دروس في البلاغة - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

[قلنا (١) : المراد] بكون وجه الشّبه حسّيّا [أنّ أفراده] أي جزئياته [مدركة بالحسّ] كالحمرة الّتي تدرك بالبصر جزئياتها الحاصلة في الموادّ ، فالحاصل أنّ وجه الشّبه إمّا واحد أو مركّب (٢) أو متعدّد ، وكلّ من الأوّلين (٣) إمّا حسّيّ أو عقليّ (٤) والأخير (٥) إمّا حسّي (٦) أو عقليّ (٧) أو مختلف (٨) ، تصير سبعة (٩) ، والثّلاثة العقليّة (١٠)

________________________________________

والحاصل من القياسين هو عدم كون شيء من وجه الشّبه حسّيّا ، فما تقدّم من المصنّف حيث وكلّ منهما حسّيّ أو عقلي غير صحيح.

(١) وحاصل الجواب : إنّا سلّمنا أنّ وجه الشّبه لا يكون حسّيّا ، لكونه كلّيّا وقدرا مشتركا بين الطّرفين ، لكن تسميتنا له حسّيّا مبنيّ على التّسامح ، ومن قبيل تسمية الشّيء باسم متعلّقه ، وهو الأفراد ، فالمراد بكون وجه الشّبه حسّيّا أنّ أفراده وجزئياته حسّيّة ، أي مدركة بالحسّ ، أي كونه حسّيّا باعتبار أفراده ، وهذا هو التّسامح ، وتسمية الشّيء باسم متعلّقه تساهلا.

(٢) أي الّذي عبّر عنه فيما تقدّم بالمنزّل منزلة الواحد.

(٣) أي الواحد والمركّب.

(٤) أي إمّا مدرك بإحدى الحواسّ الظّاهرة ، أو مدرك بالعقل.

(٥) أي المتعدّد من وجه الشّبه.

(٦) أي إمّا حسّيّ بتمام جزئياته.

(٧) أي أو عقلي بجميع جزئياته.

(٨) أي بعض جزئياته حسّي ، وبعضها عقلي.

(٩) أي سبعة حاصلة من مجموع الأربعة الحاصلة من الأوّلين ، والثّلاثة الحاصلة من الأخير.

(١٠) أي وهي الواحد العقليّ ، والمركّب العقليّ ، والمتعدّد العقليّ ، واحترز بالعقليّة عن الحسّيّة لوجوب كون الطّرفين فيها حسّيين ، وعن المختلف أيضا ، لأنّ العقلي يقتضي حسّيّة الطّرف بالتّمام ، ثمّ الثّلاثة باعتبار الطّرفين أربعة ، فتضرب الثّلاثة بالأربعة تصير اثنتي عشر ، وتضاف إلى ذلك الأربعة الباقية من السّبعة ، وهي وجه الواحد الحسّي ، والمركّب الحسّي ، والمتعدّد الحسّي ، والمتعدّد المختلف ، بعضه حسّي وبعضه عقلي ، وهذه الأربعة لا يكون طرفاها إلا حسّيّين كما تقدّم ، فصار المجموع ستّة عشر.

٣٨١

طرفاها إمّا حسّيّان ، أو عقليّان ، أو المشبّه حسّيّ والمشبّه به عقليّ ، أو بالعكس ، صارت ستّة عشر قسما ، [فالواحد الحسّيّ كالحمرة] من (١) المبصرات [والخفاء] يعني خفاء الصّوت من المسموعات [وطيب الرّائحة] من (٢) المشمومات ، [ولذّة الطّعم] من (٣) المذوقات [ولين الملمس] من الملموسات [فيما مرّ (٤)] ، أي في تشبيه الخدّ بالورد ،

________________________________________

(١) حال من الحمرة ، أي حال كونها من المبصرات في تشبيه الخدّ بالورد.

قال المرحوم العلّامة الشّيخ موسى البامياني في المقام ما هذا نصّه : الأقسام المتصوّرة في الواحد الحسّيّ ١٢٥ قسما ، ووجه ضبطها أنّ الوجه قد يكون مبصرا ، وقد يكون مسموعا ، وقد يكون مشموما ، وقد يكون مذوقا ، وقد يكون ملموسا ، فإن كان مبصرا ، فطرفاه إمّا مبصران ، وإمّا مسموعان ، وإمّا مشمومان ، وإمّا مذوقان ، وإمّا ملموسان ، وإمّا الأوّل مبصر والثّاني ملموس ، أو بالعكس ، وإمّا الأوّل مبصر والثّاني مشموم ، أو بالعكس ، وإمّا الأوّل مبصر والثّاني مذوق ، أو بالعكس ، وإمّا الأوّل مبصر ، والثّاني مسموع أو بالعكس ، وإمّا الأوّل ملموس ، والثّاني مشموم أو بالعكس ، وإمّا الأوّل ملموس ، والثّاني سموع ، أو بالعكس ، وإمّا الأوّل ملموس ، والثّاني مذوق أو بالعكس ، وإمّا الأوّل مشموم والثّاني مذوق ، أو بالعكس ، وإمّا الأوّل مبصر والثّاني مسموع أو بالعكس ، وإمّا الأوّل ملموس والثّاني مشموم أو بالعكس ، وإمّا الأوّل ملموس والثّاني مسموع أو بالعكس ، وإمّا الأوّل ملموس والثّاني مذوق أو بالعكس ، وإمّا الأوّل مشموم ، والثّاني مسموع ، أو بالعكس ، وإمّا الأوّل مذوق والثّاني مسموع ، أو بالعكس ، فمجموع الأقسام ٢٥ قسما ، وكذلك إذا كان الوجه مسموعا ، أو مشموما ، أو مذوقا ، أو ملموسا ، فالمجموع ١٢٥ قسما ، انتهى.

قوله : «خفاء الصّوت من المسموعات» في تشبيه الصّوت الضّعيف بالهمس.

(٢) أي حال كون طيب الرّائحة من المشمومات في تشبيه النّكهة بالعنبر.

(٣) أي حال كون لذّة الطّعم من المذوقات في تشبيه الرّيق بالخمر ، على زعم الّذين أولعوا بشرب الخمر حتّى أثبتوا لطعمها لذّة.

(٤) أي في تشبيهات مرّت ، وقد بيّنها الشّارح بقوله : «أي في تشبيه الخدّ بالورد» والصّوت الضّعيف بالهمس ، فيقال : خدّه كالورد في الحمرة ، وصوت زيد كالهمس في الخفاء ، ونكهته كالعنبر ، في طيب الرّائحة ، وريقه كالخمر في لذّة الطّعم ، وجلده كالحرير في الملمس ،

٣٨٢

والصّوت الضّعيف بالهمس ، والنّكهة بالعنبر ، والرّيق بالخمر ، والجلد النّاعم بالحرير ، في كون الخفاء من المسموعات ، والطّيب من المشمومات ، واللذّة من المذوقات تسامح (١).

[و] الواحد [العقليّ (٢) كالعراء (٣) عن الفائدة والجرأة] على وزن الجرعة (٤) أي الشّجاعة ، وقد يقال : جرأ الرّجل جرأة بالمدّ (٥) ، [والهداية] أي الدّلالة (٦)

________________________________________

والمصنّف مثّل للواحد الحسّيّ بأمثلة خمسة ، ولم يقتصر في التّمثيل له على مثال واحد نظرا إلى تعدّد الحواسّ ، وكونها خمسة.

(١) وجه التّسامح أنّ الخفاء والطّيب واللذّة أمور عقليّة غير مدركة بالحواسّ ، وإنّما المدرك بالسّمع الصّوت الخفي ، لا الخفاء ، لأنّ الخفاء أمر عقلي ، والمدرك بالشمّ رائحة الطّيب ، لا الطّيب ، لأنّه أمر عقلي ، والمدرك بالذّوق طعم الخمر ، لا لذّته. نعم ، لا تسامح في جعل لين الملمس من الملموسات.

(٢) أي الواحد العقليّ على أربعة أقسام ، لأنّ طرفيه إمّا حسّيّان أو عقليّان ، أو المشبّه به حسّيّ والمشبّه عقلي ، أو عكسه ، فلذا مثّل له المصنّف بأمثلة أربعة.

(٣) أي الخلوّ عن الفائدة.

(٤) أي بضمّ الجيم ، كالقرعة بمعنى بقيّة الماء في الكأس.

(٥) أي بالمدّ وفتح الجيم ككراهة ، ويقال فيه أيضا : جرائيّة كالكراهيّة ، ويقال فيه أيضا :

جرة ككرة ، ثمّ تفسير الجرأة بالشّجاعة مبني على اصطلاح اللّغويّين ، من ترادفهما بمعنى أنّ اقتحام المهالك سواء كان صادرا عن رويّة ، أو لا يقال له جرأة وشجاعة ، هذا خلاف اصطلاح الحكماء من أنّ الجرأة أعمّ من الشّجاعة ، لأنّ الاقتحام المذكور إن كان عن رويّة فهو شجاعة ، وأمّا الجرأة فهي اقتحام المهالك مطلقا ، وإنّما عبّر المصنّف بالجرأة دون الشّجاعة ، مع اشتهار جعلها وجه شبه في تشبيه الإنسان بالأسد ، لأجل صحّة المثال عن كلّ من اصطلاح الحكماء واللّغويّين ، ولو عبّر بالشّجاعة لورد عليه أنّ المثال إنّما يصحّ على مذهب الحكماء لا على مذهب اللّغويّين لاختصاص الشّجاعة بالعقلاء.

(٦) أي تفسير الهداية بالدّلالة على طريق يوصل إلى المطلوب إشارة إلى أنّ المراد بالهداية ليس هي الدّلالة الموصلة إلى المطلوب ، بل هي بمعنى إراءة الطّريق الموصل إلى المطلوب ، ولكن الأوّل هو الأنسب في تشبيه العلم بالنّور ، في كون كلّ منهما موصلا إلى شيء ، فإنّ

٣٨٣

على طريق يوصل إلى المطلوب ، [واستطابة النّفس (١) في تشبيه (٢) وجود الشّيء العديم النّفع بعدمه] فيما طرفاه عقليّان ، إذ الوجود والعدم من الأمور العقليّة (٣) ، [و] تشبيه [الرّجل الشّجاع بالأسد (٤)] فيما طرفاه (٥) حسّيّان ، [و] تشبيه [العلم بالنّور (٦)] ، فيما المشبّه عقلي والمشبّه به حسّيّ ، فبالعلم يوصل إلى المطلوب (٧) ،

________________________________________

العلم يفرّق بين الحق والباطل ، ويوصل إلى المطلوب الّذي هو الحق ، كما أنّ النّور يفرّق بين الأشيّاء ، ويوصل إلى ما هو المطلوب منها.

(١) «استطابة» مصدر مضاف إلى الفاعل ، يقال استطاب النّفس الشّيء ، أي وجده طيّبا.

(٢) أي الظّرف متعلّق بالظّرف السّابق الّذي هو خبر للواحد العقلي ، أعني قوله : «كالعراء عن الفائدة».

ومعنى العبارة : والواحد العقلي كالعراء عن الفائدة في تشبيه وجود الشّيء العديم النّفع بعدمه ، أي تشبيه وجود ما لا نفع له بعدمه ، مثلا يقال لرجل مجنون : وجوده كعدمه في العراء عن الفائدة.

(٣) أي ضرورة أنّ الوجود والعدم ليسا من الأشياء المدركة بإحدى الحواسّ الظّاهرة ، فهما من الأمور العقليّة.

(٤) أي بأن يقال : زيد كالأسد مثلا في الجرأة.

(٥) أي الرّجل الشّجاع والأسد من الأمور الحسّيّة.

(٦) أي بأن يقال العلم كالنّور في الهداية به.

(٧) أي وهو السّلامة في الدّنيّا والآخرة ، وذلك لأنّه يدلّ على الحقّ ، ويفرّق بينه وبين الباطل ، فإذا اتّبع الحقّ وصل إلى المطلوب الّذي هو السّلامة في الدّارين ، وكذلك النّور يفرّق ويميّز بين طريقي السّلامة والهلاك ، فإذا سلك الطّريق الأوّل حصل المطلوب الّذي هو السّلامة ، فقد ظهر أنّ كلا من العلم والنّور يدلّ على أنّ الطّريق الموصل إلى المطلوب ، وتلك الدّلالة هي الهداية ، فصحيح أن يقال : العلم كالنّور في الهداية.

٣٨٤

ويفرّق بين الحقّ والباطل ، كما أنّ بالنّور يدرك المطلوب ، ويفصل (١) بين الأشياء ، فوجه الشّبه بينهما الهداية ، [و] تشبيه [العطر بخلق] شخص [كريم (٢)] ، فيما المشبّه حسّيّ والمشبّه به عقليّ ، ولا يخفى ما في الكلام من اللّف والنّشر (٣). وما في وحدة بعض الأمثلة من التّسامح ، كالعراء عن الفائدة مثلا. [والمركّب الحسّيّ (٤)] من وجه الشّبه طرفاه إمّا مفردان ، أو مركّبان ، أو أحدها مفرد والآخر مركّب (٥) ، ومعنى التّركيب ههنا (٦) أن تقصد (٧) إلى عدّة أشياء مختلفة ،

________________________________________

(١) أي ويميّز بين الأشياء.

(٢) أي بأن يقال : العطر كخلق شخص كريم في استطابة النّفس ، أي عدّها لكلّ منهما طيّبا ، والمشبّه اعني العطر محسوس ، والمشبّه به أي خلق شخص كريم معقول.

(٣) أي في الكلام من اللّفّ والنّشر المرتّبين حيث ذكرت الأمثلة على طبق الممثّلات وترتيبها ، وهو ظاهر إلّا أنّ في وحدة الأمثلة تسامح كما أشار إليه بقوله : «وما في وحدة بعض الأمثلة من التّسامح».

وجه التّسامح أنّ في بعض الأمثلة شائبة التّركيب ، كالعراء عن الفائدة ، واستطابة النّفس حيث يكون الأوّل مقيّدا بالظّرف والثّاني بالمضاف إليه ، إلّا أن يقال إنّ التّقييد بذلك لا يقتضي التّركيب ، فلا تسامح أصلا.

(٤) أي وجه الشّبه إذا كان مركّبا حسّيّا ، فقد علمت أنّ طرفاه لا يكون إلّا حسّيّين ، فلذا قسّم الشّارح الطّرفين إلى المفرد والمركّب ، ولم يقسمهما إلى الحسّيّ والعقليّ.

(٥) وهذا ينحلّ إلى قسمين ، إذ قد يكون المشبّه مفردا والمشبّه به مركّبا ، وقد يكون الأمر بالعكس ، فأقسام المركّب الحسّيّ باعتبار الطّرفين ترتقي إلى ٥٠٠ قسم حاصلة من ضرب ٤ في ١٢٥ كما في المفصّل في شرح المطوّل للمرحوم الشّيخ موسى البامياني.

(٦) أي في الطّرفين إذا كان وجه الشّبه مركّبا حسّيّا.

(٧) أي أنت تقصد إلى أشياء معدودة فيما إذا كان الطّرف مركّبا ، والحاصل إنّ المراد بالمركّب هنا ، أي في تقسيم الطّرفين أخصّ منه فيما سبق ، أي التّركيب في وجه الشّبه ، لأنّه فيما سبق المراد به ما كان حقيقة ملتئمة ، وما كان هيئة منتزعة ، والمراد به هنا الثّاني فقطّ.

٣٨٥

فتنتزع (١) منها هيئة ، وتجعلها مشبّها أو مشبّها بها ، ولهذا (٢) صرّح صاحب المفتاح في تشبيه المركّب بالمركّب بأنّ كلا من المشبّه والمشبّه به هيئة منتزعة ، وكذا المراد بتركيب وجه الشّبه أن تعمد (٣) إلى عدّة أوصاف لشيء فتنتزع (٤) منها هيئة ، وليس المراد بالمركّب ههنا (٥) ما يكون حقيقة مركّبة من أجزاء مختلفة (٦) ، بدليل أنّهم يجعلون المشبّه والمشبّه به في قولنا : زيد كالأسد مفردين لا مركّبين (٧) ، ووجه الشّبه في قولنا : زيد كعمرو في الإنسانيّة واحدا (٨) لا منزّلا منزلة الواحد (٩) ، فالمركّب الحسّيّ [فيما] أي في التّشبيه الّذي [طرفاه مفردان كما في قوله (١٠) : وقد لاح (١١)

________________________________________

(١) أي أنت تنتزع منها هيئة هي غير موجودة في الخارج ، وحينئذ فمعنى كون الطّرفين اللّذين هما الهيئتان محسوسين أن تكون الهيئة منتزعة من أمور محسوسة.

(٢) أي لأجل أنّ المراد بالتّركيب هنا ما قلنا ، ترى صاحب المفتاح أنّه صرّح في التّشبيه المركّب بالمركّب بأنّ كلا من الطّرفين هيئة منتزعة.

(٣) أي تقصد إلى عدّة أوصاف لشيء ، فقوله : «أن تعمد إلى عدّة أوصاف» بيان للمراد بتركيب وجه الشّبه.

(٤) أي فأنت تنتزع من تلك الأوصاف هيئة ، فيكون وجه الشّبه هيئة منتزعة.

(٥) أي في الطّرفين ووجه الشّبه.

(٦) أي مثل حقيقة زيد الحسّيّة ، وهي ذاته ، فإنّها مركّبة من أجزاء مختلفة ، وهي أعضاؤه وحقيقته العقليّة ، وهي ماهيّته ، فإنّها مركّبة من أجزاء مختلفة ، وهي الحيوانيّة والنّاطقيّة.

(٧) مع أنّ زيدا فيه حيوإنيّة وناطقيّة وتشخّص ، والأسد فيه الحيوإنيّة والافتراس ، فلو أريد بالمركّب ما يكون حقيقة مركّبة من أجزاء مختلفة لا يصحّ جعل هذين مفردين.

(٨) أي مع أنّ الإنسانيّة مركّبة من الجنس والفصل.

(٩) وإن كانت الإنسانيّة مركّبة من أمور مختلفة كما عرفت.

(١٠) أي قول أحينحة بالهمزة المضمومة والحائين المفتوحتين بينهما ياء ساكنة ، أو قيس بن الأسلت.

(١١) لاح بالحاء المهملة ، ماض بمعنى ظهر ، «الثّريّا» ستة أنجم ظاهرة ، وواحد خفيّ «ترى» مخاطب من الرّؤيّة «العنقود» بالعين والدّال المهملتين بينهما نون وقاف ، كمنصور قسم من

٣٨٦

في الصّبح الثّريّا كما ترى كعنقود ملاحيّة] بضمّ الميم ، وتشديد اللّام عنب أبيض في حبّه طول ، وتخفيف اللّام أكثر [حين نوّرا (١)] أي تفتّح نوره [من الهيئة] بيان لما في ، كما (٢) في قوله : [الحاصلة (٣) من تقارن الصّور (٤) البيض (٥) المستديرة الصّغار المقادير (٦) في المرأى] وإن كانت كبارا في الواقع ، حال كونها (٧)

________________________________________

العنب معروف ، أي عنب أبيض في حبّه طول «الملاحيّة» بضمّ الميم وتشديد اللّام ، وكسر الحاء المهملة ، والياء المشدّدة والهاء ، شجر العنب الملّاحي بضمّ الميم.

والشّاهد في البيت : كون وجه الشّبه مركّبا حسّيّا ، بمعنى الهيئة المنتزعة من الأمور المذكورة الكائنة في الثّريّا ، والهيئة المنتزعة من الأمور المذكورة الكائنة في العنقود وجه الشّبه بين الثّريّا والعنقود ، هو مطلق الهيئة الشّاملة للهيئتين المنتزعتين منهما.

(١) الضّمير في «نوّر» يعود إلى العنقود ، والألف للإشباع ، وفي هذا تنبيه على أنّ المقصود تشبيه الثّريّا بالعنب في حال صغره ، لأنّه حال تفتح نوره يكون صغيرا.

(٢) أي الواقعة على وجه الشّبه ، يعني المراد بما في ، كما هذه الهيئة الحاصلة فالهيئة المذكورة ، هي وجه الشّبه لانتزاع تلك الهيئة من محسوس ، وهذه الهيئة قائمة بطرفي مفردين كما سيأتي.

(٣) أي المراد بالهيئة الحاصلة من تقارن الصّور ، هي الهيئة الحاصلة من صفاتها المذكورة ، أعني البيّاض والاستدارة ، والصّغار المقادير ، وتقارنها كائنة على كيفيّة مخصوصة فيما بينهما.

(٤) أي الصّور المتقارنة ، والمراد بها صور النّجوم في الثّريّا ، وصور حبّات العنب في العنقود.

(٥) أي المراد بالبيّاض هو الصّفاء الّذي لا يشوبه حمرة ولا سواد ، وإن كان بيّاض النّجوم في المرأى أشدّ.

(٦) أي الّتي مقاديرها صغيرة.

(٧) أي الصّور الكائنة على الكيفيّة المخصوصة ، أشار الشّارح بهذا إلى أنّ قوله : «على الكيفيّة المخصوصة» حال من الصّور.

٣٨٧

[على الكيفيّة المخصوصة] أي لا مجتمعة اجتماع التّضامّ (١) والتّلاصق ، ولا شديدة الافتراق (٢) منضمّة (٣) [إلى المقدار المخصوص (٤)] من الطّول والعرض ، فقد نظر (٥) إلى عدّة أشياء ، وقصد إلى هيئة حاصلة منها (٦) ، والطّرفان مفردان ، لأنّ المشبّه هو الثّريّا والمشبّه به هو العنقود مقيّدا (٧) ، بكون عنقود الملاحيّة في حال إخراج النّور ، والتّقييد (٨)

________________________________________

(١) أي على وزن التّفاعل من الضّمّ ، أصله التّضامم ، حذف أحد الميمين للتّخفيف ، و «التّلاصق» عطف على «التّضام».

(٢) أي بأن تكون تلك الصّور متقاربة مجتمعة اجتماعا متوسّطا بين التّلاصق وشدّة الافتراق.

(٣) أي حال كون تلك الكيفيّة السّابقة منضمّة إلى مقدار كلّ منهما القائم بمجموعه من الطّول والعرض.

(٤) أي المراد بالمقدار مجموع مقدار الثّريّا ، من طوله وعرضه ، ومجموع مقدار العنقود من طوله وعرضه ، فهذه الهيئة ، وهي وجه التّشبيه مدركة بالبصر ، وطرفاه وهما الثّريّا وعنقود العنب مفردان ، وإن كان العنقود مقيّدا بقوله : «حين نوّر» لأنّ التّقييد لا يقتضي التّركيب.

(٥) أي فقد نظر الشّاعر في وجه هذا التّشبيه «إلى عدّة أشياء» ، وهي الصّفات القائمة بالثّريّا والعنقود ، من التّقارن والاستدارة والصّغر والبيّاض والمقدار المخصوص لمجموع كلّ منهما.

(٦) أي الهيئة المنتزعة من الأمور المذكورة الكائنة في الثّريّا ، والهيئة المنتزعة من الأمور المذكورة الكائنة في العنقود ، ثمّ شبه الثّريّا بالعنقود بجامع مطلق الهيئة الشّاملة للهيئتين المنتزعتين منهما.

(٧) أي كما أنّ المشبّه مقيّد بكونه في الصّبح.

(٨) أي في كلّ من المشبّه والمشبّه به لا ينافي الإفراد ، أي كون الطّرفين مفردين ، لأنّ المراد بالمفرد هنا ما هو في مقابل الهيئة المنتزعة ، أي ما ليس بهيئة منتزعة من متعدّد ، فيصدق حتّى على مجموع المقيّد والقيد.

فقوله : «والتّقييد لا ينافي الإفراد» دفع لما يتوهّم من أنّ المشبّه به هو عنقود الملاحيّة حين كان كذا ، فهو مركّب لا مفرد.

والجواب إنّ التّقييد لا ينافي الإفراد ، لأنّ المفرد ما ليس بهيئة منتزعة من متعدّد.

٣٨٨

لا ينافي الإفراد كما سيجيء (١) إن شاء الله تعالى [وفيما] أي والمركّب الحسّيّ في التّشبيه الّذي [طرفاه مركّبان كما في قول بشّار : كأنّ مثار النّقع] من أثار الغبار ، هيّجه [فوق رؤوسنا* و (٢) أسيافنا ليل تهاوى كواكبه (٣)] أي يتساقط بعضها إثر بعض ، والأصل تتهاوى حذفت إحدى التّائين [من (٤) الهيئة الحاصلة من هوى] بفتح الهاء (٥) ، أي سقوط [أجرام مشرقة (٦) مستطيلة (٧) متناسبة المقدار (٨) ،

________________________________________

(١) أي سيجيء في تشبيه مفرد بمفرد.

(٢) أي الواو بمعنى مع ، فأسيافنا مفعول معه ، والعامل فيه «مثار» ، لأنّ فيه معنى الفعل وحروفه ، «تهاوى» بفتح التّاء والواو مضارع أصله تتهاوى ، حذفت إحدى تائيه تخفيفا ، وهو بمعنى تتساقط.

والشّاهد في البيت كونه مشتملا على التّشبيه الّذي طرفاه مركّبان ، كما أنّ وجه الشّبه مركّب حسّيّ كما يأتي توضيح ذلك.

(٣) تفسير مفردات قول بشّار «مثار» بالمثلّثة والرّاء المهملة ، اسم مفعول من أثار الغبار ، أي هيّجه ، «النّقع» بالنّون والقاف والعين المهملة ، كفلس بمعنى الغبار ، وإضافة مثار إليه من إضافة الصّفة إلى الموصوف ، أي كأنّ النّقع المثار ، أي المهيّج والمحرّك من الأسفل إلى أعلى بحوافر الخيل.

(٤) بيان لما في قوله : كما في قول بشّار.

(٥) قيل بضمّ الهاء ، أمّا الفتح فبمعنى الصّعود لا السّقوط.

(٦) المراد بها السّيوف والنّجوم.

(٧) أي الاستطالة في السّيوف واقعيّة ، وفي النّجوم ظاهريّة ، لأنّها تستطيل عند السّقوط في رأي العين ، وإن كانت مستديرة في الواقع.

(٨) أي بالنّظر إلى السّيوف وحدها ، والنّجوم وحدها ، فإنّ السّيوف متناسبة المقدار بينها ، وكذلك النّجوم ، بخلاف ملاحظة السّيوف بالقياس إلى النّجوم ، فإنّها ليست متناسبة المقدار في الطّول والعرض ، فإنّ الطّول في النّجوم أكثر منه في السّيوف ، فالتّناسب من هذه الجهة مبنيّ على التّساهل والمسامحة.

٣٨٩

متفرّقة في جوانب شيء مظلم (١)] ، فوجه الشّبه مركّب (٢) كما ترى ، وكذا الطّرفان ، لأنّه (٣) لم يقصد تشبيه اللّيل بالنّقع والكواكب بالسّيوف. بل عمد إلى تشبيه هيئة السّيوف وقد سلّت (٤) من أغمادها وهي تعلو وترسب ، وتجيء وتذهب وتضطرب اضطرابا شديدا ، وتتحرّك بسرعة إلى جهات مختلفة ، وعلى أحوال تنقسم بين الاعوجاج والاستقامة والارتفاع والانخفاض مع التّلاقي والتّداخل والتّصادم والتّلاحقّ ، وكذا في جانب المشبّه به (٥) ، فإنّ للكواكب في تهاويها تواقعا وتداخلا واستطالة لأشكالها (٦).

[و] المركّب الحسّيّ (٧) ، [فيما طرفاه مختلفان] أحدهما مفرد والآخر مركّب [كما مرّ (٨)

________________________________________

(١) أي فإنّ السّيوف متفرّقة في جوانب ظلمة الغبار ، والنّجوم في جوانب ظلمة اللّيل.

(٢) أي المراد بالمركّب هي الهيئة المنتزعة ، فوجه الشّبه مركّب بهذا المعنى.

(٣) أي الشّاعر لم يقصد تشبيه اللّيل بالنّقع ، والكواكب بالسّيوف ، بل عمد ، أي قصد ، أي تشبيه هيئة السّيوف ، أي الهيئة المنتزعة من آثار النّقع مع السّيوف بالهيئة المنتزعة من اللّيل المتهاوي كواكبه.

(٤) أي أخرجت من أغلافها وهي تعلو ، أي ترتفع وترسب ، أي تنزل وتنسفل من رسب الشّيء في الماء ، قوله : «تضطرب» أي في العلوّ والنّزول ، والمراد بالاعوجاج الذّهاب يمنة ويسرة وخلفا ، والمراد بالاستقامة الذّهاب إلى الأمام ، والمراد بالتّداخل هو تعاكس الحركتين بذهاب كلّ منهما إلى جهة ابتداء الأخرى ، المراد بالتّصادم هو التّلاقي ، والمراد بالتّلاحقّ التّتابع كتتابع سيفين في ذهابهما لمضروب واحد.

(٥) أي ومثل ما ذكر يقال في جانب المشبّه به ، أي اللّيل ، فإنّ الكواكب في تهاويها في اللّيل تواقعا ، أي تدافعا وتداخلا واستطالة لأشكالها عند السّقوط ، فانتزع من اللّيل والكواكب الّتي على هذه الصّفات هيئة وشبّه بها.

(٦) أي الكواكب.

(٧) أي وجه الشّبه المركّب الحسّيّ في التّشبيه الّذي طرفاه مختلفان.

(٨) أي كوجه الشّبه الّذي مرّ في ضمّن «تشبيه الشّقيق».

٣٩٠

في تشبيه الشّقيق (١)] بأعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد من (٢) الهيئة الحاصلة من نشر أجرام حمر مبسوطة (٣) على رؤوس أجرام خضر مستطيلة (٤) ، فالمشبّه مفرد وهو (٥) الشّقيق ، والمشبّه به مركّب (٦) ، وهو (٧) ظاهر ، وعكسه (٨) تشبيه نهار مشمس قد شابه ، أي خالطه زهر الرّبا بليل مقمر على ما سيجيء (٩).

________________________________________

(١) أي المحمّر.

(٢) بيان لوجه الشّبه الّذي مرّ في ضمّن التّشبيه المذكور.

(٣) أي فيها اتّساع ، فهو غير المنشور مع عدم الاتّساع كالخيط ، فلذا ذكر قوله : «مبسوطة» مع قوله : «نشر أجرام».

(٤) أي مشكّل بشكل مخروطي ، وهو ما ينتزع من إحاطة سطحين على جسم أحدهما مستطيل ينتهي إلى نقطة تسمّى رأس المخروط ، والآخر إلى خطّ مستدير ، ويسمّى هذا السّطح قاعدّة المخروط.

(٥) أي المشبّه الشّقيق المقيّد بالحمرة.

(٦) أي هيئة منتزعة من عدّة أمور ، أي نشر أجرام وحمرتها وبسطها على رؤوس أجرام أخر ، وخضرتها واستطالتها ومخروطيّتها ، وأمّا المشبّه فهو نفس الشّقيق المقيّد بالحمرة ، وهو أمر واحد ذو أجزاء خارجيّة.

نعم ، الهيئة تنتزع منه باعتبار أجزائها ، لكن بقصد أن تجعل وجه الشّبه لا بقصد أن تجعل طرفا للتّشبيه ، وليس في جانب المشبّه به ما يكون اسما لمجموع الأمور المذكورة فيه كي يكون مفردا أيضا.

(٧) أي كون المشبّه به مركّبا يكون أمرا ظاهرا ، لأنّ المقصود من التّشبيه هي الهيئة الحاصلة من مجموع الأعلام الياقوتيّة المنشورة على الرّماح الزّبرجدّ ، وليس المقصود بالذّات هو الأعلام حتّى يكون مفردا.

(٨) أي ما إذا كان المشبّه مركّبا والمشبّه به مفردا.

(٩) أي سيجيء في تشبيه نهار مشمس بليل مقمر ، حيث إنّ المشبّه فيه هي الهيئة المنتزعة من النّهار ، وكونه ذا شمس ، والمشبّه به هو اللّيل المقيّد بكونه ذا قمر ، ووجه الشّبه الهيئة الجامعة بين الهيئة المنتزعة المذكورة واللّيل المقمر ، فوجه الشّبه والمشبّه مركّبان ، والمشبّه به مفرد مقيّد. وهذا سيجيء في قول أبي تمّام.

٣٩١

[ومن بديع (١) المركّب الحسّيّ ما] أي وجه الشّبه الّذي [يجيء في الهيئات الّتي تقع عليها الحركة] أي يكون وجه الشّبه الهيئة (٢) الّتي تقع عليها الحركة من الاستدارة (٣) والاستقامة وغيرهما (٤) ، ويعتبر فيها (٥) التّركيب [ويكون] ما يجيء في تلك الهيئات [على وجهين (٦) : أحدهما أن يقترن بالحركة غيرها (٧)

________________________________________

(١) أي البديع هو البالغ في الشّرف والبلاغة.

فمعنى العبارة من وجه الشّبه المركّب الحسّي الّذي بلغ الغاسة في الشّرف والبلاغة ، «ما» أي وجه الشّبه الّذي «يجيء في الهيئات الّتي تقع عليها الحركة».

(٢) أي المراد بالهيئة الصّفة الحقيقيّة لا الهيئة المنتزعة ، كما تخيّل بعضهم ، ومعنى وقوع الحركة عليها كون الحركة على تلك الصّفة المخصوصة وموصوفة بها.

كما يدلّنا على ذلك قول الشّارح من الاستدارة والاستقامة وغيرهما ، فإنّ الاستدارة والسّرعة والبطؤ والاتّصال والانقطاع ، وأمثال ذلك من صفات الحركة ، وليس المراد بوقوع الحركة عليها وجود الحركة معها وجود الجزء مع الكلّ كما قيل.

(٣) قوله : «من الاستدارة والاستقامة» بيان للهيئة ، والاستدارة كحركة الدّولاب ، والاستقامة كحركة السّهام ، ولا نشكّ أنّ كلّ واحدة من الاستدارة والاستقامة هيئة ، لأنّ الهيئة والعرض واحد ، وهما من أقسام الأعراض.

(٤) أي كالارتفاع والانخفاض والسّرعة والبطؤ.

(٥) أي يعتبر في الهيئة الّتي تقع عليها الحركة التّركيب ، أي بأن تكون منتزعة من الحركة وأوصاف الجسم كما في الوجه الأوّل ، أو من حركات مختلفة كما في الوجه الثّاني ، كما يعلم ذلك مما يأتي في تقرير الشّارح لكلام المصنّف.

(٦) وحاصل الأوّل منهما أنّ وجه الشّبه هيئة مركّبة من حركة وغيرها ، وحاصل الثّاني أنّه هيئة مركّبة من حركات فقطّ.

(٧) أي هيئة اقتران الحركة بغيرها ، وإنّما قدّرنا هيئة لأجل أن يصحّ الإخبار عن الأحد في قوله : «أحدهما» فإنّ المراد به الهيئة الحاصلة من مقارنة الحركة بغيرها لا نفس الاقتران ، وذلك لأنّ المقسم هو وجه الشّبه الّذي يجيء في الهيئات ، والمراد به الهيئة المنتزعة ، فلا بدّ أن يكون القسمان كذلك ، فالحمل لا يصحّ إلّا بتقدير هيئة.

٣٩٢

من أوصاف الجسم كالشّكل واللّون (١)] والأوضح عبارة أسرار البلاغة : اعلم أنّ ممّا (٢) يزداد به التّشبيه دقّة وسحرا أن يجيء في الهيئات الّتي تقع عليها الحركات ، والهيئة المقصودة في التّشبيه على وجهين : أحدهما أن تقترن بغيرها من الأوصاف (٣). والثّاني أن تجرّد هيئة الحركة (٤) حتّى لا يزداد عليها (٥) غيرها ، فالأوّل (٦) [كما (٧) في قوله : والشّمس كالمرآة في كفّ الأشلّ (٨) من الهيئة] بيان لما في كما في

________________________________________

(١) بأن يلاحظ العقل الحركة وما فيها من الوصف وأوصاف الجسم ، ثمّ ينتزع من المجموع هيئة ، ويجعلها وجه التّشبيه.

(٢) أي المراد بما الأحوال ، أي من الأحوال الّتي يزداد بها التّشبيه «ودقّة وسحرا» أي تمييلا للعقول وتعجيبا لها ، أن يجيء التّشبيه «في الهيئات» ، أي في الصّفات «الّتي تقع عليها» ، أي مع الصّفات فكلمة على في قوله : «عليها» بمعنى مع.

(٣) بأن يلاحظ العقل صفة الحركات ، ونفسها وأوصاف الجسم ، ثمّ ينتزع من المجموع هيئة ، ثمّ يجعلها وجه التّشبيه.

(٤) أي الهيئة المأخوذة من الحركات فالمراد بالحركة الجنس المتحقّق في متعدّد ، والمراد أن تجرّد عن أوصاف الجسم.

(٥) أي لا يزداد على هيئة الحركة غير هيئة الحركة كالشّكل ، بأن يلاحظ العقل الحركات ، وما لها من الأوصاف ، ثمّ ينتزع من المجموع هيئة يجعلها وجه الشّبه ، أي لم يكن الأمر كذلك ، كما هو كذلك في الوجه الأوّل.

(٦) وهو أن يقترن بالحركة غيرها من أوصاف الجسم.

(٧) أي كوجه التّشبيه في قول ابن المعتزّ ، أو قول أبي النّجم.

(٨) وتمامه تجري على السّماء من غير فشل.

شرح المفردات : «المرآة» بالميم والرّاء المهملة والمدّ والمثنّاة كمشكاة معروف ، «الكفّ» بفتح الكاف وتشديد الفاء واحد الأكفّ ، وأراد به هنا اليد ، «الأشلّ» بفتح الألف والشّين واللّام المشدّدة الّذي يبست يداه ، وأراد به هنا المرتعش ، «تجري» بالجيم والرّاء المهملة المكسورة مضارع جرى بمعنى صار ، «الفشل» بالفاء والشّين المعجمة كفرس الضّعف والكسل.

والشّاهد في البيت كون وجه الشّبه أمرا منتزعا من الحركات وصفاتها ، وأوصاف جرم الشّمس ، ولأجل ذلك أصبح التّشبيه مؤثّرا في النّفس غاية التّأثير.

٣٩٣

قوله : [الحاصلة من الاستدارة مع الإشراق والحركة السّريعة المتّصلة مع تموّج الإشراق حتّى يرى الشّعاع كأنّه يهمّ بأن ينبسط حتّى يفيض من جوانب الدّائرة ثمّ يبدو له] يقال : بدا له إذا ندم والمعنى (١) ظهر له رأي غير الأوّل [فيرجع] من الانبساط الّذي بدا له [إلى الانقباض] كأنّه (٢) يرجع من الجوانب إلى الوسط ، فإنّ (٣) الشّمس إذا أحدّ الإنسان النّظر إليها ليتبيّن (٤) جرمها وجدها (٥) مؤدّية لهذه الهيئة الموصوفة ، وكذلك المرآة في كفّ الأشلّ (٦).

[و] الوجه [الثّاني أن تجرّد الحركة (٧)

________________________________________

(١) أي المعنى المقصود في المقام ظهر للشّعاع رأي غير الأوّل ، فيرجع من الانبساط إلى الانقباض.

(٢) أي الشّعاع يرجع من الجوانب ، أي من الأطراف الدّائرة إلى وسط الدّائرة.

(٣) تعليل لما يستفاد من الكلام السّابق ، أي تلك الهيئة حاصلة في الطّرفين ، لأنّ الشّمس إذا أحدّ الإنسان النّظر إليها ، هذا إشارة إلى أنّ هذه الهيئة إنّما تظهر من الشّمس بعد إحداد النّظر إليها بخلاف المرآة الكائنة في كفّ الأشلّ ، فإنّها تظهر فيها بادئ الرّأي ، فلذا جعلت الشّمس فرعا والمرآة أصلا.

(٤) أي ليعلم ويعرف جرم الشّمس.

(٥) أي وجد الشّمس مؤدّية لهذه الهيئة ، أي لأنّ جرم الشّمس مستدير ، وفيه حركة سريعة خياليّة ، وفي شعاعها أيضا حركة خياليّة ، ثمّ الشّعاع المعبّر عنه بالإشراق أجرام لطيفة منبسطة على ما يقابل الشّمس.

(٦) أي مؤدّية لهذه الهيئة فإنّها مستديرة ، وفيها حركة دائمة متّصلة سريعة مع إشراق متّصل ، وكلّ تلك الأمور فيها على نحو الحقيقة ، فمن ذلك جعلت أصلا ، ثمّ إنّ التّشبيه في المثال من تشبيه المفرد الغير المقيّد بمفرد مقيّد ، فالطّرفان مفردان لا مركّبان.

(٧) أي هيئة تنتزع من الحركات فقطّ من دون ملاحظة أوصاف الجسم ، واللّام في الحركة للجنس.

٣٩٤

عن غيرها] من الأوصاف (١) [فهناك أيضا] يعني كما أنّه لا بدّ في الأوّل من أن يقترن بالحركة غيرها من الأوصاف ، فكذا في الثّاني [لا بدّ من اختلاط حركات (٢)] كثيرة للجسم [إلى جهات مختلفة (٣)] له كأن يتحرّك بعضه إلى اليمين ، وبعضه إلى الشّمال ، وبعضه إلى العلوّ ، وبعضه إلى السّفل ، ليتحقّق التّركيب وإلّا (٤) لكان وجه الشّبه مفردا ، وهو الحركة [فحركة الرّحى والسّهم لا تركيب فيها (٥)] ، لاتّحادهما (٦) [بخلاف حركة

________________________________________

(١) أي من أوصاف الجسم ، وأمّا أوصاف الحركة فهي ملحوظة.

(٢) أي اجتماع الحركات الكثيرة للجسم ، وأخذ الكثرة من تنكير «حركات» ، فإنّه يفيد الكثرة عند معونة المقام كما هنا ، فإنّ الكثرة توجب ازدياد التّشبيه فضلا ودقّة.

(٣) إذ لو لم تكن لحركات أجزائه جهات مختلفة تعدّ تلك الحركات الّتي للأجزاء حركة واحدة لمجموع الجسم ، وإنّما تعدّ حركات متعدّدة بالقياس إلى كلّ جزء منه إذا كانت جهاتها مختلفة ، «كأن يتحرّك بعضه» ، أي الجسم «إلى اليمين ...».

(٤) أي وإن لم تختلط الحركات ، أو لم تكن إلى جهات مختلفة لكان وجه الشّبه مفردا وهو الحركة لا مركّبا ، وذلك فإنّ الأمر عند عدم تعدّد الحركة كما إذا لم يكن للجسم أجزاء متمايزة عند العرف ظاهر ، إذ لا تعدّد عندئذ إلّا بحسب ملاحظتها مع وصفها ، وهي لا توجب التّركيب ، بل تصبح الحركة من أجلها من قبيل المفرد المقيّد غالبا ، وأمّا عند عدم اختلافها فلأنّ مجموع الحركات الكائنة للأجزاء يعدّ حركة واحدة عرفا بالقياس إلى نفس الكلّ ، وإن كان ذا أجزاء متمايزة ، ولكلّ منها حركة دقّة.

(٥) أي في الحركة.

(٦) أي لاتّحاد الحركة حيث إنّها فاقدة لكلّ من الأمرين ، أي التعدّد واختلاف الجهات ، أمّا وجه الثّاني فظاهر ، لأنّ حركة كلّ منهما لجهة واحدة ، وأمّا وجه الأوّل فلأنّ الرّحى والسّهم ليس لهما أجزاء متمايزة عند العرف كأجزاء الإنسان ، حتّى تعتبر حركات كثيرة فيهما باعتبار تلك الأجزاء ، مثل حركات الإنسان باعتبار رأسه وصدره ويديه ورجليه ، فتلك الحركات إذا كانت مختلفة الجهات يتحقّق التّركيب ، وإلّا فلا ، إذ جميع الحركات عندئذ في نظر العرف حركة واحدة تلاحظ بالقياس إلى مجموع بدن الإنسان.

٣٩٥

المصحف (١) في قوله (٢) وكأنّ البرق مصحف قار] بحذف الهمزة ، أي قارئ ، [فانطباقا مرّة وانفتاحا] أي فينطبق انطباقا مرّة ، وينفتح انفتاحا أخرى (٣) فإنّ (٤) فيها (٥) تركيبا ، لأنّ المصحف يتحرّك في حالتي الانطباق والانفتاح إلى جهتين ، في كلّ حالة إلى جهة (٦).

[وقد يقع التّركيب في هيئة السّكون ، كما في قوله : في صفة الكلّب : يقعي] أي يجلس على إليتيه [جلوس البدوي المصطلي (٧)] ، من اصطلى بالنّار [من الهيئة الحاصلة من موقع كلّ عضو منه] أي من الكلب [في إقعائه] فإنّه يكون لكلّ عضو منه في الإقعاء موقع خاص ، وللمجموع صورة خاصّة مؤلّفة من تلك المواقع ، وكذلك صورة جلوس البدوي عند الاصطلاء بالنّار الموقدة على الأرض.

________________________________________

(١) أي المصحف بضمّ الميم ، مأخوذ من أصحفت ، أي جمعت فيه الصّحف.

(٢) أي قول ابن المعتزّ.

(٣) أي التّفسير المذكور إشارة إلى أنّ المصدرين منصوبان بمقدّر ، والانطباق بالنّون والطّاء المهملة والموحّدة والقاف ، ضدّ الانفتاح ، والشّاهد في البيت كونه مشتملا على تشبيه واقع في الحركات المختلفة المجرّدة عن اعتبار أوصاف الجسم ، يعني أنّ وجه الشّبه هو الهيئة الحاصلة من تقارن الحركات المختلفة الكائنة لأجزاء المصحف من دون ملاحظة ما لها من الأوصاف ، أي الانفتاح والانطباق في النّظر كالبرق.

(٤) علّة لقوله : «بخلاف حركة المصحف».

(٥) أي في حركة المصحف تركيبا ، لأنّه يتحرّك في الحالتين إلى جهتين مختلفتين ، أي جهة العلوّ وجهة السّفل.

(٦) أي في حالة الانفتاح يتحرّك إلى جهة السّفل ، وفي حالة الانطباق إلى جهة العلوّ ، ثمّ الانطباق والانفتاح في جانب المشبّه ، أعني البرق إنّما هما في الحقيقة للسّحاب عند مساس البعض البعض الآخر ، والبرق في تلك الحالة يخرج من السّحاب بسبب المساس ، فيكون إثبات الانفتاح والانطباق للبرق من قبيل إثبات ما هو للسّبب للمسبّب.

(٧) شرح مفردات قول أبي الطّيب «يقعي» بالقاف والعين والياء مضارع من الإقعاء ، وهو الجلوس على الإليتين ، «البدوي» منسوب إلى البدوّ بمعنى الصّحراء «المصطلي» بالصّاد والطّاء اسم فاعل من الاصطلاء ، بمعنى التّدفئ بالنّار.

٣٩٦

[و] المركّب [العقليّ (١)] من وجه الشّبه [كحرمان الانتفاع (٢) بأبلغ نافع مع تحمّل التّعب في استصحابه ، في قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً)(١)] جمع سفر وهو الكتاب ، فإنّه أمر عقليّ منتزع

________________________________________

والشّاهد في البيت كونه مشتملا على تشبيه بديع واقع في هيئات السّكونات ، فإنّ الكلب حال إقعائه لكلّ عضو من أعضائه سكون خاصّ ، وكذلك البدوي المصطلي ، فانتزع من السّكونات الكائنة في أعضاء الكلب هيئة ، ومن السّكونات الكائنة في أعضاء البدوي هيئة ، ثمّ شبّهت الأولى بالثّانية بجامع هيئة شاملة للهيئتين.

(١) هذا هو القسم من القسم أعني المركّب المنزّل منزلة الواحد ، وقد تقدّم أنّه إمّا حسّيّ وإمّا عقليّ ، وقد تقدّم الكلام في الأوّل أعني الحسّيّ ، وبدأ الكلام في الثّاني أعني العقليّ.

(٢) وحاصل الكلام في المقام أنّه شبّه في هذه الآية مثل اليهود الّذين حمّلوا التّوراة ، أي حالتهم ، وهي الهيئة المنتزعة من حملهم التّوراة ، وكون محمولهم وعاء للعلم ، وعدم انتفاعهم بذلك المحمول ، في شبّه مثل اليهود بمثل الحمار الّذي يحمل الكتب الكبار ، أي بحالته ، وهي الهيئة المنتزعة من حمله للكتب ، وكون محموله وعاء للعلم ، وعدم انتفاعه بذلك المحمول ، والجامع حرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمّل التّعب في استصحابه.

وظاهر المصنّف أنّ وجه الشّبه وهو الجامع المذكور مركّب عقليّ ، وفيه أنّ كونه عقليّا مسلّم ، وأمّا كونه مركّبا فغير مسلّم لما تقدّم من أنّ المراد بالمركّب في وجه الشّبه ، أو الطّرفين هي الهيئة المنتزعة من عدّة أمور ، والحرمان المذكور ليس هيئة.

وأجيب عن ذلك بوجهين : الأوّل إنّ قول المصنّف «كحرمان الانتفاع» ، بتقدير مضاف ، أي كهيئة حرمان الانتفاع ، والمعنى كهيئة حاصلة من حرمان الانتفاع بأبلغ نافع من تحمّل التّعب في استصحابه ، فالطّرفان مركّبان ، وكذلك وجه الشّبه.

الثّاني : إنّ الحرمان المذكور هيئة منتزعة من متعدّد ، أي من الهيئتين المنتزعتين من عدّة أمور ، ومنع كونه أمرا منتزعا ناش من تخيّل كون الهيئة المنتزعة هيئة حسّيّة دائما ، وليس الأمر كذلك ، فإنّ الهيئة قد تكون معقولة كما في المقام ، فإنّ الكلام حول المركّب العقليّ.

__________________

(١) سورة الجمعة : ٥.

٣٩٧

من عدّة أمور ، لأنّه روعي من الحمار فعل مخصوص ، وهو الحمل ، وإن يكون المحمول أوعية (١) العلوم وإنّ الحمار جاهل (٢) بما فيها ، وكذا في جانب المشبّه (٣). [واعلم أنّه قد ينتزع] وجه الشّبه [من متعدّد فيقع الخطاء (٤) ، لوجوب انتزاعه (٥) من أكثر] من ذلك المتعدّد (٦) ، [كما إذا انتزع] وجه الشّبه [من الشّطر الأوّل (٧) من قوله : كما أبرقت (٨) قوما عطاشا] في الأساس : أبرقت لي فلانة إذا تحسّنت لك (٩) ، وتعرّضت (١٠) ، فالكلام ههنا (١١)

________________________________________

(١) أي ظروف العلوم.

(٢) أي المراد بالجهل عدم الانتفاع ، فإنّ الجهل يستلزم عدم الانتفاع ، فذكر الملزوم وأريد اللّازم على نحو الكناية.

(٣) أي عدم الانتفاع موجود في جانب المشبّه أيضا ، فلا يرد ما يقال من أنّ الّذين حملوا التّوراة كانوا عالمين بها ، فكيف يستقيم قوله : «وكذا في جانب المشبّه» غاية الأمر عدم الانتفاع في جانب المشبّه لأجل عدم عملهم بعلمهم ، ثمّ الآية آية خامسة من سورة الجمعة.

(٤) أي إمّا من المتكلّم حيث لم يأت بما يجب ، واقتصر بما لم يذكر فيه جميع ما ينتزع منه الوجه ، وإمّا من السّامع حيث لم يصل إلى مغزى مراد المتكلّم ، وتخيّل أنّ منشأ انتزاع وجه الشّبه في كلامه هذا المقدار ، والحال أنّه أكثر منه.

(٥) أي وجه الشّبه.

(٦) أي الّذي تخيّل أنّه منشأ الانتزاع.

(٧) أي ممّا اشتمل عليه الشّطر الأوّل.

(٨) أي الكاف للتّشبيه ، وما مصدريّة ، وأبرقت بمعنى ظهرت وتعرّضت ، أي حال هؤلاء القوم المذكورين في الأبيات السّابقة كحال إبراق ، أي ظهور غمامة لقوم عطاش.

(٩) أي إذا تزيّنت لك.

(١٠) أي ظهرت.

(١١) أي قوله فالكلام ههنا ... ، تفريع على كلام الأساس ، أي إذا علمت ذلك ، فالكلام ههنا على حذف الجارّ ، أي اللّام.

٣٩٨

على حذف الجار وإيصال (١) الفعل ، أي أبرقت لقوم عطاش جمع عطشان [غمامة فلمّا رأوها اقشعّت وتجلت (٢)] أي تفرقت وانكشفت (٣) ، فانتزاع وجه الشّبه من مجرّد قوله : كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ، خطأ [لوجوب انتزاعه من الجميع] أعني جميع البيت. [فإنّ المراد التّشبيه] أي تشبيه الحالة المذكورة في الأبيات السّابقة بحالة ظهور غمامة للقوم العطاش ، ثمّ تفرّقها وانكشافها وبقائهم متحيّرين (٤)

________________________________________

(١) أي إيصال الفعل للمفعول وهو «قوما».

(٢) إعراب البيت «كما» في قوله : «كما أبرقت» ، الكاف حرف تشبيه وجار ومجرور وما مصدريّة ، «أبرقت» فعل ماض ، «غمامة» فاعله و «قوما عطاشا» مفعوله ، «فلمّا» الفاء حرف عطف ولما حرف تستعمل استعمال إذ ، «رأوها» فعل وفاعل ومفعول ، والجملة بمنزلة فعل شرط لما «اقشعّت» فعل وفاعل ، «وتجلّت» فعل وفاعل ، والجملة عطف على سابقتها ، والمجموع جواب لمّا ، والجملة عطف على أبرقت وهي مؤوّلة بالمصدر بالكاف متعلّق بمقدّر خبر لمبتدأ محذوف ، أي حالهم كحال إبراق الغمامة لقوم عطاش.

والشّاهد في البيت كونه مشتملا على تشبيه يكون وجه الشّبه فيه مركّبا من عدّة أمور مذكورة في الشّطر الأوّل والثّاني إلّا أنّه ربّما يتخيّل أنّه منتزع من الشّطر الأوّل فقطّ ، فيقع الخطأ ، ثمّ إنّ الطّرفين في البيت أيضا مركّب ، فإنّ الهيئة المنتزعة من الشّطرين الأوّلين قد شبّهت بالهيئة المنتزعة من الشّطرين الثّانيّين ، ووجه الشّبه هي الهيئة المنتزعة من هاتين الهيئتين الشّاملة لهما.

(٣) المراد من الانكشاف هو التّفرق ، فيكون العطف تفسيريّا.

(٤) وحاصل الكلام في المقام أنّ الشّاعر قصد تشبيه الحالة المذكورة قبل هذا البيت ، وهي حال من ظهر له شيء وهو في غاية الحاجة إلى ما فيه ، وبمجرّد ظهور ذلك الشّيء انعدم وذهب ذهابا ، أوجب اليأس ، أي قصد الشّاعر تشبيه حاله بحال قوم تعرّضت لهم غمامة وهم في غاية الاحتياج إلى ما فيها من الماء ، لشدّة عطشهم ، وبمجرّد ما تهيّؤوا للشّرب منها تفرّقت وذهبت ، فإذا سمع السّامع قول الشّاعر : «كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ، وتوهّم أنّ ما يؤخذ منه يكفي في التّشبيه ، كان ذلك خطأ ، لأنّ المأخوذ منه أنّ قوما ظهرت لهم غمامة ، وأنّ تلك الغمامة رجوا منها ما يشرب وأنّهم في غاية الحاجة لذلك الماء لعطشهم ، فإذا انتزع ذلك

٣٩٩

[باتّصال] أي باعتبار (١) اتّصال ، فالباء ههنا مثلها (٢) في قولهم : التّشبيه بالوجه العقليّ أعمّ إذا الأمر المشترك فيه ههنا هو اتّصال [ابتداء مطمع (٣) بانتهاء مؤيس (٤)] ، وهذا (٥)

________________________________________

المعنى من هذا الشّطر ، أي الشّطر الأوّل كان حاصل التّشبيه أنّ الحالة الأولى كالحالة الثّانية الّتي هي إبراق الغمامة لقوم ... ، في كون كلّ منهما حالة فيها ظهور شيء لمن هو في غاية الحاجة إلى ما فيه ، وهذا خلاف المقصود للشّاعر ، لأنّ المراد ليس تشبيه حالة شيء مطمع بحالة شيء مطمع آخر ، بل المراد تشبيه حالة هي اتّصال شيء مطمع خاصّ أعني ظهور المرأة وأطماعها ، بانتهاء شيء مؤيس خاصّ أعني إعراضها وتولّيها بحالة ، هي اتّصال ابتداء شيء مطمع خاصّ آخر ، أعني ظهور الغمامة لهم بانتهاء شيء مؤيس آخر ، أعني تفرّقها وانكشافها في مطلق حالة ، هي اتّصال ابتداء شيء مطمع بانتهاء شيء مؤيس ، ولا شكّ في أنّ انتهاء الشّيء المؤيس إنّما يؤخذ من الشّطر الثّاني.

(١) أي بواسطة اتّصال ابتداء مطمع بانتهاء مؤيس ، فالباء في قوله باتّصال للآلة مثلها ، في قوله : حفرت بالقدوم ، أي بواسطته ، وحينئذ فهي داخلة في كلام المصنّف على وجه الشّبه ، فوجه الشّبه هو اتّصال ابتداء مطمع بانتهاء مؤيس.

(٢) أي مثل الباء في قولهم : «التّشبيه بالوجه العقليّ أعمّ» ، أي التّشبيه بواسطة وجه الشّبه العقليّ أعمّ من التّشبيه بالوجه الحسّيّ ، فتكون الباء للدّلالة ، وأمّا كون التّشبيه بالوجه العقليّ أعمّ فلما مرّ من أنّه متى كان الوجه حسّيّا فلا يكون الطّرفان إلّا حسّيّين ، وأمّا إذا كان الوجه عقليّا فتارة يكونان حسّيّين ، وتارة عقليّين ، وتارة مختلفين.

(٣) أي ابتداء شيء مطمع ، وهذا مأخوذ من الشّطر الأوّل ، وذلك كظهور السّحابة للقوم العطاش في المشبّه به ، وظهور الأمر المحتاج لما فيه في المشبّه.

(٤) أي بانتهاء شيء مؤيس ، وهذا مأخوذ من الشّطر الثّاني ، وذلك كتفرّق السّحابة وانجلائها في المشبّه به ، وزوال الأمر المرغوب لما فيه في المشبّه ، وإذا علمت أنّ التّشبيه بواسطة الوجه المذكور ، أعني اتّصال ابتداء المطمع بانتهاء المؤيس وجب انتزاعه من مجموع البيت ، وكان الانتزاع من الشّطر الأوّل فقطّ ، لأنّه لا يفيد ذلك المعنى.

(٥) أي التّشبيه في البيت المركّب ، بخلاف التّشبيهات المجتمعة ، وفي هذا إشارة إلى الفرق بين وجه الشّبه المركّب والمتعدّد في التّشبيهات المجتمعة.

٤٠٠