دروس في البلاغة - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

[يعرف به إيراد المعنى الواحد (١)] ، أي المدلول عليه (٢) بكلام مطابق لمقتضى الحال [بطرق] وتراكيب (٣) [مختلفة في وضوح الدّلالة عليه (٤)]

________________________________________

(١) أي كلّ معنى واحد يدخل تحت قصد المتكلّم ، فاللّام للاستغراق ، واحترز بالواحد عن علم المعاني ، لأنّ علم المعاني علم يعرف به إيراد المعنى بكلام مطابق لمقتضى الحال ، وعلم البيان علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بكلام مطابق لمقتضى الحال بطرق مختلفة ، فعلم المعاني بمنزلة المفرد ، وعلم البيان بمنزلة المركّب لأنّ رعاية المطابقة لمقتضى الحال معتبرة في علم البيان ، كما تعتبر في المعاني ، ولكن في البيان مع زيادة شيء ، وهو إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة ، فبقوله : «إيراد المعنى الواحد» حصل الاحتراز عن علم المعاني.

(٢) وهذا التّفسير إشارة إلى أنّ اعتبار علم البيان إنّما هو بعد اعتبار علم المعاني ، فتعتبر فيه لمطابقة لمقتضى الحال ، كما تعتبر في علم المعاني ، فيكون هذا من ذاك بمنزلة المفرد من المركّب.

(٣) عطف تفسير على قوله «طرق».

(٤) أي سواء كانت تلك الطّرق من قبيل الكناية أو المجاز أو التّشبيه ، ومثال إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة من الكناية أن يقال في وصف زيد مثلا بالجود : زيد مهزول الفصيل ، وزيد جبان الكلب ، وزيد كثير الرّماد ، فكلّ واحد من هذه التّراكيب يفيد وصفه بالجود بطريق الكناية ، لأنّ هزال الفصيل إنّما يكون بإعطاء لبنه للضّيوف ، وجبن الكلب لألفه بالإنسان الأجنبي بكثرة الواردين من الضّيوف ، فلا يعادى أحدا ولا يتجاسر عليه ، وهو معنى جبنه ، وكثرة الرّماد من كثرة الإحراق للطّبخ ، وكثرة الطّبخ من كثرة الضّيوف ، وهي مختلفة وضوحا ، وكثرة الرّماد أوضحها ، فيخاطب به عند المناسبة كأن يكون المخاطب لا يفهم بغير ذلك.

ومثال إيراده بطرق مختلفة من باب المجاز والاستعارة أن يقال في وصفه مثلا بالجود : رأيت بحرا في الدّار ، في الاستعارة التّحقيقيّة ، وطمّ زيد بالإنعام جميع الأنام ، في الاستعارة بالكناية ، لأنّ الطّموم وهو الغمر بالماء وصف البحر ، فدلّ على أنّ المتكلّم أضمر تشبيهه بالبحر في النّفس ، وهو معني الاستعارة بالكناية على ما يأتي بيانه ، ولجّة زيد تتلاطم بالأمواج ، لأنّ اللّجّة والتّلاطم بالأمواج من لوازم البحر ، وذلك ممّا يدلّ على إضمار تشبيهه به في النّفس أيضا ، وأوضح هذه الطّرق الأوّل ، وأخفاها الوسط ، ومثال إيراده بطرق مختلفة الوضوح من

٣٠١

أي على ذلك المعنى بأن يكون بعض الطّرق واضح الدّلالة عليه وبعضها أوضح ، والواضح (١) خفيّ بالنّسبة إلى الأوضح ، فلا حاجة إلى ذكر الخفاء ، وتقييد (٢) الاختلاف بالوضوح ليخرج معرفة إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في اللّفظ. والعبارة (٣) ،

________________________________________

التّشبيه زيد كالبحر في السّخاء ، وزيد كالبحر ، وزيد بحر ، وأظهرها ما صرّح فيه بوجه الشّبه ، كالأوّل وأخفاها ما حذف فيه الوجه والأداة معا ، كالأخير فيخاطب بكلّ من هذه الأوجه الكائنة من هذه الأبواب ، بما يناسب المقام من الوضوح والخفاء ، انتهى ما في الدّسوقي مع تصرف ما.

(١) هذا جواب عن سؤال مقدّر ، وهو أن يقال : إنّ اختلاف الطّرق لا بدّ من تقييده من ذكر الخفاء أيضا ، فعلى المصنّف أن يقول بطرق مختلفة في وضوح الدّلالة عليه وخفائها ، لأنّ الاختلاف إنّما يتحقّق بوضوح الدّلالة وخفائها ، لا بوضوحها فقطّ فكما لا بدّ من ذكر الوضوح ، فكذلك لا بدّ من ذكر الخفاء ، وحاصل الجواب أنّ الواضح خفيّ بالنّسبة إلى الأوضح ، فيتحقّق الاختلاف وحينئذ لا حاجة إلى ذكر الخفاء.

(٢) قوله : «وتقييد الاختلاف» مبتدأ ، وقوله : «ليخرج معرفة ...» خبره ، أي ليخرج عن كونها مشمولة لعلم البيان.

(٣) أي بأن تكون الطّرق مختلفة في اللّفظ والعبارة دون الوضوح والخفاء ، وذلك مثل إيراد المعنى الواحد بألفاظ مترادفة ، كالتّعبير عن الحيوان المفترس بالأسد ، والغضنفر ، واللّيث ، وكالتّعبير عن كرم زيد بقولنا : زيد كريم ، وزيد جواد ، فمعرفة إيراد المعنى المذكور بهذه الطّرق ليست من علم البيان ، وعطف «العبارة» على «اللّفظ» من عطف المرادف.

وحاصل الكلام في المقام :

أنّ تقييد المصنّف الاختلاف بوضوح الدّلالة مخرج لمعرفة إيراد المعنى الواحد بتراكيب مختلفة في اللّفظ متماثلة في الوضوح ، وذلك بأن يكون اختلافهما بألفاظ مترادفة ، إذ التّفاوت في الوضوح لا يتصوّر في الألفاظ المترادفة ، لأنّ الدّلالة فيها وضعيّة ، فلا يتحقّق الاختلاف إذا عرف المخاطب بوضعها.

٣٠٢

واللّام في المعنى الواحد للاستغراق العرفي (١) أي كلّ معنى واحد يدخل تحت قصد المتكلّم وإرادته ، فلو (٢) عرف أحد إيراد معنى قولنا : زيد جواد ، بطرق مختلفة ، لم يكن بمجرّد (٣) ذلك عالما بالبيان ، ثمّ لما (٤) لم يكن كلّ دلالة قابلا للوضوح والخفاء أراد أن يشير (٥) إلى تقسيم الدّلالة وتعيين ما هو المقصود ههنا (٦) ،

________________________________________

(١) أي لا الاستغراق الحقيقي ، وذلك لامتناع الاستغراق الحقيقي ، فإنّ المعاني أمور غير متناهيّة ، والقوى البشريّة متناهية ، فلا يمكن لأحد أن يدركها بأسرها ، ويقتدر بإيرادها على طرق مختلفة. على أنّه ليس لبعض المعاني إلّا طريق واحد ، فلا معنى لإيراده بطرق مختلفة ، أو له طرق متساوية ، وعدم المعهود الخارجي ، وعدم صحّة العهد الذّهني ، لأنّه في المعنى كالنّكرة ، فيلزم كون كلّ من له ملكة إيراد معنى من المعاني في طرق مختلفة عالما بعلم البيان ، وهو باطل قطعا ، وعدم صحّة الجنس ، إذ يلزم أحد الأمرين على تقدير إرادته ، ويلزم الأمر الأوّل أعنى الامتناع على فرض تحقّق الجنس في جميع الأفراد ، ويلزم الثّاني أي كون كلّ من له ملكة ... على تقدير فرض وجود الجنس في الفرد الغير المعين ، فإذا لا بدّ من حمل اللّام على الاستغراق العرفي ، بأن يقال : المراد به كلّ معنى يتعلّق به قصد المتكلّم.

(٢) تفريع على كون اللّام للاستغراق العرفي ، أي فلو عرف أحد إيراد معنى واحد بطرق مختلفة من دون أن تكون له تلك الملكة لم يكن عالما بالبيان.

(٣) أي بل لا بدّ من معرفة إيراد كلّ معنى دخل تحت قصده وإرادته.

(٤) أي لما كان التّعريف مشتملا على ذكر الدّلالة ، ولم يكن كلّ دلالة قابلا للوضوح والخفاء ، بل منها ما لا يكون إلا واضحا ، كالدّلالة الوضعيّة ، ومنها ما يكون قابلا للوضوح والخفاء وهو العقليّة.

(٥) المراد بالإشارة ، أي أراد أن يذكر تقسيم الدّلالة ، والمقصود من ذكر هذا التّقسيم التّوصل إلى بيان ما هو المقصود ، فقوله : «وتعيين» عطف على التّقسيم ، عطف المسبّب على السّبب.

(٦) أي في هذا الفنّ.

٣٠٣

فقال : [ودلالة اللّفظ (١)] يعني دلالته (٢) الوضعيّة ، وذلك (٣) لأنّ الدّلالة هي (٤) كون الشّيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر ، والأوّل (٥) الدّال والثّاني المدلول ، ثمّ (٦) الدّالّ إن كان لفظا فالدّلالة لفظيّة.

________________________________________

(١) وإضافة الدّلالة إلى اللّفظ احتراز عن الدّلالة الغير اللّفظيّة ، سواء كانت عقليّة كدلالة الدّخان على وجود النّار ، أو وضعيّة كدلالة الإشارة على معنى نعم ، أو طبيعيّة كدلالة الحمرة على الخجل ، والنّبات على المطر ، فإنّها لا تنقسم إلى الأقسام الآتية.

(٢) أي دلالة اللّفظ الوضعيّة ، خرج بهذا التّفسير دلالة اللّفظ العقليّة ، كدلالة الكلام على حياة المتكلّم ، واللّفظيّة الطّبيعيّة كدلالة أح أح على وجع الصّدر ، فلا ينقسم شيء منهما إلى الأقسام الآتية ، واعترض على الشّارح بأن الدّلالة اللّفظيّة الوضعيّة خاصّة بالمطابقة في اصطلاح البيانيين ، وحينئذ فيلزم على تقسيمهما للأقسام الآتية ، تقسيم الشّيء إلى نفسه ، وإلى غيره لكون المقسم أخصّ من الأقسام.

وأجيب بأن المراد بالوضعيّة ما للوضع فيها مدخل ، سواء كان العلم بالوضع كافيا فيها لكونه سببا تامّا كما في المطابقيّة ، أو لا بدّ معه من انتقال عقلي ، كما في التّضمنيّة والالتزاميّة ، وهذا وجه جعل المناطقة الدّلالات الثّلاث وضعيّات.

(٣) أي وبيان تقسيم الدّلالة ، وتعيين ما المقصود منها هنا «لأنّ الدّلالة» ، أي من حيث هي لا خصوص دلالة اللّفظ.

(٤) أي الدّلالة «كون الشّيء» كلّفظ زيد «بحيث» أي بنحو وكيفيّة «يلزم من العلم به» أي بالشّيء «العلم بشيء آخر».

(٥) أي الشّيء الأوّل يسمّى دالا ، والشّيء الثّاني يسمّى مدلولا ، مثلا دلالة لفظ زيد على مسمّاه ، على كونه بنحو يلزم من العلم به ، كما إذا سمعناه من أحد العلم بمسمّاه ، أي الذّات الخارجي.

(٦) هذا شروع في تقسيم الدّلالة ، وحاصل ذلك أن الدّلالة إمّا لفظيّة وإمّا غير لفظيّة ، والأولى إمّا وضعيّة وإمّا عقليّة وإمّا طبيعيّة ، والمراد بالأولى ما للوضع مدخل فيها ، وهي تنقسم إلى المطابقة والتّضمن والالتزام ، وتسمّى الأولى عندهم بالوضعيّة ، والأخيرتان أعني التّضمن والالتزام بالعقليّة ، والمراد بالثّانية أي العقليّة ، ما للعقل مدخل فيها كدلالة الدّيز المسمّوع

٣٠٤

وإلّا فغير لفظيّة (١) كدلالة الخطوط ، والعقد والإشارات والنّصب (٢) ثمّ الدّلالة اللّفظيّة إمّا أن يكون للوضع مدخل فيها (٣) أو لا (٤) ، فالأولى (٥) هي المقصودة بالنّظر (٦) ههنا (٧)

________________________________________

من وراء الجدار على وجود لافظ ، حيث إنّ العقل يدرك الملازمة بين اللّفظ واللّافظ ، والمراد بالثّالثة ما للطّبع مدخل فيه كدلالة أح أح على وضع الصّدر ، حيث إنّ الطّبع يقتضي صدور أح أح عند عروض الوجع عليه ، هذا تمام الكلام في الدّلالة اللّفظيّة.

(١) الدّلالة الغير اللّفظيّة أيضا إمّا وضعيّة ، وإمّا عقليّة ، وإمّا طبيعيّة ، أمّا الوضعيّة فهي ما للوضع مدخل فيها كدلالة العقود على مراتب معيّنة من العدد ، والنّصب على مقادير معيّنة من المسافة مثلا ، وأمّا العقليّة فهي ما للعقل مدخل فيها ، كدلالة الدّخان على وجود النّار ، فإنّ العقل يدرك الملازمة بينهما ، وأمّا الطّبيعيّة ، فهي ما للطّبع مدخل فيها كدلالة سرعة النّبض على شدّة الحمّى ، فإنّ الطّبع عند عروض الحمّى عليه يقتضي سرعة حركة النّبض ، فكلّ واحدة من الدّلالة اللّفظيّة ، وغير اللّفظيّة تنقسم إلى أقسام ثلاثة.

(٢) هذه أمثلة للدّلالة الوضعيّة الغير اللّفظيّة ، والمراد بالخطوط الكتابة ، أو الخطوط الهندسيّة ، كالمثلّث والمربّع ، وبالعقد عقود الأنامل ، فإنّها دالّة على مراتب معيّنة من العدد عند العارف بوضعها لها ، «والإشارات» كتحريك اليد على نحو خاصّ ، فإنّه يدلّ على نعم أو لا ، «والنّصب» جمع نصبة ، كغرف جمع غرفة ، وهي ما يجعل علما لشيء كالعلامة المنصوبة في الطّريق للدّلالة على مقدار المسافة.

(٣) أي في الدّلالة بأن يكون سببا تامّا فيها بحسب الظّاهر ، كما في المطابقيّة أو جزء سبب كما في التّضمّنيّة والالتزاميّة.

(٤) بأن كانت الدّلالة باقتضاء الطّبع أو العقل ، كما عرفت.

(٥) أي الّتي للوضع مدخل فيها «على المقصودة بالنّظر ههنا».

(٦) أي بالبحث.

(٧) أي في مقام تقسيم الدّلالة إلى المطابقيّة والتّضمنيّة والالتزاميّة ، كما يأتي ، وهذا لا ينافي أنّ المقصود بالذّات عندهم في هذا الفنّ عن إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة ، هي الدّلالة العقليّة لا الوضعيّة ، لأنّ إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة لا يتأتّى بالوضعيّة ، كما في قول

٣٠٥

وهي (١) كون (٢) اللّفظ بحيث يفهم منه المعنى عند الإطلاق (٣) بالنّسبة (٤) إلى العالم بوضعه. وهذه (٥) الدّلالة [إمّا على تمام (٦) ما وضع] اللّفظ [له] كدلالة الإنسان على الحيوان النّاطق [أو على جزئه (٧)] كدلالة الإنسان على الحيوان أو النّاطق [أو على خارج عنه (٨)] كدلالة الإنسان على الضّاحك ، [وتسمّى الأولى (٩)] أي الدّلالة على تمام

________________________________________

المصنّف الآتي : «والإيراد المذكور لا يتأتّى بالوضعيّة ...».

(١) أي الدّلالة اللّفظيّة الّتي للوضع فيها مدخل.

(٢) قوله : «كون اللّفظ» ، جنس في التّعريف خرج عنه الدّلالة الغير اللّفظيّة بأقسامها الثّلاثة ، وقوله «بحيث» أي ملتبّسا بحالة ، هي أن يفهم منه المعنى ، أي المطابقي أو التّضمّني أو الالتزامي.

(٣) أي إطلاق اللّفظ عن القرائن وتجرّده عنها.

(٤) متعلّق بقوله «يفهم» ، وخرج به اللّفظيّة العقليّة ، وكذلك اللّفظيّة الطّبيعيّة ، فإنّهما يحصلان للعالم بوضع اللّفظ ، ولغيره لعدم توقّفهما على العلم بوضعه.

(٥) أي الدّلالة اللّفظيّة الّتي للوضع مدخل فيها على ثلاثة أقسام أي المطابقيّة ، والتّضمّنيّة ، والالتزاميّة ، الأولى : ما أشار إليه بقوله : «إمّا على تمام ما وضع له» ، والثّانية : ما أشار إليه بقوله : «أو على جزئه» ، والثّالثة : ما أشار إليه بقوله : «أو على خارج عنه».

(٦) المراد بالتّمام ما قابل الجزء ، فدخل في ذلك المعنى البسيط والمركّب ، فلا يبقى مجال لما يتخيّل من أنّه كان اللّازم حذف لفظ تمام ، لأنّه مخرج لدلالة اللّفظ على المعنى البسيط الموضوع هو له ، وجه عدم المجال أنّه ليس المراد بالتّمام مجموع الأجزاء من المعنى المركّب ، بل هو نفس المعنى بسيطا كان أو مركّبا.

(٧) أي على جزء ما وضع له اللّفظ ، كدلالة الإنسان على الحيوان فقطّ ، لأنّ مفهوم لفظ الإنسان هو الحيوان النّاطق ، فدلالته على الحيوان فقطّ ، أو النّاطق فقطّ ، دلالة للّفظ على جزء ما وضع له فيكون تضمّنيّا.

(٨) أي أو على خارج عن تمام ما وضع له.

(٩) كان الأولى أن يقول المصنّف : نسمّي بصيغة المتكلّم ، ليعلم أن هذه التّسميّة من البيانيّين على خلاف تسميّة الميزانيّين.

٣٠٦

ما وضع (١) له [وضعيّة] لأنّ الواضع إنّما وضع اللّفظ لتمام المعنى (٢) [و] يسمّى [كلّ من الأخيرتين] ، أي الدّلالة على الجزء والخارج. [عقليّة (٣)] لأنّ دلالة اللّفظ على كلّ من الجزء والخارج إنّما هي من جهة حكم العقل ، بأنّ حصول الكلّ ، أو الملزوم يستلزم حصول الجزء أو اللّازم (٤) والمنطقيّون يسمّون الثّلاثة وضعيّة ، باعتبار أنّ للوضع مدخلا فيها (٥) ويخصّون العقليّة (٦)

________________________________________

(١) أي على تمام معنى وضع اللّفظ بإزائه ، و «وضعيّة» مفعول ثان لقوله : «تسمّى».

(٢) أي لا لجزئه ، ولا للازمه ، وحينئذ فالسّبب في حصولها عند سماع اللّفظ هو معرفة الوضع فقطّ ، دون حاجة لشيء آخر ، بخلاف الأخيرتين فإنّه انضمّ فيهما للوضع أمران عقليان :

الأوّل : توقّف فهم الكلّ على الجزء.

والثّاني : امتناع انفكاك فهم الملزوم عن اللّازم.

(٣) أي لتوقّف كلّ منهما على أمر عقلي زائد على الوضع ، كما في الشّرح.

(٤) قد يقال : إن كلام الشّارح ناطق بأنّه لا مدخل للوضع في الأخيرتين ، وإنّما هما عقليّتان فقطّ ، وليس الأمر كذلك ، لأنّ كلا منهما متقوّم على قياس مؤلّف من مقدّمتين : إحداهما وضعيّة ، والأخرى عقليّة ، وهذا صورته : كلّما فهم اللّفظ فهم معناه ، وكلّما فهم معناه فهم جزؤه أو لازمه ، ينتج كلّما فهم اللّفظ فهم جزء معناه أو لازمه ، والمقدّمة الأولى وضعيّة ، إذ فهم المعنى من اللّفظ متقوّم على العلم بوضعه لذلك المعنى ، والمقدّمة الثّانية عقليّة ، لأنّ فهم الجزء أو اللّازم متقوّم على انتقال العقل من الكلّ إلى الجزء ، ومن الملزوم إلى اللّازم بواسطة إدراكه أنّ كلّما وجد الكلّ وجد جزؤه ، وكلّما وجد الملزوم وجد لازمه ، فمن نظر إلى المقدّمة الأولى سمّى الأخيرتين وضعيّتين كالمناطقة ، ومن نظر إلى المقدّمة الثّانية جعلهما عقليّتين كالبانيّين.

وأجيب عن ذلك بأنّ الحصر المذكور إضافيّ ، والمراد أنّ دلالته عليهما من جهة العقل ، لا من جهة الوضع وحده ، فلا ينافى أنّه من جهة الوضع والعقل معا.

(٥) أي في الثّلاثة سواء كان دخله قريبا كما في المطابقيّة ، لأنّه بسبب تامّ فيها على الظّاهر ، أو كان بعيدا كما في الأخيرتين ، لأنّه جزء سبب فيهما.

(٦) أي لفظيّة كانت أو غير لفظيّة ، بخلاف البيانيّين ، فإنّ العقليّة عندهم لا تقابل الوضعيّة.

٣٠٧

بما يقابل الوضعيّة والطّبيعيّة (١) كدلالة الدّخان على النّار [وتقيّد الأولى] من الدّلالات الثّلاث (٢) [بالمطابقة] لتطابق اللّفظ والمعنى (٣) [والثّانية (٤) بالتّضمّن] لكون الجزء (٥) في ضمن المعنى الموضوع له [والثّالثة (٦) بالالتزام] لكون الخارج لازما للموضوع (٧) له

________________________________________

(١) أي كانتا لفظيّتين أو غير لفظيّتين ، فتكون الدّلالة عندهم ثلاثة أقسام : عقليّة كدلالة الدّخان على النّار ، ووضعيّة كالدّلالات الثّلاث ، وطبيعيّة كدلالة الحمرة على الخجل ، فقوله كدلالة الدّخان على النّار مثال للعقليّة.

(٢) أي وهي الدّلالة على تمام ما وضع له ، أي تقيّد بالمطابقة ، والمراد من تقييدها بها التّقييد بنحو الإضافة ، أي يقال دلالة المطابقة لا التّقييد بنحو التّوصيف ، أي يقال الدّلالة المطابقيّة.

(٣) أي توافقهما ، بمعنى أنّ اللّفظ انحصرت دالّيّته على هذا المعنى ، ولم يزد بالدّلالة على غيره ، كما أنّ المعنى انحصرت مدلوليّته في هذا اللّفظ ، ولا يكون مدلولا لغيره.

(٤) أي تقيد الدّلالة على جزء ما وضع له اللّفظ «بالتّضمّن».

(٥) أي لكون الجزء المفهوم من اللّفظ إنّما هو في المعنى الموضوع له ، وذلك المعنى هو المجموع ، فدلالة التّضمّن عبارة عن فهم الجزء في ضمن الكلّ.

(٦) أي تقيّد دلالة اللّفظ على خارج ما وضع له «بالالتزام».

(٧) قد وقع الخلاف والتّشاجر بينهم في أن دلالة التّضمّن فهم الجزء في ضمن الكلّ ، أو فهمه مطلقا ، وكذلك دلالة الالتزام هل هي فهم اللّازم في ضمن الملزوم ، أو فهمه مطلقا.

فذهب جماعة إلى الأوّل ، وقالوا إنّ التّضمّن فهم الجزء في ضمن الكلّ ، بمعنى أنّ اللّفظ إذا استعمل في معناه المطابقي ينتقل الذّهن منه إلى معناه وجزئه مرّة واحدة ، فليس فيه انتقال من اللّفظ إلى المعنى ، ومنه إلى جزئه ، بل فهم ، وانتقال واحد يسمّى بالقياس إلى تمام المعنى مطابقة ، وبالقياس إلى جزئه تضمّنا ، فيكون اللّفظ مستعملا في الكلّ ، وأمّا إذا استعمل في الجزء مجازا كان فهمه منه مطابقة ، فهذا ليس دلالة تضمنيّة ، بل دلالة مطابقيّة مجازيّة ، لأنّه تمام ما عنى به ، وتمام ما وضع اللّفظ بإزائه بالوضع المجازي النّوعي ، والالتزام فهم اللّازم في ضمن الملزوم ، بمعنى أنّ اللّفظ إذا استعمل في الملزوم يفهم منه الملزوم واللّازم مرّة واحدة ، فهذا الفهم الواحد بالقياس إلى الملزوم مطابقة بالنّسبة إلى اللّازم التزام ، فلو استعمل اللّفظ

٣٠٨

فإن قيل (١) : إذا فرضنا لفظا مشتركا بين الكلّ وجزئه ولازمه ، كلفظ الشّمس المشترك مثلا بين الجرم (٢) والشّعاع (٣) ومجموعهما فإذا أطلق (٤) على المجموع مطابقة واعتبر دلالته على الجرم تضمّنا والشّعاع التزاما (٥) فقد صدق (٦) على هذا التّضمّن

________________________________________

في اللّازم فقطّ كان فهمه منه مطابقة ، لأنّه عندئذ تمام ما عني من اللّفظ ، وتمام ما وضع له بالوضع النّوعي المجازي.

وذهب الشّارح إلى الأوّل على ما يظهر من كلامه ، وذهب الآخرون إلى الثّاني فعندهم دلالة اللّفظ على الجزء ، واللّازم عند استعماله فيهما أيضا تضمّن.

(١) الغرض من هذا الاعتراض إبطال تعاريف الدّلالات الثّلاث المستفادة من التّقسيم المذكور بأنّها غير مانعة إذا كان اللّفظ مشتركا بين الجزء والكلّ ، وبين اللّازم والملزوم اشتراكا لفظيّا.

(٢) أي القرص.

(٣) أي الضّوء ، أي إن فرض أنّ لفظ الشّمس موضوع لمجموع القرص ، والشّعاع بوضع ، وللقرص الّذي هو أحد الجزأين بوضع ، وللشّعاع الّذي هو أحد الجزأين ولازم للقرص بوضع ثالث.

(٤) جواب إذا في قوله :

«إذا فرضنا لفظا مشتركا ...» ، وضمير «أطلق» راجع إلى لفظ الشّمس في قوله : «كلّفظ الشّمس».

(٥) أي لا باعتبار هذا الوضع ، أعني الوضع للمجموع ، إذ هو باعتباره جزء ، لا لازم ، بل باعتبار وضع آخر ، وهو وضع الشّمس للجرم فقطّ ، فقوله : «واعتبر دلالته على الجرم تضمّنا» ، أي باعتبار الوضع للمجموع ، وقوله : «على الشّعاع التزاما» ، أي باعتبار الوضع للجرم فقطّ.

(٦) هذا جواب إذا الثّانية في قوله :

«فإذا أطلق على المجموع ...» ، أي فقد صدق على فرض اشتراك اللّفظ بين الكلّ والجزء ، واللّازم والملزوم ، أي صدق على التّضمّن والالتزام ، «أنّها» ، أي الدّلالة المعتبرة على الجرم ، والشّعاع هي دلالة اللّفظ على تمام الموضوع له ، أي وإن كان هذا الصّدق بالنّظر إلى وضع آخر وهو الوضع لكلّ واحد منهما على حدة.

٣٠٩

والالتزام أنّها (١) دلالة اللّفظ على تمام الموضوع له وإذا أطلق (٢) على الجرم أو الشّعاع مطابقة صدق عليها (٣) أنّها دلالة اللّفظ على جزء الموضوع له (٤) أو لازمه (٥) وحينئذ (٦) ينتقض تعريف كلّ الدّلالات الثّلاث

________________________________________

(١) أي الدّلالة ، فقوله : «إنّها» فاعل «صدق» ، أي فقد صدق على هذا التّضمّن والالتزام أنّ الدّلالة على كلّ منهما هي دلالة اللّفظ على تمام الموضوع له ، نظرا إلى وضعه لكلّ واحد منهما مستقلا.

(٢) عطف على قوله : «فإذا أطلق على المجموع».

(٣) أي على دلالة اللّفظ.

(٤) أي نظرا إلى وضع لفظ الشّمس للمجموع.

(٥) أي بالنّظر إلى وضع الشّمس للجرم وحده ، أي وحيث صدق على دلالة لفظ الشّمس على الجرم أو الشّعاع مطابقة ، أنّها دلالة اللّفظ على جزء المعنى الموضوع له ، أو لازمه ، فتكون المطابقة داخلة في تعريف كلّ من التّضمّن والالتزام ، فيكون تعريف كلّ منهما غير مانع لدخول المطابقة فيه ، وبالعكس ، نفرض استعمال لفظ الشّمس في الشّعاع والضّوء ، مع كونه مشتركا بين الكلّ والجزء ، واللّازم والملزوم ، فيصدق عليه التّضمّن نظرا إلى وضع اللّفظ للكلّ ، والالتزام نظرا إلى وضع اللّفظ للملزوم فقطّ ، والمطابقة نظرا إلى وضعه للازم فقطّ.

فإذا ينتقض تعريف كلّ من التّضمّن والالتزام بالمطابقة وبالعكس.

وعلى الشّارح أن يبيّن انتقاض التّضمّن بالالتزام ، وعكسه فكان عليه أن يقول زيادة على ما تقدّم ، وإذا أطلق الشّمس على الشّعاع التزاما ، بالنّظر لوضعه للجرم وحده ، فقد صدق عليه أنّها دلالة اللّفظ على جزء معناه بالنّظر إلى وضع الشّمس للمجموع ، فيكون الالتزام داخلا في تعريف التّضمّن ، وإذا أطلق الشّمس على الشّعاع تضمّنا بالنّظر إلى وضع الشّمس للمجموع ، فقد صدق عليها أنّها دلالة اللّفظ على لازم معناه نظرا إلى وضع الشّمس للجرم وحده ، فيكون التّضمّن داخلا في تعريف الالتزام.

(٦) أي حين فرض اشتراك اللّفظ بين اللّازم والملزوم ومجموعهما ، والجزء والكلّ ومجموعهما ، ينتقض تعريف ...

٣١٠

بالأخريين (١) فالجواب (٢) إنّ قيد (٣) الحيثيّة مأخوذ (٤) في تعريف الأمور الّتي تختلف (٥) باعتبار الإضافات حتّى (٦) إنّ المطابقة هي الدّلالة على تمام ما وضع له من حيث إنّه تمام ما وضع له والتّضمّن هي الدّلالة على جزء ما وضع له من حيث إنّه جزء ما وضع له ، والالتزام هي الدّلالة على لازمه من حيث إنّه لازم ما وضع له ، وكثيرا ما يتركون هذا القيد اعتمادا على شهرة ذلك ، وانسياق الذّهن إليه.

________________________________________

(١) أي بالدّلالتين الأخريين ، لا بتعريفهما ، وإذا كان تعريف كلّ من الدّلالات منقوضا بما ذكر ، فيكون غير مانع.

(٢) أي فالجواب أنّه يجوز ترك بعض القيود اعتمادا على الوضوح والشّهرة ، ففي المقام كان قيد الحيثيّة مأخوذا وملاحظا في التّعريف ، وقد ترك هذا القيد اعتمادا على شهرته ، وانسياق الذّهن إليه.

(٣) إضافة القيد إلى الحيثيّة بيانيّة.

(٤) أي قيد الحيثيّة مأخوذ ومعتبر في التّعريف.

(٥) أي تتغاير وتتباين باعتبار الإضافات ، أي النّسب ، وذلك كالدّلالات الثّلاث ، فإنّها تختلف بالنّسبة والإضافة للكلّ ، أو الجزء ، أو اللّازم ، فدلالة الشّمس على الشّعاع يقال مطابقيّة ، وتضمّنيّة ، والتزاميّة ، باعتبار تلك الدّلالة لكلّ ما وضع له اللّفظ ، أو لجزئه ، أو لازمه ، واحترز بقوله : «الّتي تختلف باعتبار الإضافات» عن الأمور المختلفة المتباينة لذواتها ، كالأمور الّتي لا تجتمع كالإنسان مع الفرس مثلا ، حيث إنّهما لا يتصادقان ، لاختصاص الأوّل بالنّاطقيّة المباينة لذاتها للصّاهليّة المختصّة بالثّاني ، فلا يحتاج إلى اعتبار قيد الحيثيّة في تعاريفها ، لكفاية تلك المباينات عن رعاية الحيثيّة في تعاريفها.

(٦) حتّى تفريعيّة ، أي وحيث كان قيد الحيثيّة معتبرا في تعريف المتباينة بالإضافة ، كالدّلالات ، فتعرف المطابقيّة بالدّلالة على تمام ما وضع له من حيث إنّه تمام الموضوع له ، أي لا من حيث إنّه جزء الموضوع له ، أو لازمه ، فلا تدخل التّضمّنيّة والالتزاميّة فيها ، وتعرف التّضمّنيّة بأنّها الدّلالة على جزء ما وضع له من حيث إنّه جزء الموضوع له ، أي لا من حيث إنّه تمام المعنى الموضوع له ، أو لازمه ، فلا تدخل المطابقيّة والالتزاميّة فيها بسبب اعتبار قيد الحيثيّة ، وتعرف الالتزاميّة بأنّها الدّلالة على لازم الموضوع له من حيث إنّه لازم ، لا من

٣١١

[وشرطه] أي شرط الالتزام (١) [اللزّوم الذّهني (٢)]

________________________________________

حيث إنّه تمام الموضوع له ، أو جزؤه ، فلا تدخل المطابقيّة والتّضمّنيّة فيها بسبب اعتبار قيد الحيثيّة.

(١) أشار بهذا التّفسير إلى أن الضّمير راجع إلى الالتزام ، فلذا أتى به مذكّرا لتذكير لفظ الالتزام ، وإن كان معناه مؤنّثا أي الدّلالة.

لا يقال : الشّرط ما يلزم من عدمه عدم المشروط ، ولا يلزم من وجوده وجوده ، والأمر هنا ليس كذلك ، إذ متى تحقّق اللزّوم الذّهني تحقّق الالتزام ، فاللزّوم الذّهني سبب له لا شرط.

لأنّا نقول : ليس الأمر كذلك ، فإنّ الدّلالة الالتزاميّة ، كما تتوقّف على اللزّوم الذّهني ، كذلك تتوقّف على إلقاء لفظ يدلّ على اللّازم ، فإنّ المفروض كونها لفظيّة ، فظهر أنّ اللزّوم الذّهني أمر يلزم من انتفائه انتفاء الالتزام ، ولا يلزم من وجوده وجوده ، بل لا بدّ من أن يضمّ إليه اللّفظ الدّالّ على الملزوم أصالة ، وعلى اللّازم تبعا.

(٢) أي سواء كان هناك لزوم خارجي أم لا.

وتوضيح ذلك : إنّ اللّزوم إمّا ذهنيّ وخارجي معا ، كلزوم الزّوجيّة للأربعة ، وإمّا خارجيّ فقطّ كلزوم البياض للقطن ، أو ذهنيّ فقطّ كلزوم البصر للعمى.

والمعتبر في الالتزام هو اللزّوم الذّهني بين الملزوم الّذي هو الموضوع له ، والخارج اللّازم له ، ولا يعتبر فيه اللزّوم الخارجي فوجوده وعدمه سيّان ، فلذا قال المصنّف : «وشرطه اللزّوم الذّهني» ، وأمّا الخارجي فليس بشرط لكن ليس المراد شرط انتفائه ، بل المراد عدم شرطه فقطّ سواء وجد أو لا ، فوجوده غير مضرّ.

والمراد باللزّوم الذّهني عند البيانيّين ما يشمل اللزّوم غير البيّن ، وهو ما لا يكفي في جزم العقل به تصور اللّازم والملزوم ، بل يتوقّف على وسائط كلزوم كثرة الرّماد للكرم ، وما يشمل اللزّوم البيّن بقسميه ، أعني البيّن بالمعنى الأخص ، وهو ما يكفي في جزم العقل به تصوّر الملزوم ، وذلك كلزوم البصر للعمى ، والبيّن بالمعنى الأعمّ وهو ما يجزم العقل به عند تصوّر اللّازم والملزوم ، سواء توقّف جزم العقل به على تصوّر الأمرين ، كلزوم الزّوجيّة للأربعة ، أو كان تصوّر الملزوم وحده كافيا.

وأمّا المناطقة فقد اختلفوا في المراد باللّزوم الذّهني المعتبر في دلالة الالتزام فالمحقّقون

٣١٢

أي كون المعنى الخارجي بحيث يلزم (١) من حصول المعنى الموضوع له في الذّهن حصوله فيه ، إمّا على الفور (٢) أو بعد التّأمّل في القرائن (٣) والإمارات (٤) وليس المراد باللزّوم (٥) عدم انفكاك تعقّل المدلول الالتزامي عن تعقّل المسمّى في الذّهن أصلا ، أعني (٦) اللزّوم البيّن (٧) المعتبر (٨)

________________________________________

منهم على أنّ المراد به خصوص البيّن بالمعنى الأخصّ ، وقال بعضهم المراد به البيّن مطلقا سواء كان بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ.

(١) أي ملتبّسا بحالة هي أن يلزم من حصول المعنى الموضوع له في الذّهن حصول اللّازم فيه.

(٢) أي كما في اللزّوم البيّن بقسميه.

(٣) أي الوسائط ، كما في اللزّوم الغير البيّن الّذي لا يكفي في جزم العقل به تصوّر الملزوم ، ولا تصوّره وتصوّر اللّازم معا ، بل يحتاج ذلك إلى تصوّر واسطة أو واسطتين أو وسائط ، كلزوم كثرة الرّماد للجود ، فإنّه يحتاج مضافا إلى تصوّر الطّرفين إلى تصوّر كثرة إلقاء الحطب تحت القدر ، وكثرة الطّبخ ، وكثرة الأكلة ، وكثرة الضّيوف ، فالمراد باللزّوم الذّهني هنا ما يشمل جميع تلك الأقسام.

ثمّ الإتيان بصيغة الجمع ، أعني «القرائن والإمارات» ، باعتبار المواد ، فلا يلزم أن يكون المعتبر في اللّزوم الغير البيّن تعدّد الواسطة.

(٤) عطف تفسير على «القرائن».

(٥) أي ليس المراد باللزّوم الذّهني المعتبر في دلالة الالتزام عند البيانيّين عدم انفكاك ... ، بل المراد ما هو أعمّ من ذلك كما عرفت.

(٦) أي اعني بهذا اللزّوم المنفي إرادته وحده عند البيانيّين اللزّوم البيّن.

(٧) أي سواء كان بيّنا بالمعنى الأخصّ ، أو بالمعنى الأعمّ ، خلافا لمن قصره على الأوّل ، لأنّ اللّازم على جعله بيّنا بالمعنى الأخصّ ، هو ما ذكره الشّارح من الخروج لازم على جعله بيّنا بالمعنى الأعمّ ، وحينئذ فلا وجه لقصره على ما ذكر.

(٨) أي المعتبر عندهم في دلالة الالتزام ، وهذا نعت للزّوم البيّن.

٣١٣

عند (١) المنطقيّين وإلّا (٢) لخرج كثير من معاني المجازات والكنايات عن أن يكون مدلولات التزاميّة. ولما تأتّي (٣) الاختلاف بالوضوح في دلالة الالتزام أيضا ، وتقيد اللزّوم بالذّهني إشارة (٤) إلى أنّه لا يشترط (٥) اللزّوم الخارجي كالعمى فإنّه يدلّ على

________________________________________

(١) أي عند بعضهم كما تقدّم.

(٢) أي وإلّا بأن كان المراد باللزّوم المعتبر في دلالة الالتزام عدم انفكاك ... ، يعني اللزّوم البيّن بقسميه فقطّ ، لخرج كثير من معاني المجازات والكنايات عن كونها مدلولات التزاميّة ، لكنّ القوم جعلوها مدلولات التزاميّة ، وحينئذ فاللّازم باطل ، فكذلك الملزوم ، أعني المراد باللزّوم البيّن أيضا باطل ، فثبت المدّعى ، وهو أنّ المراد باللزّوم الذّهني المعتبر في دلالة الالتزام ما هو أعمّ من ذلك ، كما تقدّم من أنّ اللزّوم البيّن بالمعنى الأخصّ غير معتبر في الالتزام.

وبعبارة واضحة :

أنّه لو كان المراد باللزّوم الذّهني المعتبر في دلالة الالتزام البيّن بالمعنى الأخصّ لخرج كثير من معاني المجازات والكنايات عن كونها مدلولات التزاميّة ، إذ لا ملازمة بيّنا في أغلب المجازات والكنايات بين المعنى المراد والمعنى الموضوع له اللّفظ ، كما يأتي بيان ذلك في باب المجاز والكناية ، والتّالي باطل كما عرفت ، والمقدّم مثله ، والنّتيجة هي أنّ المراد باللزّوم الذّهني المعتبر في دلالة الالتزام هو اللزّوم بالمعنى الأعمّ.

(٣) أي وإن كان المراد باللزّوم هو عدم انفكاك ... ، لما يحصل الاختلاف بالوضوح والخفاء في دلالة الالتزام أيضا ، أي مثل الدّلالة المطابقيّة ، وذلك لأنّ البيّن بالمعنى الأخصّ لا خفاء فيه أصلا ، فليس المراد باللزّوم امتناع الانفكاك في الذّهن أو الخارج ، بل المراد هو الاتّصال في الجملة واللزّوم بالمعنى الأعمّ ، وهذا متحقّق في جميع أنواع المجازات والكنايات ، فلا يلزم الخروج. فقوله : «لما تأتّي» عطف على قوله «لخرج كثيرا ...».

(٤) إذ لو أطلق اللزّوم ولم يقيّده بالذّهني لانتفت الإشارة المذكورة ، وصار صادقا باشتراط الخارجي ، وعدم اشتراطه لصيرورة اللزّوم حينئذ مطلقا أعمّ من الذّهني والخارجي.

(٥) أي لا استقلالا ولا منضمّا إلى الذّهني.

٣١٤

لأنّه (١) عدم البصر عمّا من شأنّه أن يكون بصيرا. مع التّنافي (٢) بينهما في الخارج ، ومن (٣) نازع في اشتراط اللزّوم الذّهني فكأنّه أراد باللزّوم اللزّوم البيّن ، بمعنى عدم انفكاك تعقّله عن تعقّل المسمّى ، والمصنّف أشار إلى أنّه ليس المراد باللزّوم الذّهني اللزّوم البيّن (٤) المعتبر عند المنطقيّين ، بقوله : [ولو لا اعتقاد المخاطب بعرف (٥)] أي ولو كان ذلك اللّزوم مما يثبته اعتقاد المخاطب بسبب (٦)

________________________________________

(١) أي لأنّ معنى العمى عدم البصر ... ، فهو عدم مقيّد بالبصر ، لا أنّ البصر جزء من مفهومه ، حتّى تكون دلالته على البصر تضمّنيّة.

(٢) أي مع التّعاند والتّضادّ بين البصر والعمى في الخارج ، فلو قلنا باشتراط اللزّوم لخرج هذا المثال عن كونه مدلولا التزاميّا ، مع أنّ المقصود دخوله فيه.

(٣) وهو ابن الحاجب ، حيث خالف في اشتراط اللزّوم الذّهني أي قال بعدم اشتراط اللزّوم الذّهني ، فإنّه قال في مختصره الأصولي ما هذا لفظه : ودلالته الوضعيّة على كمال معناه مطابقيّة ، وعلى جزئه تضمّنيّة ، وغير الوضعيّة التزام.

وكيف كان فأراد الشّارح أن يجمع بين كلام المصنّف وكلام ابن الحاجب بقوله : «فكأنّه» أي ابن الحاجب أراد باللزّوم المنفيّ اللزّوم البيّن ، والمصنّف أراد باللزّوم المعتبر في دلالة الالتزام اللزّوم الغير البيّن ، فلا خلاف بينهما.

وبعبارة أخرى إنّ مراد ابن الحاجب باللزّوم الذّهني المنفي اشتراطه في دلالة الالتزام هو خصوص الذّهني البيّن بالمعنى الأخصّ ، وهذا لا ينافي ما ذكره المصنّف من اشتراط اللزّوم الذّهني مطلقا ، فاللزّوم الذّهني لا بدّ منه بلا نزاع.

(٤) أي البيّن بالمعنى الأخصّ فقطّ المعتبر عند المنطقيّين ، أي ليس هذا مراده ، بل مراده ما يشمل البيّن وغيره ، وإليه أشار بقوله : «ولو لا اعتقاد المخاطب بعرف».

(٥) أي لا يجب في اللزّوم الذّهني أن يكون عقليّا كلزوم البصر للعمى ، والزّوجيّة للأربعة ، بل يكفي وإن كان من جهة اعتقاد المخاطب لذلك اللزّوم «بعرف» أي بسببه.

(٦) اعترض بأن اعتقاد المخاطب متعلّق باللزّوم لا مثبت له ، والمثبت له إنّما عقله ، إذ المخاطب يثبت أوّلا بعقله من أجل العرف أو غيره اللزّوم ، ثمّ يعتقده ، ويلتزم به ، فكان الأولى أن يقول : مما يثبته عقل المخاطب.

٣١٥

عرف عام (١) إذ (٢) هو المفهوم من إطلاق العرف [أو غيره] يعني العرف الخاصّ كالشّرع (٣) واصطلاحات أرباب الصّناعات

________________________________________

وأجيب بأنّ الاعتقاد في كلامه بمعنى اسم الفاعل مجازا ، أي مما يثبته معتقد المخاطب ، وهو عقله «بسبب عرف عام».

(١) المراد بالعرف العام ما استقرّ عليه عرف عام ، وهو الّذي لم يعرف جاعله بأنّه أهل الشّرع ، أو النّحاة ، أو المتكلّمون ، أو أهل اللّغة ، لا ما اتفق عليه جميع النّاس ، أو جميع أهل العلم ، أو جميع العوام حتّى يرد أنّ اتّفاق جميع النّاس ، أو جميع أهل العلم ، أو جميع العوام على شيء بعيد.

(٢) علّة لمحذوف ، أي إنّما قيّدنا العرف بالعامّ ، ولم نجعله شاملا للخاصّ لأنّه المفهوم من إطلاق العرف ، أي من استعماله مجرّدا عن القرائن ، وذلك كاللزّوم الّذي بين الأسد والجرأة ، فإنّه ليس ناش من العرف العامّ ، فإذا قيل : زيد أسد ، يعرف المخاطب أنّه أراد وصفه بالشّجاعة والجرأة ، فإنّه وإن لم يكن لزوم بين الجثّة المخصوصة ، والجرأة عقلا ، إلّا أنّه متحقّق عند العرف.

(٣) وذلك كاللزّوم الكائن بين بلوغ الماء كرّا وعدم قبوله النّجاسة ، فإنّ هذا اللزّوم عند أهل الشّرع خاصّة ، فإذا قال أحد لك : هل ينجس هذا الماء إذا وقع فيه نجاسة ، ولم يتغيّر لونه وريحه وطعمه؟ فأجبته بقولك : هذا الماء قد بلغ كرّا ، فهم منه عدم قبوله للنّجاسة ، إن كان من أهل الشّرع ، لقوله عليه‌السلام : «الماء إذا بلغ كرّا لم ينجّسه شيء.

ومن هذا القبيل اللزّوم بين البطلان والتّسلسل عند الحكماء والمتكلّمين ، فإذا قلت لأحد يلزم من كلامه التّسلسل : كلامك مستلزم للتّسلسل ، يفهم منه أنّه باطل إن كان كلاميّا.

واللزّوم بين الرّفع والفاعل عند النّحاة ، فإذا قال أحد : جاء زيدا بالنّصب. فقلت له : زيد فاعل يفهم منه أنّه باطل ، إن كان نحويا ، هذا ما أشار إليه بقوله : «واصطلاحات أرباب الصّناعات».

فقوله : «واصطلاحات أرباب الصّناعات» عطف على «الشّرع» ، فيكون من أمثلة العرف الخاصّ ، لأنّ اصطلاح أرباب كلّ صنعة من قبيل العرف الخاصّ ، وذلك كلزوم المنشار للنّجار ، فإنّه خاصّ للنّجّارين ، فيجوز أن يقال : هذا منشار زيد ، ليفهم منه المخاطب أنّ زيدا نجّارا ، وكلزوم موسى للحلّاق ، فإنّه خاصّ للحلّاقين ، فيجوز أن يقال : هذا موسى زيد ليفهم المخاطب أنّه حلّاق وهكذا.

٣١٦

وغير (١) ذلك ، [والإيراد المذكور] أي إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في الوضوح [لا يتأتّى بالوضعيّة] أي (٢) بالدّلالة المطابقيّة (٣)

________________________________________

(١) عطف على العرف الخاصّ ، وذلك كالقرائن الموجبة للزّوم الكائن بين الموضوع له والخارج ، كلزوم الكرم للبخل بسبب كون المتكلّم في مقام ذمّ وسخريّة أحد ، كما إذا قلت تعريضا على لئيم : ألا أيّها النّاس أتعجّب من كرم فلان ، فإنّ المخاطب يفهم أنّه بخيل بمعونة أنّك في مقام ذمّه ، وكلزوم سلب المتكلّم الزّنا من نفسه وأخته في مقام ذمّه لأحد ، لثبوت الزّنا وله ولأخته ، فيقول : لست أنا زان ولا أختي زانية ، فيفهم المخاطب بمعونة المقام أنّ مراده ثبوت الزّنا لأحد وأخته.

(٢) فسّر الشّارح الوضعيّة بالمطابقيّة ، لئلّا يتوهّم أنّ المراد بالوضعيّة هو المعنى الّذي جعله مقسما للدّلالات الثّلاث ، فيما أعني ما للوضع فيها مدخل ، فتدخل العقليّة الآتية ، وهو فاسد.

(٣) أعلم أنّ المطابقيّة كما تندرج فيها دلالة الحقائق ، تندرج فيها دلالة المجازات ، مرسلة كانت أو مستعارة على مذهب المناطقة ، لأنّها دلالة اللّفظ على تمام ما وضع له بالوضع النّوعي ، بناء على أنّ المراد بالوضع في تعريف المطابقة أعمّ من الشّخصي والنّوعي ، كما في شرح الشّمسيّة ، حيث قال الشّارح : لا نسلّم أنّ دلالة المجاز على معناه تضمّن أو التزام ، بل مطابقة ، إذ المراد بالوضع في الدّلالات الثّلاث أعمّ من الجزئي الشّخصي ، كما في المفردات ، والكلّي النّوعي كما في المركّبات ، وإلّا لبقيت دلالة المركّبات خارجة عن الأقسام ، والمجاز موضوع بإزاء معنى بالنّوع ، كما تقرّر في موضعه انتهى.

لكنّ أهل هذا الفنّ ، أي البيانيّين منعوا كون دلالة المجاز وضعيّة ، كما يستفاد ذلك من كلام السّيرافي عند تعريفه الدّلالة ، وهذا نصّه : الوضع المعتبر سواء كان شخصيّا أو نوعيّا ، تعيين اللّفظ نفسه بلا واسطة قرينة بإزاء المعنى ، لا تعيينه مطلقا بإزائه ، وصرّح بذلك الشّارح أيضا في التّلويح ، فإذا ينتفي الوضع المعتبر مطلقا عندهم في المجاز ، فدلالته على معناه إمّا تضمّنيّة كما في موارد استعمال اللّفظ الموضوع للكلّ في الجزء ، أو التزاميّة ج كما في غير هذه الموارد من سائر المجازات مرسلة كانت أو مستعارة.

فإذا لا يراد أنّ البيانيّين خصّوا تأتّي الاختلاف في الوضوح والخفاء بالعقليّة ، وطبّقوها على

٣١٧

[لأن السّامع (١) إذا كان عالما بوضع الألفاظ (٢)] لذلك المعنى [لم يكن بعضها (٣) أوضح] دلالة عليه من بعض [وإلّا] أي وإن لم يكن عالما بوضع (٤) الألفاظ [لم يكن كلّ واحد] من الألفاظ [دالا عليه (٥)]

________________________________________

المجازات والكنايات ، مع أنّ دلالة المجازات وضعيّة مطابقيّة لا تضمّنيّة ، أو التزاميّة حتّى تكون عقليّة ، وجه عدم الورود أن كونها وضعيّة مطابقيّة إنّما هو عند المناطقة لا عندهم.

(١) خصّه بالذّكر ، لأنّه هو الّذي تعتبر نسبة الخفاء والوضوح إليه غالبا.

(٢) أي بوضع كلّ واحد منها «لذلك المعنى» الّذي قصد المتكلّم إفادته بها له.

(٣) أي لم يكن بعض الألفاظ أوضح دلالة على المعنى من بعض ، بل هي متساوية الأقدام في الدّلالة عليه ، ضرورة تساويها في الوضع ، والعلم به المقتضي لفهم المعنى عند سماع تلك الألفاظ ، فإذا كانت متساوية فيها ، لا يمكن الاختلاف في دلالتها وضوحا وخفاء ، فإنّ الوضع ، والعلم به ، والسّماع ، والتّلفظ ، إذا اجتمعت كانت علّة تامّة للدّلالة على المعنى ، ولا يمكن مع اجتماعها اعتبار كون الدّلالة بالنّسبة إلى كلام أوضح ، وبالنّسبة إلى آخر أخفى ، مثلا إذا كان السّامع عالما بالوضع ، وألقى إليه أبو أحمد كريم ، وزيد جواد ، يفهم منهما المعنى بلا تفاوت ، وهو ثبوت الجود للشّخصّ المعيّن الخارجي الّذي اسمه زيد ، وكنيته أبو أحمد.

(٤) أي بوضع جميعها ، وهذا صادق بأن لا يعلم شيئا منها أصلا ، أو يعلم بعضها دون بعض.

(٥) أي جميعها ، يعني غير دالّ عليه ، كما إذا لم يعلم وضع شيء منها ، أو بعضها غير دالّ كما إذا علم وضع بعضها دون بعض ، فإنّ رفع الإيجاب الكلّي إمّا بالسّلب الكلّي ، وإمّا بالسّلب الجزئي ، وعلى التّقديرين لا مجال في الوضوح والخفاء.

ومثال الفرض الأوّل كما إذا لم يعلم السّامع وضع كلّ من قولنا : زيد جواد ، وقولنا : أبو أحمد كريم ، ومثال الفرض الثّاني كما إذا علم وضع أحدهما دون الآخر.

إذ في الفرض الأوّل لا دلالة أصلا حتّى تصل النّوبة إلى اختلافها في الوضوح والخفاء ، وعلى الفرض الثّاني لا مقابل للبعض الّذي يدل على المعنى حتّى قيس إليه من حيث خفاء دلالته ووضوحها.

٣١٨

لتوقّف (١) الفهم على العلم بالوضع ، مثلا إذا قلنا : خدّه يشبه الورد ، فالسّامع إن كان عالما بوضع المفردات (٢) والهيئة التّركيبيّة (٣) امتنع (٤) أن يكون كلام آخر يؤدّي هذا المعنى بطريق المطابقة دلالة أوضح أو أخفى.

________________________________________

(١) أي لتوقّف فهم المعنى المعبّر عنه بالدّلالة على العلم بالوضع ، وفي كلامه إشعار بأنّ المراد بالدّلالة فهم المعنى من اللّفظ ، لا كون اللّفظ بحيث يفهم من المعنى ، لأنّ هذه الحيثيّة ثابتة للّفظ بعد العلم بوضعه وقبله ، ولا تكون منتفية على تقدير انتفاء العلم بالوضع ، كما هو ظاهر ، وعليه فلا يرد عليه أنّ الموقوف على العلم بالوضع ، فهم المعنى بالفعل ، والدّلالة كون اللّفظ بحيث يفهم منه المعنى ، وهذه الحيثيّة ثابتة للّفظ بعد العلم وقبله ، ولا تكون منتفية على تقدير انتفاء العلم به ، ووجه عدم الورود أن المراد بالدّلالة المستفادة من دالا في قوله : وإلّا لم يكن كلّ واحد دالا عليه ، فهم المعنى من اللّفظ بالفعل ، لا كون اللّفظ بحيث يفهم منه المعنى ، فصحّ حينئذ تعليله لتوقّف الفهم على العلم بالوضع.

(٢) بأن يعرف أنّ الخدّ موضوع للعضو المخصوص ، والورد موضوع للنّبت المعلوم ، ويشبه موضوع للمعنى المعلوم.

(٣) بأن يعرف أنّ الهيئة التّركيبيّة موضوعة نوعا لثبوت المسند إليه.

(٤) جواب إن في قوله «إن كان عالما ...» ، و «كلام» اسم «يكون» ، وجملة «يؤدي» خبره ، والمعنى امتنع أن يوجد كلاما مؤدّيّا هذا المعنى بدلالة المطابقة دلالة أوضح ، أو أخفى ، أي أوضح أو أخفى من دلالة قولنا : خده يشبه الورد لوجه فيه ما أشرنا إليه أنفا من أن انتقال الذّهن من اللّفظ إلى المعنى المطابقي يتوقّف على الوضع والعلم به والسّماع والتّلفّظ ، والمجموع من هذه الأمور الأربعة علّة تامّة لخطور المعنى في الذّهن ، فما أشرنا إليه أنفا من أنّ انتقال الذّهن من اللّفظ إلى المعنى المطابقي يتوقّف على الوضع والعلم به ، والسّماع والتّلفّظ ، والمجموع من هذه الأمور الأربعة علّة تامّة لخطور المعنى في الذّهن ، فإذا وجد وجد الانتقال فحينئذ لا يعقل الوضوح والخفاء في الألفاظ المترادفة الدّالة بالمطابقة على معنى واحد ، لأنّها بعد تحقّق العلّة التامّة متساويّة الإقدام في الدّلالة على المعنى بالضّرورة.

٣١٩

لأنّه (١) إذا أقيم مقام كلّ لفظ ما يرادفه (٢) فالسّامع إن علم الوضع فلا تفاوت في الفهم وإلّا (٣) لم يتحقّق الفهم ، وإنّما قال : لم يكن كلّ واحد (٤)

________________________________________

(١) علّة لقوله «امتنع ...».

(٢) بأن يقام ويوضع مقام خدّه وجنته ، ومقام يشبه يماثل ، ومقام الورد الزّهر ، ويقال : وجنته يماثل الزّهر ، فإن كان السّامع عالما بالوضع ، أي بوضع هذه المفردات ينتقل إلى المعنى التّركيبي ، أي ثبوت المماثلة للنّبت المخصوص للعضو المخصوص من الممدوح على وتيرة انتقاله إليه ، من قولك : خدّه يشبه الورد ، وإلّا فلا ، فالأمر دائر بين الوجود والعدم ، لا بين الوضوح والخفاء بعد ثبوت الدّلالة في كلّ منهما ، بخلاف الدّلالة التّضمنيّة والالتزاميّة فإنّها تختلف باختلاف العبارات كقولك عند إرادة تفهيم ثبوت الجود لزيد : زيد كثير الرّماد ، وزيد مهزول الفصيل ، فإنّهما يختلفان في الوضوح والخفاء ، لأنّ المثال الأوّل أشهر استعمالا من الثّاني ، فيكون أوضح دلالة.

(٣) أي وإن لم يعلم الوضع لم يفهم شيئا أصلا ، حتّى يكون هناك تفاوت في الدّلالة وضوحا وخفاء.

(٤) أي قال المصنّف : «لم يكن كلّ واحد» ، ممّا يدلّ على السّلب الجزئي دون أن يقول لم يكن واحد منها ممّا يدلّ على السّلب الكلّي ، وإنّما كان الأوّل سلبا جزئيا لوقوع كلّ في حيز النّفي المفيد لسلب العموم ، وهو سلب جزئي ، وإنّما كان الثّاني سلبا كلّيّا ، لأنّ واحد نكرة واقعة في سياق النّفي فتعمّ عموما شموليّا ، فيكون المراد عموم السّلب ، وهو سلب كلّي.

وحاصل الفرق بين التّعبيرين : أنّ الأوّل سلب جزئي ، وقد ثبت في محلّه أنّ السّالبة الجزئيّة أعمّ ، حيث إنّها صادقّة مع السّلب الكلّي بأن لا يكون السّامع عالما بوضع شيء منها ، فلا يكون شيء منها دالا ، ومع السّلب الجزئي بأن يكون عالما بوضع بعض منها دون بعض ، فيكون بعضها دالا ، والثّاني سلب كلّي ، كما عرفت ، وذلك لا يصدق إلّا إذا لم يكن عالما بشيء منها ، وحيث إنّ المتحقّق في الواقع عند انتفاء الموجبة الكلّيّة أمران : السّلب الكلّي والسّلب الجزئي ، أتى المصنّف بما يدلّ على رفع الإيجاب الكلّي كان متحقّقا في ضمن السّلب الكلّي والسّلب الجزئي ، ولم يأت بما يدلّ على السّلب الكلّي ، أي لم يقل : وإلّا لم يكن واحد منها دالا ، لأنّه لا يشمل فرض تحقّق السّلب الجزئي.

٣٢٠