى المكسورة ، وإن كانت بحسب اللّفظ مفتوحة.

(١) هذا تعليل للتّعميم ، أي إنّما عيب عليه ، سواء كان العطف من قبل عطف المفرد أو الجملة ، لأنّ وجود الجامع شرط في الصّورتين ، وهما عطف المفرد ، وعطف الجملة ، يعني لا جامع هنا بين المتعاطفين.

(٢) أي قول أبي تمّام في أوّل البيت : «لا» ، نفي لما ادّعته الحبيبة عليه ، ف «لا» مقول القول في محلّ نصب ، وقوله : «نفي» خبر المبتدأ الّذي هو قوله : «من اندراس هواه» أي ودّه وحبّه.

(٣) هذا بيان لما ادّعته الحبيبة.

(٤) متعلّق ب «نفي» ، أي إنّما كان نفيا لما ادّعته بسبب دلالة البيت السّابق ، وهو قوله :

زعمت هواك عفا الغداة كما عفا

عنها طلال باللّوى ورسوم

فاعل (زعمت) الحبيبة ، و (هواك) مفعول أوّل ، والخطاب للذّات الّتي جرّدها من نفسه ، أو أنّه التفت من التّكلّم للخطاب وجملة (عفا) مفعول ثان ، بمعنى اندرس ، و (الغداة) ظرف ل (عفا) (وعنها) بمعنى منها ، أي من الدّيار حال من (طلال) مقدّمة عليه ، والطّلال بكسر الطّاء ، جمع طلل كجبل وجبال ، ما شخّص من آثار الدّيار وهو فاعل (عفا) الثّاني ، واللّوى بالقصر اسم موضع ، والباء فيه بمعنى في ، والرّسوم بضمّ الرّاء جمع الرّسم كفلوس جمع فلس ، ما التصق بالأرض من آثار الدّيار ، وهو عطف على (طلال) وجواب القسم في البيت الّذي ذكره المصنّف.

(٥) أي عن الأولى يعني بأن يترك عطفها عليها ، أي فصلت وجوبا ، والأولى أن يقول : لم تعطف لمناسبة قوله سابقا : «عطفت عليها» ، والمراد بالفصل ترك العطف لا ترك الحرف الّذي قد يكون عاطفا ، إذ لا مانع من الإتيان بواو الاستئنافيّة.

٥٨

لئلّا يلزم من العطف التّشريك (١) الّذي ليس بمقصود [نحو : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)(١) (٢) ، لم يعطف (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) على (إِنَّا مَعَكُمْ) لأنّه (٣) ليس من مقولهم] فلو عطف عليه لزم تشريكه له ، في كونه (٤) مفعول ـ قالوا ـ فيلزم أن يكون (٥) مقول قول المنافقين ، وليس كذلك (٦) ، وإنّما قال (٧) على (إِنَّا مَعَكُمْ) دون (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) لأنّ قوله : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ)

________________________________________

(١) أي التّشريك في موجب الإعراب الّذي ليس بمقصود ، أي لأنّ المقصود الاستئناف.

(٢) الآية هكذا : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ). ومن عادة المنافقين أنّهم إذا لقوا المؤمنين قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم ضمّن خلوا معنى أفضوا ، فعدّى بإلى ، وإلّا فكان حقّه التّعدية بالباء ، أي إذا أفضى المنافقون إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم ، أي بقلوبنا في الثّبات على الكفر (إنّما نحن مستهزئون بهم) أي بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه فيما نظهر لهم من الإيمان والمحبّة ، ويمكن أن يكون قوله : (إِلى شَياطِينِهِمْ) متعلّقا بمحذوف ، أي إذا خلا المنافقون من المؤمنين ورجعوا إلى شياطينهم ، أي رؤسائهم من الكافرين (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي يجازيهم بجعلهم مطرودين من رحمته ولطفه في مقابل استهزائهم بالمؤمنين ، ففي الكلام مشاكلة ، وإلّا فالاستهزاء مستحيل على الله سبحانه.

(٣) أي قوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ليس من مقول المنافقين ، حتّى يعطف على مقولهم ، بل من مقول الله سبحانه وتعالى.

(٤) أي في كون (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) مفعول «قالوا».

(٥) أي فيلزم أن يكون (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) مقول قول المنافقين.

(٦) أي والحال ، ليس (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) مقول قول المنافقين.

(٧) أي قوله : «إنّما قال» جواب عن سؤال مقدّر تقريره : أنّه ما السّرّ في أنّ المصنّف قال : «لم يعطف (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) على (إِنَّا مَعَكُمْ)» ، ولم يقل لم يعطفه على (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) مع أنّ هذه الجملة أقرب.

وحاصل الجواب : إنّ الجملة الثّانية بيان للجملة الأولى ، فحكم العطف عليها حكم

__________________

(١) سورة البقرة : ١٤ و ١٥.

٥٩

بيان لقوله : (إِنَّا مَعَكُمْ) فحكمه حكمه (١) ،

________________________________________

العطف عليها ، والتّعرّض لحكم العطف على الأولى أولى لكون المتبوع أسبق اعتبارا.

(١) أي فحكم (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) حكم (إِنَّا مَعَكُمْ) في العطف ، أي فالعطف على الثّانية كالعطف على الأولى في لزوم المحذور المذكور ، لأنّ كلّا منهما من مقول المنافقين ، فاستغنى بالنّصّ على عدم صحّة العطف على الأولى عن النّصّ على عدم صحّته على الثّانية.

ولا يقال : حيث كان حكمهما واحدا فهلّا عكس.

لأنّا نقول : المتبوع أولى بالالتفات إليه ، لأنّ العطف عليه هو الأصل ، فقول الشّارح ، وأيضا كان الأولى أن يقول : لكنّ العطف على المتبوع هو الأصل ، ويحذف أيضا.

وذكر بعض أنّ قوله : «أيضا» اعتذار ثان ، وحاصله أنّه إنّما نصّ على نفي العطف على الأولى دون الثّانية ، لأنّ الثّانية تابعة للأولى ، والعطف المتبوع هو الأصل ، فيكون نفيه هو الأصل ، وإن كان حكم التّابع في العطف عليه حكم المتبوع في لزوم المحذور المذكور ، ثمّ المراد بالبيان في قوله : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بيان لقوله : (إِنَّا مَعَكُمْ) هو البيان اللّغويّ وهو الإيضاح لا الاصطلاحي ، فيحصل البيان سواء قلنا بأنّ جملة (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) تأكيد للجملة الأولى ، أو بدل اشتمال منها ، أو مستأنفة استئنافا بيانيّا.

ووجه الأوّل : أنّ الاستهزاء بالإسلام يستلزم نفيه ، ونفيه يستلزم الثّبات على الضّلال الّذي هو الكفر ، وهو معنى قوله : (إِنَّا مَعَكُمْ).

ووجه الثّاني : وهو كون الثّانية بدل اشتمال أنّ الثّبات على الكفر يستلزم تحقير الإسلام والاستهزاء به ، فبينهما تعلّق وارتباط.

ووجه الثّالث : إنّ الجملة الثّانية واقعة في جواب سؤال مقدّر تقريره : إذا كنتم معنا ، فما لكم تقرّون لأصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتعظيم دينهم ، وباتّباعه ، فقالوا : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) وليس ما ترونه منّا باطنيّا.

والحاصل إنّ المراد بالبيان هو البيان اللّغوي ، ولا شكّ أنّ كلّا من التّأكيد وبدل الاشتمال والاستئناف يحصل به البيان المذكور ، وليس المراد بالبيان البيان الاصطلاحيّ كي يقال : إنّ عطف البيان في الجمل ، لا بدّ فيه من وجود الإبهام الواضح في الجملة الأولى ، ولم يوجد هنا في الجملة الأولى إبهام واضح.

٦٠