دروس في البلاغة - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

لأنّ قولنا (١) هو عالم بوضع الألفاظ معناه أنّه عالم بوضع كلّ لفظ (٢) فنقيضه المشار إليه بقوله : وإلّا ، يكون سلبا جزئيّا (٣) أي إن لم يكن عالما بوضع كلّ لفظ ، فيكون اللّازم عدم دلالة كلّ لفظ ، ويحتمل أن يكون البعض منها دالا (٤) لاحتمال أن يكون عالما بوضع البعض.

ولقائل أن يقول : لا نسلّم (٥) عدم التّفاوت في الفهم على تقدير العلم بالوضع ، بل يجوز أن يحضر في العقل معاني بعض الألفاظ المخزونة في الخيال (٦) بأدنى التفات لكثرة الممّارسة والمؤانسة وقرب العهد ، بخلاف البعض فإنّه يحتاج إلى الالتفات أكثر (٧) ، ومراجعة أطول مع كون الألفاظ مترادفة والسّامع عالما بالوضع وهذا ممّا نجده

________________________________________

(١) الأولى أن يقول الشّارح ، لأنّ قوله بضمير الغيبة العائد على المصنّف.

(٢) أي فيكون إيجابا كلّيّا.

(٣) أي لما تقرّر في المنطق من أنّ الإيجاب الكلّي إنّما يناقضه السّلب الجزئي لا الكلّي ، ثمّ إنّ من المعلوم أنّ السّلب الجزئي أعمّ من السّلب الكلّي ، وذلك لتحقّق السّلب الجزئي عن انتفاء الحكم عن كلّ الأفراد الّذي هو السّلب الكلّي ، وعند انتفائه عن بعض الأفراد.

(٤) أي لأنّ رفع الإيجاب الكلّي صادق على السّلب الجزئي والكلّي معا.

(٥) هذا اعتراض على قول المصنّف ، أعني «لأنّ السّامع إذا كان عالما بوضع الألفاظ لم يكن بعضها أوضح» ، أي من حيث الدّلالة من بعض.

وحاصل الاعتراض لا نسلّم عدم التّفاوت من حيث الوضوح والخفاء على تقدير العلم بالوضع ، بل يمكن التّفاوت والاختلاف من حيث وضوح الدّلالة وخفائها مع العلم بالوضع.

(٦) أي مثل زيد أسد ، وأبو أحمد ليث ، والمرتضى غضنفر ، إذا فرضنا استعمال هذه الألفاظ في مدح من اسمه زيد ، وكنيته أبو أحمد ، ولقبه المرتضى ، كانت دلالة الجملة الأولى أوضح من الثّانية والثّالثة ، وذلك لكثرة الممّارسة والمؤانسة وقرب العهد ، أو فرضنا أنّ زيدا كان مكّنى بأبي أحمد ، وأبي سعيد ، وأبي عقيل ، فيقال في مدحه : أبو أحمد أسد ، وأبو سعيد ضرغام ، وأبو عقيل سبع ، في الآجام كان الأوّل أوضح من الثّاني والثّالث.

(٧) أي كلفظ الغيث والغضنفر والضّرغام ، وحينئذ فقد وجد الوضوح والخفاء في دلالة المطابقة مع العلم بالوضع ، فقول المصنّف : «لأنّ السّامع ...» غير مسلّم.

٣٢١

من أنفسنا ، والجواب (١) أنّ التوقّف إنّما هو من جهة تذكّر الواضع وبعد تحقّق العلم بالوضع وحصوله بالفعل ، فالفهم ضروري [ويتأتّى] الإيراد المذكور (٢) [بالعقليّة (٣)] من الدّلالات [لجواز أن تختلف مراتب اللزّوم (٤) في الوضوح (٥)] أي مراتب لزوم الأجزاء للكلّ في التّضمّن (٦)

________________________________________

(١) وحاصل الجواب أنّ المراد بالاختلاف في الوضوح والخفاء أن يكون ذلك بالنّظر إلى نفس الدّلالة ، وهذا غير معقول في الدّلالة المطابقيّة إذ بعد العلم بالوضع والتّلفّظ والسّماع لا بدّ من الدّلالة ، وما ذكرت من الاختلاف إنّما هو بالنّسبة إلى تذكّر الوضع المنسي ، أي وليس التوقّف والمراجعة لخفاء الدّلالة بعد العلم بالوضع ، هذا متصوّر في الدّلالة الالتزاميّة ، لأنّها متقوّمة على اللزّوم ، وهو أساسه ولبّه ، فحيث إنّه مختلف يوجب اختلافه اختلاف الدّلالات الالتزاميّة.

(٢) أي إيراد المعنى الواحد بتراكيب مختلفة في وضوح الدّلالة يتأتّى بالدّلالات العقليّة ، أي التّضمنيّة والالتزاميّة.

(٣) اللّام للعهد ، أي يتأتّى بالتّضمّن والالتزام.

(٤) أراد باللّزوم ما يشمل لزوم الجزء للكلّ في التّضمّن ، ولزوم اللّازم للملزوم في الالتزام ، ولهذا لم يقل : مراتب اللّازم ، لئلّا يكون قاصرا على دلالة الالتزام.

(٥) بأن يكون بعض المراتب أوضح دلالة من بعضها الآخر ، لأنّ الدّلالة كما عرفت متقوّمة على اللزّوم ، وهو مختلف ، إذ قد يكون بيّنا بالمعنى الأخصّ ، وقد يكون بيّنا بالمعنى الأعمّ ، وقد يكون بيّنا بالمعنى الأعمّ ، وقد يكون غير بيّن ، وغير بيّن قد يفتقر إلى ملاحظة واسطة ، وقد يفتقر إلى ملاحظة واسطتين ، وهكذا ، فإذا يحصل اختلاف الدّلالات باختلافه.

(٦) أقول : اختلاف مراتب اللزّوم في التّضمّن من جهة وجود الواسطة وعدمها ، وقلّتها وكثرتها مثلا الحيوان والجسم النّامي والجسم المطلق والجوهر ، كلّها أجزاء للإنسان لكن بعضها بواسطة فأكثر ، وبعضها بلا واسطة ، فالرّبط بينه وبين ما هو جزئه بلا واسطة أوضح من الرّبط الّذي بينه وبين جزئه مع واسطة ، والرّبط بينه وبين ما هو جزئه بواسطة واحدة أوضح ممّا هو جزؤه بواسطتين وهكذا. هذا الاختلاف يوجب اختلاف دلالة اللّفظ الموضوع بإزائه بالقياس إليها.

٣٢٢

ومراتب لزوم اللّوازم (١) للملزوم في الالتزام ، وهذا (٢) في الالتزام ظاهر فإنّه يجوز أن يكون للشّيء (٣) لوازم متعدّدة (٤) بعضها (٥) أقرب إليه (٦) من بعض وأسرع انتقالا منه (٧) إليه لقلّة (٨) الوسائط فيمكن تأدية الملزوم (٩) بالألفاظ الموضوعة لهذه اللّوازم

________________________________________

(١) أي الّتي هي المدلول الالتزامي ، أقول : اختلاف مراتب اللزّوم في الالتزام إمّا من ناحية عدم الواسطة ووجودها وقلّتها وكثرتها مثلا كثرة الرّماد ، وكثرة إلقاء الحطب تحت القدر ، وكثرة الطّبخ ، وكثرة الأكلة ، وكثرة الضّيفان كلّها لوازم للجود إلّا أن استلزامه لكثرة الضّيفان أوضح من استلزامه لكثرة الأكلة ، واستلزامه لها أوضح من استلزامه لكثرة الطّبخ ، واستلزامه لها أوضح من استلزامه لكثرة إلقاء الحطب تحت القدر ، واستلزامه لها أوضح من استلزامه لكثرة الرّماد. فتأدية ثبوت الجود لزيد مثلا بقولنا : زيد كثر ضيفانه أوضح من تأديته بقولنا : زيد كثير طبخه ، وهكذا.

وإمّا من جهة شهرة الاستعمال وقلّته مثلا كثرة الرّماد وهزل الفصيل لازمان للجود إلّا أنّ استعمال اللّفظ الموضوع بإزاء الأوّل عند إرادة الجود أكثر من استعمال اللّفظ الموضوع بإزاء الثّاني ، فيكون قولنا : زيد كثير رماده أوضح دلالة على ثبوت الجود له من قولنا : زيد مهزول فصيله ، وإن كانا من ناحية الواسطة متساويين ، وكيف كان فاختلاف اللّوازم في الالتزام ظاهر.

(٢) أي اختلاف مراتب اللّزوم في الوضوح في دلالة الالتزام ظاهر.

(٣) أي الّذي هو الملزوم كالكرم والجود مثلا.

(٤) ككثرة الضّيفان ، وكثرة إحراق الحطب تحت القدر ، وكثرة الرّماد.

(٥) أي بعض تلك اللّوازم ككثرة الضّيفان أقرب إليه ، أي الجود والكرم من كثرة الرّماد مثلا.

(٦) أي إلى ذلك الشّيء.

(٧) أي من ذلك الشّيء إلى ذلك البعض.

(٨) وكان عليه أن يقول : أو عدمها ، إلّا أن يقال : إنّه أراد بالقلّة ما يشمل العدم.

(٩) أي المعنى الملزوم كالجود مثلا ، أي يمكن تأديته بالألفاظ الموضوعة لهذه اللّوازم المختلفة الدّلالة عليه وضوحا وخفاء.

٣٢٣

المختلفة الدّلالة عليه (١) وضوحا وخفاء (٢) ، وكذا (٣) يجوز أن يكون للّازم ملزومات (٤) لزومه لبعضها أوضح منه للبعض الآخر ، فيمكن (٥) تأدية اللّازم بالألفاظ الموضوعة للملزومات المختلفة وضوحا وخفاء ، وأمّا (٦) في التّضمّن فلأنّه يجوز أن يكون المعنى جزءا من شيء (٧) وجزءا لجزء من شيء آخر (٨) فدلالة الشّيء (٩) الّذي ذلك المعنى (١٠)

________________________________________

(١) أي على المعنى الملزوم.

(٢) توضيح ذلك ككثرة الرّماد ، وكثرة الضّيفان ، وكثرة الطّبخ ، وكثرة الأكلة ، وكثرة إلقاء الحطب تحت القدر ، فدلالة هذه الألفاظ الموضوعة للّوازم على الملزوم ، أعني الكرم مختلفة ، فدلالة بعضها أوضح من دلالة بعضها الآخر ، كما عرفت.

(٣) هذا إشارة إلى ما إذا استعمل اللّفظ الموضوع للملزوم لينتقل منه إلى اللازم ، كما في المجاز عند الكلّ ، وفي الكناية على مذهب المشهور ، ومنهم المصنّف.

(٤) وذلك كالحرارة ، فإنّ لها ملزومات كالشّمس والنّار والحركة الشّديدة ، ولكن لزوم الحرارة لبعض هذه الملزومات ، كالنّار أوضح من لزومها للبعض الآخر ، وهو الشّمس ثمّ الحركة ، فقولنا زيد في جسمه نار ، أي حرارة أوضح دلالة على ثبوت الحرارة له من قولنا : زيد في جسمه شمس ، وهذا أوضح من قولنا : زيد في جسمه حركة شديدة.

(٥) أي بأن يقال زيدا أحرقته النّار ، أو الشّمس ، أو في جسمه نار ، أو شمس ، أو حركة قويّة.

(٦) أقول : جواب أمّا محذوف ، أي وأمّا اختلاف مراتب اللزّوم في التّضمّن فغير ظاهر ، فإذا يظهر حسن معادلة قوله : وأمّا في التّضمّن لقوله سابقا ، وهذا في الالتزام ظاهر.

(٧) أي كالجسم بالنّسبة إلى الحيوان.

(٨) أي كالجسم بالنّسبة إلى الإنسان حيث يكون الجسم جزءا للحيوان ، وهو جزء للإنسان فيكون جزءا لجزء من شيء آخر ، وهو الإنسان.

(٩) على حذف مضاف ، أي فدلالة دالّ الشّيء ، أعنى لفظ حيوان مثلا ، لأنّ الدّالّ هو اللّفظ المعنى.

(١٠) أي كالجسم حيث يكون جزءا من ذلك الشّيء أعنى الحيوان.

٣٢٤

جزء منه على ذلك المعنى (١) أوضح من دلالة الشّيء (٢) الّذي ذلك المعنى (٣) جزء من جزئه مثلا دلالة الحيوان على الجسم أوضح من دلالة الإنسان عليه ، ودلالة الجدار على التّراب أوضح (٤) من دلالة البيت عليه. فإن قلت (٥) : بل الأمر بالعكس.

________________________________________

(١) أي كالجسم.

(٢) أي كالإنسان.

(٣) أي كالجسم ، والحاصل إنّ دلالة الحيوان على الجسم أوضح من دلالة الإنسان عليه ، وذلك لأنّ دلالة الحيوان على الجسم من غير واسطة ، لأنّ الجسم جزء من الحيوان ، لأنّ حقيقة الحيوان جسم نام حساس متحرك بالإرادة ، ودلالة الإنسان على الجسم بواسطة الحيوان ، لأنّ الحيوان جزء من الإنسان ، والجسم جزء من الحيوان ، فالجسم جزء للإنسان بواسطة الحيوان ، لأنّه جزء الجزء ، فالإنسان يدلّ على الحيوان ابتداء ، وعلى الجسم ثانيا ، بخلاف الحيوان فإنّه يدلّ على الجسم ابتداء ، فدلالته عليه أوضح من دلالة الإنسان ، فكما أنّ مراتب لزوم اللّوازم للملزوم متفاوتة في الوضوح ، كذلك مراتب لزوم الأجزاء للكلّ متفاوتة فيه.

(٤) أي دلالة الجدار على التّراب أوضح من دلالة البيت عليه ، وذلك لأنّ دلالة الجدار على التّراب تكون بلا واسطة ، ودلالة البيت عليه تكون مع الواسطة ، ومن المعلوم أن الدّلالة بلا واسطة أوضح منها معها ، وأتى بمثالين ليكون إشارة إلى عدم الفرق بين أن يكون الجزء معقولا كالمثال الأوّل أو محسوسا كالمثال الثّاني.

(٥) هذا وارد على قوله : «فدلالة الشّيء الّذي ذلك المعنى جزء منه على ذلك المعنى أوضح ...» ، وحاصل الإيراد إنّ ما ذكرتم من أنّ دلالة الشّيء الّذي ذلك المعنى جزء منه على ذلك المعنى أوضح من دلالة الشّيء الّذي ذلك المعنى جزء من جزئه عليه ممنوع ، إذ لازمه أن تكون دلالة اللّفظ على جزئه أوضح من دلالته على جزء جزئه ، والحال إنّ الأمر بالعكس ، أي دلالة الإنسان على الجسم أوضح من دلالة الحيوان عليه عكس ما ذكرتم ، من أنّ دلالة الحيوان عليه أوضح.

وتوضيح ذلك أنّ الكلّ كما أنّه متوقّف على أجزائه بحسب الوجود الخارجي ، فما لم تتحقّق الأخشاب المخصوصة خارجا لا يمكن تحقّق السّرير ، وما لم يتحقّق الجدار والسّقف والسّاحة لم تتحقّق الدّار ، وما لم يتحقّق الماء والعسل والخل لم يتحقّق السّكنجبين ، وهكذا ، كذلك

٣٢٥

فإنّ فهم الجزء (١) سابق على فهم الكلّ. قلت : نعم (٢) ، ولكنّ المراد هنا انتقال الذّهن إلى الجزء وملاحظته بعد فهم الكلّ.

________________________________________

متوقّف على أجزائه بحسب التحقّق الذّهني ، بمعنى أنّه ما لم يعرف أجزاء الكلّ لا يمكن أن يعرف نفسه ، مثلا من لم يعرف مفهوم الجوهر ، والجسم المطلق ، والجسم النّامي ، والحيوان النّاطق ، لا يمكن أن يعرف معنى الإنسان ، فمن أراد تعليم الجاهل بمفهوم الإنسان لا بدّ أن يفسّر له أوّلا الجوهر بأنّه شيء إذا وجد وجد في الخارج لا في الموضوع ، ثمّ يفسّر له الجسم المطلق بأنّه جوهر قابل لأبعاد ثلاثة ، ثمّ يفسّر له الجسم النّامي بأنّه جوهر قابل لأبعاد ثلاثة نام ، ثمّ يفسّر له الحيوان بأنّه جوهر قابل لأبعاد ثلاثة نام متحرّك بالإرادة ، ثمّ يفسّر له النّاطق بأنّه ذات ثبت له النّطق ، أي قوّة مدركة للكلّيّات ، فوقتئذ يقول له : الإنسان جوهر جسم نام حيوان ناطق ، فبعد ذلك عندما سمع لفظ الإنسان ينتقل منه أوّلا إلى الجوهر ، ثمّ إلى الجسم ، ثمّ إلى النّامي ، ثمّ إلى الحيوان ، ثمّ إلى النّاطق ، ثمّ إلى المجموع بالأسر ، فالقضيّة القائلة بأنّ دلالة اللّفظ على جزئه أوضح من دلالته على جزء جزئه ممنوعة ، بل الأمر بالعكس ، لأنّ فهم الجزء سابق على فهم الكلّ ، كما عرفت ، وما كان أسبق في الفهم فهو أوضح.

(١) أي فإنّ فهم الجزء من اللّفظ الدّالّ على الكلّ سابق على فهم الكلّ ، ثمّ ما كان أسبق في الفهم كان أوضح دلالة.

(٢) أي نسلّم أن الأمر ، وإن كان بالعكس ، بمعنى أنّ فهم جزء الجزء مقدّم على فهم الجزء ، فإنّ الكلّ متوقّف على الجزء بحسب الوجود الخارجي ، وبحسب الوجود الذّهني معا بالبيان المتقدّم ، إلّا أنّ القوم اصطلحوا على أنّ التّضمّن هو فهم الجزء بعد فهم الكلّ ، ففهمه قبل فهم الكلّ ليست دلالة تضمنيّة.

توضيح ذلك : أنّ السّامع عندما سمع لفظ إنسان مثلا ، وكان عارفا بمعناه يحصل في نفسه ترتيبان : ترتيب صعودي ، وترتيب نزولي ، والأوّل مقدّم على الثّاني تصوّرا ، فإنّ ذهنه أوّلا ينتقل من لفظ إنسان إلى الجوهر ، ثمّ إلى الجسم المطلق ، ثمّ إلى الجسم النّامي ، ثمّ إلى الحيوان ، ثمّ إلى النّاطق ، ثمّ إلى مجموع الحيوان والنّاطق ، وهذا المجموع هو معنى الإنسان وبعد صعود ذهنه من الجوهر على التّرتيب المذكور ، إلى هذا المجموع يشرع في الدّخول في التّرتيب الثّاني نازلا ، بمعنى أنّه يبني على أنّ المتكلّم أراد تفهيم المجموع ، وأراد تفهيم

٣٢٦

وكثيرا (١) ما يفهم الكلّ من غير التفات إلى الجزء ، كما ذكره الشّيخ الرّئيس في الشّفاء أنّه يجوز أن يخطر النّوع بالبال ، ولا يلتفت الذّهن إلى الجنس.

________________________________________

جزئه ، أي الحيوان والنّاطق ، وأراد تفهيم جزء جزئه ، أي الجسم النّامي ، وهكذا ، والتّرتيب الأوّل في صقع الدّلالة التصوّريّة ، وهذا التّرتيب في صقع الدّلالة التّصديقيّة ، والمصطلح عند القوم أنّ التّضمّن هو فهم الجزء بعد فهم الكلّ ، أي التّصديق والبناء ، بأنّه مراد بعد التّصديق ، والبناء على أنّ الكلّ مراد ، فإذا لا يرد ما ذكر من أنّ الأمر بالعكس ، إذ في التّرتيب النّزولي ، وبحسب الدّلالة التّصديقيّة فهم الجزء متأخّر عن فهم الكلّ ، وفهم جزء الجزء متأخّر عن فهم الجزء وهكذا ، فما ذكر مسلّم بحسب الدّلالة التصوّريّة لا بحسب الدّلالة التّصديقيّة ، وملاك التّضمّن هو الفهم التّصديقي.

وبحسب هذا الفهم التّصديق يكون فهم الكلّ أسبق من فهم الجزء ، ولازم ذلك أنّ دلالة اللّفظ على الكلّ أوضح من دلالته على الجزء ، فالمراد بقوله : «ولكن المراد هنا انتقال الذّهن إلى الجزء» ، أي في التّرتيب النّزولي «وملاحظته بعد فهم الكلّ» أي ملاحظة الجزء بأنّه مراد للمتكلّم ، بعد ملاحظة أنّ الكلّ مراد له.

(١) هذا جواب ثان عن الاعتراض المذكور ، وحاصله أنّ ما ذكرنا من تسليم كون فهم الجزء مقدّما على فهم الكلّ ، وفهم جزء الجزء مقدّما على فهم الجزء ، في مرحلة الدّلالة التصوّريّة إنّما هو على تقدير الممّاشاة ، وإلّا ففي الحقيقة ليس الأمر كذلك ، بل فهم الكلّ مقدّم على فهم الجزء في الدّلالة التصوّريّة والتّصديقيّة معا.

نعم ، معرفة الجزء مقدّم على الكلّ في مقام تعليم من هو جاهل بالموضوع له ، وأمّا بعد التّعليم وحصول المعرفة ففي مقام فهم المعنى من اللّفظ فهم الكلّ مقدّم على الجزء ، بل كثيرا ما يفهم الكلّ من اللّفظ ويخطر في الذّهن من دون التفات إلى الأجزاء ، كما ذكره الشّيخ الرّئيس في الشّفاء ، حيث قال : إنّه يجوز أن يخطر النّوع بالبال ، ولا يلتفت الذّهن إلى الجنس ، أي يخطر النّوع على سبيل الإجمال لا التّفصيل ، إذ خطوره بالبال مفصّلا بدون خطور الجنس محال ، فيخطر النّوع كالإنسان بالبال ، أي بالذّهن ، ولا يلتفت الذّهن إلى الجنس ، أي الحيوان مثلا ، كما ذكره الشّيخ الرّئيس في الشّفاء أنّه يجوز أن يخطر النّوع بالبال ، ولا يلتفت الذّهن إلى الجنس.

٣٢٧

أبواب علم البيان

[ثمّ اللّفظ المراد به لازم ما وضع له (١)] سواء كان اللّازم داخلا فيه كما في التّضمّن ، أو خارجا عنه ، كما في الالتزام [إن قامت قرينة على عدم إرادته] أي إرادة ما وضع له (٢) [فمجاز (٣) وإلّا (٤) فكناية] فعند المصنّف (٥) أنّ الانتقال في المجاز والكناية كليهما من الملزوم إلى اللّازم ، إذ لا دلالة للّازم من حيث إنّه لازم على

________________________________________

(١) أي لازم المعنى الّذي وضع ذلك اللّفظ له ، ثمّ المراد باللّازم ما لا ينفكّ عنه سواء كان داخلا فيه كما في التّضمّن ، أو خارجا كما في الالتزام.

(٢) كما في قولك :

رأيت أسدا بيده سيف ، فإنّ قولك بيده سيف قرينة دالّة على أن الأسد لم يرد به ما وضع له ، وإنّما أريد به لازمه المشهور وهو الشّجاع.

(٣) أي فيسمّى ذلك اللّفظ مجازا مرسلا ، إن كانت العلاقة غير المشابهة ، ومجازا بالاستعارة إن كانت العلاقة المشابهة.

(٤) أي وإن لم تقم قرينة على عدم إرادة ما وضع له ، وذلك بأن وجدت قرينة دالّة على إرادة اللّازم ، إلّا إنّها لم تكن مانعة من إرادة الملزوم ، وهو المعنى الموضوع له ، وليس المراد عدم وجود قرينة أصلا ، لأنّ الكناية لا بدّ لها من قرينة «فكناية» أي فذلك اللّفظ المراد به اللّازم مع صحّة إرادة الملزوم الّذي وضع له اللّفظ يسمّى كناية مأخوذ من كنّى عنه بكذا ، إذا لم يصرّح باسمه ، لأنّه لم يصرّح باسم اللّازم مع إرادته ، وذلك كقولك : زيد عريض القفاء عند إرادة أنّه بليد ، فإنّ الشّهرة قرينة على إرادة ذلك من دون أن تمنع عن إرادة الموضوع له.

(٥) هذا إشارة إلى ردّ السّكّاكي حيث يقول في الكناية بالانتقال من اللّازم إلى الملزوم ، والمصنّف رأى أنّ اللّازم من حيث إنّه لازم ، يجوز أن يكون أعمّ فلا ينتقل منه إلى الملزوم ، إذ لا إشعار للأعمّ بالأخصّ.

٣٢٨

الملزوم (١) إلّا أنّ إرادة المعنى الموضوع له جائزة في الكناية دون المجاز (٢). [وقدّم (٣)] المجاز [عليها] أي على الكناية [لأنّ معناه] أي المجاز [كجزء معناها] أي الكناية ، لأنّ معنى المجاز هو اللّازم فقطّ (٤) ومعنى الكناية يجوز أن يكون هو اللّازم والملزوم جميعا (٥) والجزء مقدّم على الكلّ طبعا (٦) ، فيقدّم بحث المجاز على بحث الكناية وضعا (٧) وإنّما قال : كجزء معناها (٨) لظهور أنّه ليس جزء معناها حقيقة ، فإنّ معنى الكناية ليس هو مجموع اللّازم والملزوم ، بل هو اللّازم مع جواز إرادة الملزوم.

________________________________________

(١) وذلك لما ذكرنا من جواز أن يكون اللّازم أعمّ من الملزوم ، والعامّ لا إشعار له بأخصّ معيّن ، فلا يصحّ أن ينتقل منه إليه.

(٢) وحاصل الفرق بين الكناية والمجاز بعد اشتراكهما في احتياج كلّ منها إلى القرينة ، بأنّ القرينة في المجاز مانعة ، وفي الكناية ليست بمانعة.

(٣) أي قدّم المجاز على الكناية في البحث والتّبويب ، وهذا جواب عمّا يقال من أنّ إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في الوضوح إنّما يتأتّى بالدّلالة العقليّة ، وهي منحصرة هنا في المجاز والكناية ، فيكون المقصود من الفنّ منحصرا فيهما ، وحينئذ فهما مستويان في المقصوديّة من الفنّ ، فلأيّ شيء قدّم المجاز عليها في الوضع والبحث ، وهلّا عكس الأمر ، ثمّ قوله : «قدّم» ، مبني للمفعول.

(٤) وذلك لقيام قرينة على عدم إرادة الملزوم بخلاف الكناية ، حيث يجوز أن يكون المراد بها اللّازم والملزوم جميعا.

(٥) أي وإن كان المقصود بالأصالة اللّازم ، فلا يلزم استعمال اللّفظ في الأكثر على نحو ممنوع.

(٦) لأنّ الكلّ متوقّف على الجزء في الوجود ، بمعنى أنّه لا يوجد إلّا مع وجود طبيعة الجزء لتركّبه منها ومن غيرها ، ولذا يحكم العقل بأنّ الجزء من شأنه أن يتقدّم في نفس الأمر على الكلّ ، وذلك معنى التّقدّم الطّبيعي.

(٧) أي ليحصل التّطابق بين الطّبع والوضع.

(٨) أي ولم يقل لأنّ معناه جزء معناها ، لظهور أنّ المجاز ليس جزء معنى الكناية ، لأنّها ليست مركّبة حقيقة كي يكون المجاز جزء معناها.

٣٢٩

[ثمّ منه] أي من المجاز [ما يبتنى على التّشبيه (١)] وهو الاستعارة الّتي كان أصلها (٢) التّشبيه [فتعيّن التّعرض له] أي للتّشبه أيضا (٣) قبل التّعرض للمجاز الّذي أحد أقسامه الاستعارة المبنيّة على التّشبيه ولما كان (٤) في التّشبيه مباحث كثيرة ، وفوائد جمّة لم يجعل مقدّمة لبحث الاستعارة بل جعل مقصدا برأسه [فانحصر] المقصود (٥) من علم البيان [في الثّلاثة] التّشبيه والمجاز والكناية. [التّشبيه] أي (٦) هذا باب التّشبيه الاصطلاحي المبنيّ عليه الاستعارة.

________________________________________

(١) هذا إشارة إلى أنّ المجاز على قسمين : الاستعارة والمجاز المرسل ، والأوّل يبتني على التّشبيه دون الثّاني.

(٢) أي أساس الاستعارة هو التّشبيه ، لأنّها عبارة عن ذكر المشبّه به وإرادة المشبّه.

توضيح ذلك أنّ الاستعارة متقوّمة على التّشبيه ، وإدخال المشبّه في جنس المشبّه به ادّعاء ، ـ مثلا إذا قلنا : رأيت أسدا يرمي ، فأوّلا نشبّه في أنفسنا الرّجل الشّجاع بالحيوان المفترس ، ونبالغ في التّشبيه بحيث ندّعي أنّه فرد من أفراده ، ثمّ نترك أركان التّشبيه عند التّكلّم ، وإبراز ما في القلب عدا لفظ المشبّه به ، فنذكره ونريد منه المشبّه ، فهذا الذّكر هو الاستعارة ، ولا ريب أنّ التّشبيه سابق عليها ، وأساس لها في صقع النّفس.

(٣) أي كما تعيّن التّعرض للمجاز والكناية ، قوله : «فتعيّن التّعرض له» يقتضي أنّ التّعرض للتّشبيه ليس لذاته ، بل لبناء الاستعارة عليه فينافي ما سيأتي من جعله مقصودا لذاته لاشتماله على مباحث كثيرة ، وفوائد جمّة ، لأنّه يقتضي أنّ التّعرض له لذاته ، ويمكن منع المنافاة والجمع بينهما ، بأنّ التّعرض له لذاته إنّما هو من حيث اشتماله على ما ذكر من المباحث والفوائد ، والتّعرض له لغيره إنّما هو من حيث توقّفه عليه.

(٤) هذا جواب عمّا يقال من أنّ مقتضى كون التّشبيه ممّا يبتنى عليه أحد أقسام المجاز أن لا يكون من مقاصد الفنّ ، بل من مقدّماته فكيف جعله بابا من الفنّ ، ولم يجعل مقدّمة للمجاز ، وحاصل الجواب أنّه جعله بابا تشبيها له بالمقصد من جهة كثرة الأبحاث ، وإن كان هو مقدّمة في المعنى.

(٥) والمراد بالمقصود ما يشمل المقصود بالذّات كالمجاز والكناية ، والمقصود بالتّبع كالتّشبيه.

(٦) وهذا التّفسير من الشّارح إشارة إلى أنّ التّشبيه خبر لمبتدأ محذوف بتقدير مضاف ،

٣٣٠

[التّشبيه] أي (١) مطلق التّشبيه أعمّ من أن يكون على وجه الاستعارة (٢) أو على وجه تبتنى عليه الاستعارة (٣)

________________________________________

أعني باب ، فأصل الكلام هذا باب التّشبيه ، ثمّ أشار الشّارح بقوله : «الاصطلاحي» إلى أنّ أل في التّشبيه للعهد الذّكري ، لأنّه ممّا تقدّم له ذكر في قوله : «ثمّ المجاز ما يبتنى على التّشبيه» ، والمراد بالمجاز المبتني على التّشبيه هو الاستعارة ، وهي تبتني على التّشبيه الاصطلاحي لا التّشبيه اللّغوي ، وذلك لأنّ استعارة اللّفظ إنّما تكون بعد المبالغة في التّشبيه ، وإدخال المشبّه في جنس المشبّه به.

ثمّ المراد بالتّشبيه الاصطلاحي الّذي هو أحد أقسام المقصود الثّلاثة ما كان خاليا عن الاستعارة ، والتّجريد بأن كان مشتملا على الطّرفين والأداة مثل قولك : زيد كالأسد ، ويبحث عن التّشبيه الاصطلاحي من جهة طرفيه ، وهما المشبّه والمشبّه به ، ومن جهة أداته وهي الكاف وشبهها ، ومن جهة وجهه وهو المعنى المشترك بين الطّرفين الجامع لهما. ومن جهة الغرض منه ، وهو الأمر الحاصل على إيجاده ، ومن جهة أقسامه ، وسيأتي تفصيل هذه الأشياء في محالّها.

(١) أي أل في التّشبيه هنا للجنس ، لا للعهد الذّكري ، ففي كلامه شبه استخدام ، حيث ذكر التّشبيه أوّلا بمعنى أي الاصطلاحي ، ثمّ ذكره ثانيا بمعنى آخر ، أي التّشبيه اللّغوي المتناول للاصطلاحي وغيره ، كما أشار إليه بقوله : «أعمّ من أن يكون على وجه الاستعارة» ، وإنّما تعرّض لتعريف مطلق التّشبيه الّذي هو التّشبيه اللّغوي ، مع أنّ الّذي من مقامه علم البيان إنّما هو الاصطلاحي لينجرّ الكلام منه إلى تحقيق المصطلح عليه ، فتتمّ الفائدة بالعلم بالمنقول عنه ، أي التّشبيه اللّغوي ، والمناسبة بينهما.

(٢) أي بالفعل وهو قسم من المجاز ، كما في قولك : رأيت أسدا بيده سيف ، حيث إنّ الاستعارة في هذا المثال تكون بالفعل ، وذلك لحذف الأداة والمشبّه.

(٣) أي بأن تكون الاستعارة بالقوّة ، وهو التّشبيه المذكور فيه الطّرفان والأداة ، نحو : زيد كالأسد ، أو كان زيدا أسدا ، وهذا هو المقصود ، ووجه بناء الاستعارة على هذا التّشبيه أنّه إذا حذف المشبّه وأداة التّشبيه ، وأقيمت قرينة على أنّ المراد هو الرّجل الشّجاع صار لفظ المشبّه به استعارة ومجازا بعد ما كان حقيقة.

٣٣١

أو غير ذلك (١) فلم يأت (٢) بالضّمير لئلّا يعود إلى التّشبيه المذكور الّذي هو أخصّ (٣).

وما (٤) يقال : إنّ المعرفة إذا أعيدت كانت عين الأوّل

________________________________________

(١) أي بأن كان التّشبيه ضمنيّا كما في بعض صور التّجريد ، نحو قولك : لقيت من زيد أسدا ، فأنت في الأصل شبّهت زيدا بأسد ، ثمّ بالغت في كون زيد شجاعا ، حتّى انتزعت منه الأسد ، وإنّما كان هذا تشبيها ضمنيّا لذكر الطّرفين فيه ، فهو أقرب إلى التّشبيه من الاستعارة ، فيمكن التّحويل في الطّرفين إلى هيئة التّشبيه الحقيقي.

(٢) أي فلم يأت المصنّف بالضّمير بأن يقول : التّشبيه هو لدلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى «لئلّا يعود إلى التّشبيه المذكور الّذي هو أخصّ» ، أي لئلّا يعود الضّمير إلى التّشبيه الاصطلاحي الغير المراد هنا ، لأنّ المراد والمقصود هو تعريف مطلق التّشبيه لا التّشبيه الاصطلاحي.

(٣) أي التّشبيه الاصطلاحي المذكور أخصّ من مطلق التّشبيه ، أعني التّشبيه بالمعنى اللّغوي ، لا يخفى أنّ كون التّشبيه الاصطلاحي من مقاصد علم البيان الباحث عن أحوال اللّفظ العربي من حيث وضوح الدّلالة ، يقتضي أن يكون عبارة عن اشتراك شيئين في المعنى الّذي هو مدلول الكلام ، أو الكلام الدّالّ على اشتراك شيئين في معنى ، والتّشبيه اللّغوي كما يأتي عبارة عن فعل المتكلّم ، فبينهما مباينة كلّيّة ، فأين الأخصّيّة؟

وقد يجاب بأنّ المصنّف لما فسّر التّشبيه الاصطلاحي أيضا بفعل المتكلّم حيث جعل جنسه التّشبيه اللّغوي كان أخصّ منه.

لا يقال : إنّ جعل التّشبيه الاصطلاحي عبارة عن فعل المتكلّم ، وأخصّ من التّشبيه اللّغوي ينافي كونه من مقاصد هذا الفنّ لأنّه إنّما يبحث فيه عن أحوال اللّفظ العربي وفعل المتكلّم ليس من الألفاظ.

فإنّه يقال : إنّه يكفي في كونه من مقاصد هذا الفنّ كون البحث فيه عمّا يتعلّق به من الطّرفين ، ووجه الشّبه وأداته ، والغرض منه بحثا عن أحوال اللّفظ.

إلى التّشبيه المذكور ، فلا يصحّ تفسير التّشبيه بمطلق التّشبيه ، لأنّه عين التّشبيه المذكور الّذي هو أخصّ ، والخاصّ من حيث إنّه خاصّ لا يكون عامّا فأين الأخصّيّة والأعمّيّة.

(٤) هذا جواب عن سؤال وارد على قوله : «فلم يأت بالضّمير ...» ، تقريب السّؤال أنّ المعرفة

٣٣٢

فليس (١) على إطلاقه يعني أنّ معنى التّشبيه (٢) في اللّغة [الدّلالة] هو مصدر قولك : دلّلت فلانا على كذا ، إذا هديته له (٣) [على مشاركة أمر لأمر في معنى (٤)] فالأمر الأوّل هو المشبّه ، والثّاني هو المشبّه به ، والمعنى هو وجه الشّبه وهذا (٥) شامل لمثل

________________________________________

إذا أعيدت كانت عين الأوّل ، فالظّاهر حينئذ كالضّمير ، أي فكما إذا أتى بالضّمير يعود إلى التّشبيه المذكور ، فكذلك إذا أتى به اسم الظّاهر المعرّف باللّام ، لأنّ اللّام إشارة وحاصل الجواب : إنّ العينيّة عند الإعادة مقيّدة بعدم القرينة على المغايرة ، وأمّا إن وجدت قرينة على المغايرة ، كما في المقام فالتّعويل عليها.

(١) أي بل أكثري ليس له الكلّيّة ، وبعبارة أخرى بل مقيّد بما إذا لم تقم قرينة على المغايرة كما هنا ، فإنّ القرينة هنا على المغايرة قوله : «والمراد ههنا ما لم تكن على وجه الاستعارة التّحقيقيّة ...» ، فإنّ هذا الكلام يقتضي أنّ الثّاني غير الأوّل ، وكذلك العدول من الضّمير إلى الظّاهر ، مع كون المقام يقتضي ذكر الضّمير لسبق المرجع قرينة على المغايرة.

(٢) أي الّذي هو مصدر شبّه ، بدليل تفسير الشّارح الدّلالة بقوله : هو مصدر ... ، أفاد الشّارح أنّ الدّلالة المرادة هنا صفة للمتكلّم ، كما أنّ التّشبيه كذلك ، إذ معنى التّشبيه هو أن يدلّ المتكلّم على مشاركة أمر لأمر في معنى ، وليست الدّلالة صفة الدّالّ ، أعني انفهام المعنى منه ، إذ لا يصحّ حملها بهذا المعنى على التّشبيه الّذي هو فعل المتكلّم ، فالحاصل إنّ الشّارح أراد بقوله : «هو مصدر قولك دلّلت فلانا» أن يبيّن المراد بالدّلالة الّتي هي صفة المتكلّم لا الدّلالة الّتي هي صفة اللّفظ فإنّها لا يصحّ حملها على التّشبيه ، لكونه فعل المتكلّم.

(٣) أي إليه.

(٤) أي في وصف ، احترز به عن المشاركة في عين ، نحو شارك زيد عمرا في الدّار ، فإنّه ليس تشبيها.

(٥) أي تعريف التّشبيه اللّغوي في كلام المصنّف بقوله : «الدّلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى» ، شامل لمثل : قاتل زيد عمرا ، فإنّه يدلّ على مشاركة زيد لعمرو في المقاتلة ، وجاء زيد وعمرو ، فإنّه يدلّ على مشاركتهما في المجيء ، ومثلهما زيد أفضل من عمرو ، فإنّه يدلّ على اشتراكهما في الفضل ، فإنّ جميع الأمثلة المذكورة ما يصدق عليه أنّه مشاركة أمر لأمر في معنى ، مع أنّه لا يسمّى شيء منها تشبيها لغويّا ، فكان الواجب على المصنّف أن يزيد في

٣٣٣

قاتل زيد عمرا ، وجاءني زيد وعمرو ، [والمراد] بالتّشبيه المصطلح عليه [ههنا] أي في علم البيان [ما لم تكن] أي الدّلالة (١) على مشاركة أمر لأمر في معنى بحيث لا تكون (٢) [على وجه الاستعارة التّحقيقيّة] نحو : رأيت أسدا في الحمّام (٣) [ولا على] وجه [الاستعارة بالكناية (٤)] نحو : أنشبت المنيّة أظفارها [و] لا على وجه [التّجريد] الّذي

________________________________________

التّعريف قولنا : بالكاف ونحوه لفظا أو تقديرا ، لإخراج الأمثلة المذكورة ، وإدخال زيد أسد ، حيث إنّه بتقدير الكاف ، أي زيد كالأسد ، فقد اتّضح لك أنّ مقصود الشّارح من قوله : «وهذا شامل لمثل ...» ، هو الاعتراض على تعريف التّشبيه اللّغوي في كلام المصنّف.

وقيل إنّ مراد الشّارح هو بيّان الواقع لا الاعتراض على التّعريف ، وقد يجاب بأنّ ما عرّف به المصنّف من باب التّعريف الأعمّ ، وهو شائع عند أهل اللّغة ، أو يقال إنّ مراد المصنّف من الدّلالة في تعريف التّشبيه هي الدّلالة الصّريحة ، فخرج ما ذكر من المثالين ، فإنّ الدّلالة فيهما على المشاركة ليست صريحة ، وذلك لأنّ مدلول الأوّل هو صراحة وجود المقاتلة من زيد ، وتعلّقها بعمرو ، ويلزم من ذلك مشاركتهما فيها ، ومدلول الثّاني صراحة ثبوت المجيء لزيد ووجوده لعمرو يلزم ذلك أيضا مشاركتهما فيه.

فخرج ما ذكر من المثالين من التّعريف بعد اعتبار كون الدّلالة على المشاركة صريحة ، لأنّ الدّلالة على المشاركة فيهما ليست صريحة.

(١) أي دلالة المتكلّم السّامع.

(٢) أي لا تكون الدّلالة المفادة بالكلام على وجه الاستعارة التّحقيقيّة. أي فإن كانت تلك الدّلالة على وجه الاستعارة المذكورة بأن طوى ذكر المشبّه ، وذكر لفظ المشبّه به مع قرينة دلّت على إرادة المشبّه ، فذلك اللّفظ لم يكن تشبيها في الاصطلاح ، ومثال ذلك نحو : رأيت أسدا في الحمام.

(٣) يمكن أن يكون مثالا للمنفي ، أعني الاستعارة التّحقيقيّة ، ويمكن أن يكون مثالا للتّشبيه ، فالمعنى نحو التّشبيه المدلول عليه بقولك : رأيت أسدا في الحمّام.

(٤) أي الاستعارة بالكناية عند المصنّف عبارة عن التّشبيه المضمر في النّفس بأن لا يصرّح بشيء من أركانه سوى المشبّه ، ويدلّ على ذلك التّشبيه المضمر بأن يثبت للمشبّه أمر مختص بالمشبّه به ، «نحو أنشبت المنيّة أظفارها» ، والأمر المختصّ بالمشبّه به الدّالّ على ذلك

٣٣٤

يذكر في علم البديع (١) من نحو لقيت بزيد أسدا ، أو لقيني أسد ، فإنّ في هذه الثّلاثة (٢) دلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى مع أنّ شيئا منها (٣) لا يسمّى تشبيها اصطلاحا وإنّما قيّد

________________________________________

التّشبيه المضمر في النّفس هو الأظفار ، ولا يخفى عليك أنّ الاستعارة بالكناية إنّما هي نفس إضمار التّشبيه ، لا إثبات الأظفار ، فإنّ إثباتها كما يأتي عن قريب استعارة تخييليّة ، والاستعارة بالكناية هنا هي استعارة المنيّة للسّبع ، ثمّ إثبات الأظفار للمنيّة استعارة تخييليّة.

(١) والمذكور في علم البديع أنّ التّجريد قسمان :

الأوّل : أن ينتزع من الشّيء شيء آخر مساو له في صفاته للمبالغة في ذلك الشّيء حتّى صار بحيث ينتزع منه شيء آخر مساو له في صفاته ، كقوله تعالى : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ)(١) ، فإنّه مسوق لانتزاع دار الخلد من جهنّم ، وهي عين دار الخلد لا شبيهة بها ، وهذا ليس فيه مشاركة أمر لأمر آخر حتّى يحتاج لإخراجه ، فإنّ المجرّد عين المجرّد منه ، والمشاركة تقتضي المغايرة بين الشّيئين.

والثّاني : أن ينتزع منه المشبّه به ، نحو لقيت بزيد أسدا ، فإنّه لتجريد الأسد من زيد ، وأسد مشبّه به لزيد لا عينه ، ففيه تشبيه مضمر في النّفس ، فيحتاج إلى الاحتراز عنه ، ثمّ إخراجه إنّما هو بناء على أنّه لا يسمّى تشبيها اصطلاحا ، وهو الأقرب ، إذا لم يذكر فيه الطّرفان على وجه ينبئ عن التّشبيه ، وأمّا بناء على ما قيل من أنّه تشبيه ، حيث ذكر فيه الطّرفان فلا حاجة إلى إخراجه ، بل الواجب إدخاله لئلّا يبطل التّعريف طردا ، ثمّ أصل قوله : لقيت من زيد أسدا لقيت زيدا المماثل للأسد ، ثمّ بولغ في تشبيهه به حتّى أنّه جرّد من زيد ذات الأسد ، وجعلت منتزعة منه.

(٢) أي الاستعارتين والتّجريد.

(٣) أي مع أنّ شيئا من الثّلاثة لا يسمّى تشبيها في الاصطلاح ، أي لا يسمّى شيء منها تشبيها اصطلاحا فقدّم معمول يسمّى عليها ، ولو أخّره ليكون في حيّز النّفي لكان أوضح ، وإنّما لم يسمّ شيء من هذه تشبيها اصطلاحيّا. لأنّ التّشبيه في الاصطلاح ما كان بالكاف ونحوها لفظا أو تقديرا ، هذا ما ذهب إليه المصنّف ، وخالفه السّكاكي في التّجريد ، أعنى : ثالث الثّلاثة ،

__________________

(١) سورة فصّلت : ٢٨.

٣٣٥

الاستعارة بالتّحقيقيّة والكناية (١) لأنّ الاستعارة التّخييليّة كإثبات الأظفار للمنيّة في المثال المذكور ليس فيه شيء من الدّلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى على (٢)

________________________________________

فإنّه صرح بأنّ نحو : لقيت بزيد أسدا ، أو لقيني أسد من قبيل التّشبيه.

وكيف كان فقوله «لا يسمّى تشبيها اصطلاحيّا» أي وإن وجد فيهما معنى التّشبيه نعم ، هو تشبيه لغوي ، وهو أعمّ من الاصطلاحي ، فكلّ تشبيه اصطلاحي تشبيه لغوي ولا عكس ، فيجتمعان في زيد أسد ، وينفرد اللّغوي في الاستعارة والتّجريد.

(١) أي حاصل الكلام في المقام أنّ المصنّف إنّما قيّد الاستعارة بالتّحقيقيّة والمكنّى عنها ، واكتفى بذكرهما ولم يقل : ولا على وجه الاستعارة التّخييليّة ، لأنّها حقيقة عند المصنّف مستعمل في معناه الحقيقي ، وليس مجازا أصلا ، وإنّما التّجوّز في إثباتها للمنيّة.

وبعبارة أخرى : إنّ الاستعارة التّخييليّة هي مجرّد إثبات لازم المشبّه به للمشبّه بعد ادّعاء كونه عينه عند المصنّف ، فهذا اللّازم مستعمل في معناه الحقيقي ، ولم يشبّه بشيء ولا تجوّز فيه ، فإذا لا تكون الاستعارة التّخييليّة داخلة في الجنس ، أي الدّلالة على المشاركة حتّى يحتاج إلى إخراجها ، هذا ما أشار إليه بقوله «ليس فيه شيء من الدّلالة» أي فهي غير داخلة في المراد بما في قوله : «ما لم تكن ...» حتّى يحتاج إلى أن يقول : ولا على وجه الاستعارة التّخييليّة.

(٢) يحتمل أن يكون متعلّقا بإثبات ، فالمعنى أنّ الاستعارة التّخييليّة عند المصنّف موافقا للسّلف ، إثبات لازم المشبّه به للمشبّه بعد ادّعاء كونه عينه ، فلا تشبيه إلّا في الاستعارة بالكناية ، ويحتمل أن يكون الظّرف متعلّقا بالنّفي ، أي انتفاء الدّلالة على المشاركة في التّخييليّة على رأي المصنّف ، لا على رأي السّكّاكي ، ففيها ذلك إذ الاستعارة التّخييليّة عند السّكّاكي هو إطلاق اسم المشبّه به على المشبّه الوهمي مثلا في المثال أطلق لفظ الأظفار على المشبّه ، وهو صورة وهميّة شبيهة بصورة الأظفار المحقّقة ، والقرينة إضافتها إلى المنيّة ، وحقيقة ذلك أنّه لما شبّه المنيّة بالسّبع في اغتيال النّفوس أخذ الوهم في تصويرها بصورته ، واختراعه لوازمها له ، فاخترع لها مثل صورة الأظفار ، ثمّ أطلق لفظ الأظفار ، ففيه عندئذ الدّلالة على مشاركة أمر وهو الصّورة الوهميّة لأمر آخر ، وهو ما يراد من الأظفار حقيقة في معنى ، وهي الهيئة الخاصّة ، فإذا لا بدّ على مسلكه من زيادة قيد لا على وجه الاستعارة التّخييليّة لإخراجها عن التّشبيه.

٣٣٦

رأى المصنّف إذ المراد بالأظفار (١) ههنا معناها الحقيقي على ما سيجيء ، فالتّشبيه الاصطلاحي هو الدّلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى لا على وجه الاستعارة التّحقيقيّة ، والاستعارة بالكناية والتّجريد [فدخل فيه (٢) نحو قولنا : زيد أسد] بحذف أداة التّشبيه [و] نحو [قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) بحذف الأداة والمشبّه جميعا ، أي هم كصمّ (٣) فإنّ (٤)

________________________________________

(١) أي عند المصنّف ، وحينئذ فالتّجوّز إنّما هو الإسناد فالتّخييليّة على رأي المصنّف مجاز عقليّ ، ولذا لم يخرجها ، وأمّا عند السّكّاكي فالتّجوّز في نفس الأظفار ، فهي داخلة في الجنس ، وهو الدّلالة المذكورة ، فلو حذف قوله : «التّحقيقيّة» وما بعدها ، واقتصر على قوله : «على وجه الاستعارة» كان أخصر وأشمل لدخول التّخييليّة عند السّكّاكي ، وقول الشّارح : «على ما يسجى» إشارة إلى ما يأتي من الخلاف بين السّكاكي وغيره.

(٢) أي في التّشبيه الاصطلاحي ، أي فدخل في تعريف التّشبيه الاصطلاحي ما يسمّى تشبيها بلا خلاف ، وهو ما ذكر فيه أداة التّشبيه ، نحو : زيد كالأسد ، وما يسمّى تشبيها على القول المختار ، وهو ما حذف فيه أداة التّشبيه ، وجعل المشبّه به خبرا عن المشبّه ، أو في حكم الخبر ، سواء كان مع ذكر المشبّه أو مع حذفه ، فالأوّل نحو قولنا : زيد أسد ، والثّاني نحو قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)(١) ، وهذه الآية سيقت لذمّ المنافقين ، أي هؤلاء المنافقون صمّ لا يسمعون الحقّ ، بكم لا ينطقون به ، عمي لا يبصرونه ، فهم لا يرجعون عن ضلالتهم وكفرهم الباطني ، وإنّما شبّههم الله بالصّمّ لأنّهم لا يحسنوا الإصغاء إلى أدلّة الله تعالى ، فكأنّهم صمّ ، ولم يقروا بالله ورسوله فكأنّهم بكم ، ولم ينظروا إلى ما يدلّ على توحيده ونبوّة نبيّه ، فكأنّهم عمي ، إذ لم تصل منفعة هذه الأعضاء إليهم ، فكأنّهم ليس لهم هذه الأعضاء. والشّاهد : هو حذف الأداة والمشبّه معا.

(٣) كان في الأصل هم كصم بكم عمي.

(٤) علّة لدخول ما ذكر من المثال والآية في التّعريف حيث إنّ المحقّقين كالشّيوخ الأربعة ، أي عبد القاهر والسّكّاكي والزّمخشري والقاضي حسين الجرجاني ، قالوا بأنّ ما ذكر من المثالين ، أي زيد أسد ، و (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) تشبيه بليغ ، لا استعارة ، والمراد بالتّشبيه البليغ أن يحمل المشبّه به على المشبّه.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٨.

٣٣٧

المحقّقين على أنّه (١) تشبيه بليغ لا استعارة لأنّ الاستعارة إنّما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له (٢) بالكلّيّة ويجعل الكلام خلوا عنه (٣) صالحا (٤) لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه ، لو لا دلالة (٥) الحال أو فحوى الكلام.

________________________________________

(١) أي ما ذكر من المثال والآية.

(٢) أي المشبّه ، كالرّجل الشّجاع في : رأيت أسدا في الحمّام ، ومراده بذكره ههنا ذكره على نحو ينبئ عن التّشبيه لا مطلقا ، ثمّ إنّ طيّ ذكر المستعار له ، إنّما هو في الاستعارة التّصريحيّة لا في المكنيّة ، فإنّه إنّما يطوي فيها ذكر المشبّه به ، وإمّا المشبّه فيذكر فيها ، وإنّما اقتصر هنا على ذلك ، لأنّ كلا من المثال والآية على فرض أنّهما استعارة تصريحيّة لا مكّنيّة بالكلّيّة أي من اللّفظ والتّقدير ، ولا شكّ أنّ المشبّه في المثال الأوّل ملفوظ وفي الآية مقدر ، لأنّه مبتدأ محذوف.

(٣) أي يجعل الكلام خاليا عن المستعار له ، فهذا ، أي قوله : «ويجعل ...» عطف على قوله : «يطوى ...» عطف تفسير ، والحاصل إنّ الاستعارة إنّما هي عندما يطوى ذكر المستعار له بالكلّيّة ، والمثال والآية ليسا كذلك ، فإنّ المستعار له مذكور في المثال صريحا ، وفي الآية تقديرا.

(٤) حال عن الكلام ، أي حال كون الكلام صالحا «لأن يراد به» أي بلفظ المشبّه به المذكور فيه «المنقول عنه» أي المشبّه به المستعار منه ، كالأسد «والمنقول إليه» أي المشبّه المستعار له ، كزيد مثلا.

(٥) أي يجعل الكلام الخالي عن المستعار له صالحا لإرادة المنقول عنه أي الحيوان المفترس ، والمنقول إليه أي الرّجل الشّجاع ـ مثلا ـ لفظ الأسد صالح لهما ، لو لا القرينة الدّالّة على أنّ المراد هو المنقول إليه ، أي الرّجل الشّجاع.

ثمّ تلك القرينة إما حاليّة أو مقاليّة ، والأولى ما أشار إليه بقوله : «دلالة الحال» كقولنا : رأيت أسدا ، إذا كان المراد رؤيته في موضع لا يمكن وجود الحيوان المفترس فيه ، فلو لا هذه القرينة كان الكلام صالحا لإيراد بلفظ الأسد معناه الحقيقي ، أي الحيوان المفترس ، وأن يراد به معناه المجازي المشبّه ، أي الرّجل الشّجاع ، والثّانية ما أشار إليه بقوله : أو فحوى الكلام كقولنا : رأيت أسدا في يده سيف ، فلو لا هذه القرينة اللّفظيّة أعني بيده سيف ، كان الكلام صالحا

٣٣٨

[والنّظر ههنا في أركانه] أي البحث (١) في هذا المقصد (٢) عن أركان التّشبيه المصطلح عليه [وهي (٣) أربعة [طرفاه] أي المشبّه والمشبّه به (٤) ،

________________________________________

للمعنيين.

ثمّ تسميّة القرينة المقاليّة بفحوى الكلام على خلاف المصطلح عند الأصوليّين ، لأنّ فحوى الكلام عندهم عبارة عن مفهوم الموافقة ، أي المفهوم الموافق حكمه لحكم المنطوق إيجابا وسلبا ، وإنّما سمّيت بذلك ، لأنّ فحوى الكلام في الأصل واللّغة معناه ومذهبه كما في المصباح والقاموس والقرينة المقاليّة معنى لفظ ذكر مع اللّفظ المجازي يمنع من إرادة الموضوع له.

ثمّ اعترض على عبارة الشّارح بأنّها تفيد أنّ الكلام المشتمل على لفظ المستعار منه صالح لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه عند عدم القرينة ، وليس الأمر كذلك ، فإنّه عند عدم القرينة يتعيّن حمله على المنقول عنه ، وهو المعنى الحقيقي فهو غير صالح لإرادة المنقول إليه ، لأنّه لا يراد به المنقول إليه إلّا بواسطة القرينة ، ولا قرينة في الفرض.

وأجيب عن هذا الاعتراض بما حاصله من أنّ عدم القرينة المانعة إنّما يوجب عدم صحّة حمل الكلام على إرادة المنقول إليه ، لأنّها خلاف الظّاهر ، وبناء العقلاء استقرّ على حمل اللّفظ على ما هو الظّاهر فيه لا عدم احتمال إرادته وصلاحيتها إذ قد تقرّر في محلّه أنّ كلّ حقيقة تحتمل المجاز ، وأن كان احتمالا مرجوحا ، فما ذكره الشّارح من أنّ لفظ المشبّه به عند انتقاء القرينة صالحة إرادة المستعار له ، والمستعار منه لا غبار عليه.

(١) أي هذا التّفسير إشارة إلى أنّ المراد بالنّظر ، هو البحث على سبيل المجاز المرسل من إطلاق اسم السّبب على المسبّب ، فإنّ البحث إثبات المحمولات للموضوعات ، وهذا يستلزم وهو توجيه العقل إلى أحوال المنظور فيه.

(٢) أي مقصد التّشبيه.

(٣) أي الأركان الأربعة.

(٤) المراد بهما معناهما لا اللّفظ الدالّ عليهما بقرينة ما سيجيء فإنّ العقلي هو معناهما لا اللّفظ الدّالّ عليهما.

٣٣٩

[ووجهه (١)] وأداته (٢) ، وفي الغرض (٣) منه وفي أقسامه] ، وإطلاق (٤) الأركان على الأربعة المذكورة إمّا باعتبار أنّها مأخوذة في تعريفه ، أعني الدّلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى بالكاف نحوه ، وإمّا باعتبار أنّ التّشبيه في الاصطلاح كثيرا ما يطلق على الكلام الدّالّ على المشاركة المذكورة كقولنا : زيد كالأسد في الشّجاعة (٥) ، ولما كان

________________________________________

(١) أي المعنى المشترك الجامع بين الطّرفين.

(٢) المراد بأداة التّشبيه إمّا معاني الألفاظ الدّالّة على التّشبيه ، وإما نفس تلك الألفاظ ، والأوّل أحسن الحصول المناسبة بينهما وبين ما قبلها.

(٣) أي في لأمر الباعث على إيجاده ، وهذا عطف على قوله : «وفي أركانه» ، فالغرض ليس من الأركان ، والمراد بأقسام التّشبيه هي الأقسام الحاصلة باعتبار الطّرفين ، وباعتبار الغرض ، وباعتبار الأداة على ما يأتي تفصيله.

(٤) قوله :

«وإطلاق الأركان ...» ، جواب عن سؤال مقدّر ، تقريره أنّ التّشبيه الاصطلاحي هو الدّلالة على مشاركة أمر لأمر آخر ، في معنى بالكاف ونحوه فهو فعل الفاعل ، وكلّ واحد من هذه الأمور الأربعة قيد له ، وليس مأخوذ فيه على نحو الشّطريّة والجزئيّة ، فإذا لا وجه لجعلها أركانا له ، لأنّ ركن الشّيء ما كان جزءا مقوّما لحقيقته كالرّكوع والسّجود بالقياس إلى الصّلاة.

وحاصل الجواب :

إنّ المراد بالرّكن هنا ما يتوقّف عليه حصول الشّيء ، وإن لم يكن داخلا في حقيقته ، وهذه الأمور بما أنّها مأخوذة في تعريفه على أنّها قيود له صارت ممّا يتوقّف عليه حصول التّشبيه ، فيصحّ إطلاق الرّكن عليها بهذا الاعتبار ، وأيضا إنّ التّثنيّة في الاصطلاح كثيرا ما يطلق على الكلام الدّالّ على المشاركة الموصوفة ، لا بمعنى الدّلالة عليها ، ولا شكّ أنّ الأمور الأربعة أجزاء للكلام الدّالّ عليه ، ونعني بالكلام ما يرادف الجملة ، فعلى هذا التّوجيه لا بدّ من الالتزام بالاستخدام في الضّمير الكائن في قوله : «وأركانه» بأن يكون المراد منه الكلام الدّالّ على المشاركة المذكورة بعد ما كان المراد بالتّشبيه سابقا الدّلالة المذكورة ، وهو فعل المتكلّم.

(٥) أي كثيرا ما يطلق مثل هذا الكلام تشبيها بتسميّة الدّالّ باسم المدلول.

٣٤٠