دروس في البلاغة - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

الطّرفان (١) هما الأصل والعمدة في التّشبيه لكون (٢) الوجه معنى قائما بهما ، والأداة آلة في ذلك قدّم (٣) بحثهما. فقال [طرفاه (٤)] ، أي المشبّه والمشبّه به ، [إمّا حسّيّان (٥) كالخدّ والورد (٦)] في المبصرات (٧) ، [والصّوت الضّعيف والهمس (٨)] ، أي الصّوت الّذي أخفى حتّى كأنّه لا يخرج عن فضاء (٩) الفمّ ، في المسموعات [والنّكهة] وهي ريح الفمّ ، و [العنبر (١٠)] في المشمومات ، [والرّيق والخمر (١١)] في المذوقات ، و [الجلد النّاعم والحرير (١٢)] في الملموسات ، وفي أكثر ذلك (١٣) تسامح ،

________________________________________

(١) أي المشبّه والمشبّه به.

(٢) علّة لأصالتهما بالنّظر إلى الوجه ، أي أنّهما الأصل لا الوجه لكونه معنى قائما بهما ، فيكون عارضا للطّرفين ، ولا الأداة ، أي ليست الأداة أصلا لكونها آلة.

(٣) أي جواب لما ، أي لما كان الطّرفان هما الأصل قدّم المصنّف بحثهما.

(٤) أي التّشبيه.

(٥) أي منسوبان إلى الحسّ ، بأن يكونا مدركين بإحدى الحواس الظّاهرة.

(٦) أي كما في قولك : خدّ سلمى كالورد في الحمرة.

(٧) والجار والمجرور في موضع حال من الخدّ والورد ، وفي بمعنى من في الحقيقة.

(٨) أي كما في قولك : صوت زيد كالهمس في الخفاء.

(٩) أي عن وسطه.

(١٠) أي كما في قولك : نكهة زيد كالعنبر في ميل النّفس إلى كلّ العنبر ، كما في (أقرب الموارد) هو طيب ، وله مادّة صلبة لا طعم لها ولا ريح ، إلّا إذا أسحقت ، أو أحرقت ، فإنّه ينبعث منها رائحة زكيّة ، قيل العنبر روث دابّة بحريّة ، أو نبع عين في البحر ، أو نبت ينبت في البحر بمنزلة الحشيش في البرّ يذكّر ويؤنّث.

(١١) أي كما في قولك : ريق هند كالخمر في اللذّة والحلاوة ، أو إيجاد الفرح والنّشاط ، إذ لها لذّة عند المعتادين بشربها ، وإن كان حراما شرعا.

(١٢) أي كما في قولك : جلد سلمى كالحرير في النّعومة.

(١٣) أي في أكثر ما ذكر من الأمثلة تسامح ، وفيه إشارة إلى أنّ بعضها لا تسامح فيه ، كالصّوت الضّعيف والهمس فإنّهما مسموعان حقيقة ، وكالنّكهة فإنّها مشموم حقيقة ، فالمراد بالأكثر ما عدا الصّوت الضّعيف والهمس والنّكهة ، فإنّ هذه الثّلاثة لا تسامح فيها.

٣٤١

لأنّ (١) المدرك بالبصر ـ مثلا ـ إنّما هو لون الخدّ والورد ، وبالشّم رائحة العنبر ، وبالذّوق طعم الرّيق والخمر ، باللّمس ملاسة الجلد النّاعم والحرير ولينهما (٢) لا نفس (٣) هذه الأجسام ، لكن (٤) اشتهر في العرف أن يقال : أبصرت الورد ، وشممت العنبر ، وذقت الخمر ، ولمست الحرير [أو عقليّان (٥)

________________________________________

(١) بيان لعلّة تسامح في الأمثلة المذكورة ، وتوضيح ذلك : أنّ المدرك بالحواسّ الظّاهريّة ما يتعلّق بالأمور المذكورة من الأفعال والأوصاف ، لا نفس تلك الأشياء ، لأنّها أجسام والأجسام لا تدرك بها كما في علم الفلسفة ، فإنّ الفلاسفة أثبتوا أنّ المدرك بالحواسّ هو الأعراض وخواصّ الأجسام لا ذواتها.

(٢) قوله :

«ولينهما» عطف على «ملاسة» عطف مغاير على مغاير ، لأنّ الملاسة هي الصّقالة ، وهي غير اللّين.

(٣) عطف على قوله «لون الخدّ ...» ، أي لأنّ المدرك بالبصر هو لون الخدّ والورد ، وبالشّمّ رائحة العنبر ، وبالذّوق طعم الرّيق والخمر ، وباللّمس الجلد النّاعم لا نفس هذه الأجسام ، أي ليس المدرك بالحواسّ نفس هذه الأجسام ، لأنّها لا تدرك بها على ما في علم الحكمة ، بل إنّما تدرك بها الأعراض القائمة بالأجسام.

(٤) قوله : «ولكن اشتهر في العرف ...» بيان لوجه ارتكاب التّسامح في أكثر ما ذكر من الأمثلة ، واعتذار من قبل المصنّف ، حيث ساق كلامه مبنيّا على التّسامح لا التّحقيق.

وحاصل الاعتذار أنّ المصنّف ارتكب هذا التّسامح لما جرى في العرف من جعل هذه الأمور من المحسوسات ، فأتى الأمثلة على مذاقهم تسهيلا للأمر ، والحاصل إنّ العرف يجعلون نفس هذه الأمور من المحسوسات ، وليس الأمر كذلك كما عرفت.

نعم ، يمكن دفع هذا التّسامح بتقدير المضاف في كلام المصنّف بأن يقال : التّقدير كلون الخدّ ولون الورد ، ورائحة العنبر وطعم الرّيق والخمر ، وملاسة الجلد النّاعم والحرير ، إلّا أنّ هذا خلاف الظّاهر.

(٥) عطف على قوله : «إمّا حسّيّان» ، والمراد بالعقلي ما لا يدرك بإحدى الحواسّ الخمس الظّاهرة.

٣٤٢

كالعلم والحياة (١)] ووجه الشّبه (٢) بينهما كونهما جهتي إدراك كذا في المفتاح والإيضاح ، فالمراد بالعلم ههنا الملكة الّتي يقتدر بها على الإدراكات الجزئيّة ، لا نفس (٣) الإدراك ولا يخفى أنّها (٤) جهة وطريق إلى الإدراك كالحياة.

________________________________________

(١) أي كقولك : العلم كالحياة في أنّ كلّ واحد منهما جهة للإدراك.

(٢) تعرّض لبيان وجه الشّبه هنا دون ما تقدّم ، لكونه خفيّا ، والإشارة إلى أنّ المراد بالعلم الملكة ردّا على من التزم بأنّ المراد به الإدراك الخاصّ ، ووجه الشّبه مطلق الإدراك ، بتقريب أنّ الإدراك يشمل الظّنّ والاعتقاد والوهم واليقين ، والعلم هو اليقين فقطّ ، فلا يلزم اتّحاد المشبّه ووجه الشّبه ، فالعلم شبّه بالحياة

بمطلق الإدراك ، وكون هذا موجودا في الحياة من أجل أنّها مستلزمة للإحساس الّذي هو الإدراك بالحاسّة ولا شكّ أنّ هذا الإدراك أيضا نوع من الإدراك ، وقد أشار الشّارح إلى ردّ هذا القول بقوله : «وفساده واضح» ، أي الالتزام بأنّ وجه الشّبه هو مطلق الإدراك مردود بوجهين :

الأوّل : إنّ وجه الشّبه لا بدّ أن يكون قائما بالطّرفين ، والإدراك المطلق ليس قائما بالحياة ، لأنّها ليست عين الإدراك الخاصّ بل ملازم له ، فالإدراك المطلق قائم بملازمه لا بنفسه ، فإذا لا أساس لهذه المقالة.

الثّاني : أنّ تشبيه العلم بالحياة بجامع مطلق الإدراك ليس فيه فائدة يعتني بها ، إذ محصّله أنّ العلم كالحياة إدراك ، وهذا ليس فيه لطف وإظهار لجلالة العلم ، فلا بدّ أن يراد بالعلم الملكة ، ويجعل وجه الشّبه جهة الإدراك ، ففي التّشبيه عندئذ لطف ، وهو إظهار قدر الملكة وشرافتها في كونها سببا للإدراك مثل الحياة ، فهما طريقان للإدراك ، ويكون وجه الشّبه قائما بكلّ من الطّرفين ، وإن كان تحقّقه في الملكة بنحو السّببيّة ، وفي الحياة بنحو الشّرطيّة.

(٣) أي ليس المراد بالعلم نفس الإدراك لئلّا يلزم أن يكون الشّيء طريقا إلى نفسه ، وهو باطل.

(٤) أي ولا يخفى أنّ الملكة جهة ، وطريق إلى الإدراك ، كما أنّ الحياة طريق إلى الإدراك.

وحاصل الكلام أنّ الحياة شرط الإدراك والعلم سبب الإدراك والشّرط ، والسّبب يشتركان في كونهما طريقين إلى الإدراك ، فلا يخفى أنّ الحياة وملكة العلم يشتركان في كونهما جهتين إلى الإدراك.

٣٤٣

وقيل وجه الشّبه بينهما الإدراك ، إذ العلم نوع من الإدراك والحياة مقتضية للحسّ يشتركان في كونهما جهتين إلى الإدراك. الّذي هو نوع من الإدراك وفساده (١) واضح لأنّ كون الحياة مقتضية للحسّ لا يوجب اشتراكهما (٢) في الإدراك على (٣) ما هو شرط في وجه الشّبه وأيضا (٤) لا يخفى أنّ ليس المقصود من قولنا : العلم كالحياة ، والجهل كالموت ، إنّ العلم إدراك كما أنّ الحياة معها إدراك ، بل ليس في ذلك (٥) كبير (٦) فائدة كما (٧) في قولنا : العلم كالحسّ في كونهما إدراكا. [أو مختلفان] بأن يكون المشبّه عقليّا ، والمشبّه به حسّيّا [كالمنيّة والسّبع (٨)] فإنّ

________________________________________

(١) أي فساد ما قيل من أنّ وجه الشّبه هو الإدراك واضح ، وقد تقدّم الجواب عنه بالوجهين ، فلا حاجة إلى ذكره ثانيا.

(٢) أي العلم والحياة ، أي لا يوجب اشتراك العلم والحياة في الإدراك. لأنّ الحال القائم بالعلم ، وهو كونه إدراكا لم يقم بالحياة ، وإنّما وجد معهما ، فما كان يجب اشتراكهما في الإدراك إلّا لو كانت الحياة نفسها نوعا من الإدراك كالعلم ، وليس الأمر كذلك.

(٣) متعلّق بمحذوف ، والتّقدير لا يوجب اشتراكهما في الإدراك حتّى يكون الاشتراك المذكور جاريا على ما هو شرط في وجه الشّبه من كونه مشتركا بين الطّرفين قائما بهما ، إلّا أنّه في المشبّه به أقوى وأشهر منه في المشبّه.

(٤) قوله : «وأيضا لا يخفى ...» تزييف آخر لهذا القيل ، أي كما لا يخفى أن تكون الحياة مقتضية للحسّ ، ولا يوجب اشتراك العلم والحياة في الإدراك على ما هو الشّرط في وجه الشّبه حتّى يكون وجه الشّبه بينهما الإدراك ، كذلك لا يخفى أنّ ليس المقصود من شبه العلم بالحياة تشبيه كون العلم إدراكا ، بأن تكون الحياة معها إدراك حتّى يكون وجه الشّبه بينهما الإدراك ، بل ليس في هذا التّشبيه فائدة ، كما ليس في تشبيه العلم بالحسّ في كونهما إدراكا فائدة ، بل الفائدة إنّما تظهر في تشبيه العلم بالحياة في كونهما جهتي الإدراك ، فيكون وجه الشّبه بينهما كونهما جهتي الإدراك ، كما ذكر في المفتاح والإيضاح.

(٥) أي بل ليس في قولنا : العلم كالحياة ، كبير فائدة ، وبعض النّسخ كثير فائدة.

(٦) أي من إضافة الصّفة إلى الموصوف ، أي فائدة كبيرة.

(٧) أي كما لا فائدة كبيرة في قولنا : العلم كالحسّ ، لأنّ الجامع هو مطلق الإدراك.

(٨) كما في قولك : المنيّة كالسّبع في اغتيال النّفوس حيث إنّ السّبع وهو المشبّه به حسّيّ

٣٤٤

المنيّة ، أي الموت عقليّ ، لأنّه عدم الحياة (١) عمّا من شأنه الحياة ، والسّبع حسّيّ ، أو بالعكس (٢) [و] ذلك مثل [العطر] الّذي هو محسوس مشموم [وخلق كريم (٣)] وهو (٤) عقليّ لأنّه كيفيّة نفسانيّة (٥) تصدر عنها الأفعال (٦) بسهولة (٧) والوجه (٨) في تشبيه

________________________________________

بالمسامحة العرفيّة ، والمنيّة وهي المشبّه عقليّ.

(١) أي ولا شكّ في أنّ هذا العدم أمر يدرك بالعقل لا بالحواسّ ، وجعله الموت عدميّا هو مذهب بعضهم.

(٢) بأن يكون المشبّه به عقليّا ، والمشبّه حسّيّا.

(٣) كما في قولك : هذا العطر كخلق رجل كريم في كون كلّ منهما منشأ لما يستحسن ، ثمّ المشبّه إن كان ذات العطر كان محسوسا بحاسّة البصر ، وإن كان المشبّه رائحته كان محسوسا بحاسّة الشّم ، وهذا هو المراد بقوله : «مشموم» فهذا يشير إلى أنّ المشبّه رائحة العطر لا ذاته.

(٤) أي الخلق عقلي.

(٥) أي راسخة في النّفس نسبته إلى النّفس من حيث قيامها بها ورسوخها فيها ، وكان الأولى أن يعبّر بقوله : ملكة يصدر بها من النّفس أفعال بسهولة من غير تقدّم فكر ورويّة ، ليخرج غير الرّاسخ من صفات النّفس ، لأنّه لا يكون خلقا كغضب الحليم ، وكذا الرّاسخ الّذي يكون مبدأ لأفعال الجوارح بسهولة كملكة الكتابة ، فإنّه أيضا ليس بخلق ، وكذا الرّاسخ الّذي تكون نسبته إلى الفعل والتّرك على السّواء ، كالقدرة فإنّه أيضا لا يكون خلقا ، فما ذكره الشّارح من التّعريف ناقص جدّا.

(٦) أي الاختياريّة ، فإن كانت محمودة سمّيت خلقا حسنا ، وإن كانت سيّئة سمّيت خلقا سيّئا.

(٧) أي من غير تكلّف في إيجاد تلك الأفعال.

(٨) أي والطّريق في تشبيه المحسوس بالمعقول أن يقدّر المعقول محسوسا.

وهذا من الشّارح جواب عمّا يقال ما اقتضاه كلام المصنّف من جواز تشبيه المحسوس بالمعقول ممنوع ، لأنّ المحسوس أقوى من المعقول ، لأنّ المحسوس أقرب للإدراك ، وأحقّ لظهور الوجه فيه ، والأقوى لا يشبه بالأضعف.

وحاصل الجواب أنّه يقدّر المعقول محسوسا ، أي فيجعل المعقول محسوسا قصدا

٣٤٥

المحسوس بالمعقول أن يقدّر المعقول محسوسا ، ويجعل كالأصل لذلك المحسوس على طريق المبالغة (١) وإلّا (٢) فالمحسوس أصل للمعقول ، لأنّ العلوم العقليّة مستفادة من الحواسّ ومنتهية إليها (٣) فتشبيهه (٤) بالمعقول يكون جعلا للفرع أصلا والأصل فرعا ، وذلك لا يجوز ، ولما كان من المشبّه والمشبّه به ما لا يدرك بالقوة العاقلة ولا بالحسّ أعني الحسّ الظّاهر مثل الخياليات (٥)

________________________________________

للمبالغة في وضوحه ، كأنّه أصبح محسوسا فيجعل الخلق في المثال المذكور كأنّه أصل للعطر محسوس مثله ، والعطر المحسوس فرعه ، وأضعف منه ، وحينئذ فالتّشبيه واقع بين محسوسين لكن المشبّه محسوس حقيقي ، والمشبّه به محسوس تقديريّ ، وإن كان معقولا حقيقة.

(١) أي يصحّ التّشبيه على طريق المبالغة في المعقول بتنزيله منزلة المحسوس.

(٢) أي وإن لم يقدّر المعقول فلا يجوز التّشبيه به جدّا ، لأنّ المحسوس حينئذ أصل للمعقول ، والتّشبيه حينئذ مستلزم لجعل الفرع أصلا ، والأصل فرعا وهو باطل.

(٣) أي العلوم العقليّة النّظريّة منتهية إلى الحواسّ ، لأنّ العقليّات النّظريّة ترجع بالبرهان إلى الأمور الضّروريّة المستفادة من الحواسّ لئلّا يلزم التّسلسل ـ مثلا حدوث العالم أمر عقلي يدركه العقل بواسطة التّغير ، وهو حسّيّ ، ومطلق البياض والسّواد ونحوهما من الألوان مدرك بالعقل ، لكن بعد انتزاعه من الأفراد من الجزئيّات الخارجيّة المدركة بالبصر ، والإنسان مدرك بالعقل لكن بعد انتزاعه من الأفراد الخارجيّة المحسوسة بالبصر ، وهكذا ، فمن لم يكن له بصر لا يمكن أن يدرك مطلق البياض وغيره من الكلّيّات ، ولذلك قيل من فقد حسّا فقد فقد علما يعني المستفاد من ذلك الحسّ ، فعلمت من هذا أنّ الحواسّ أصل لمتعلّقها ، وهو المحسوس وهو أصل للمعقولات ، فقول الشّارح : «لأنّ العلوم العقليّة مستفادة من الحواسّ» أي بواسطة المحسوس الّذي تعلّقت به الحواسّ.

(٤) أي فتشبيه المحسوس كالعطر ـ مثلا ـ بالمعقول ، أي كخلق الرّجل الكريم يكون جعلا للفرع أصلا ، والأصل فرعا ، وبعبارة أخرى إذا كان المحسوس أصلا للمعقول في الوضوح ، فتشبيه المحسوس بالمعقول مستلزم لجعل ما هو أصل في الوضوح ، أعني المحسوس فرعا ، وما هو فرع فيه أصلا ، وذلك لا يجوز أي الجعل المذكور غير جائز.

(٥) جمع خياليّ ، والمراد به هنا المركّب المعدوم الّذي تخيّل تركّبه من أجزاء موجودة في

٣٤٦

والوهميّات (١) والوجدانيّات (٢) أراد (٣) أن يجعل الحسّي والعقلي بحيث يشملانها (٤) تسهيلا للضّبط بتقليل الأقسام فقال : [والمراد بالحسّي (٥) المدرك

________________________________________

الخارج ، وليس المراد بها الصّور المرتسمة في الخيال بعد إدراكها بالحسّ المشترك المتأديّة إليه من الحواسّ الظّاهرة ، لأنّ هذه داخلة في الحسّيّات ، وليست من الخياليات بالمعنى المراد هنا ، ألا ترى أنّ الأعلام الياقوتيّة المنشورة على رماح زبرجديّة الّتي جعلها أهل هذا الفنّ من الخياليات لا وجود لها خارجا حتّى تتقرّر في الحسّ المشترك عند مشاهدتها بالحسّ الظّاهري.

(١) جمع وهميّ ، والمراد به هنا صورة لا يمكن إدراكها بالحواسّ الظّاهرة ، لعدم وجودها لكنّها بحيث لو وجدت لم تدرك إلّا بها ، وليس المراد بالوهميّ هنا ما يدرك بالوهم من المعاني الجزئيّة ، كصداقة زيد وعداوة عمرو ، كما مرّ في بحث الفصل والوصل ، فإنّ أنياب الأغوال ورؤس الشّيّاطين ونحوهما ممّا جعله أهل هذا الفنّ لكن لو وجدت في الخارج لأمكن رؤيتها.

والفرق بينه وبين الخيالي أنّ الثّاني منتزع من الموادّ الّتي تكون محسوسة بخلاف الوهمي.

(٢) جمع وجداني ، وهو الأمر الّذي يدرك بالوجدان كالشّبع والجوع والفرح والغضب واللذّة والألم ، فإنّ هذه الأشياء إذا قام بالإنسان شيء منها إدراكه بواسطة ما يسمّى بالوجدان.

(٣) جواب لما في قوله : «ولما كان من المشبّه والمشبّه به ...».

(٤) أي يشمل الحسّي والعقلي ، الخياليات والوهميّات والوجدانيّات ، تسهيلا للضّبط بتقليل الأقسام ، لأنّه كلّما قلّ الاعتبار قلّت الأقسام ، فقوله : «تسهيلا» علّة لقوله : «أنّ يجعل الحسّي والعقلي بحيث يشملانها» وأشار إلى تعميم تفسير الحسّي والعقلي بقوله «والمراد بالحسّي ...».

(٥) أي في باب التّشبيه ، وهذا جواب عمّا ربّما يتخيّل أنّه كان أولى للمصنّف أن يقول : وطرفاه إمّا حسّيّان أو عقليّان أو خياليان أو وهميّان أو وجدانيّان أو حسّي وعقلي إلى آخر الأقسام ، فالقسمة الّتي ذكرها غير حاصرة ، وحاصل الجواب : إنّ المراد بالحسّيّ كذا ، وبالعقلي كذا ، فتكون القسمة حاصرة.

٣٤٧

هو (١) أو مادّته (٢) بإحدى الحواسّ الخمس الظّاهرة] أعني البصر والسّمع والشمّ والذّوق واللّمس [فدخل فيه] أي في الحسّي (٣) بسبب زيادة قولنا : أو مادّته ، [الخيالي (٤)] وهو (٥) المعدوم الّذي فرض مجتمعا من أمور كلّ واحد منها ممّا يدرك بالحسّ [كما (٦) في قوله : (٧) وكأنّ محمرّ الشّقيق] هو من باب جرد قطيفة (٨)

________________________________________

(١) أي نفسه كالخدّ والورد ، وأبرز الضّمير لأجل عطف الاسم الظّاهر ، أعني قوله : «أو مادّته على المستتر في قوله : «مدرك» ، وهو لا يجوز إلّا بعد تأكيده بضمير منفصل.

(٢) أي ولو لم يدرك هو نفسه بإحدى الحواسّ الظّاهرة لكن تدرك مادّته بإحداها ، أي تدرك مادّة الحسّ ، أي جميع أجزائه الّتي تركّب منها وتحقّقت بها حقيقته التّركيبيّة بإحدى الحواسّ الظّاهرة.

(٣) أي فدخل في الحسّي الخيالي بسبب زيادة قول المصنّف أو مادّته كان على الشّارح أن يقول : قوله بدل قولنا ، لأنّ لفظة أو مادّته مقولة للمصنّف لا له إلّا أن يقال إنّها مقولة له بواسطة حكايته لها.

(٤) فاعل «دخل» في قوله : «فدخل فيه» سمّي بذلك لكونه مركّبا من الصّور المجتمعة في الخيال الّذي هو خزانة الحسّ المشترك الّتي يتأتّى إليه جميع المدركات الحسّيّة ، هذا هو المراد بالخيالي الّذي تقدّم في بحث الفصل والوصل.

(٥) أي الخيالي في باب التّشبيه «المعدوم الّذي فرض مجتمعا من أمور كلّ واحد منها ممّا يدرك بالحسّ» أي الخيالي هو المركّب المعدوم الّذي فرض وتخيّل مجتمعا من أمور كلّ واحد منها ممّا يدرك بالحسّ ، فلو كان المدرك بالحسّ بعضها لم يكن خياليّا عندهم ، كما أنّه لم يكن حسّيّا ، بل هو وهمي كأنياب الأغوال ، فإنّ النّاب يدرك بالحسّ ، لأنّه العظم المخصوص دون الغول ، وإنّما سمّي ذلك المركّب المعدوم خياليّا ، لكون صور أجزائه مرتسمة في الخيال.

(٦) أي كالمشبّه به.

(٧) أي الصّنوبري من شعراء الدّولة العباسيّة.

(٨) أي من هذا الباب لأجل أنّ إضافة محمرّ إلى الشّقيق إضافة الصّفة إلى الموصوف ، والمعنى كأنّ الشّقيق المحمرّ على حدّ قولهم : جرد قطيفة ، أي قطيفة جرداء ، أي ذهب وبرها من طول البلى ، وقيل إنّه من باب جرد قطيفة ، وهي الّتي سمّاها بعضهم بيانيّة. وكيف كان

٣٤٨

والشّقيق ورد أحمر في وسطه سواد ينبت بالجبال [إذا تصوّب] أي مال إلى السّفل [أو تصعّد] أي مال إلى العلوّ [أعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد (١)] فإنّ كلا من العلم والياقوت والرّمح والزّبرجد محسوس ، لكن المركّب الّذي هذه الأمور مادّته ليس بمحسوس ، لأنّه ليس بموجود والحسّ لا يدرك إلّا ما هو موجود في المادّة (٢) حاضر

________________________________________

فالمشبّه ههنا هو الصّورة المحسوسة من الشّقيق الأحمر ، والمشبّه به هو الصّورة الخياليّة المركّبة من هذه الأشياء المحسوسة المعدومة في الخارج ، فيكون من تشبيه صورة المحسوسة بصورة الخيال المعدوم

(١) توضيح قول الشّاعر : «الشّقيق» بالشّين المعجمة والقافين كرفيق هو الشّقائق ، قال في الصّحاح : شقائق النّعمان نبت معروف ، واحده وجمعه سواء انتهى وإضافته إلى النّعمان في قولهم : شقائق لأنّه كان كثيرا في أرض كان يحميها النّعمان ، وهو ملك من ملوك الحيرة.

وقيل : وجه إضافته إليه أنّ النّعمان اسم للدّم ، والشّقيق تشابهه في اللّون ، فالإضافة إذا تشبيهيّة ، أي من إضافة المشبّه إلى المشبّه به عكس لجين الماء «إذا» ظرف زمان عامله كأنّ لكونه متضمّنا لمعنى التّشبيه ، «تصوّب» بالصّاد المهملة والواو المشدّدة والموحّدة بمعنى مال إلى السّفل ، «تصعّد» ماض من الصّعود بمعنى مال إلى العلوّ ، وإنّما قيّد المشبّه بهذا القيد ، لأنّ أوراق الشّقائق ليست على هيئة العلم من غير الميل إلى السّفل والعلوّ «أعلام» جمع علم ، وهو كقلم بمعنى الرّاية ، «نشرن» مجهول من النّشر ، وهو خلاف الطّي ، «الرّماح» ككتاب جمع الرّمح وهي القناة ، «زبرجد» حجر أخضر من المعادن النّفيسة ، وكذلك ياقوت ، وإضافة أعلام إليه بيانيّة.

والشّاهد في البيت : كون المشبّه به فيه أمرا خياليّا منتزعا من أجزاء كثيرة كلّها محسوسة على فرض وجودها ، إلّا أنّها غير موجودة في الخارج ، فلا تكون مدركة بالحسّ فإنّ الأعلام الياقوتيّة المنشورة على الرّماح الزّبرجديّة ممّا لا يدركه الحسّ لعدم وجوده في الخارج ، فيكون أمرا خياليّا داخلا في الحسّي باعتبار كون المادّة حسّيّة على فرض وجودها في الخارج ، فالمشبّه هنا مفرد حسّي ، والمشبّه به مركّب خيالي.

(٢) أي إلّا المركّب الموجود مع مادّته.

٣٤٩

عند المدرك (١) على هيئة مخصوصة (٢). [و] المراد [بالعقلي (٣) ما عدا ذلك] أي ما لا يكون هو ولا مادّته مدركا بإحدى الحواسّ الخمس الظّاهرة [فدخل فيه (٤) الوهمي] أي الّذي لا يكون للحسّ مدخل فيه (٥) [أي ما هو غير مدرك بها] أي بإحدى الحواسّ المذكورة (٦) [و] لكنّه (٧) بحيث [لو أدرك لكان مدركا بها (٨)]

________________________________________

(١) أي الّذي هو الحسّ.

(٢) كالأعلام إذا لم تكن ياقوتيّة ، والياقوت إذا لم يكن علما ، والرّماح إذا لم تكن من زبرجد ، والزّبرجد إذا لم يكن رماحا ، كلّها موجودة ومحسوسة بالبصر.

نعم ، إنّ الأعلام المذكورة بتلك الهيئة الّتي وقع التّشبيه عليها ليست ممّا يوجد عادة ، والحاصل إنّ الشّاعر لاحظ شقائق النّعمان في حال انخفاضها وارتفاعها لتلاعب النّسيم بها ، وانتزع منها مركّبا خاصّا ، ثمّ شبّه شقائق النّعمان به في الهيئة والشّكل.

(٣) أي المراد بالعقلي بعد التّعميم «ما عدا ذلك».

(٤) أي فدخل في العقلي بهذا المعنى الأعمّ «الوهمي» أي الوهمي عند أرباب هذا الفنّ لا عند أرباب المعقول ، والوهمي عند أرباب هذا الفنّ هو الّذي لا يكون للحسّ مدخل فيه ، بل هو من مخترعات المتخيّلة ، مرتسم فيها من غير وجود له ولا لأجزائه بالأسر في الخارج ، وإن كان قد يكون بعض أجزائه موجودا فيه ، هذا بخلاف المراد به عند أرباب المعقول ، وهو ما يكون مدركا بالقوّة الواهمة من المعاني الجزئيّة ، كصداقة زيد وعداوته ، فإنّه بهذا المعنى لا شكّ في كونه عقليّا محضا في هذا الباب ، وليس المراد بالوهمي هنا هذا المعنى.

(٥) أي بأن لا يكون هو ولا مادّته مدركا بالحسّ.

(٦) أي هو معنى جزئي غير مدرك بها لكونه غير موجود.

(٧) أي الوهمي «بحيث لو أدرك» سبيل الفرض ، كما تفرض المحالات. لكان مدركا بإحدى الحواسّ الخمس ، لكنّه ليس ممّا يوجد لا هو ولا مادّته ، فالوهمي يتميّز عن الخيالي بأن لا وجود للوهمي لا نفسه ولا مادّته ، بخلاف الخيالي فإنّ مادّته موجودة على ما عرفت.

(٨) أي بإحدى الحواسّ المذكورة.

٣٥٠

وبهذا القيد (١) يتميّز عن العقلي (٢) [كما (٣) في قوله :] أيقتلني (٤) والمشرفيّ (٥) مضاجعي (٦) [ومسنونة (٧) زرق كأنياب أغوال] أي أيقتلني ذلك الرّجل الّذي توعّدني ، والحال أنّ مضاجعي سيف منسوب إلى مشارف (٨) اليمن وسهام (٩) محدّدة (١٠) النّصال صافية (١١) مجلوّة وأنياب الأغوال ممّا لا يدركها الحسّ

________________________________________

(١) أي بأنّه لو أدرك لكان مدركا بإحدى الحواسّ.

(٢) أي عن العقلي الصّرف ، أي العقلي بالمعنى الأخصّ ، فإنّه لو أدرك لم يدرك إلّا بالعقل.

(٣) أي كالمشبّه به في قول امرئ القيس.

(٤) أي أيقتلني ذلك الرّجل الّذي توعّدني وخوفنّي في حبّ سلمى ، وهو زوجها ، والاستفهام للاستبعاد ، وحاصل المعنى : أيقتلني في حبّ سلمى ، والحال أنّ مضاجعي وملازمي سيف منسوب إلى مشارف اليمن.

(٥) أي السّيف المشرفيّ ، فهو صفة لمحذوف ، يقال : سيف مشرفيّ ، ولا يقال : سيف مشارفيّ ، لأنّ الجمع لا ينسب إليه إذا كان على هذا الوزن.

(٦) أي ملازمي حال الاضطجاع ، أي النّوم والمراد ملازمي مطلقا.

(٧) عطف على المشرفي ، وصفة لمحذوف ، والتّقدير سهام أو رماح محدودة النّصال ، يقال : سنّ السّيف ، إذا حدّده ، ووصف النّصال بالزّرقة للدّلالة على صفائها.

وجه الدّلالة : أنّ الزّراقة لون السّماء ، ولا ريب أنّه إذا كانت النّصال بلون السّماء كانت مجلوّة جدّا ، والشّاهد في أنياب الأغوال فإنّها ممّا لا يدركه الحسّ لعدم تحقّقها ، لأنّ نفس الغول كما في بعض كتب اللّغة حيوان لا وجود له فكيف بأنيابه!

(٨) قال في الصّحاح : مشارف الأرض أعاليها ، قال في المصباح : سيف مشرفيّ ، قيل :

منسوب إلى مشارف الشّام ، وهي أرض قرى العرب تدنو من الرّيف ، والرّيف أرض فيها زرع وخصب.

(٩) إشارة إلى حذف الموصوف.

(١٠) تفسير لمسنونة.

(١١) تفسير لزرق.

٣٥١

لعدم تحقّقها (١) ، مع أنّها لو أدركت (٢) لم تدرك إلا بحسّ البصر (٣) ، وممّا يجب (٤) أن يعلم في هذا المقام (٥) أنّ من قوى (٦) الإدراك ما يسمّى متخيّلة ومفكّرة (٧) ومن شأنها (٨) تركيب الصّور والمعاني وتفصيلها (٩)

________________________________________

(١) أي لعدم تحقّق أنياب الأغوال ، وذلك لأنّ نفس الغول كما في بعض كتب اللّغة حيوان لا وجود له ، فكيف بأنيابه.

(٢) أي لو أدركت على سبيل الفرض والتّقدير.

(٣) أي لا بالعقل ، فالحصر إضافيّ ، فلا ينافي إدراكها على فرض الوجود بغير البصر من اللّمس والذّوق.

(٤) هذا توطئة لقوله : «والمراد بالخيالي ...» ، وإنّما تعرّض لذلك مع أنّه قد علم ممّا تقدّم ما هو المراد من الخيالي والوهمي هنا قصدا لزيادة التّحقيق والتّأكيد.

(٥) أي مقام بيان الخيالي والوهمي في باب التّشبيه.

(٦) وكلمة «من» إشارة إلى أنّ قوى الإدراك لا تنحصر في المتصرّفة ، بل أمور متعدّدة ، والمتصرّفة من جملتها ، فإنّ القوى الّتي يتمّ بها أمر الإدراك هي الخيال والوهم والحافظة والعقل والمتصرّفة الّتي تنقسم إلى المتخيّلة والمفكّرة.

(٧) أي قوّة واحدة لها اعتباران فتسمّى متخيّلة باعتبار استعمال الوهم لها ، ومفكّرة باعتبار العقل لها ، ولو مع الوهم ، وليس عمل هذه القوى منتظما ، بل النّفس هي الّتي يستعملها على أيّ نظام تريد بواسطة القوّة الوهميّة ، وبهذا الاعتبار تسمّى متخيّلة أو بواسطة القوّة العقليّة ، وبهذا الاعتبار تسمّى مفكّرة ، ثمّ الجامع بين المتخيّلة والمفكّرة المتصرّفة.

(٨) أي ومن شأن تلك القوى تركيب الصّور الّتي في الخيال ، أي تركيب الصّور المخزونة في الخيال ، كأن يركّب بعضها مع بعض ، مثل تركيب إنسان له جناحان أو رأسان ، وتركيب أمر مركّب من صورة الأعلام ، وصورة الياقوت ، وصورة الرّماح الزّبرجدّيّة ، وتركيب المعاني المرتسمة في الحافظة ، أي تركيب بعضها مع بعض بأن تركّب عداوة مع محبّة ، وحلاوة مع مرارة ، أو تركّب بعض الصّور مع بعض المعاني بأنّ تتصوّر أنّ هذا الحجر يحبّ أو يبغض فلانا.

(٩) أي تحليلها بأن تصوّر إنسانا لا رأس له.

٣٥٢

والتّصرّف فيها (١) واختراع أشياء لا حقيقة لها (٢) والمراد بالخيالي المعدوم الّذي ركّبته المتخيّلة من الأمور الّتي أدركت (٣) بالحواسّ الظّاهرة ، وبالوهميّ (٤) ما اخترعته المتخيّلة من عند نفسها ، كما إذا سمع (٥) أنّ الغول شيء تهلك به النّفوس كالسّبع ، فأخذت المتخيّلة في تصويرها بصورة السّبع ، واختراع ناب لها (٦) ، كما للسّبع ، [وما يدرك بالوجدان] أي ودخل أيضا في العقلي (٧) ما يدرك بالقوّة الباطنة (٨)

________________________________________

(١) أي التّصرّف في تلك الصّور بالتّركيب والتّحليل ، وهذا من عطف عامّ على خاصّ.

(٢) أي لا حقيقة لتلك الأشياء ، كإنسان له جناحان ، أو له رأسان ، أو بلا رأس ، أو كتصوّر الحبل بأنّه ثعبان.

(٣) مبنيّ للمفعول ، أي المراد بالخيالي هو المعدوم الّذي ركّبته المتخيّلة من الأمور الّتي تدرك بالحواسّ الظّاهرة ، كالأعلام والياقوت والرّماح والزّبرجديّة ، فإنّ كلّ واحد منها مدرك فعلا بالبصر ، ولكن المركّب من الجميع معدوم ، وإنّما هو من متصرّفات المتخيّلة.

(٤) أي ليس المراد بالوهمي ههنا المعاني الجزئيّة المدركة بالوهم ، بل المراد بالوهمي ههنا ما اخترعته المتخيّلة من عند نفسها ، وإن لم يكن لها واقع أصلا ، ولم تأخذ أجزاء من الخيال كأنياب الأغوال ، والحاصل إنّ الوهمي لا وجود لهيئته ، ولا لجميع مادّته ، والخيالي جميع مادّته موجودة دون هيئته.

(٥) أي كما إذا سمع الإنسان أنّ الغول شيء تهلك به النّفوس كالسّبع ، فأخذت المتخيّلة في تصويرها بصورة السّبع ، أي فشرعت المتخيّلة في تصويرها ، أي في تصوير المتخيّلة الغول ، فالضّمير المضاف إليه للتّصوير راجع إلى الغول فقوله : «تصويرها» من إضافة المصدر إلى المفعول.

(٦) أي للغول ، أي اختراع المتخيّلة ناب الغول كناب السّبع ، مع أنّه ليس في الواقع ناب ولا غول.

(٧) أي دخل أيضا في العقلي بالمعنى الأعمّ.

(٨) أي بالقوى القائمة بالنّفس ، مثل القوّة الّتي يدرك بها الشّبع ، والقوّة الّتي يدرك بها الجوع ، والقوّة الغضبيّة الّتي يدرك بها الغضب ، والقوّة الّتي يدرك بها الغمّ ، والقوّة الّتي يدرك بها الفرح ، وهكذا ، فإنّ هذه القوى غير الوهم والخيال.

٣٥٣

ويسمّى وجدانيّا (١) [كاللذّة (٢)] وهي إدراك ونيل (٣) لما هو عند (٤) المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك [والألم] وهو إدراك ونيل لما هو عند المدرك آفة وشرّ (٥)

________________________________________

(١) وتسمّى كلّ واحدة من تلك القوى وجدانا ، والمدركات بها وجدانيّات.

(٢) هذا وما بعده مثال لما تدركه النّفس بسبب الوجدان.

(٣) أي للمدرك بالفتح ، والمراد بنيله حصوله ، والتّكيّف بصفته ، وإنّما جمع بين الأمرين ، أي الإدراك والنّيل ، ولم يقتصر على أحدهما ، لأنّ اللذّة لا تحصل بمجرّد إدراك اللذّيذ ، بل لا بدّ من حصوله للمستلذّ بالكسر ، وهو القوّة الذّائقة ، أو قوّة اللّمس أو غيرهما ، وأمّا ما يحصل عند تصوّر المرأة الحسناء ، أو الشّيء الحلوّ ، فذاك تخييل للذّة لا أنّه عين اللذّة ، ولم يكتف بالنّيل عن الإدراك ، لأنّ مجرّد النّيل من غير إحساس وشعور بالمدرك ، لا يكون التذاذا ، والواو في قوله : ونيل بمعنى مع.

(٤) إنّما قيّد بذلك ، لأنّ المعتبر كماليّته وخيريّته بالقياس إلى المدرك لا بالنّسبة لنفس الأمر ، لأنّه قد يعتقد الكماليّة والخيريّة في شيء فيلتذّ به ، وإن لم يكونا فيه ، وقد لا يعتقدهما فيما تحقّقتا فيه ، فلا يلتذّ به كإدراك الدّواء النّافع مهلكا ، فهذا ألم لا لذّة وقوله : «عند المدرك» متعلّق بكمال ، وخبر قوله : «من حيث كذلك» أي كمال وخير.

ثمّ قوله : «إدراك» جنس يشتمل سائر الإدراكات الحسّيّة والعقليّة ، وقوله مصاحب لنيل ، أعني «ونيل» فصل يميّز اللذّة عن الإدراك الّذي لا يجامع نيل المدرك ، أعني مجرّد تصوّر المدرك ، فإنّه لا يكون من باب اللذّة لما علمت من أنّ تصوّر المدرك لا يكون لذّة ، إلّا إذا كان معه نيل للمدرك ، أي اتّصال به وتكيّف بصفته تكيّفا حسّيّا ، كنيل القوّة الذّائقة ، فإذا وضع الشّيء الحلو على اللسان تكيّفت القوّة الذّائقة بصفته ، وهي الحلاوة ثمّ تدرك النّفس ذلك التكيّف ، فهذا الإدراك يقال له : لذّة حسّيّة ، تلك اللّذة الّتي هي الإدراك المذكور تحصل في النّفس بسبب القوى الباطنيّة المسمّاة بالوجدان ، أو كان التّكيّف عقليّا ، كنيل النّفس لشرف العلم ، فالقوّة العاقلة تدرك شرف العلم وتتكيّف به ، وتدرك ذلك التّكيّف وإدراكها لذلك التّكيّف ، يقال له لذّة عقليّة ، ولا يتوقّف إدراكها لذلك التكيّف على وجدان ، بل تدركه بنفسها.

(٥) لا يخفى عليك الفرق بين مفاد قيود اللذّة والألم ، وملخّص الفرق أنّ اللذّة إدراك الملائم من حيث هو ملائم ، والألم إدراك المنافر من حيث هو منافر ، ومن هنا يظهر أنّ كلا من

٣٥٤

من حيث هو كذلك ، ولا يخفى أنّ إدراك هذين المعنيين (١) ليس بشيء من الحواسّ الظّاهرة ، وليسا (٢) أيضا من العقليّات الصّرفة لكونهما (٣) من الجزئيّات المستندة إلى الحواسّ (٤) بل هما من الوجدانيّات المدركة بالقوى الباطنة ، كالشّبع (٥) والجوع والفرح

________________________________________

اللذّة والألم إدراك مخصوص من حيث إنّه أضيف إلى مدرك مخصوص ، هو الملائم في اللذّة والمنافر في الألم ، ثمّ إنّ كلا من تعريف اللّذّة والألم المذكورين ، يشمل عقليّ كلّ منهما ، وحسّيّة ، فعقليّهما ما يكون المدرك فيه بالكسر مجرّد العقل ، والمدرك بالفتح من المعاني الكلّيّة ، وذلك كاللذّة الّتي هي إدراك الإنسان شرف العلم ، والألم الّذي هو إدراك الإنسان نقصان الجهل وقبحه ، فشرف العلم كمال عند القوّة العاقلة ، ولا شكّ أنّها تدركه وتستلذّ به ، ونقصان الجهل آفة عند القوّة العاقلة ، ولا شكّ أنّها تدركه وتتألّم به وحسّيهما ، كإدراك النّفس نيل القوّة الذّائقة لمذوقها الحلوّ ، ونيل القوّة الباصرة لمبصرها الجميل أو الخبيث ، ونيل القوّة اللّامسة للملوسها اللّيّن أو الخشن ، ونيل القوّة السّامعة لمسموعها المطرب ، أو المنكر ، ونيل القوّة الشّاملة لمشمومها الطّيب ، أو المنفرد ، فهذه اللّذّات والآلام كلّها مستندة للحسّ من حيث إنّه سبب فيها.

(١) أي اللذّة والألم ، أي إنّ إدراكهما ليس بشيء من الحواسّ الظّاهرة ، لأنّ الإدراك معنى من المعاني ، فلا يدرك بالحسّ الظّاهر ، فلا يدخل في الحسّي.

(٢) أي هذان المعنيان ليسا من العقليّات الصّرفة الّتي لا تكون بواسطة شيء ، كالعلم والحياة فلا يدخلان في العقلي ، بل هما من الوجدانيّات المدركة بالقوى الباطنة كالشّبع والجوع والفرح والغمّ ...

(٣) بيان لعدم كونهما من العقليّات ، لأنّ العقليّات الّتي تدرك بالعقل إنّما هي المعاني الكلّيّة لا المعاني الجزئيّة.

(٤) أي الحواسّ الباطنة لأنّها هي القوى الّتي يدرك بها المعاني الجزئيّة ، مثل القوّة الغضبيّة والقوّة الشّهويّة.

(٥) أي كما أنّ الشّبع وما بعده من الوجدانيّات مدركة بسبب القوى الباطنة كذلك اللذّة والألم.

٣٥٥

والغمّ والغضب والخوف ، وما شاكل ذلك (١) والمراد (٢) ههنا اللذّة والألم الحسّيّان وإلّا (٣) فاللذّة والألم العقليّان من العقليّات الصّرفة. [ووجهه (٤)] أي وجه الشّبه [ما (٥) يشتركان فيه] أي في المعنى الّذي قصد اشتراك الطّرفين فيه (٦)

________________________________________

(١) كالحزن والحلم والصحّة والسّقم ، والحاصل إنّ الوجدانيّات ليست داخلة في المحسوسات بالحواسّ الظّاهرة ، ولا بالعقليّات بمعناها المعروف ، فبالتّعميم المتقدّم دخلت فيها.

(٢) أي إنّ كلّ واحد من اللذّة والألم حسّي وعقلي ، والمراد بهما في المقام اللذّة والألم الحسّيّان كما هو المتبادر من إطلاقهما ، لأنّ اللذّة والألم العقليّين ليسا من الوجدانيّات المدركة بالحواسّ الباطنة.

(٣) أي وإن لم يكن المراد ما قلناه بل كان المراد هنا الألم واللذّة مطلقا ، فلا يصحّ ، لأنّ اللذّة والألم العقليّين كإدراك القوّة العاقلة شرف العلم ونقصان الجهل من العقليّات الصّرفة ليسا من الوجدانيّات المدركة بالحواسّ الباطنة ، لأنّ الحواسّ الباطنة إنّما تدرك الجزئيّات ، والعقليّات الصّرفة ليست جزئيّات.

ونختم الكلام في الفرق بين اللذّة والألم الحسّيّين والعقليّين ، الفرق بينهما أنّ الحسّيين ما يكون المدرك فيهما بالكسر النّفس بواسطة الحواسّ ، والمدرك ممّا يتعلّق بالحواسّ ، وأمّا العقليّان فهما ما كانا غير مستندين لحاسّة أصلا لكون المدرك فيهما العقل ، والمدرك من العقليّات أعنى المعاني الكلّيّة.

(٤) عطف على قوله : «طرفاه» ، وشروع في الرّكن الثّالث.

(٥) المراد من ما الموصولة هو وجه الشّبه ، فمعنى العبارة وجه الشّبه ما يشترك المشبّه والمشبّه به فيه.

(٦) أي في ذلك المعنى أتى الشّارح بهذا التّفسير ردّا على المصنّف ، حيث جعل الوجه مطلق ما يشتركان فيه ، وليس الأمر كذلك ، بل لا بدّ مضافا إلى كونه جهة مشتركة بينهما من كونها مركزا للقصد ومحطّا لإرادة المتكلّم ، بأن يكون قاصدا لإفادة اشتراكهما فيه ، فمجرّد كون الشّيء مشتركا فيه بينهما ، لا يكفي في كونه وجه الشّبه ما لم يجعل مركزا للقصد العناية ، فكان اشتراك الطّرفين في وجه الشّبه مقصودا بالإفادة للمتكلّم.

٣٥٦

وذلك (١) أنّ زيدا والأسد يشتركان في كثير من الذّاتيات وغيرهما (٢) كالحيوانيّة (٣) والجسميّة والوجود وغير ذلك (٤) مع أنّ شيئا منها (٥) ليس وجه الشّبه وذلك الاشتراك يكون [تحقيقيّا أو تخيّليّا (٦) والمراد بالتّخيّلي] أن لا يوجد ذلك المعنى في أحد الطّرفين ، أو في كليهما إلّا على سبيل التّخييل (٧) والتّأويل (٨) [نحو ما في قوله (٩) : وكأنّ النّجوم بين دجاه] جمع دجيّة وهي الظّلمة (١٠) والضّمير للّيل ، وروي دجاها

________________________________________

(١) أي بيان أنّ المراد قصد الاشتراك لا الاشتراك مطلقا ، إذ جعل وجه الشّبه مطلق الاشتراك غير مستقيم ، لأنّ زيدا والأسد في قولنا : زيد كالأسد يشتركان في الوجود والجسميّة والحيوانيّة ، وغير ذلك من المعاني ، كالحدوث والتّغيّر مع أنّ شيئا من المعاني المذكورة ليس وجه الشّبه ، فحينئذ لا بدّ أن يكون وجه الشّبه ما قصد اشتراك الطّرفين فيه من المعاني المذكورة ، فحاصل الكلام إنّ وجه الشّبه يعتبر فيه أمران : الاشتراك وقصده.

(٢) أي وغير الذّاتيات.

(٣) مثال للجنس القريب من الذّاتيات والجسميّة ، مثال للجنس البعيد من الذّاتيات ، والوجود مثال لغير الذّاتي.

(٤) أي وغير ما ذكر من المعاني كالأكل والشّرب والحدوث والتّغيّر.

(٥) أي من الأمور المذكورة ليس وجه الشّبه في مثال زيد كالأسد ، لأنّ المقصود تشبيه زيد بالأسد في الشّجاعة ، نعم ، يصلح أن يكون بعض المعاني المذكورة وجه الشّبه.

(٦) قوله : «تحقيقيّا أو تخييليّا» إمّا منصوبان على الخبريّة لكان المحذوفة مع اسمها ، أي كان هذا الاشتراك تحقيقيّا أو تخييليّا ، أو مصدران باعتبار مضاف مقدّر ، أي اشتراك تحقيق أو تخييل أو حالان ، أي حالة كون الاشتراك محقّقا أو مخيّلا ، والاحتمال الأخير ضعيف ، فإنّهم منعوا وقوع المصدر حالا قياسا ، وقالوا : إنّه مقصور على السّماع.

(٧) أي فرض المتخيّلة ، وجعلها ما ليس بمحقّق محقّقا ، وذلك بأنّ يثبته الوهم ، ويقرّره بسبب تأويله لغير المحقّق محقّقا.

(٨) مرادف للتّخييل.

(٩) أي مثل وجه الشّبه في قول القاضي التّنوخي ، تنوخ بتخفيف النّون المضمومة حيّ من اليمن.

(١٠) أي وزنا ومعنى وجمعها مضافا إلى ضمير اللّيل.

٣٥٧

والضّمير للنّجوم (١) [سنن (٢) لاح بينهنّ ابتداع فإنّ وجه الشّبه فيه] أي في هذا التّشبيه [هو الهيئة الحاصلة من حصول أشياء مشرقة بيض في جوانب شيء مظلم أسود ، فهي] أي تلك الهيئة [غير موجودة في المشبّه به] أعني (٣) السّنن بين الابتداع [إلّا على طريق (٤) التّخييل وذلك (٥)] أي وجودها في المشبّه به على طريق التّخييل [إنّه] الضّمير للشّأن [لما كانت البدعة وكلّ ما هو جهل (٦) تجعل صاحبها كمن يمشي في الظّلمة فلا يهتدي للطّريق ، ولا يأمن أن ينال مكروها شبّهت (٧)] أي البدعة ، وكلّ ما

________________________________________

(١) أي فالإضافة حينئذ لأدنى ملابسة ، وهي كون النّجوم واقعة في الظّلم.

(٢) «السّنن» كصرد جمع سنّة ، وهي حكم الله تعالى ، أي ما تقرّر كونه مأمورا به أو منهيّا عنه شرعا ، ممّا يدلّ عليه قول الشّارع أو فعله ، أو تقريره «لاح» بالحاء المهملة بمعنى ظهر «ابتداع» مصدر من البدعة ، وهي كحرفة وزنا ، الحدث في الدّين ، أي إحداث أمر بادّعاء أنّه من الدّين ، وهو ليس كذلك.

والشّاهد في البيت هو كون وجه الشّبه ، وهو الهيئة الخاصّة غير متحقّقة في المشبّه به إلا على سبيل التّخييل ، لأنّ السّنن ليست أجراما حتّى تكون مشرقة ، وكذلك البدعة ليست أجراما حتّى تكون مظلمة ، فينتزع من المجموع هيئة ، ويشبّه بها الهيئة المنتزعة من النّجوم الواقعة في الظّلمة بجامع مطلق الهيئة الشّاملة لهما.

(٣) أي هذا التّفسير إشارة إلى أنّ هذا الكلام محمول على القلب ، أي والأصل وكأنّ السّنن بين الابتداع نجوم بين دجاه.

(٤) إضافة طريق إلى التّخييل بيانيّة ، أي طريق هو تخيّل الوهم كون الشّيء حاصلا ، والحال إنّه ليس كذلك في نفس الأمر ، لأنّ البياض والإشراق كالظّلمة من أوصاف الأجسام ، ولا توصف السّنة والبدعة بها ، لأنّهما من المعاني.

(٥) أي بيان ذلك ، أي بيان وجود الهيئة الواقعة وجه الشّبه في المشبه به على طريق التّخييل.

(٦) أي وكلّ فعل ارتكابه جهل ، ليكون من جنس البدعة الّتي عطف عليها ، لأنّ البدعة ناشئة عن الجهل لا أنّها جهل بنفسها ، وبهذا ظهر أنّ عطف كلّ ما هو جهل على البدعة من قبيل عطف العامّ على الخاصّ.

(٧) جواب عن لمّا في قوله : «لمّا كانت البدعة ...».

٣٥٨

هو جهل [بها] أي بالظّلمة [ولزم بطريق العكس (١)] إذا أريد التّشبيه [أنّ تشبّه السّنّة (٢) وكلّ ما هو علم بالنّور] لأنّ السّنّة والعلم يقابل البدعة والجهل ، كما أنّ النّور يقابل الظّلمة [وشاع ذلك] أي كون السّنّة والعلم كالنّور ، والبدعة والجهل كالظّلمة (٣) [حتّى تخيّل أنّ الثّاني] أي السّنّة ، وكلّ ما هو علم [ممّا له بياض وإشراق نحو (٤) : أتيتكم بالحنفيّة البيضاء ، والأوّل (٥) على خلاف ذلك] أي وتخيّل أنّ البدعة ، وكلّ ما هو جهل ممّا له سواد وإظلام (٦) [كقولك (٧) : شاهدت سواد الكفر من جبين فلان (٨)

________________________________________

(١) إضافة طريق إلى العكس بيانيّة ، أي بالطّريقة الّتي هي مراعاة المقابلة والضّديّة ، فقوله : بطريق العكس ، أي المقابلة والمخالفة الضّديّة.

(٢) أي أن تشبّه السّنّة المقابلة للبدعة «وكلّ ما هو علم» المقابل لكلّ ما هو جهل «بالنّور» لأنّ السّنّة تجعل صاحبها كمن يمشي في النّور فيهتدي إلى الطّريق ، ويأمن من المكروه ، أي من الوقوع في مهلكة.

(٣) أي شاع في العرف تشبيه البدعة بالظّلمة ، وتشبيه السّنّة ونحوها بالنّور حتّى تخيّل بسبب شيوعه إلى كثرة خطوره بالبال ، وكثرة وروده في المقال أنّ القسم الثّاني ، أي السّنّة ، وكلّ ما هو علم ممّا له بياض وإشراق ، والقسم الأوّل ، أي البدعة وكلّ ما هو جهل ممّا له سواد وإظلام.

(٤) أي نحو قول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتيتكم بالحنفيّة البيضاء ، حيث وصف صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشّريعة الإسلاميّة بالبياض ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الحنفيّة صفة لموصوف مقدّر ، أي الملّة أو الشّريعة الحنفيّة ، والحنفيّة نسبة إلى الحنيف ، وهو المائل عن كلّ دين سوى الدّين الحق ، وعنى به إبراهيم عليه‌السلام.

(٥) أي البدعة ، فإنّها الأوّل في كلام المصنّف ، كما أنّ السّنّة هي الثّاني في كلامه وإن كان الأمر في كلام الشّاعر على العكس.

(٦) أي ظلمة.

(٧) هذا تنظير فيما يخيّل أنّ الشّيء ممّا له سواد ، والحال أنّه ليس كذلك ، كما أنّ قوله عليه‌السلام كان تنظيرا فيما يخيّل أنّ الشّيء ممّا له بياض ، والحال أنّه ليس كذلك.

(٨) الجبين ما بين العين والأذن إلى جهة الرّأس ، ولكلّ إنسان جبينان يكتنفان الجبهة ووصف الجبين بشهود سواد الكفر منه مع أنّ المراد شهوده من الإنسان ، لأنّ الجبين يظهر

٣٥٩

فصار] بسبب تخيّل أنّ الثّاني (١) ممّا له بياض وإشراق ، والأوّل (٢) ممّا له سواد وإظلام [تشبيه (٣) النّجوم بين الدّجى بالسّنن بين الابتداع كتشبيهها] أي النّجوم [ببياض المشيب (٤) في سواد الشّباب] أي أبيضه في أسوده [أو بالأنوار] (٥) ، أي الأزهار (٦) ، [مؤتلقة] بالقاف أي لامعة [بين النّبات الشّديدة الخضرة] حتّى يضرب (٧) إلى السّواد ، فبهذا (٨) التّأويل ، أعني تخييل ما ليس بمتلوّن متلوّنا ظهر اشتراك النّجوم بين (٩) الدّجى ،

________________________________________

فيه علامة صلاح الشّخص وفساده ، ووجه التّنظير أنّ الكفر جحد ما علم مجيء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به ضرورة ، والشّاهد في قوله «شاهدت سواد الكفر» وهو إنكار الحقّ قد وصف بالسّواد ، لتخيّله أنّه من الأجرام الّتي لها سواد.

(١) أي السّنّة ، وكلّ ما هو علم ممّا له بياض وإشراق.

(٢) أي البدعة ، وكلّ ما هو جهل ممّا له سواد وإظلام.

(٣) وهو اسم صار في قوله : «فصار» ، والظّرف في قوله : «كتشبيهها» خبر «صار».

(٤) أي بالشّعر الأبيض في وقت الشّيخوخة «في سواد الشّباب» أي في الشّعر الأسود الكائن في وقت الشّباب الباقي على سواده ، ضرورة أنّ النّجوم في الدّجى لم تشبّه بنفس البياض في السّواد ، بل بالشّعر الأبيض الكائن في الأسود ، فيقال : النّجوم في الدّجى كالشّعر الأبيض في الشّعر الأسود حال ابتداء الشّيب ، وإليه أشار بقوله : أي أبيضه في أسوده ، أي تشبيه النّجوم بين الدّجى بالسّنن مثل تشبيه النّجوم ببياض المشيب.

(٥) عطف على قوله «ببياض».

(٦) التّفسير إشارة إلى أنّ الأنوار جمع النّور بفتح النّون ، لا جمع النّور بضمّ النّون.

(٧) أي يميل إلى السّواد بأن يكون النّبات في الحقيقة أخضر ، لكن لشدّته في الخضرة يتراءى أنّه أسود.

(٨) هذا نتيجة ما تقدّم.

(٩) قوله : «بين الدّجى» حال من «النّجوم» كما أنّ قوله : «بين الابتداع» حال من «السّنن» ثمّ «النّجوم بين الدّجى» مشبّه و «السّنن بين الابتداع» مشبّه به ، وجه الشّبه هو كون كلّ منهما شيئا ذا بياض ، بين شيء ذي سواد على طريق التّأويل ، أي تخييل ما ليس بمتلوّن متلوّنا ، ثمّ إنّ هذا التّخييل نشأ من التّشبيهين المعروفين بينهم ، أعني تشبيههم السّنّة وكلّ ما فيه علم بالنّور ،

٣٦٠