دروس في البلاغة - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

فالأوّل (١) ، [كقوله (٢) : فسقى ديارك غير مفسدها] نصب على الحال من فاعل سقى وهو [صوب (٣) ، الرّبيع (٤)] ، أي نزول المطر ووقوعه في الرّبيع ، [وديمة (٥) ، تهمى] (٦) أي تسيل ، فلمّا كان نزول المطر قد يؤول إلى خراب الدّيار وفسادها (٧) ، أتى بقوله : غير مفسدها ، دفعا لذلك ، [و] الثّاني (٨) ،

________________________________________

إمّا أن يكون جملة أو مفردا ، وحينئذ فبينه وبين الإيغال عموم وخصوص من وجه لاجتماعهما فيما يكون في الختم ، وآخر الكلام لدفع إيهام خلاف المقصود ، وانفراد الإيغال فيما ليس فيه دفع إيهام خلاف المقصود ، وانفراد التّكميل فيما يكون في الوسط ، كما في قوله : فسقى ديارك غير مفسدها ، وكذلك بينه وبين التّذييل عموم وخصوص من وجه إن صحّ أنّ التّوكيد الكائن بالتّذييل قد يدفع إيهام خلاف المقصود ، وذلك لانفراد التّكميل بما يكون بغير جملة ، وانفراد التّذييل بما يكون لمجرّد التّأكيد الخالي عن دفع الإيهام ، وأمّا إن كان التّوكيد الكائن بالتّذييل لا يجامع دفع الإيهام فهما متباينان ، وبينه وبين التّكرير والإيضاح تباين ، كتباين الإيغال والتّذييل لهما.

(١) وهو ما إذا كان الدّافع في وسط الكلام ، أي وهو مفرد.

(٢) أي قول طرفة بن العبد ، من شعراء الجاهليّة ، وهو من قصيدة له في مدح قتادة بن مسلمة الحنفي.

(٣) الصّوب بفتح الصّاد وسكون الواو والموحّدة هو المطر الرّبيع ،

(٤) أحد الفصول الأربعة.

(٥) الدّيمة بكسر الدّال وسكون الياء وفتح الميم والهاء ، مطر ثلاثة أيام وليالي بلا رعد وبرق.

(٦) بفتح التّاء المضارعة وبسكون الهاء ، وكسر الميم ، أي تسيل.

والشّاهد في قوله : غير مفسدها ، حيث أوتي به لدفع الإيهام ، لأنّ نزول المطر قد يكون سببا لخراب الدّيار وفسادها ، فدفع ذلك بقوله : غير مفسدها.

(٧) أي فساد الدّيار فربّما يقع في الوهم أنّ ذلك دعاء بالخراب ، فأتى بقوله : غير مفسدها ، دفعا لذلك الوهم.

(٨) أي وهو ما كان الدّافع لإيهام خلاف المقصود واقعا في آخر الكلام.

٢٨١

[نحو : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(١) (١)] فإنّه لمّا كأن ممّا يوهم أن يكون ذلك لضعفهم دفعه بقوله : (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) تنبيها (٢) ، على أنّ ذلك (٣) تواضع منهم للمؤمنين ، ولهذا عدّي الذّلّ بعلى لتضمّنه (٤) معنى العطف ، ويجوز أن يقصد بالتّعديّة بعلى الدّلالة على أنّهم مع شرفهم وعلوّ طبقتهم ، وفضلهم على المؤمنين خافضون (٥) لهم أجنحتهم.

________________________________________

(١) تمام الآية ، (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) ، والشّاهد في قوله : (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) ، حيث أوتي به لدفع إيهام خلاف المقصود ، وتوضيح ذلك أنّ (أَذِلَّةٍ) من التّذلّل والخضوع ، لا من الذّلّة والهوان ، ولما كان ممّا يوهم أن يكون ذلك الوصف لضعفهم ، والإيهام نظرا إلى ظاهر لفظ الذّلّ من غير مراعاة قرينة المدح ، أو نظرا إلى أنّ شأن المتذلّل أن يكون ضعيفا أوتي بقوله : (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) لدفع ذلك الوهم ، أي القوم ، أقوياء وأشدّاء على الكافرين ، فتذلّلهم للمؤمنين ليس لضعفهم ، وعدم قوّتهم بل تواضعا منهم للمؤمنين ، والتّذلّل مع التّواضع إنّما يكون عن رفعة.

(٢) عّلة لقوله : «دفعه».

(٣) أي وصفهم بالذّلّة تواضع من القوم للمؤمنين ، فلو اقتصر على وصفهم بالذّلّة لتوهّم أن ذلّتهم لضعفهم ، فلمّا قال : (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) دلّ على أن الذّلّة تواضع منهم.

(٤) أي لتضمّن الذّل معنى العطف ، بمعنى العطوفة والرّحمة ، كأنّه قيل عاطفون وارحمون عليهم على وجه التّذلّل والتّواضع ، وإلّا فهو يتعدّى باللّام يقال : ذلّ له.

(٥) أي باسطون لهم جانبهم ، وحاصل هذا الوجه : أنّه لا يراعي التّضمين في الذّلّة بل تبقى الذّلّة على معناها ، وإن فهم من القرائن أنّها عن رحمة ، إلّا أنّه على نحو تعدّد الدّالّ والمدلول ، وإنّما ارتكب التّجوّز في لفظ على باستعماله موضع اللّام للإشارة إلى أنّ لهم رفعة واستعلاء على غيرهم من المؤمنين ، وأنّ تذلّلهم تواضع منهم لا عجز.

والفرق بين الوجهين :

أنّ محطّ التّصرف في الأوّل هو الفعل ، وفي الثّاني وبعبارة أخرى هو وجود التّضمين في الفعل ، وانتفاؤه على الثّاني ، وإنّما استعمل الحرف موضع حرف آخر.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥٤.

٢٨٢

[وإمّا بالتّتميم (١) ، وهو أن يؤتي في كلام (٢) لا يوهم (٣) خلاف المقصود بفضلة (٤)] ، مثل مفعول أو حال أو نحو ذلك (٥) ، ممّا ليس بجملة مستقلّة ، ولا ركن كلام (٦) ، ومن زعم أنّه (٧) أراد بالفضلة ما يتمّ أصل المعنى بدونه فقد كذّبه كلام المصنّف في الإيضاح (٨) ،

________________________________________

(١) هذا هو الأمر السّابع من الأمور التّسعة ، وتسمية هذا بالتّتميم ، وما قبله بالتّكميل مجرّد اصطلاح ، إذ هما شيء واحد لغة.

(٢) أي مع كلام في أثنائه أو في آخره.

(٣) أي هذا القيد مخرج للتّكميل لأنّه يؤتى به في كلام يوهم خلاف المقصود ، والفرق بين التّتميم والتّكميل بأن النّكتة في التّتميم غير دفع توهّم خلاف المقصود ، لا بأنّه لا يكون في كلام يوهم خلاف المقصود إذ لا مانع من اجتماع التّكميل والتّتميم.

(٤) أي ما ليس أحد ركني الكلام ، كالمفاعيل الخمسة ، والمجرور ، والحال ، والتّمييز سواء توقّف أصل المعنى المراد عليه أم لا ، فالمراد بالفضلة هنا الفضلة بالمعنى الأعمّ لا بالمعنى الأخصّ ، وهو ما لا يتوقّف المعنى المراد عليه.

(٥) أي كالمجرور والتّمييز.

(٦) أي بأن كان مفردا أو جملة غير مستقلّة كجملة الحال والصّفة لتأويلهما بمفرد ، وإنّما كان كلامه شاملا للمفرد ، وللجملة الغير المستقلّة ، لأن السّالبة تصدق عند نفي موضوعها ومحمولها ، كما في علم المنطق.

(٧) أي من زعم أن المصنّف أراد بالفضلة ما يتمّ أصل المعنى بدونه ، حتّى تدخل الجملة الزّائدة على أصل المراد.

(٨) حيث مثّل له فيه بقوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)(١). والشّاهد في قوله : (مِمَّا تُحِبُّونَ) حيث جعله المصنّف من التّتميم ، مع أنّه ليس فضلة بالاعتبار الّذي ذكره الزّاعم ، لأنّ الإنفاق ممّا تحبون الّذي هو المقصود بالحصر لا يتمّ أصل المراد بدونه ، إذ لا يصحّ أن يقال : حيث أريد هذا المعنى حتّى لا تنفقوا فقط دون ذكر ممّا تحبّون ، فتعيّن أن مراده بالفضلة بعض الفضلات المذكورة ، سواء توقّف تمام المعنى عليه أو لا ، ولا شك أنّ ممّا تحبّون بعضها ، لأنّه مجرور.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٩٢.

٢٨٣

وأنّه (١) لا تخصيص لذلك بالتّتميم [لنكتة كالمبالغة نحو : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ)(١) (٢) في وجه] وهو أن يكون الضّمير في حبّه للطّعام ، [أي] يطعمونه [مع حبّه] والاحتياج (٣) إليه وإن جعل الضّمير لله تعالى ، أي يطعمونه على (٤) حبّ الله ، فهو لتأدية أصل المراد (٥).

________________________________________

(١) عطف على كلام المصنّف ، فالمعنى : أي كذّبه كلام المصنّف في الإيضاح وكذّبه عدم تخصيص ذلك بالتّتميم ، بل يعمّ جميع أقسام الإطناب ، لأنّ الإطناب بجميع أقسامه الزّائد فيه ما يتمّ المعنى بدونه ، فلا خصوصيّة للتّتميم بذلك ، لأنّ جميع أقسام الإطناب كذلك لا التّتميم وحده.

(٢) وتمام الآية :

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً).

والشّاهد في قوله :

(عَلى حُبِّهِ) حيث أوتي به بعد الجملة ، لزيادة المبالغة في مدح المؤمنين ، لأنّ إطعام الطّعام مع الاحتياج إليه أبلغ في المدح من مجرّد إطعام الطّعام ، لأنّه يدل على النّهاية في التّنزّه عن البخل المذموم شرعا.

والحاصل إنّ المقصود من الآية : مدح الإبرار بالسّخاء والكرم ، وهذا يكفي فيه مجرّد الإخبار عنهم بأنهم يطعمون الطّعام ، ولا يتوقّف على بيان كون الطّعام محبوبا عندهم لاحتياجهم إليه أكيدا ، فقوله : (عَلى حُبِّهِ) إطناب ، نكتته إفادة المبالغة في المدح.

(٣) أي مع الاحتياج إلى ذلك الطّعام ، فيكون عطف الاحتياج إليه على حبّه من عطف العلّة على المعلول ، بمعنى أنّ ذلك الحب ناشئ عن احتياجهم إليه ، ولا شكّ أنّ إطعام الطّعام مع الاحتياج إليه أبلغ في المدح من مجرّد إطعام الطّعام.

(٤) أي جعلت كلمة «على» للتّعليل ، أي يطعمون الطّعام لأجل حبّ الله لا لرياء ولا سمعة.

(٥) أي فقوله : (عَلى حُبِّهِ) لتأدية أصل المراد ، وهو مدحهم بالسّخاء والكرم ، لأنّ الإنسان لا يمدح شرعا ، إلّا على فعل لأجل الله ، وإذا كان الجارّ والمجرور على هذا الوجه لتأدية أصل المراد كان مساواة لا إطنابا ، فلا يكون تتميما.

__________________

(١) سورة الدّهر : ٨.

٢٨٤

[وإمّا (١) بالاعتراض ، وهو أن يؤتى في أثناء الكلام أو بين كلامين متّصلين معنى (٢) ، بجملة (٣) ، أو أكثر لا محلّ لها من الإعراب لنكتة سوى دفع الإيهام (٤)] ، لم يرد (٥) بالكلام مجموع المسند إليه والمسند فقطّ ، بل مع جميع ما يتعلّق بهما من الفضلات

________________________________________

(١) عطف على قوله :

إما بالإيضاح بعد الإبهام ، وإمّا بكذا ، وإمّا بكذا ، وأمّا بالاعتراض ، وهذا هو الأمر الثّامن من الأمور التّسعة.

(٢) بأن كان الثّاني بيانا للأوّل ، أو تأكيدا له ، أو بدلا منه ، أو معطوفا عليه.

(٣) متعلّق بقوله :

«يؤتى» ، أي بأن يؤتى بجملة أو أكثر ، وخرج بقوله : «لا محلّ لها من الإعراب» التّتميم ، لوجود الإعراب فيه.

(٤) خرج بعد التّكميل ، فالنّسبة بينه وبين كلّ من التّكميل والتّتميم هي التّباين ، والنّسبة بينه وبين التّذييل عموم من وجه ، لتصادقهما فيما إذا كانت النّكتة فيه التّأكيد ، وكان الكلام واقعا بين كلامين متّصلين معنى. ومادّة الافتراق من جانب التّذييل فيما لم يكن بين كلامين ، أو في أثناء الكلام ، ومادّة الافتراق من جانب الاعتراض فيما لم تكن النّكتة فيه التّأكيد.

وكذلك النّسبة بينه وبين الإيغال لتصادقهما في جملة لا محلّ لها من الإعراب ، وقد ذكرت في آخر كلام متّصل به كلام آخر ، ووجود الأوّل دون الثّاني فيما تذكر في وسط كلام ، والعكس في جملة تذكر آخر كلام لم يتصل به كلام آخر. وكذا النّسبة بينه وبين الإيضاح بعد الإبهام لتصادقهما في كلام وقع في أثناء كلام أو بين كلامين متّصلين معنى لغرض الإيضاح.

ووجود الثّاني دون الأوّل فيما يذكر آخر الكلام غير متّصل به كلام آخر. والعكس في جملة ذكرت أثناء كلام وليس للإيضاح. والنّسبة بينه وبين كلّ واحد من ذكر الخاصّ بعد العامّ ، والتّكرير هي التّباين لأنّ الخاصّ معطوف على العامّ ، والاعتراض ليس كذلك ، والتّكرير تأكيد للأولى ، والاعتراض ليس كذلك.

(٥) أي ليس المراد بالكلام المذكور في التّعريف هو المسند إليه والمسند فقطّ ، وإلّا لم يشمل المثال الآتي ، بل المراد به هو المسند إليه والمسند مع جميع ما يتعلّق بهما ، أي المسند اليه والمسند.

٢٨٥

والتّوابع (١) ، والمراد باتّصال الكلامين أن يكون الثّاني بيانا (٢) للأول ، أو تأكيدا له أو بدلا [كالتّنزيه في قوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ)(١) (٣)] ، فقوله : ـ سبحانه ـ جملة ، لأنّه مصدر بتقدير الفعل (٤) ، وقعت في أثناء الكلام ، لأنّ قوله : (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) عطف (٥) على قوله : (لِلَّهِ الْبَناتِ) ، [والدّعاء في قوله (٦) :

________________________________________

(١) أي التّوابع المفردة ، ولو تأويلا ، كما في قوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ)(٢) فإنّ كلا منهما في قوّة المفرد ، وإنّما قيّدنا ما ذكر بالمفرد ليغاير ما يأتي في بيان اتّصال الكلامين من قوله : «أن يكون الثّاني بيانا للأول أو تأكيدا أو بدلا» ، فإنّ المراد بذلك الجملة الّتي ليست في قوّة المفرد ، كما سيظهر من التّمثيل.

(٢) أي أنّ عطف البيان يكون في الجمل.

(٣) والشّاهد في قوله سبحانه ، حيث وقع اعتراضا بين كلامين متّصلين معنى لغرض التّنزيه ، وهو منصوب على المصدريّة ، كأنّه قال : أسبّح سبحانه ، أي أنزّه الله من النّقائص تنزيها ، وقيل : إنّه وقع اعتراضا بين المفعولين وعاطف عليهما ، لأنّ قوله تعالى : (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) عطف على قوله تعالى : (لِلَّهِ الْبَناتِ) ويكون العطف من عطف المفردين على المفردين ، وقد تقدّم أنّ أثناء الكلام يشمل ما بين المتعاطفين المفردين.

(٤) أي أسبّح سبحانه.

(٥) عطف المفردات ، فإنّ قوله : (وَلَهُمْ) عطف على قوله : (لِلَّهِ) ، وقوله : (ما يَشْتَهُونَ) عطف على قوله : (الْبَناتِ) ، وتقدّم أنّ أثناء الكلام يشمل ما بين المتعاطفين ، ثمّ إنّ العامل في المعطوف هو العامل في المعطوف عليه ، فالضّمير المجرور باللّام معمول ل (وَيَجْعَلُونَ) على أنّه مفعول ، وفاعله الواو. والمعنى يجعلون لله البنات ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون من الذّكور ، والنّكتة فيه تنزيه الله وتقديسه عمّا ينسبون إليه من النّقائص.

(٦) أي في قول عوف بن محلّم الثّيباني ، من شعراء الدّولة العباسيّة ، يشكو كبره وضعفه إلى عبد الله بن طاهر الّذي سلّم عليه ، فلم يسمع ، (بلغت) مجهول من التّبليغ ، بمعنى الإيصال ، «التّرجمان» معناه تفسير كلام في لسان بلسان آخر ، والمراد هنا إعادة الكلام ثانيا ليسمعه ، والشّاهد في قوله : «وبلغتها» حيث وقع بين الكلام اعتراضا للدّعاء.

__________________

(١) سورة النّحل : ٥٧.

(٢) سورة النّحل : ٥٧.

٢٨٦

أنّ الثمانين وبلغتها

قد أحوجت سمعي إلى ترجمان]

أي مفسّر (١) ومكرّر ، فقوله : وبلغتها (٢) ، اعتراض في أثناء الكلام لقصد الدّعاء (٣) ، والواو في مثله تسمّى واوا اعتراضيّة ليست بعاطفة ولا حاليّة (٤) ، [والتّنبيه (٥) ، في قوله (٦) ، واعلم فعلم المرء ينفعه] هذا (٧) اعتراض بين اعلم ومفعوله ، وهو [أن سوف يأتي كلّ ما قدرا (٨)] أن هي المخفّفة من الثّقيلة ، وضمير الشّأن محذوف (٩) ،

________________________________________

(١) أي بصوت أجهر من الصّوت الأوّل فقوله «ومكرّر» عطف تفسير على «مفّسر» ، وهو المراد بالتّرجمان هنا ، وإن كان في الأصل هو من يفسّر لغة بلغة أخرى.

(٢) أي بلغت الثمّانين من عمري.

(٣) أي لقصد الدّعاء للمخاطب بطول عمره.

(٤) اعلم أنّ الواو الاعتراضيّة قد تلتبس بالحاليّة فلا تتعيّن إحداهما عن الأخرى إلّا بالقصد ، فإن قصد كون الجملة قيدا للعامل فهي حاليّة ، وإلّا فهي اعتراضيّة.

(٥) أي تنبيه المخاطب على أمر يؤكّد الإقبال على ما أمر به.

(٦) أي في قول الشّاعر ، وهو أبو علي الفارسي ، والشّاهد في قوله : «فعلم المرء ينفعه» حيث إنّه جملة معترضة ، أوتي بها تنبيها للمخاطب على أمر يؤكّد الإقبال ، أي إقبال المخاطب على ما أمر به ، وذلك لأنّ هذا الاعتراض أفاد أنّ علم الإنسان بالشّيء ينفعه ، وهذا ممّا يزيد المخاطب إقبالا على طلب العلم ، والفاء في قوله : «فعلم المرء ينفعه» اعتراضيّة ، والمستفاد من قول الشّارح : «هذا اعتراض» أنّ الاعتراض يكون مع الفاء ، كما يكون مع الواو وبدونهما.

(٧) أي فعلم المرء ينفعه «اعتراض بين اعلم ومفعوله وهو أن سوف يأتي ...».

(٨) يقول الشّاعر : واعلم فعلم الإنسان ينفعه أنّه سوف يأتي لزوما كلّما قدّر الله عليه لا يتأخّر عن وقته.

(٩) هذا على مذهب المشهور والجمهور ، ويجوز أن يكون المحذوف ضمير مخاطب ، هو المأمور بالعلم ، أي أنّك سوف يأتيك كلّ ما قدرا كما جوّزه سيبويه وجماعة في قوله تعالى : (أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا)(١).

__________________

(١) سورة الصّافات : ١٠٤ و ١٠٥.

٢٨٧

يعني أنّ المقدور (١) آت البتّة ، وإن وقع فيه تأخير ما ، وفي هذا تسلية وتسهيل للأمر (٢) ، فالاعتراض (٣) يباين التّتميم ، لأنّه (٤) إنّما يكون بفضلة ، والفضلة لا بدّ لها من إعراب ، ويباين (٥) التّكميل ، لأنّه إنّما يقع لدفع إيهام خلاف المقصود ، ويباين (٦) الإيغال لأنّه لا يكون إلّا في آخر الكلام ، لكنّه (٧) يشمل بعض صور التّذييل ، وهو (٨) ما يكون بجملة لا محلّ لها من الإعراب وقعت بين جملتين متّصلتين معنى ، لأنّه كما لم يشترط في التّذييل

________________________________________

(١) المراد بالمقدور ما قدّره الله ، فيكون قوله :

«يعني أنّ المقدور» تفسيرا لحاصل المعنى.

(٢) لأنّ الإنسان إذا علم أنّ ما قدره الله يأتيه طال الزّمان أو قصر ، وإن لم يطلبه وما لم يقدّره لا يأتيه ، وإن طلبه تسلّى ، وسهّل عليه الأمر ، يعني الصّبر والتّفويض ، وترك منازعة الأقدار.

(٣) هذا تفريع على ما ذكره في تعريف الاعتراض ، يعني إذا علمت حقيقة الاعتراض فيما سبق من أنّه لا بدّ وأن يكون في الأثناء ، وأن يكون بجملة أو أكثر لا محلّ لها ، وأن تكون النّكتة فيه سوى دفع الإيهام ، تفرّع على ذلك ما ذكره الشّارح.

(٤) أي لأنّ التّتميم إنّما يكون بفضلة ، والفضلة لا بدّ لها من إعراب ، والاعتراض ليس له محلّ من الإعراب.

(٥) أي الاعتراض يباين التّكميل ، لأنّه إنّما يقع لدفع إيهام خلاف المقصود بخلاف الاعتراض ، فإنّه ليس لدفع إيهام خلاف المقصود.

(٦) أي الاعتراض يباين الإيغال ، لأنّ الإيغال لا يكون إلّا في آخر الكلام بخلاف الاعتراض ، فإنّه إنّما يكون في أثناء الكلام ، أو بين كلامين متّصلين.

(٧) أي تعريف الاعتراض يشمل بعض صور التّذييل ، أي يصدق عليه.

(٨) أي ذلك البعض ما يكون التّذييل بجملة لا محلّ لها من الإعراب ، وقعت تلك الجملة بين جملتين متّصلتين معنى ، وكان وقوعها بينهما للتّأكيد ، فيصدق عليها الاعتراض.

٢٨٨

أن يكون بين كلامين لم يشترط فيه أن لا يكون بين كلامين (١) ، فتأمّل (٢) ، حتّى يظهر لك فساد ما قيل : إنّه (٣) ، يباين التّذييل بناء (٤) على أنّه لم يشترط فيه أن يكون بين كلام أو بين كلامين متّصلين معنى.

________________________________________

(١) أي بل تارة يكون التّذييل بين كلامين ، وأخرى لا يكون بينهما ، وذلك لأنّ الشّرط في التّذييل كونه بجملة عقب أخرى بقيد كونها للتّأكيد ، كانت تلك الجملة لها محلّ من الإعراب أم لا ، كانت بين كلامين متّصلين معنى أم لا ، فيشمل الاعتراض بعض صور التّذييل ، فقول الشّارح : «لأنّه كما لم يشترط ...» علّة لكون الصّورة المذكورة من صور التّذييل ، وشملها ضابط الاعتراض ، ومن هنا يعلم أنّ النّسبة بينهما هي عموم من وجه ، لاجتماعهما في هذه الصّورة ، وانفراد التّذييل فيما لا يكون بين كلامين متّصلين ، وانفراد الاعتراض بما لا يكون للتّأكيد.

(٢) أي ما قلنا لك من شمول الاعتراض لبعض صور التّذييل المفيد أنّ بينهما عموما وخصوصا من وجه.

(٣) أي الاعتراض يباين التّذييل.

(٤) إشارة إلى دليل التّباين ، وأمّا وجه فساد ما قيل فحاصله : أنّ عدم اشتراط الشّيء ليس اشتراطا لعدمه ، فقولنا : التّذييل لا يشترط أن يكون بين كلام أو كلامين ، ليس شرطا لكونه ليس بين كلام أو كلامين.

وبعبارة واضحة أنّ بعض النّاس فهم أنّ التّذييل لما لم يشترط فيه أن يكون بين كلامين متّصلين ، ولا في أثناء كلام اختصّ بأنّه لا يكون بين كلامين متّصلين ، فباين الاعتراض لاختصاصه بكونه بين كلامين متّصلين.

ووجه فساد هذا القول : أنّه لا يلزم من عدم اشتراط الشّيء عدم وجوده وإنّما تلزم المباينة بينهما ، لو قيل : إنّه يشترط في التّذييل أن لا يكون بين كلامين ، وفرق ظاهر بين عدم اشتراط الشّيء واشتراط عدم الشّيء ، وذلك لأنّ الأوّل يجامع وجوده وعدمه ، فهو أعمّ من الثّاني.

ويمكن الجواب :

بأنّ هذا القائل نظر إلى تباينهما بحسب المفهوم بناء على ما ذكر ، وإن كان هذا لا يوجب التّباين بحسب الصّدق ، ولعلّ قوله : «فتأمّل» ، إشارة إلى هذا.

٢٨٩

[وممّا جاء] أي ومن الاعتراض الّذي وقع [بين كلامين] متّصلين [وهو (١) أكثر من جملة أيضا] ، كما أنّ الواقع هو (٢) بينه أكثر من جملة. [قوله تعالى : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)(١) (٣)].

فهذا (٤) اعتراض أكثر من جملة ، لأنّه كلام يشتمل على جملتين (٥) ، وقع بين كلامين

________________________________________

(١) أي والحال أنّ الاعتراض نفسه الواقع بين الكلامين أكثر من جملة أيضا ، أي كما أنّ الكلام الّذي وقع الاعتراض بينه وفي أثنائه أكثر من جملة ، ففيه تمثيلان تمثيل ما جاء بين كلامين ، وتمثيل ما هو أكثر من جملة.

(٢) أبرز الشّارح الضّمير لكونه مسندا إليه صفة جرت على غير من هي له ، أي كما أنّ الكلام الّذي وقع الاعتراض بينه ، وفي أثنائه أكثر من جملة ، فهو راجع إلى الاعتراض نفسه لا إلى أل الموصولة في الواقع ، والضّمير المجرور في بينه ، راجع إلى الموصول أعني أل في الواقع ، وهو واقع على محلّ الاعتراض ، أعني طرفي الاعتراض.

(٣) والشّاهد في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) حيث وقع اعتراضا بين ما قبلها وما بعدها ، وهو أكثر من جملة لأنّه جملتان ، أي يحب التّوابين ، ويحب المتطهّرين.

(٤) أي قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) اعتراض.

(٥) أحدهما :

(يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) ، والأخرى : (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) ، بناء على أنّ المراد بالجملة ما اشتمل على المسند والمسند إليه ، ولو كانت الثّانية في محلّ المفرد ، هذا إذا قدّر كما هو الظّاهر ، أنّ الثّانية معطوفة على جملة (يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) الّتي هي خبر (إن) ، وأمّا إذا بنينا على أنّ المراد بالجملة ما يستقلّ بالإفادة ، وهو الأقرب فإنّما يتبيّن كونه أكثر من جملة ، إذا قدّر عطف (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) على مجموع (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) إمّا بتقدير الضّمير على أنّه مبتدأ ، وهو (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) أو بدون تقديره لأنّها ليست في محلّ المفرد حينئذ ، وإن كانت مشتملة على ضمير عائد على ما في الجملة الأولى ، وأمّا إذا قدّر على هذا البناء عطفها على (يُحِبُّ التَّوَّابِينَ). فلا يخفى أن ليس هنا جملتان ، وحينئذ فليس الاعتراض هنا بأكثر من جملة ، بل بواحدة فقط.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٢٢.

٢٩٠

أوّلهما قوله : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) وثانيهما قوله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) والكلامان متّصلان معنى [فإنّ قوله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) بيان (٢) لقوله : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) وهو مكان الحرث ، فإنّ الغرض (٣) ، الأصلي من الإتيان طلب النّسل (٤) لا قضاء الشّهوة ، والنّكتة في هذا الاعتراض التّرغيب فيما أمروا به (٥) ، والتّنفير عما نهوا عنه (٦). [وقال قوم قد تكون النّكتة فيه] أي في الاعتراض [غير ما ذكر (٧)] ،

________________________________________

(١) أي موضع حرثكم ، وفي كونهنّ موضع الحرث تبنيه على أنّ الغرض من إتيانهنّ طلب الغلّة منهنّ ، وهو النّسل كما تطلب الغلّة من المحرث الحسّي ، فالحكمة من إتيانهنّ طلب النّسل.

(٢) وتوضيح ذلك :

أنّ المكان الّذي أمر الله بإتيانهنّ منه هو موضع الحرث.

(٣) هذا علّة لمعلول محذوف ، أي إنّما كان قوله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) بيانا لقوله (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) ، لأنّ الغرض الأصلي من الإتيان طلب النّسل ، لا قضاء الشّهوة ، أي فلا تأتوهنّ إلّا من حيث يتأتّى منه هذا الغرض ، وقوله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) أدلّ على هذا.

(٤) أي لأنّه أهمّ الأمور المترتّبة على إتيانهنّ لما فيه من بقاء النّوع الإنساني المترتّب عليه كثرة الخيور الدّنيويّة والأخرويّة ، وحيث كان الغرض والحكمة من إتيانهنّ طلب النّسل ، والنّسل لا يحصل إلا بالإتيان من القبل لا من الدّبر ، فيكون ذلك الموضع هو المكان الّذي طلب إتيانهنّ منه شرعا ، فتمّ ما ذكره المصنّف من دعوى البيان.

(٥) أي من جملة ما أمروا به هو الإتيان في القبل.

(٦) أي من جملة ما نهوا عنه ، هو الإتيان في الدّبر ، ووجه كون الاعتراض هنا مرغّبا ومنفّرا عمّا ذكر أنّ الإخبار بمحبّة الله للتّائب عما نهي عنه إلى ما أمر به والإخبار بمحبّة الله للمتطهّرين من إدراك أنّ التّلبس بالمنهي عنه بسبب التّوبة والرّجوع للمأمور به ممّا يؤكّد الرّغبة في الأوامر الّتي من جملتها الإتيان في القبل والتّنفير عن النّواهي الّتي من جملتها الإتيان في الدّبر.

(٧) الأوضح أن يقول :

قد تكون النّكتة دفع الإيهام.

٢٩١

ممّا سوى (١) دفع الإيهام ، حتّى (٢) إنّه قد يكون لدفع إيهام خلاف المقصود. [ثمّ] القائلون بأن النّكتة فيه قد تكون دفع الإيهام افترقوا فرقتين [جوّز بعضهم وقوعه] أي الاعتراض في [آخر جملة (٣) لا تليها (٤) جملة متّصلة بها] وذلك بأن لا تلي الجملة جملة أخرى أصلا ، فيكون هذا الاعتراض في آخر الكلام ، أو تليها (٥) جملة أخرى غير متّصلة بها معنى ، وهذا الاصطلاح (٦) مذكور في مواضع من الكشّاف ، فالاعتراض عند هؤلاء أن يؤتى في أثناء الكلام (٧) ، أو في آخره (٨) ، أو بين كلامين متّصلين (٩) ، أو غير متّصلين (١٠) بجملة (١١) ، أو أكثر لا محلّ لها من الإعراب (١٢) لنكتة سواء كانت دفع الإيهام أو غيره (١٣) ، [فيشمل] أي الاعتراض بهذا التّفسير (١٤)

________________________________________

(١) هذا بيان لما ذكر فكأنّه قال قد تكون النّكتة فيه غير سوى دفع الإيهام ، وغير ذلك السّوى هو دفع الإيهام ، لأنّ نفي النّفي إثبات ، فالنّكتة على هذا القول تكون نفس دفع الإيهام ، وتكون غيره.

(٢) حتّى التّفريعيّة بمعنى الفاء ، وضمير أنّه يعود إلى الاعتراض ، فكأنّه قال : فيكون الاعتراض لدفع إيهام خلاف المقصود.

(٣) أي بعدها.

(٤) أي لا تلي الجملة الّتي اعترضت جملة بعدها.

(٥) أي الجملة الّتي اعترض عنها «جملة غير متّصل بها معنى».

(٦) والمراد من الاصطلاح كون الاعتراض لدفع الإيهام ، وجواز وقوعه في آخر الكلام.

(٧) هذا محلّ الوفاق.

(٨) هذا محلّ الخلاف.

(٩) هذا أيضا محلّ الوفاق.

(١٠) هذا محلّ الخلاف أيضا.

(١١) متعلّق بقوله «يؤتى».

(١٢) هذا لم يقع فيه خلاف فيكون اشتراط عدم المحلّيّة باقيا بحاله.

(١٣) أي غير دفع الإيهام كالتّأكيد مثلا.

(١٤) أي الصّادق على ما لا محلّ له من الإعراب من الجملة المؤكّدة لما قبلها سواء كانت في آخر الكلام أو في أثنائه.

٢٩٢

[التّذييل] مطلقا (١) ، لأنّه (٢) يجب أن يكون بجملة لا محلّ لها من الإعراب ، وإن لم يذكره المصنّف (٣) ، [وبعض صور التّكميل] وهو (٤) ما يكون بجملة لا محلّ لها من الإعراب ، فإنّ التّكميل قد يكون بجملة وقد يكون بغيرها (٥) ، والجملة التّكميليّة قد تكون ذات إعراب (٦) ، وقد لا تكون (٧) ، لكنّها (٨) تباين التّتميم ،

________________________________________

(١) أي شمولا مطلقا ، أي فكلّ تذييل اعتراض ولا عكس فيجتمعان فيما إذا كانت الجملة المعترضة مشتملة على معنى ما قبلها ، وكانت النّكتة التّأكيد ، وينفرد الاعتراض فيما إذا كانت النّكتة غير التّأكيد ، ويحتمل أن يكون المراد بقوله : «مطلقا» ، أي بجميع صوره لقول المصنّف بعد وبعض صور التّكميل ، ولا فرق في التّذييل بين أن يكون في الآخر أم لا ، لأنّ التّذييل قد يكون في الوسط كما تقدّم قريبا من الشّارح.

(٢) أي التّذييل ، أي كما أنّ الاعتراض يجب فيه ذلك ، وهذا تعليل لشمول الاعتراض له على وجه الإطلاق.

(٣) أي لم يذكر المصنّف في التّذييل أنّه يجب أن يكون بجملة لا محلّ لها من الإعراب.

(٤) أي البعض ما يكون التّكميل بجملة لا محلّ لها من الإعراب.

(٥) أي بغير الجملة بأن يكون بمفرد ، وهذا القسم من التّكميل لا يكون اعتراضا.

(٦) أي وهذه لا تدخل في الاعتراض لتقييد الاعتراض بما لا محلّ له من الإعراب.

(٧) وهذه تدخل في الاعتراض وهي المشار لها بقول المصنّف «وبعض صور التّكميل» ، وعلى هذا فيكون بين التّكميل والاعتراض على هذا القول العموم والخصوص من وجه لاجتماعهما في الصّورة المشمولة للاعتراض ، وهو ما يكون بجملة لا محلّ لها من الإعراب لدفع الإيهام ، إذ لا يشترط في الاعتراض على هذا القول أن تكون النّكتة غير دفع الإيهام ، وينفرد الاعتراض بما يكون من الجمل لغير دفع الإيهام ، وينفرد التّكميل بغير الجملة ، وبالجملة الّتي لها محلّ من الإعراب.

(٨) أي الاعتراض ، وأنّث الضّمير نظرا إلى كونه جملة ، أي لكن الجملة المعترضة تباين التّتميم ، وكان الأولى أن يقول : لكنّه ، بل لو قال : وهو مباين للتّتميم لكان أوضح.

وحاصل ما ذكره الشّارح في توجيه المباينة أنّ التّتميم إنّما يكون بفضلة ، والفضلة لا بدّ لها من إعراب ، والاعتراض إنّما يكون بجملة لا محلّ لها من الإعراب ، والتّباين بينهما أوضح من الشّمس.

٢٩٣

لأنّ الفضلة (١) لا بدّ لها من إعراب ، وقيل (٢) : لأنّه لا يشترط في التّتميم أن يكون جملة كما اشترط في الاعتراض ، وهو (٣) غلط ، كما يقال : إنّ الإنسان يباين الحيوان ، لأنّه لم يشترط في الحيوان النّطق (٤) ، فافهم (٥).

[وبعضهم (٦)] ، أي جوّز بعض القائلين بأنّ نكتة الاعتراض قد تكون دفع الإيهام [كونه] أي الاعتراض [غير جملة] فالاعتراض عندهم (٧) ، أن يؤتى في أثناء الكلام أو بين كلامين متّصلين معنى بجملة أو غيرها

________________________________________

(١) أي الفضلة المشترطة في التّتميم.

(٢) أي وقيل في وجه التّباين بين الاعتراض والتّتميم غير ما سبق ، وضمير «لأنّه» للحال والشّأن.

(٣) أي هذا القيل المعلّل بقوله : «لأنّه ...» غلط نشأ من عدم الفرق بين عدم الاشتراط واشتراط العدم ، والحاصل إنّ عدم اشتراط الجملة في التّتميم بجامع كون التّتميم جملة ، فلا يكون منافيا لاشتراط الجملة في الاعتراض.

نعم ، اشتراط عدم الجملة في التّتميم مناف لاشتراطها في الاعتراض ، فعدم الاشتراط أعمّ من اشتراط العدم.

(٤) وجه الشّبه أن كلا منهما غلط ، و (ما) في قوله : «كما يقال» مصدريّة.

(٥) لعلّه إشارة إلى وجه الغلط ، وهو أنّ عدم الاشتراط بشيء لا يقتضي اشتراط عدم ذلك الشّيء ، للفرق بين الماهية بشرط لا شيء ، وبين الماهية بلا شرط شيء ، فإنّ الثّاني لا يستلزم الأوّل ، وبالجملة إنّ هذا القول غلط ، إذ عدم اشتراط الجملة في التّتميم ، واشتراطها في الاعتراض لا يوجب التّباين ، بل يوجب كون الاعتراض أخصّ من التّتميم لكونه مقيّدا بالجملة دونه.

(٦) عطف على فاعل «جوّز» وهو فرقة ، أي جوّز الفرقة الثّانية من القائلين بأنّ النّكتة في الاعتراض قد يكون دفع الإيهام أن يكون الاعتراض غير جملة.

(٧) أي عند الفرقة الثّانية.

٢٩٤

لنكتة ما (١) ، [فيشمل] الاعتراض بهذا التّفسير [بعض صور التّتميم (٢) ، و] بعض صور [التّكميل] وهو (٣) ، ما يكون واقعا في أثناء الكلام أو بين الكلامين المتّصلين. [وإمّا بغير ذلك] عطف (٤) ، على قوله : إمّا بالإيضاح بعد الإيهام ، وإمّا بكذا وكذا. [كقوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ)(١)

________________________________________

(١) أي فهم خالفوا الجمهور في أمرين : الأوّل عدم اشتراطهم في الاعتراض كونه جملة لا محلّ لها من الإعراب ، والثّاني : التزامهم بتعميم النّكتة كما أشار إليه بقوله «لنكتة ما» ، أي سواء كانت دفع الإيهام أو غيرها ، وخالفوا الفرقة الأولى بعدم التزامهم بصحّة وقوع الاعتراض آخر جملة لا تليها جملة متّصلة بها.

(٢) وهو ما كان الاعتراض بغير جملة في أثناء الكلام ، فالنّسبة بينهما عموم من وجه ، لاجتماعهما في هذه الصّورة ، وانفراد التّتميم عنه بما يكن آخر الكلام ، وانفراد الاعتراض عنه بما يكون غير فضلة ، وقد علمت أنّ الاعتراض على القولين السّابقين كان مباينا للتّتميم.

(٣) أي والبعض «ما يكون واقعا في أثناء الكلام ...».

لا يقال : إنّه يشمل بعض صور التّذييل أيضا ، وكان على المصنّف أن ينبّه عليه ، وذلك البعض ما يقع في أثناء كلامين متّصلين معنى للتّأكيد.

لأنّنا نقول : شموله متحقّق على التّفسير الأوّل أيضا ، فلا خصوصيّة له بهذا التّفسير ، والغرض هنا ذكر ما يخصّ التّفسير الثّاني ، فلذا لم يعترض له.

هذا تمام الكلام في ثمانية أمور ذكرها المصنّف صريحا ، وبقي الكلام في الأمر التّاسع الّذي ذكره إجمالا ، فالأمور الّتي يتحقّق بها الإطناب تسعة.

(٤) أي عطف على الأمر الأوّل ، وهو الإيضاح بعد الإيهام ، لا على الأمر الأخير ، وهو قوله : «إمّا بالاعتراض» ، فإنّ الأولى فيما إذا توالت أمور متعاطفة أن يعطف الجميع على الأوّل ، إلّا أن تكون مترتّبة ، فيعطف كلّ لاحق على سابقه حفظا للتّرتيب ، وفي المقام بما أنّه لا ترتّب بين وجوه الإطناب فيجمعها بالعطف على الإيضاح بعد الإيهام.

(٥) والشّاهد في قوله (وَيُؤْمِنُونَ) حيث أوتي به من دون توقّف المعنى المراد عليه لغرض إظهار شرف الإيمان فيكون إطنابا.

__________________

(١) سورة غافر : ٧.

٢٩٥

فإنّه (١) لو اختصر (٢)] ، أي ترك الإطناب ، فإنّ (٣) الاختصار قد يطلق على ما يعمّ الإيجاز والمساواة كما مرّ (٤) ، [لم يذكر : (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) لأنّ إيمانهم لا ينكره] أي لا يجهله (٥) [من يثبتهم] فلا حاجة إلى الإخبار به لكونه معلوما [وحسن ذكره] أي ذكر قوله : (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) [إظهار شرف الإيمان ترغيبا فيه (٦)] ، وكون هذا الإطناب بغير ما ذكر من الوجوه السّابقة ظاهر (٧) بالتّأمل فيها (٨).

________________________________________

(١) الضّمير للشّأن.

(٢) أي ارتكب الاختصار.

(٣) علّة لتفسير الاختصار بترك الإطناب ، أي الاختصار وإن كان أعمّ من الإيجاز والمساواة إلّا أنّ المراد هنا هو الثّاني ، أعني المساواة ، لأنّه لو لم يذكر (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) لكان مساواة.

(٤) أي مرّ في باب نعم.

(٥) أي لا ينكر ولا يجهل إيمان حاملي العرش ، ومن حوله من يعتقد بوجودهم ، فإذا يكون ذكر (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) إطنابا ، حيث كان ذكره لأجل إظهار شرف الإيمان المدلول لجملة (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ، لأنّها سيقت مساق المدح ، فأتى بها لأجل إظهار مدلولها.

(٦) أي حيث مدح الملائكة الحاملون للعرش ، ومن حوله بالإيمان ترغيبا في الإيمان ، فيكون قوله : «ترغيبا» مفعولا له لإظهار شرف الإيمان.

(٧) خبر لقوله : «كون هذا الإطناب ...».

(٨) أي في الآية ، أو في الوجوه السّابقة ، وحاصل الكلام في المقام أنّه لم يوجد في الآية ما اعتبر في كلّ من الأمور السّابقة ، أمّا كونها ليس من الإيضاح ، ولا من التّكرار فواضح ، لأنّ قوله : (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ليس لفظه تكرارا ، ولا إيضاحا لإيهام قبله ، وأمّا كونها ليست من الإيغال ، فلأنّ قوله : (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ليس ختما للشّعر ، ولا للكلام ، كما هو في الإيغال ، إذ قوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) عطف على ما قبله ، فليس ختما ، وأمّا كونها ليست من التّذييل ، فلعدم اشتمال جملته ، وهي (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) على ما قبلها ، بل معناها لازم لما قبلها.

وأمّا كونها ليست من التّكميل ، وأمّا كونها ليست من التّتميم ، فلأنّ قوله : (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ليس فضلة ، وهو ظاهر ، وأمّا كونها ليست من الاعتراض فهو مشكلّ ، إذا بنينا على ما تقرّر من أنّ من جملة الاتّصال بين الكلامين أن يكون الثّاني معطوفا على الأوّل ، ولا شكّ أنّ جملة :

٢٩٦

[واعلم أنّه (١) قد يوصف الكلام بالإيجاز والإطناب باعتبار كثرة حروفه وقلّتها بالنّسبة إلى كلام آخر مساو له] أي لذلك الكلام [في أصل المعنى] فيقال للأكثر حروفا إنّه مطنب ، وللأقلّ إنّه موجز [كقوله (٢) : يصدّ (٣)] أي يعرض (٤) [عن الدّنيا إذا عنّ] أي ظهر (٥) ، [سؤدد] أي سيادة [ولو برزت (٦) ، في زيّ عذراء ناهد] الزّيّ الهيئة ، والعذراء البكر ،

________________________________________

(وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) معطوفة على جملة : (يُسَبِّحُونَ) فيكون ما بينهما اعتراضا.

والجواب من ذلك الإشكال إنّما هو يجعل واو في قوله : (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) للعطف لا للاعتراض ، فتخرج الآية عن كونها من قبيل الاعتراض.

(١) الضّمير للشّأن ، وحاصل الكلام في المقام أنّه قد تقدّم أنّ وصف الكلام بالإيجاز يكون باعتبار أنّه أدّى به المعنى حال كونه أقلّ من عبارة المتعارف ، مع كونه وافيا بالمراد ، وأنّ وصفه بالإطناب يكون باعتبار أنّ المعنى أدّى به مع زيادة عن المتعارف ، لفائدة أشار هنا إلى أنّ الكلام قد يوصف بهما في اصطلاح القوم باعتبار قلّة الحروف وكثرتها بالنّسبة إلى كلام آخر مساو لذلك الكلام في أصل المعنى ، فالأكثر حروفا منهما إطناب باعتبار ما هو دونه ، والأقلّ منهما حروفا إيجاز باعتبار أنّ هناك ما هو أكثر منه ، والباء في قوله : «باعتبار ...» للسّببيّة ، والباء في قوله «بالإيجاز» للتّعديّة.

(٢) أي كقول أبي تمّام من قصيدته الّتي رثى بها الحسين محمد بن الهيثم.

(٣) بفتح أوّله وكسر ثانيه ، لأنّه هو الّذي بمعنى يعرض ، وهو لازم ، وأمّا بضمّ الصّاد ، فهو بمعنى يمنع الغير ، فهو متعدّي.

(٤) بضمّ الياء من أعرض ، أي يعرض هذا الممدوح عن الدّنيا الّتي فيها الرّاحة والنّعمة بالغنى.

(٥) أي إذا ظهر له سيادة ورفعة.

(٦) أي لو ظهرت الدّنيا في زيّ عذراء ناهد ، الزّي بكسر الزّاي المعجمة ، والياء المشدّدة ، الهيئة العذراء البكر ، والنّاهد : هي المرأة الّتي نهد ثدييها أي ارتفع.

والشّاهد في المصراع الأوّل ، أعني «يصد عن الدّنيا إذا عنّ» حيث إنّه أقلّ حروفا من قوله : «ولست بنظّار إلى جانب الغنى» مع كونهما متّحدين في أصل المعنى المقصود.

٢٩٧

والنّهود ارتفاع الثّدي [وقوله (١) : ولست] بالضّمّ على أنّه فعل المتكلّم بدليل ما قبله ، وهو قوله : وإني (٢) لصبّار على ما ينوبني وحسبك أنّ الله أثنى على الصّبر.

[بنظّار (٣) إلى جانب الغنى

إذا كانت العليا (٤) في جانب الفقر]

يصفه (٥) بالميل إلى المعالي يعني أنّ السّيادة مع التّعب أحبّ إليه من الرّاحة مع الخمول (٦) ، فهذا البيت (٧) إطناب بالنّسبة إلى المصراع السّابق [ويقرب منه] أي من هذا القبيل [قوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ)(١) (٨).

________________________________________

(١) أي قول الشّاعر الآخر ، وهو المعذل بين غيلان أحد الشّعراء المشهورين ، أي ولست بنظّار إلى جانب الغنى ، النّظار مبالغة في ناظر ، أي كثير النّظر ، والأنسب هنا أن يكون بمعنى ناظر ، لأنّه أليق بالمدح.

(٢) والشّاهد في قوله : «أنّي» حيث تكون الياء ياء المتكلّم.

(٣) أي لست بنظّار إلى جانب الغنى ، أي أنّ نظره إلى جانب الغنى ، أي إلى جهته ، والمراد بالغنى والمال ولازمه من الرّاحة والنّعمة ، وعدم النّظر إلى جهة الغنى أبلغ في التّباعد من مجرّد الإخبار بالتّرك.

(٤) أي العزّ والرّفعة في جانب الفقر ، والمراد بالفقر عدم المال ولازمه من التّعب.

ومعنى البيت : أنّي لا ألتفت إلى المال والرّاحة والنّعمة مع الخمول إذا رأيت العزّ والرّفعة في التّعب والمشقّة.

(٥) أي يصف الشّاعر نفسه بالميل إلى المعالي.

(٦) أي عدم السّيادة ، فأراد الشّاعر من الغنى سببه ، أي الرّاحة ، ومن الفقر مسبّبه ، أي التّعب.

(٧) أي قوله : «لست بنظار ...» إطناب بالنّسبة إلى المصراع السّابق ، أي يصدّ عن الدّنيا إذا عنّ».

(٨) الشّاهد في الآية : حيث إنّها أقلّ حروفا من البيت الآتي مع كونهما متّحدين معنى في الجملة ، أي البيت قريب من الآية في المعنى.

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢٣.

٢٩٨

وقول الحماسي :]

[وننكر إن شئنا على النّاس قولهم

ولا ينكرون القول حين نقول (١)]

يصف رياستهم ونفاذ حكمهم ، أي نحن نغيّر ما نريد (٢) من قول غيرنا وأحد لا يجسر على الاعتراض علينا ، فالآية إيجاز بالنّسبة إلى البيت ، وإنّما قال : يقرب (٣) ، لأنّ ما (٤) في الآية يشمل كلّ فعل ، والبيت مختصّ بالقول ، فالكلامان لا يتساويان في أصل المعنى ، بل (٥) كلام الله سبحانه وتعالى أجلّ وأعلى ، وكيف لا والله أعلم (٦). تمّ الفنّ الأوّل بعون الله وتوفيقه ، وإيّاه أسأل في إتمام الفنّين الآخرين هداية طريقه.

________________________________________

(١) «ننكر» متكلّم مع الغير من الإنكار ، بمعنى عدم القبول ، «شئنا» متكلّم مع الغير من المشيّة ، والمعنى : نحن ننكر إن أردنا على النّاس قولهم ، ولا يقدرون أن ينكروا أقوالنا أصلا ، يصف الشّاعر رئاستهم ، ونفاذ حكمهم ، ورجوع النّاس في المهمّات إلى رأيهم.

والشّاهد في هذا البيت : كونه أكثر حروفا من الآية مع كونه قريبا منها في المعنى.

(٢) أي نحن نتجاسر على غيرنا ، ونردّ قوله ، بحيث لا ينفذ ولو لم يظهر موجب لتغييرنا ، وذلك لتمام رئاستنا وحكمنا عليهم.

(٣) أي ولو لم يقل : ومنه قوله تعالى ، وقوله : «لأنّ» علّة لمحذوف ، أي لعدم تساوي الآية والبيت في تمام أصل المعنى.

(٤) أي لأنّ ما في الآية (لا يُسْئَلُ عَمَّا) مصدريّة ، أي لا يسأل عن فعله ، والمراد بالفعل ما يشمل القول بدليل قوله بعد ذلك ، والبيت مختصّ بالقول ، فاندفع ما يقال : إذا كان البيت قاصرا على القول ، والآية قاصرة على الفعل فلا قرب بينهما.

(٥) إضراب على ما يتوهّم من قربهما في المعنى من اتّفاقهما في العلو والبلاغة ، وإنّما كان كلام الله المذكور أبلغ ، لأنّ الموجود في الآية نفي السّؤال ، وفي البيت نفي الإنكار ، ونفي السّؤال أبلغ لأنّه إذا كان لا ينكر ، ولو بلفظ السّؤال ، فكيف ينكر جهارا ، بخلاف الإنكار ، فقد يكون هو المتروك دون الإنكار.

(٦) أي كيف لا يكون كلام الله أجلّ وأعلى من غيره ، والحال أنّ الله أعلم بكلّ شيء ، ومن شان العالم الحكيم أن يأتي بالشّيء على أبلغ وجه.

تمّ الفنّ الأوّل بعون الله وتوفيقه ، وإيّاه أسأل في إتمام الفنّين الآخرين هداية طريقه.

٢٩٩

[الفن (١) الثّاني : علم البيان]

قدّمه (٢) على البديع للاحتياج إليه في نفس البلاغة ، وتعلّق البديع بالتّوابع (٣) ، [وهو (٤) علم] ، أي ملكة (٥) يقتدر بها على إدراكات جزئيّة ، أو أصول (٦) وقواعد معلومة ،

________________________________________

(١) الفنّ عبارة عن الألفاظ ، كما هو مقتضى ظاهر قول المصنّف أوّل الكتاب ، فإن جعل علم البيان عبارة عن المسائل ، فالتّقدير مدلول الفنّ الثّاني علم البيان ، أو الفن الثّاني دالّ علم البيان ، وإن جعل علم البيان عبارة عن الملكة ، فالتّقدير الفنّ الثّاني في تحصيل علم البيان.

(٢) أي قدّم المصنّف البيان على البديع للاحتياج إلى البيان في تحصيل بلاغة الكلام ، وذلك لأنّ الفصاحة مأخوذة في مفهوم بلاغة الكلام ، والاحتراز عن التّعقيد المعنوي مأخوذ في مفهوم الفصاحة ، وحيث إنّ المأخوذ فيما هو مأخوذ في مفهوم شيء مأخوذ في مفهوم هذا الشّيء ، يكون الاحتراز عن التّعقيد المعنوي مأخوذا من مفهوم بلاغة الكلام ، ولازم ذلك توقّف علم البلاغة على علم البيان ، لأنّ الاحتراز عن التّعقيد المعنوي لا يحصل إلّا به.

(٣) أي توابع البلاغة لما سيجئ من أنّه علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة ، ووضوح الدّلالة فلا تعلّق له بالبلاغة ، وإنّما يفيد حسنا عرضيا للكلام البليغ ، وهذا هو المشهور ، ومنهم من جعله من تتمّة المعاني ، ومنهم من جعله من تتمّة البيان.

(٤) أي علم البيان ، لا يخفى أنّ المراد عن علم البيان في قوله : الفن الثّاني علم البيان ، هو القواعد ، فإذا أريد بقوله : علم ، في قوله : «وهو علم ...» ، الملكة أو إدراك القواعد لا بدّ من القول بالاستخدام في ضمير هو.

(٥) أي كيفيّة راسخة في النّفس حاصلة من كثرة ممارسة قواعد الفنّ.

(٦) عطف على «ملكة» ، فالمعنى أنّ المراد بالعلم هنا إمّا الملكة ، أو الأصول بمعنى القواعد المعلومة ، لأنّ بها يعرف إيراد المعاني بطرق مختلفة في الوضوح والخفاء ، وإنّما قيّد القواعد بالمعلومة ، لأنّه لا يطلق عليها علم بدون كونها معلومة من الدّلائل ، وإنّما كان المراد بالعلم هنا أحد الأمرين المذكورين ، لأنّ العلم مقول بالاشتراك على هذين المعنيين ، فيجوز إرادة كلّ منهما.

٣٠٠