دروس في البلاغة - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

١

٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآله الطّيّبين الطّاهرين.

هذا هو الجزء الثّالث من كتابنا «دروس في البلاغة» أسأل الله أن يوفّقني لإتمامه لأنّه بالإجابة جدير

٥
٦

[و] يطلب [بمن (١) العارض المشخّص (٢)] أي الأمر (٣) الّذي يعرض [الذي (٤) العلم] فيفيد تشخّصه وتعيّنه (٥) [كقولنا : من في الدّار (٦)] فيجاب عنه بزيد ، ونحوه ممّا (٧) يفيد تشخّصه ، [وقال السّكّاكي (٨) يسأل بما عن الجنس (٩) تقول : ما عندك؟ أي أي

______________________________________________________

(١) عطف على قوله : «بما» أي قيل يطلب بمن العارض المشخّص.

(٢) اسم فاعل من باب التّفعيل.

(٣) هو التّشخّص ، فالمطلوب بها حقيقة هو التّشخّص ، لكنّه لمّا كان لازما للذّاتّ ، ومن ضرورياتها صحّ أن يقع في الجواب زيد ونحوه ، والغرض منه التّشخّص والذّاتّ تبع.

(٤) فيه تنازع العارض والمشخّص ، وعبّر بالعلم دون العقل ليتناول الباري جلّ اسمه نحو : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) (٤٩).

(٥) فعليه خرج بالمشخّص العارض الّذي لا يفيد تعيّن ذي العلم مثل كاتب وضاحك ونحوهما ، فإنّها وإن كانت عارضة لحقيقة الإنسان ، لكنّها غير معيّنة له ، فلا يصحّ أن يقع في جواب السّؤال بمن.

(٦) أي إذا علم السّائل أنّ في الدّار أحدا ، لكن لم يتعيّن عنده ، فيسأل بمن عن مشخّصه ، وبعبارة واضحة : إنّ السّائل تصوّر أنّ أحدا في الدّار ولم يتعيّن عنده ، واحتمل أن يكون زيدا وغيره ، فطلب بقوله : من في الدّار ، مشخّصا ، فلمّا أجيب بزيد مثلا ، حصل له تصوّره مشخّصا.

(٧) بيان للنّحو في قوله :» ونحوه».

(٨) أي في الفرق بين من وما وهذا مقابل للقيل المتقدّم.

(٩) أي سواء كان من ذوي العلم أو من غيره ، والمراد به الجنس اللّغويّ ، فيشمل النّوع والماهيّة التّفصيليّة والإجماليّة ، والحقيقيّة والاصطلاحيّة ، والحاصل إنّ الجنس يشمل جميع أقسام المقول في جواب ما هو ، وهو النّوع والجنس ، فإذا قيل : ما زيد وعمرو؟ فيجاب بإنسان ، وإذا قيل : ما الإنسان والفرس؟ فيجاب بحيوان ، وإذا قيل : ما الإنسان؟ فيجاب بحيوان ناطق ، أو نوع من الحيوان ، فيطلب بما عنده شرح الاسم ، وشرح الماهيّة الموجودة ، إلّا أنّه مختصّ عنده بالأمر الكلّيّ ، وعند صاحب القيل السّابق يطلب بها شرح الاسم كلّيّا كان أو جزئيّا ، والظّاهر صحّة قول القيل ، فإنّه يسأل بما الشّارحة عن الجزئيّ كما في قولك : ما زيد ،

٧

أجناس (١) الأشياء عندك؟ وجوابه كتاب ونحوه] ويدخل فيه السّؤال عن الماهيّة.

والحقيقة (٢) نحو : ما الكلمة (٣) ، أي أيّ أجناس (٤) الألفاظ هي ، وجوابه لفظ مفرد موضوع ، [أو عن الوصف (٥) تقول (٦) : ما زيد؟ وجوابه : الكريم ، ونحوه (٧) و] يسأل [بمن (٨) عن الجنس من ذوي العلم (٩) ،

________________________________________

أي ما وضع له هذا اللّفظ ، فيجاب بلفظ أشهر ، كأبي جعفر مثلا ، إذا كان السّائل عارفا بكنية من وضع له لفظ زيد.

(١) أي أيّ جنس من أجناس الأشياء عندك ، لأنّ المسؤول عنه ليس هو الجمع.

(٢) أي يدخل في السّؤال عن الجنس السّؤال عن الماهيّة والحقيقة ، أي الّتي هي النّوع سواء كان حقيقيّا نحو : ما الإنسان؟ أو اصطلاحيّا ، نحو : ما الكلمة؟ وأشار الشّارح بهذا إلى أنّ مراد المصنّف بالجنس الجنس اللّغويّ ، وهو ما صدق على كثيرين لا الجنس المنطقيّ ، إذ هو مقابل للنّوع.

(٣) أي ما مدلول هذه اللّفظة.

(٤) أي أيّ نوع من أنواعها ، لأنّ الألفاظ تتنوّع لأنواع مفرد ومركّب ، وموضوع ، وغير موضوع ، ومستعمل وغير مستعمل.

(٥) عطف على قوله :» عن الجنس» أي يسأل بما عن الجنس ، أو عن الوصف.

(٦) أي تقول في السّؤال عن الوصف : ما زيد؟ أي أيّ وصف يقال فيه ، أي هل يقال فيه كريم أو بخيل أو غير ذلك.

(٧) أي كالشّجاع والبخيل والجبان ، وكان الأولى للمصنّف أن يقول ، وجوابه كريم بالتّنكير.

(٨) عطف على «ما» في قوله :» يسأل بما عن لجنس» فهو من جملة مقول السّكّاكي ، والمراد بالجنس هو الجنس اللّغويّ ، فيشمل النّوع والصّنف.

(٩) أي بأن يعلم السّائل أنّ المسؤول عنه من ذوي العلم ، لكنّه يجهل جنسه ، وقضيّة التّقييد بذوي العلم تقتضي أنّه لا يسأل بها عن الجنس مطلقا.

٨

تقول : من جبريل (١)؟ أي أبشر هو أم ملك أم جنّيّ؟ ، وفيه (٢) نظر] إذ لا نسلّم أنّه للسّؤال عن الجنس ، وأنّه يصحّ في جواب من جبريل أن يقال : ملك ، بل يقال : ملك من عند الله يأتي بالوحي كذا ، وكذا ممّا (٣) يفيد تشخّصه [ويسأل بايّ عمّا يميّز أحد المتشاركين في أمر (٤) يعمّهما] وهو (٥) مضمون ما أضيف إليه أيّ [نحو : (أى الفريقين)

________________________________________

(١) أي ما جنسه إذا كنت عالما بأنّه من ذوي العلم ، جاهلا جنسه وجوابه : ملك.

(٢) أي فيما قاله السّكّاكي بالنّظر إلى جعل من للسّؤال عن الجنس نظر ، وحاصله : إنّا لا نسلّم ورود من

في اللّغة للسّؤال عن الجنس ، فالصّواب ما مرّ من أنّها للسّؤال عن العارض المشخّص ، ويدلّ عليه جواب موسى عليه‌السلام ، بقوله : ربّنا الّذي أعطى كلّ شيء خلقه ، ثمّ هدى عن سؤال آل فرعون بقوله : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) (٤٩) (١) ، فهذا الجواب ممّا يفيد التّشخّص والتّعيّن وهذا ظاهر ، في أنّه يسأل بمن عن العارض المشخّص لذي العلم لا عن الجنس من ذي العلم.

(٣) أي قوله :» ممّا يفيد ...» بيان قوله :» كذا وكذا».

(٤) متعلّق ب «المتشاركين» بصيغة التّثنية ، وهو اقتصار على أقلّ ما يحصل فيه الاشتراك ، وإلّا فأيّ كما يسأل بها عمّا يميّز أحد المتشاركين يسأل بها عمّا يميّز أحد المتشاركات ، وحاصل ما ذكره المصنّف أنّه إذا كان هناك أمر يعمّ شيئين أو أشياء بحيث وقع فيه الاشتراك ، وكان واحد منهما أو منها محكوما له بحكم وهو مجهول عند السّائل ، إلّا أنّ له وصفا عند غيره يميّزه ، وأريد تمييزه ، فإنّه يسأل بأيّ عن ذلك الموصوف بوصف يميّزه ، وهو صاحب الحكم ، لأنّ العلم بالمشترك فيه ، وهو الأمر العام مع العلم بثبوت الحكم لأحد الشّيئين أو الأشياء لا يستلزم بالضّرورة العلم بتمييز صاحب الحكم من الشّيئين أو الأشياء ، فيسأل بأيّ عن الموصوف بالوصف المميّز له ، فقول المصنّف :» عمّا يميّز» المراد عن موصوف ما يميّز أي عن موصوف وصف يميّز أحد المتشاركين.

(٥) أي الأمر الّذي يعمّهما مضمون ما أضيف إليه أي أشار الشّارح به إلى أنّ الأمر المشترك فيه الّذي قصد التمييز على قسمين : فتارة يكون هو ما أضيف إليه أيّ ، وتارة أخرى يكون غيره ، فالأوّل كمثال المصنّف : أيّ الفريقين ... ، فإنّهما مشتركان في

__________________

(١) سورة طه : ٥٠.

٩

(خَيْرٌ مَقاماً)(١) (١) أي أنحن أم أصحاب محمّد] فالمؤمنون والكافرون قد اشتركا في الفريقيّة ، وسألوا (٢) عمّا يميّز أحدهما عن الآخر ، مثل الكون كافرين قائلين لهذا القول ، ومثل الكون أصحاب محمّد عليه‌السلام غير قائلين.

[و] يسأل [بكم عن العدد (٣)

________________________________________

الفريقيّة ، والّذي يميّز أحدهما هو الوصف الّذي يذكره المجيب مثل الكون أنتم أو أصحاب محمّد ، ونحو أيّ الرّجلين أو الرّجال عندك ، فالرّجلان مثلا مشتركان في الرّجوليّة ، وهو أمر يعمّهما ، والّذي يميّز أحدهما هو الوصف الّذي يذكره المجيب.

والثّاني كقوله تعالى حكاية عن سليمان على نبيّنا وعليه أفضل الصّلاة والسّلام : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها)(٢) أي أيّ الإنس والجنّ يأتيني بعرشها ، فإنّ الأقرب فيه أنّ الأمر المشترك فيه هو كون كلّ منهم من جند سليمان ومنقادا لأمره ، وبهذا تعلم ما في قول الشّارح ، وهو مضمون ما أضيف إليه أيّ.

(١) الآية هكذا : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً) هذا حكاية لكلام المشركين لعلماء اليهود ، فهم معتقدون أنّ أحد الفريقين ثبت له الخيريّة والفريقيّة تصدق على كلّ منهما ولم يتميّز عندهم من ثبتت له الخيريّة ، فكأنّهم قالوا : نحن خير أم أصحاب محمّد ، فالمسؤول عنه بأيّ الأشخاص الموصوفون بالكون كافرين أو الكون أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) أي الكافرون أعني مشركي العرب ، سألوا أحبار اليهود وعلماءهم ، فأجابوهم بقولهم :

أنتم ، وقد كذّبوا في هذا الجواب والجواب الحقّ هو أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحصل التّمييز بكلّ من الجوابين.

(٣) أي المعيّن إذا كان مبهما ، فيقع الجواب بما يعيّن قدره ، كما يقال : كم غنما ملكت ، فيقال : مائة أو ألفا ، ومحلّ الاحتياج للجواب المعيّن لقدر العدد إذا كان السّؤال بها على ظاهره كما مثّلنا ، وقد يكون السّؤال بها عن العدد على غير ظاهره ، كما في الآية الّتي ذكرها

__________________

(١) سورة مريم : ٧٣.

(٢) سورة النّمل : ٣٨.

١٠

نحو : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ)(١) (١) ، أي كم آية (٢) آتيناهم أعشرين أم ثلاثين ، فمن آية مميّز كم بزيادة من ، لما وقع من الفصل بفعل متعدّ بين كم ومميّزها ، كما ذكرنا في الخبريّة ، فكم ههنا للسّؤال عن العدد ، لكنّ الغرض من هذا السّؤال هو التّقريع والتّوبيخ (٣).

________________________________________

المصنّف ، فلا يحتاج لجواب.

(١) بعدها : (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢١١) المعنى سل يا محمّد بني إسرائيل ، أي أولاد يعقوب ، وهم اليهود الّذين كانوا حول المدينة ، والمراد علماؤهم ، كم أعطيناهم من حجّة ظاهرة مثل اليد البيضاء ، وقلب العصا حيّة ، وفلق البحر ، فبدّلوا نعمة الله وسخروا بآياته ، ومن يبدّل الشّكر بالكفران من بعد ما جاءته ، فإنّ الله شديد العقاب.

(٢) أي آية ، في قوله : (مِنْ آيَةٍ) تمييز لكم ، وكم مفعول لقوله : (آتَيْناهُمْ) والتّقدير : كم آية آتيناهم أعشرين أم ثلاثين أو غير ذلك ، وجرّ التمييز ، أعني (آية) ب (من) الزّائدة للفصل بين كم ومميّزها بفعل متعدّ ، فلو لم تدخل (من) على التّمييز لتوهّم أنّه مفعول للفعل ، وقد تقدّم هذا في كم الخبريّة هنالك.

والفرق بين كم الاستفهاميّة والخبريّة : أنّ الاستفهاميّة لعدد مبهم عند المتكلّم معلوم عند المخاطب في ظنّ المتكلّم والخبريّة لعدد مبهم عند المخاطب ، ربّما يعرفه المتكلّم ، وأمّا المعدود فهو مجهول في كليهما ، فلذا احتيج إلى المميّز للمعدود ، ولا يحذف إلّا لدليل ، وأنّ الكلام مع الخبريّة يحتمل الصّدق والكذب بخلافه مع الاستفهاميّة.

(٣) أي الغرض من السّؤال هو التّوبيخ على عدم اتّباع مقتضى الآيات مع كثرتها ، وبيانها ، وحينئذ فالمعنى :

قل لهم هذا الكلام ، فإذا أجابوك بأنّنا آتيناهم آيات كثيرة ، فوبّخهم على عدم الاتّباع مع كثرة الآيات ، وإنّما كان الغرض من هذا الاستفهام التّقرير والتّوبيخ ، وليس الغرض به استعلام مقدار عدد الآيات من جهة بني إسرائيل ، لأنّ الله تعالى علّام الغيوب ، فلو كان المراد مجرّد علم مقدار الآيات لأعلم الله نبيّه بقدرها وتولّى ذلك الإعلام ، فتعيّن أن يكون الغرض به التّقريع والتّوبيخ.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢١١.

١١

[و] يسأل [بكيف عن الحال (١) ، وبأين عن المكان (٢) ، وبمتى عن الزّمان] ماضيّا (٣) كان أو مستقبلا [وبأيّان عن] الزّمان [المستقبل (٤) ، قيل : وتستعمل في مواضع التّفخيم (٥) ، مثل يسأل أيّان يوم القيامة ،

________________________________________

(١) أي عن كيفيّة الشّيء وصفته الّتي هو عليها ، كالصّحة والمرض والرّكوب والمشي ، سواء كان في موقع الخبر كما في نحو : كيف زيد؟

أو في موضع الحال في نحو : كيف جئت؟

ففي الأوّل يقال في الجواب : مريض أو صحيح ، وفي الثّاني يقال : راكبا أو ماشيا ، وليست كيف ظرفا كما يوهمه تفسيرهم لها في أيّ حال وجدته ، لأنّه تفسير معنويّ ، وبيان لحاصل المعنى ، ومآله كما يقال في تفسير الحال في قولنا : جاء زيد راكبا ، أي جاء في حالة الرّكوب.

(٢) أي يقال : أين جلست يوم الجمعة؟

وجوابه : أمام المنبر ، ويقال : أين عالم البلد؟ وجوابه : في المسجد.

(٣) يقال : متى جئت؟ فيجاب : ظهرا ، أو مستقبلا يقال : متى تأتي ، فيجاب : بعد يوم مثلا.

(٤) أي يسأل بأيّان عن الزّمان المستقبل ، مثلا يقال : أيّان يصير هذا الولد عالما بارعا ، فيقال في الجواب : بعد عشرين سنة مثلا.

وقيل : إنّ أصل أيّان ، أي أوان ، فحذفت إحدى الياءين من أيّ والهمزة من أوان ، فصار أيوان ، ثمّ قلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء في الياء ، فصار أيّان.

(٥) أي تستعمل أيّان في مواضع التّفخيم ، أي في المواضع الّتي يقصد فيها تفخيم المسؤول عنه وتعظيمه ، مثل (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) (١٢) (١) و (أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ)(٢) ، ثمّ يحتمل أن يكون مراد هذا القائل الاختصاص ، أي أنّها لا تستعمل إلّا في مواضع التّفخيم ، فتكون مختصّة بالأمور العظام ، فلا يقال : أيّان تنام ، أو أيّان تأكل ويحتمل أن يكون مراده أنّها تستعمل للتّفخيم ، كما تستعمل

__________________

(١) سورة الذّاريات : ١٢.

(٢) سورة القيامة : ٦.

١٢

وأنّى (١) تستعمل تارة بمعنى كيف] ويجب أن يكون بعدها (٢) فعل [نحو : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)(١)] أي على أيّ حال (٣) ، ومن أيّ شقّ أردتم (٤) بعد أن يكون المأتي (٥) موضع الحرث ، ولم يجىء أنّى زيد ، بمعنى كيف (٦) هو [وأخرى بمعنى من أين ، نحو : (أَنَّى لَكِ هذا) (٧)] أي من أين لك هذا الرّزق الآتي كلّ يوم ، وقوله :

________________________________________

في غيره ، وظاهر كلام النّحويّين حيث قالوا : إنّها كمتى تستعمل للتّفخيم وغيره. وكيف كان فالشّاهد في الآية أنّه قد استعملت فيها أيّان للتّعظيم والتّفخيم بشأن يوم القيامة ، وجواب هذا السّؤال هو (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (١٣) ، ثمّ في الكلام حذف مضاف ، أي أيّان وقوع يوم القيامة ، فلا يرد أنّ يوم القيامة كالجثّة ، فكيف أخبر عن الزّمان بالجثّة مع أنّه لا يخبر به إلّا عن الحدث.

(١) أي الاستفهاميّة.

(٢) أي بعد أنّى يحتمل أن تكون أنّى حقيقة في الاستعمالين ، بأن تكون من قبيل المشترك ، وأن تكون مجازا في أحدهما ، وكيف كان فإذا استعملت بمعنى كيف ، يجب أن يكون بعدها فعل ، بخلاف كيف ، حيث لا يجب أن يكون بعده فعل ، وظاهره أنّه لا فرق بين الماضي وغيره ، وهو كذلك فالأوّل كالآية المذكورة في كلام المصنّف.

والثّاني كقوله تعالى : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها).

(٣) أي تفسير لأنّى ، بمعنى كيف ، أي كيف كان الإتيان من قيام أو اضطجاع.

(٤) أي من خلف أو أمام.

(٥) أي مكان الإتيان «موضع الحرث» ، وهو القبل دون الدّبر ، والظّاهر إنّ الحرث بمعنى المحروث ، وهو القبل ، فشبّه الفرج بالأرض المحروثة ، المني بالبذر ، والذّكر بالمحراث ، والولد بالنّبات.

(٦) أي من غير إيلاء الفعل ، فهذا ناظر إلى قوله : «ويجب أن يكون بعدها فعل».

(٧) الخطاب من زكريّا لمريم عليهم‌السلام ، أي من أين لك هذا الرّزق بدليل قوله تعالى حكاية عنها : (قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ)(٢).

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٢٣.

(٢) سورة آل عمران : ٣٧.

١٣

تستعمل ، إشارة إلى أنّه (١) يحتمل أن يكون مشتركا بين المعنيين ، وأن يكون في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجازا ويحتمل أن يكون معناه (٢) أين ، إلّا أنّه (٣) في الاستعمال يكون مع من ظاهرة (٤) كما في قوله (١) : [من أين (٥) عشرون لنا من أنّى] أو مقدّرة كما في قوله تعالى : (أَنَّى لَكِ هذا)] أي من أنّى لك ، أي من أين عليّ (٦) ما ذكره بعض النّحاة : [ثمّ إنّ هذه الكلمات] الاستفهاميّة [كثيرا ما تستعمل في غير الاستفهام (٧)] ممّا (٨) يناسب المقام بحسب معونة القرائن (٩) [كالاستبطاء (١٠) نحو : كم دعوتك (١١) ،

________________________________________

(١) أي كيف ، ومن أين ، بأن يكون مشتركا بينهما بالاشتراك اللّفظيّ.

(٢) أي معنى أنّى أين ، لا مجموع من أين.

(٣) أي أنّى الّذي بمعنى أين في الاستعمال يكون مع من ظاهرة أو مقدّرة. وذلك للفرق بين ما هو بمعنى من أين ، وما هو بمعنى أين.

(٤) حال من لكونها مفعولا بها معنى ، إذ المعنى يكون مصاحبا لمن.

(٥) قوله : «من أين» خبر مقدّم ، و «عشرون» مبتدأ مؤخّر ، و «لنا» صفة له ، وقوله : «من أنّى» الظّاهر إنّه خبر حذف مبتدؤه وصفته ، بدليل ما قبله ، أي من أنّى عشرون لنا ، والجملة مؤكّدة لما قبلها.

(٦) متعلّق بقوله : «أن يكون معناه ...».

(٧) أي الّذي هو الأصل ، والمعنى الحقيقيّ لها.

(٨) بيان لغير الاستفهام.

(٩) أي بسبب القرائن الصّارفة عن الاستفهام ، والمعيّنة ما يناسب المقام ، قوله : «بحسب القرائن» متعلّق بقوله : «تستعمل» أو بمحذوف ، أي وتعيين ذلك الغير بحسب القرائن.

(١٠) أي إظهار البطؤ وتأخّر الجواب.

(١١) أي نحو قولك ـ لمخاطب دعوته فإبطاء في الجواب ـ : كم دعوتك ، فليس المراد استفهام المتكلّم عن عدد الدّعوة لجهله به ، بل المراد هو قصد الاستبطاء ، والعلاقة هي السّببيّة ، ويمكن أن يقال : إنّه استعمل كم في الاستفهام ، أي طلب حصول صورة عدد الدّعوة في الذّهن ، لكن لا بداعي رفع الجهل ، بل بداعي إظهار بطئ المخاطب عن الإقبال والتّوجّه

__________________

(١) أي قول مدرك بن حصين.

١٤

والتّعجّب (١) نحو : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ)(١)] لأنّه كان لا يغيب عن سليمان عليه‌السلام إلّا بإذنه ، فلمّا لم يبصره مكانه تعجّب من حال نفسه في عدم إبصاره إيّاه ، ولا يخفى (٢) أنّه لا معنى لاستفهام العاقل عن حال نفسه ، وقول صاحب الكشّاف : نظر سليمان إلى مكان الهدهد فلم يبصره ، فقال : ما لي لا أراه ، على معنى أنّه لا يراه وهو (٣) حاضر لساتر ستره ، أو غير ذلك ، ثمّ لاح له أنّه غائب ، فأضرب عن ذلك ، وأخذ يقول :

________________________________________

إلى المتكلّم ، ولو سلّمنا أنّه استعمل في الاستبطاء فنقول : العلاقة هي علاقة السّببيّة والمسبّبيّة ، فإنّ الاستفهام عن عدد الدّعاء مسبّب عن الجهل وهو مسبّب عن كثرتها عادة أو ادّعاء ، فإنّ القليل يكون معلوما عادة ، وهي مسبّبة عن البطؤ عادة ، فاللّفظ الموضوع للمسبّب استعمل في السّبب ، ولا فرق في تلك العلاقة بين أن يكون أحد من المعنى الحقيقيّ أو المجازيّ مسبّبا عن الآخر بلا واسطة لو مع واسطة كما في المقام.

(١) قوله : «والتّعجّب نحو : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ)» أخبر الله سبحانه عن قصّة سليمان فقال : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) أي ما لهدهد لا أراه ، تقول العرب : ما لي لا أراك ، ومعناه ما لك فهو من القلب.

والشّاهد في الآية : مجيء ما الاستفهاميّة للتّعجّب مجازا.

(٢) علّة لمحذوف عطف على قوله : «تعجّب من حال نفسه» أي لأنّه استفهم عنها ، إذ لا يخفى أنّه لا معنى لاستفهام العاقل كسليمان عن حال نفسه ، لأنّ العاقل أدرى بحال نفسه من غيره ، فكيف يستفهم عنها من الغير ، ولمّا امتنع حمل الكلام على ظاهره ، حمل على التّعجّب مجازا ، لأنّ السّؤال عن الحال ، وهو السّبب في عدم الرّؤية يستلزم الجهل بذلك السّبب ، والجهل بسبب عدم الرّؤية يستلزم التّعجّب.

(٣) أي الهدهد حاضر ، وهذه الجملة حالية ، قوله : «لساتر» متعلّق بقوله : «لا يراه».

وحاصله : إنّ سليمان جازم بعدم رؤيته مع حضوره ، ومتردّد في السّبب المانع له من الرّؤية مع حضوره ، هل هو ساتر ستره أو غير ذلك ، فسأل الحاضرين عن ذلك السّبب الّذي منعه ، فقال لهم : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) أي ما السّبب في عدم رؤيتي له ، والحال أنّه حاضر ، فيكون الاستفهام على حقيقته.

__________________

(١) سورة النّحل : ٢٠.

١٥

أهو غائب ، كأنّه يسأل عن صحّة ما لاح له يدلّ على أنّ الاستفهام على حقيقته. [والتّنبيه على الضّلال ، نحو : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ)(١) (١) والوعيد ، كقولك لمن يسيء الأدب : ألم أؤدّب فلانا ، إذا علم] المخاطب (٢) [ذلك] وهو أنّك أدّبت فلانا ، فيفهم معنى الوعيد والتّخويف ، ولا يحمله على السّؤال [والتّقرير] أي حمل المخاطب (٣) على الإقرار بما يعرفه ، وإلجائه إليه ،

________________________________________

(١) إذ ليس القصد منه الاستفهام عن مذهبهم ، بل التّنبيه على ضلالهم ، وأنّهم لا مذهب لهم ينجون به ، والعلاقة بين التّنبيه على الضّلال والاستفهام أنّ في الاستفهام تنبيه المخاطب على المستفهم عنه ، وذلك مستلزم لتوجيه القلب له ، وتوجيه القلب إلى الطّريق الّذي تراه واضح الفساد ، والهلاك والضّلال مستلزم للتّنبيه إلى الضّلال الّذي هو لازم للتّنبيه عليه ، فهو مجاز مرسل من استعمال الدّالّ على الملزوم في اللّازم في الجملة.

(٢) أي إنّما يكون هذا وعيدا ، إذا علم المخاطب المسيء للأدب ذلك التّأديب الحاصل منك لفلان ، أي وأنت تعلم أنّه يعلم ذلك ، فلا يحمل كلامك حينئذ على الاستفهام الحقيقيّ ، لأنّه يستدعي الجهل ، وهو عالم أنّك عالم بتأديب فلان ، بل يحمله على مقصودك من الوعيد بقرينة كراهيّتك للإساءة المقتضية للزّجر بالوعيد ، والعلاقة بين الاستفهام والوعيد اللّزوم ، فإنّ الاستفهام ينبّه المخاطب على جزاء إساءة الأدب ، وهذا يستلزم وعيده لاتّصافه بإساءة الأدب ، فهو مجاز مرسل من استعمال اسم الملزوم في اللّازم.

(٣) إضافة حمل إلى المخاطب من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي حمل المتكلّم المخاطب على الاعتراف بالأمر الّذي استقرّ عنده من ثبوت شيء أو نفيه ، وإلجاء المخاطب إلى الإقرار والإلجاء ، قوّة الطّلب فيكون تفسيرا لما قبله ، والعلاقة بين الاستفهام والإقرار هي السّببيّة والمسبّبيّة ، فإنّ الاستفهام عن أمر معلوم للمخاطب وهو عالم بأنّ المستفهم عالم به موجب ، لأنّ أراد الحمل على الإقرار ، فاللّفظ الموضوع للسّبب قد استعمل في المسبّب.

__________________

(١) سورة التكوير : ٢٦.

١٦

[بإيلاء المقرّر به الهمزة] أي بشرط أن يذكر بعد الهمزة ما حمل المخاطب على الإقرار به [كما مرّ (١)] في حقيقة الاستفهام من إيلاء المسؤول عنه الهمزة ، تقول : أضربت زيدا ، في تقريره بالفعل ، وأأنت ضربت في تقريره بالفاعل (٢) ، وأزيدا ضربت في تقريره بالمفعول ، وعلى هذا القياس (٣) ، وقد يقال التّقرير بمعنى التّحقيق (٤) والتّثبيت ، فيقال : أضربت زيدا ، بمعنى أنّك ضربته البتّة. [والإنكار (٥) كذلك نحو :

________________________________________

(١) الكاف للتشبيه ، أي الإيلاء مثل الإيلاء الّذي مرّ في حقيقة الاستفهام ، أي إنّ الهمزة تأتي للتّقرير ، كما كانت تأتي للاستفهام ، فإذا كانت للتّقرير وليها المقرّر به ، كما كان يليها المستفهم عنه في حال كونها للاستفهام الحقيقيّ ، فحينئذ يجري في حال كونها للتّقرير التّفصيل الّذي مرّ في الاستفهام الحقيقيّ من كون المقرّر به الّذي يليها فاعلا أو مفعولا أو حالا أو غيرها.

(٢) أي الفاعل المعنوي لا الاصطلاحيّ ، لأنّ أنت مبتدأ اصطلاحا.

(٣) أي قياس بقيّة الفضلات ، فتقول : أفي الدّار زيد ، في تقريره بالمجرور أو أراكبا جئت في تقريره بالحال.

(٤) أي تحقيق النّسبة وتثبيتها ، ثمّ استعمال لفظ في التّقرير بمعنى التّحقيق والتّثبيت ، لو سلّمناه أيضا مجاز مرسل ، بعلاقة السّببيّة والمسبّبيّة حيث إنّ الاستفهام عن شيء معلوم للمخاطب ، وهو يعلم أنّ المتكلّم عالم به موجب لإرادة تثبيته ، فيما إذا لم يكن المقام ممّا للمخاطب داعيا على إخفائه ، فالحاصل : إنّ التّقرير كما يقال على حمل المخاطب على الإقرار ، كذلك يقال على التّحقيق والتّثبيت إلّا أنّ المصنّف أراد المعنى الأوّل من التّقرير.

(٥) بالجرّ عطف على «الاستبطاء» ، وقوله : «كذلك» حال من الإنكار والمشار إليه ، هو التّقرير ، أي حال كون الإنكار مماثلا للتّقرير في إيلاء المنكر الهمزة ، فقول الشّارح : «بإيلاء المنكر ...» بيان للمراد من التّشبيه المنكر اسم مفعول من أنكر.

١٧

(أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ)(١)] (١) أي بإيلاء المنكر الهمزة ، كالفعل في قوله (٢) : [أيقتلني (٣) والمشرفيّ مضاجعيّ] والفاعل في قوله تعالى : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ)(٢) (٤) والمفعول في قوله تعالى : [(أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) [(٣) (٥)] ، وأمّا غير الهمزة فيجيء

________________________________________

(١) فالدّعاء مسلّم ، والمنكر كون المدعوّ غير الله ، فيكون الاستفهام للإنكار.

(٢) أي في قول امرئ القيس ، وآخره : ومسنونة زرق كأنياب أغوال.

(٣) الهمزة للإنكار ، ويقتلني مضارع من القتل ، وفيه ضمير يرجع إلى زوج سلمى المذكور فيما قبله ، «المشرفيّ» سيف منسوب إلى المشرف ، وهو بالشّين والرّاء والفاء ، قرية من أرض العرب من حوالي الشّام ، وهي مشارف الشّام ، «المضاجع» بصيغة اسم الفاعل الّذي يضجع معك ، أي ينام معك المسنونة بالسّين والنّون ، اسم مفعول من سنّ السّكّين ، إذا حدّه وصقله ، «الزّرق» بالزّاء والرّاء والقاف ، صفة مشبّهة بمعنى شديد الصّفاء ، وأنياب جمع ناب السّنّ ، وأغوال جمع غول نوع من الجنّ.

والشّاهد : في أنّ الهمزة للإنكار ، أي إنكار الفعل ، وهو القتل المعيّن والقرينة على ذلك قوله : «والمشرفيّ مضاجعيّ» أي لا يتمكّن من قتليّ في حالة كون السّيف المنسوب إلى المشرف معيّ ، فإنّ السّيف مانع من القتل «من كون فاعله هو زوج سلمى ، ومفعوله امرؤ القيس».

(٤) المراد من الفاعل هو الفاعل المعنويّ اللّغويّ لا الاصطلاحيّ ، والهمزة للإنكار ، والمنكر كونهم هم القاسمون لا نفس القسمة للرّحمة ، لأنّ القاسم هو الله تعالى.

(٥) الهمزة لإنكار المفعول ، فإنّ المنكر هو كون المتّخذ غير الله ، وأمّا أصل الاتّخاذ فلا يتعلّق به الإنكار.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦.

(٢) سورة الزّخرف : ٣١.

(٣) سورة الأنعام : ١٤.

١٨

للتّقرير والإنكار لكن لا تجرى فيه هذه التّفاصيل ، ولا يكثر كثرة الهمزة ، فلذا لم يبحث عنه [ومنه] أي من مجيء الهمزة للإنكار نحو : [(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ)(١) أي الله كاف عبده (١) ، لأنّ إنكار النّفي نفي له (٢) ، ونفي النّفي إثبات (٣) ، وهذا] المعنى [مراد من قال : الهمزة فيه (٤) للتّقرير ، أي] لحمل المخاطب على الإقرار [بما (٥) دخله النّفي] وهو الله كاف [لا بالنّفي (٦)] وهو ليس الله بكاف ، فالتّقرير لا يجب أن

________________________________________

(١) أي فليس المراد به الاستفهام ، بل المراد إنكار ما دخلت عليه الهمزة ، وهو عدم الكفاية ، فيكون المراد الإثبات ، فلذا قال المصنّف : «أي الله كاف عبده» ، فإنكار النّفي ليس مقصودا بالذّاتّ ، بل وسيلة للإثبات على أبلغ وجه ، وهذا الكلام ردّ على من يتوهّم من الكفرة أنّ الله تعالى ليس بكاف عبده.

(٢) أي لنفي ، وهذه مقدّمة صغرى ، والكبرى المذكورة في المتن ومجموعهما دليل على ما ذكر من أنّ المراد من الآية الإثبات.

(٣) أي إثبات للمنفيّ ، وإنّما كان كذلك ، لأنّه لا واسطة بينهما ، فحيث انتفى أحدهما ثبت الآخر.

(٤) أي في هذا التّركيب ، وهو (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) للتّقرير.

(٥) متعلّق للتّقرير.

(٦) عطف على قوله : «بما دخله» أي الهمزة في التّركيب لتقرير مدخول النّفي ، وهو الله كاف ، لا تقرير النّفي ، فلا تقرير بالنّفي ، وهو ليس الله بكاف ، ويصحّ أن يقال : إنّ الهمزة في التّركيب المذكور للإنكار ، والحاصل : إنّه قد يقال : إنّ الهمزة للإنكار ، وقد يقال : إنّها للتّقرير وكلاهما حسن ، ومن هنا علم أنّ التّقرير ليس يجب أن يكون بما دخلت عليه الهمزة ، بل بما يعرفه المخاطب من الكلام الّذي دخلت عليه الهمزة من إثبات ، كما في آية : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) أو نفي كما في آية : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ..). ، ومن هذا تعلم أنّ شرط المصنّف فيما سبق إيلاء المقرّر به الهمزة ليس كلّيّا ، بل مختصّ بما إذا أريد التّقرير بمفرد من فعل أو فاعل أو مفعول ، وأمّا إذا أريد التّقرير بالحكم ، فلا يكون بما دخلت عليه الهمزة ، بل بما يعرف المخاطب من ذلك الحكم الّذي اشتمل عليه الكلام الّذي فيه الهمزة ، وإن لم يكن واليا لها.

__________________

(١) سورة الزّمر : ٣٦.

١٩

يكون بالحكم الّذي دخلت عليه الهمزة ، بل بما يعرف المخاطب من ذلك الحكم إثباتا أو نفيا ، وعليه (١) قوله تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ)(١) (٢) فالهمزة فيه للتّقرير ، أي بما يعرفه عيسى عليه‌السلام. من هذا الحكم ، لا بأنّه قد قال ذلك (٣) ، فافهم (٤) ، وقوله (٥) : والإنكار كذلك ، دلّ على أنّ صورة إنكار الفعل أن يلي الفعل الهمزة ،

________________________________________

(١) أي على التّقرير بما يعرفه المخاطب من الحكم في كلام المقرّر ورد قوله تعالى.

(٢) الآية (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ..). ، فإنّ الهمزة فيه للتّقرير بما يعلمه نبيّ الله عيسى على نبيّنا وعليه الصّلاة السّلام ، والّذي يعلمه هو أنّه ما قال لهم اتّخذوني ، لا أنّه قال لهم ذلك ، فإذا أقرّ عيسى بما يعلم ، وهو أنّه ما قال ذلك انقطعت أوهام الّذين ينسبون إليه ادّعاءه الألوهيّة ، وكذّبهم إقرار عيسى عليه‌السلام ، فقامت الحجّة عليهم ، وهذه الآية ممّا خرج عمّا تقدّم من أنّه يلي المقرّر به الهمزة ، لأنّ المقرّر به فيها نفس النّسبة ، إذ ليس المراد إظهار أنّ غير عيسى قال هذا القول دون عيسى ، بل المتبادر بيان أنّه لم يقله تكذيبا للمدّعين ، لا أنّ غيره قاله دونه هو.

(٣) أي لا التّقرير بأنّه قد قال ذلك ، إذ قول هذا مستحيل في حقّه عليه‌السلام.

(٤) لعله إشارة إلى أنّ التّقرير إنّما هو بالنّفي لا بالإثبات ، أي التّقرير بأنّه لم يقل ذلك القول ، لا بأنّه قال ذلك القول لاستحالته من نبيّ الله.

(٥) مبتدأ وجملة «الإنكار كذلك» مقول القول ، ودلّ خبر قوله : يعني أنّ قول المصنّف والإنكار كذلك دلّ بعمومه على ما قاله الشّارح ، كما هو ظاهر ، إذ هو ليس مقصورا على إنكار غير الفعل ، بل معناه إنّ المنكر سواء كان فعلا أو اسما فاعلا أو مفعولا أو غير ذلك من المتعلّقات يجب أن يلي الهمزة كالمقرّر به.

__________________

(١) سورة المائدة : ١١٩.

٢٠