دروس في البلاغة - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

لا من أدلّة الحذف ، لأنّ دليل الحذف (١) ههنا هو أنّ الجارّ والمجرور لا بدّ أن يتعلّق بشيء ، والشّروع في الفعل دلّ على أنّه (٢) ذلك الفعل الّذي شرع فيه [نحو :] بسم الله [، فيقدّر ما جعلت التّسمية مبدأ له (٣)] ففي القراءة يقدّر بسم الله أقرأ ، وعلى هذا القياس (٤).

[ومنها] أي من أدلّة تعيين المحذوف (٥) [الاقتران كقولهم (٦) للمعرّس : بالرّفاء والبنين] فإنّ مقارنة

________________________________________

(١) أي خلافا لما يقتضيه ظاهر كلام المصنّف ، لأنّ السّياق في بيان أدلّة الحذف ، وفي الكلام حذف ، لأنّ دليل الحذف هو العقل بسبب إدراكه أنّ الجارّ والمجرور لا بدّ أن يتعلّق بشيء ، فإذا لم يكن ذلك المتعلّق ظاهرا حكم بتقديره ، وكون إدراك أنّ الجارّ والمجرور لا بدّ له من متعلّق بالتّصرّف العقليّ ، لا ينافي كون التّقدير لأمر لفظيّ في نحو : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) ، لأنّه ليس المراد بكون لأمر لفظيّ ، إنّ العقل لا يقتضيه أصلا ، بل المراد إنّ التّقدير مراعاة للقواعد النّحويّة الموضوعة لسبك الكلام ، وهذا لا ينافي أنّ العقل مدرك لذلك المتعلّق ، وإن كان لا يحتاج للتّصريح به في إفادة المعنى لتبادره.

(٢) أي على أنّ ذلك المتعلّق المحذوف هو اللّفظ الدّالّ على ذلك الفعل الّذي شرع فيه.

(٣) لا يخفى ما في العبارة من التّسامح ، لأنّ ما جعلت التّسمية مبدأ له هو الفعل الحسّي الواقع في الخارج من الأحداث والمقدّر هو الفعل النّحويّ ، ويمكن تصحيح العبارة بحذف مضاف ، أي فيقدّر لفظ ما جعلت التّسمية مبدأ له.

(٤) والقياس مفعول لمحذوف ، والتّقدير أجر القياس على هذا ، فإذا أريد القيام ، يقال عند الشّروع فيه : بسم الله أقوم ، وعند الشّروع في القعود يقال : بسم الله أقعد ، وعند الشّروع في الأكل يقال : بسم الله آكل.

(٥) يعني بعد إدراك العقل ما يدلّ على أصل الحذف يكون من جملة أدلّة تعيين المحذوف اقتران الكلام أو المخاطب للفعل.

(٦) أي قول أهل الجاهليّة حيث كانوا يحترزون عن البنات ، وقد ورد النّهي عنه في الإسلام ، أي كقولهم للمغرّس ، أي للمتزوّج : (بالرّفاء والبنين) ، أي أعرست ملتبسا [والإطناب بالرّفاء ، أي بالالتئام والاتّفاق بينك وبين زوجتك ، وملتبسا بولادة البنين ، فإنّ كون هذا الكلام مقارنا لإعراس المخاطب دلّ على أنّ المحذوف أعرست ، وأمّا أصل الحذف ، فالدّليل عليه افتقار

٢٦١

هذا الكلام لإعراس المخاطب دلّ على تعيين المحذوف [أي أعرست] أو مقارنة المخاطب بالأعراس ، وتلبّسه به دلّ على ذلك ، والرّفاء هو الالتئام والاتّفاق ، والباء للملابسة (١).

والإطناب

إمّا بالإيضاح بعد الإبهام (٢) ليرى المعنى في صورتين مختلفتين (٣)] إحداهما (٤) مبهمة ، والأخرى موضّحة (٥) ، وعلمان خير من علم واحد (٦)

________________________________________

حرف الجرّ إلى متعلّق ، وعدم تماميّة الكلام من دون تقديره ، والمدرك لذلك هو العقل ، وإنّما لم يتعرّضه الشّارح هنا لكونه عين ما تقدّم في الشّروع.

(١) ومعنى كلامهم أعرست متلبّسا بالالتئام والاتّفاق بينك وبين زوجتك ، ومتلبّسا بولادة البنين منها ، والجملة خبريّة لفظا ، وإنشائيّة معنى ، لأنّ المراد هو الدّعاء لا الحكاية عن الخارج.

(٢) وقد ذكر المصنّف أمور تسعة يتحقّق بها الإطناب آخرها قوله : «وإمّا بغير ذلك» فذكر ثمانية أمور تصريحا ، والتّاسع إجمالا ، أوّلها هو الإيضاح بعد الإبهام ، قدّمه لكون أهمّ من الجميع.

(٣) أي ليرى المتكلّم السّامع المعنى في شكلين مختلفين ، وهذا أمر مستحسن ، لأنّه كعرض الحسناء في لباسين.

(٤) أي صورتين.

(٥) أي ظاهرة ، ثمّ إنّ جعل الإيضاح بعد الإبهام مشتملا على هذه النّكتة ، أي إراءة المعنى بصورتين مختلفتين إنّما هو مع قطع النّظر عن النّكتتين ، أي من التّمكّن في النّفس ، وكمال اللّذّة ، فليست هذه النّكتة راجعة إليهما كما ربّما يتخيّل.

(٦) هذا مرتبط بمحذوف ، والتّقدير إدراك الشّيء على نحو الإبهام ، ثمّ على نحو التّفصيل علمان ، وعلمان خير من علم واحد ، ثمّ إنّ من فوائد الإيضاح بعد الإبهام تسهيل الفهم والحفظ ، إذ المبهم أقرب إلى الحفظ ، والموضّح أقرب إلى الفهم.

٢٦٢

[أو ليتمكّن (١) في النّفس فضل تمكّن] لما جبّل الله النّفوس عليه من أنّ الشّيء إذا ذكر مبهما ، ثمّ بيّن كان أوقع عندها (٢) [أو لتكمل لذّة العلم به] أي بالمعنى (٣) لما لا يخفى من أنّ نيل (٤) الشّيء بعد الشّوق والطّلب ألذّ [نحو : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي)(١) (٥) فإنّ (رَبِّ اشْرَحْ) يفيد طلب شرح لشيء ماله] أي للطّالب.

________________________________________

(١) عطف على قوله : «ليرى» فالمعنى أو أنّ الإيضاح بعد الإبهام ليتمكّن ذلك المعنى الموضّح بعدما كان مبهما في نفس السّامع زيادة تمكّن ، وذلك عند اقتضاء المقام ذلك التمكّن ، لكون المعنى ينبغي أن يملأ به القلب لرغبة أو لرهبة أو أن يحفظ لتعظيم أو عمل به.

(٢) أي عند النّفس ، والسّرّ في ذلك أنّ ورود المبهم يوجب توجّه النّفس إليه ، وتأمّله التّامّ نحوه ليجد طريقا موصلا إليه وأمرا رافعا لإجماله ، فإذا وقع الإيضاح في حال ذلك التّوجّه التّامّ ، والسّعي في تحصيله لينحفظ كمال الانحفاظ ، ثمّ إنّ هذا التّمكّن نكتة مستقلّة مع قطع النّظر عن كمال اللّذّة ، وإن كانا حاصلين معا.

(٣) أي لتكمل لذّة العلم بالمعنى للسّامع بسبب إزالة ألم الحرمان الحاصل بسبب عدم علمه بتفصيله ، وذلك لأنّ الإدراك لذّة ، والحرمان منه مع الشّعور بالمجهول بوجه ما ألم ، فإذا حصل له العلم بتفصيله ثانيا حصل له لذّة كاملة ، لأنّ اللّذّة عقب الألم أتمّ من اللّذّة الّتي لم يتقدّمها ألم ، إذ كأنّها لذّتان ، لذّة الوجدان ولذّة الخلاص عن الألم.

(٤) أي حصول الشّيء للشّخص بعد الشّوق الحاصل من الإشعار بالشّيء إجمالا ألذّ من نيله بدون ذلك ، لأنّ فيه لذّتين لذّة الحصول ، ولذّة الرّاحة بعد التّعب.

(٥) الشّاهد في قوله تعالى حكاية عن موسى على نبيّنا وعليه أفضل الصّلاة والسّلام قال : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) حيث إنّ هذا المثال صالح لكلّ من النّكات الثّلاثة ، فالإيضاح فيه بعد الإبهام على بيّنه المصنّف إمّا ليرى المعنى في صورتين مختلفتين أو ليتمكّن المعنى في قلب السّامع ، أو لتكمل لذّة العلم به.

لا يقال : إنّ المخاطب بهذا الكلام هو الرّبّ تعالى وتقدّس ، ولا يصحّ أن يقال : ج إنّ موسى خاطبه بما يفيده علمين هما بالنّسبة إليه خير من علم واحد ، ولا يصحّ أن يقال : إنّه خاطبه بما فيه تمكّن المعنى في ذهن السّامع ، ولا أنّه خاطبه بما يفيد كمال لذّة العلم للمخاطب.

__________________

(١) سورة طه : ٢٥.

٢٦٣

[وصدري يفيد تفسيره] أي تفسير ذلك الشّيء (١) ، [ومنه] أي ومن الإيضاح بعد الإبهام (٢) [باب نعم (٣) على أحد القولين] أي قول من يجعل المخصوص خبر مبتدأ محذوف (٤) [إذ (٥) لو أريد الاختصار] أي ترك الإطناب (٦)

________________________________________

لأنّا نقول : إنّ جعل المثال المذكور صالحا للنّكات الثّلاثة إنّما هو باعتبار الشّان والقوّة لا بالفعل بمعنى أنّ هذا التّركيب في ذاته من شأنه أن يفيد الأغراض الثّلاثة فهو بحيث لو خوطب به غير الرّبّ أمكن فيه ما ذكر ، ثمّ قول الشّارح : فإنّ (رَبِّ اشْرَحْ) يفيد ... يشعر بأنّ قوله : (لِي) ظرف مستقرّ وقع صفة لمحذوف ، أي اشرح شيئا كائنا ثمّ فسّر الشّيء بالبدل منه بقوله : (صَدْرِي) ، وعلى هذا فجعل الآية من قبيل الإجمال والتّفصيل واضح ، لأنّه طلب أوّلا شرح شيء على وجه الإجمال ، ثمّ بيّنه بعد ذلك ، وفي المقام كلام طويل أضربنا عنه خوفا من التّطويل.

(١) أي الشّيء المبهم فكان فيه إيضاح بعد إبهام.

(٢) أي لم يقل : أي من الإطناب للإيضاح بعد الإبهام مع أنّه الأنسب للسّياق اختصارا.

(٣) أي أفعال المدح والذّمّ ، نحو : نعم الرّجل زيد ، وبئست المرأة حمّالة الحطب.

(٤) وكذلك على قول من يجعل المخصوص مبتدأ محذوف الخبر ، لأنّ الكلام على كلّ من القولين جملتان إحداهما مبهمة ، والأخرى موضّحة ، وإنّما لم يتعرّض الشّارح هذا القول ، لأنّه ضعيف عنده ، وأمّا كلام المصنّف فهو صالح للانطباق عليه أيضا ، إلّا أنّه ضعيف لكونه على خلاف المشهور.

وكيف كان فالمراد بأحد القولين إمّا هذا أو ذاك ، وبالآخر هو قول من يجعل المخصوص مبتدأ مؤخّرا ، والجملة السّابقة خبرا له فعليه ليس باب نعم من الإجمال ثمّ التّفصيل ، لأنّ الكلام يكون حينئذ جملة واحدة ، والمخصوص فيها مقدّم تقديرا.

(٥) علّة لكون باب نعم مشتملا على الإطناب الّذي فيه إيضاح بعد إبهام.

(٦) هذا جواب عمّا يقال : الأولى أن يقول : إذ لو أريد المساواة ، لأنّ نعم زيد مساواة لا أنّه اختصار وإيجاز.

وحاصل الجواب : إنّ مراد المصنّف بالاختصار ترك الإطناب الصّادق على المساواة المرادة هنا بشهادة قوله : نعم زيد ، إذ لا إيجاز فيه ، بل هو مساواة.

٢٦٤

[كفى نعم زيد (١)] ، وفي هذا إشعار بأنّ الاختصار قد يطلق (٢) على ما يشمل (٣) المساواة أيضا (٤) [ووجه حسنه] أي حسن باب نعم (٥) [سوى ما ذكر] من الإيضاح بعد الإبهام (٦) [إبراز الكلام (٧) في معرض الاعتدال (٨)]

________________________________________

(١) قال عصام : فيه بحث ، لأنّه لو قيل : نعم زيد ، لكان إخلالا ، لأنّ نعم للمدح العامّ في جنس من الأجناس لا مطلقا ، فمعنى نعم الرّجل زيد ، أنّ زيدا ممدوح في جميع ما يتعلّق بالرّجوليّة لا مطلقا ، فإذا يكون ذكر الرّجل لازما لإفادة أصل المقصود ، وإلّا لزم الإخلال بالمقصود ، لأنّ المطلق ليس بمقصود ، ويمكن دفعه بأنّ المقصود بنعم زيد ، هو مدح زيد مثلا في جنس ، وقد أمكن فيه الاختصار ، بأن يقال : نعم زيد ، ويقدّر قولنا : في الرّجوليّة ، بقرينة إلّا أنّه التزم فيه الإطناب لالتزام الإيضاح بعد الإبهام ، لأنّه يناسب غرض الباب ، وهو المبالغة في المدح ، فامتنع الاختصار ، وقد أشار إلى هذا الامتناع بقوله : «إذ لو أريد الاختصار ... «وبهذا ظهر أنّ المراد بقوله : «الاختصار» ما يقابل الإطناب والمساواة بناء على أنّ نعم زيد ، من المساواة كما ظنّه الشّارح.

(٢) أي كما هنا ، لأنّ نعم زيد ، لا إيجاز فيه بل هو مساواة.

(٣) أي على ترك الإطناب الشّامل للمساواة والإيجاز.

(٤) أي كما يطلق على الإيجاز المقابل للإطناب والمساواة.

(٥) كان على الشّارح أن يقول : أي حسن إطناب باب نعم ، لكنّه لم يقل كذلك قصدا للاختصار مع كون المطلوب واضحا.

(٦) أي الّذي كان له نكت ثلاثة ، قوله : «سوى» حال من «وجه» أي وجه حسن باب نعم ، حالة كون ذلك الوجه غير ما مرّ من الإيضاح بعد الإبهام ، وقوله : «من الإيضاح» بيان لما في قوله : «ما ذكر».

(٧) هذا مع ما بعده سوى ما ذكر ، فيكون باب نعم مشتملا على ثلاثة أمور كلّها موجبة لحسنه.

(٨) أي إظهار الكلام الكائن من باب نعم في صورة الكلام المعتدل ، أي المتوسّط بين الإيجاز المحض والإطناب المحض ، فالاعتدال مصدر بمعنى اسم الفاعل.

٢٦٥

من جهة الإطناب (١) بالإيضاح بعد الإبهام (٢) والإيجاز بحذف (٣) المبتدأ. [وإيهام الجمع بين المتنافيين] أي الإيجاز (٤) والإطناب ، وقيل (٥) : الإجمال والتّفصيل ، ولا شكّ أنّ إيهام الجمع بين التنافيين من الأمور المستغربة الّتي تستلذّ بها النّفس (٦) وإنّما قال : إيهام الجمع ، لأنّ حقيقة جمع المتنافيين أن يصدق على ذات واحدة وصفان (٧) يمتنع اجتماعهما (٨) على شيء واحد في زمان واحد من جهة واحدة ،

________________________________________

(١) أي فليس فيه إيجاز محض.

(٢) أي من حيث قيل : نعم رجلا زيد ، ولم يقل : نعم زيد.

(٣) أي بحذف المبتدأ الّذي هو صدر الاستئناف ، وحينئذ فليس فيه إطناب محض ، وحاصله إنّ نعم الرّجل زيد ، ليس من الإيجاز المحض لوجود الإطناب بالإيضاح بعد الإبهام ، ولا من الإطناب المحض ، لما فيه من الإيجاز بحذف جزء الجملة ، وحينئذ فهو كلام متوسّط بين الإيجاز المحض والإطناب المحض.

فحاصل ما هو مراد المصنّف في المقام : إنّ في باب نعم إبراز الكلام في صورة الكلام المعتدل ، أي المستقيم الّذي ليس فيه ميلان لمحض الإيضاح ، ولا لمحض الإبهام ، أمّا كونه ليس من الإيضاح المحض فلما فيه من الإيجاز بحذف المبتدأ والخبر ، وأمّا كونه ليس من الإبهام المض فلما فيه من الإطناب بذكر المخصوص الّذي وقع به الإيضاح.

(٤) أي لما عرفت أنّ في الكلام جهة الإيجاز وجهة الإطناب وهما أمران متنافيان.

(٥) أي قيل : إنّ المراد بالمتنافيين الإجمال والتّفصيل ، والتّعبير بلفظ قيل إشارة إلى ضعف هذا القول لأنّ الإجمال والتّفصيل يرجع إلى ما تقدّم من الإيضاح بعد الإبهام فيكون عين ما تقدّم ، فلا يصحّ جعله من سوى ما ذكر.

(٦) والسّرّ في ذلك إنّ الجمع بين المتنافيين كإيقاع المحال ، وهو ممّا يستغرب ، والأمر الغريب تستلذّ به النّفس.

(٧) فاعل لقوله : «يصدق».

(٨) أي يمتنع اجتماع الوصفين كالسّواد والبياض على شيء واحد من جهة واحدة ، والجهة في المقام ليست واحدة ، لأنّ الإيجاز من جهة حذف المبتدأ والإطناب من جهة ذكر الخبر بعد ذكر ما يعمّه ، فاختلفت الجهتان في المقام ، فلا يلزم جمع المتنافيين حقيقة.

٢٦٦

وهو (١) محال ، [ومنه] أي من الإيضاح بعد الإبهام [التّوشيع ، وهو (٢)] في اللّغة لفّ القطن المندوف ، وفي الاصطلاح [أن يؤتى في عجز الكلام بمثنّى (٣) مفسّر باسمين ثانيهما معطوف على الأوّل ، نحو : يشيب (٤) ابن آدم ، ويشبّ (٥) فيه خصلتان الحرص وطول الأمل. وإمّا بذكر الخاصّ بعد العام (٦)] عطف على قوله : إمّا بالإيضاح بعد الإبهام ، والمراد (٧) الذّكر على سبيل العطف

________________________________________

(١) أي صدق وصفين على ذات واحدة محال.

(٢) أي التّوشيع في اللّغة لفّ القطن ، والمراد بلفّه جمعه في لحاف أو نحوه ، ووجه مناسبة المعنى الاصطلاحيّ الآتي لهذا المعنى اللّغويّ ، أنّ ما بينهما من المشابهة ، وذلك لأنّ الإتيان بالمثنّى أو الجمع شبيه بالنّدف في شيوعه ، وعدم الانتفاع به انتفاعا كاملا ، لأنّ التّثنية والجمع فيهما من الإبهام ما يمنع النّفع بالفهم أو يقلّله ، والتّفسير بالاسمين شبيه باللّفّ في عموم الشّيوع والانتفاع ، فكما أنّ القطن ينتفع به كمال الانتفاع بلفّه في لحاف أو غيره ، فكذلك بيان التّثنية والجمع يحصل به كمال الانتفاع.

والحاصل إنّ اللّفّ بمنزلة التّفسير بجامع الانتفاع ، والنّدف بمنزلة الإتيان بالمثنّى بجامع عدم كمال الانتفاع ، وقيل في وجه المناسبة بين المعنى اللّغويّ والاصطلاحيّ لفّا وندفا ، أي تفرقة وتفصيلا ، وإن كان فيه اللّفّ سابقا على النّدف عكس اللّغويّ.

(٣) أو جمع مفسّر ذلك المثنّى باسمين كتفسير قوله : «خصلتان بالحرص وطول الأمل» والثّاني معطوف على الأوّل ، أو جمع مفسّر ذلك الجمع بأسماء ، كقولك : إنّ في فلان ثلاث خصال حميدة : الكرم والشّجاعة والحلم.

(٤) لم يقل : نحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يشيب ... ، لأنّه رواية للحديث بالمعنى ، ولفظ الحديث ، كما في جامع الأصول يهرم ابن آدم وشبّ معه اثنتان الحرص على المال ، والحرص على العمر.

(٥) قوله : «يشبّ» بمعنى ينمو ، هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل من الأمور التّسعة.

(٦) هذا هو الأمر الثّاني من الأمور التّسعة.

(٧) أي المراد بذكر الخاصّ بعد العامّ في كلام المصنّف هو ذكره بعده على سبيل العطف ، لا على سبيل الوصف ، أو الإبدال ، ولو قال المصنّف : وإمّا بعطف الخاصّ لكان أوضح ، وإنّما ذكره بعده بكونه على سبيل العطف ، لأجل أن يغاير ما تقدّم في الإيضاح بعد الإبهام ، لأنّه

٢٦٧

[للتّنبيه على فضله (١)] أي مزيّة الخاصّ [حتّى كأنّه ليس من جنسه] أي العامّ [تنزيلا للتّغاير في الوصف منزلة التّغاير في الذّاتّ] يعني (٢) أنّه (٣) لمّا امتاز عن سائر أفراد العامّ بما له من الأوصاف الشّريفة (٤) جعل كأنّه شيء آخر مغاير للعامّ لا يشمله العامّ ، ولا يعرف حكمه منه (٥) [نحو : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى)(١) (٦)] أي

________________________________________

ليس في الذّكر بطريق العطف إيضاح بعد إبهام.

والحاصل : إنّ التّقييد هنا للاحتراز عن ذكر الخاصّ بعد العامّ لا على سبيل العطف ، فإنّ هذا من قبيل الإيضاح بعد الإبهام ، بخلاف ذكره بعده على سبيل العطف ، فإنّه ليس من هذا القبيل ، بل للتّنبيه على جلالة الخاصّ كما ذكره الشّارح ، فيكون ذكر الخاصّ فيه ، لأجل تلك النّكتة.

(١) أي فضل الخاصّ ، وذلك لأنّ ذكره منفردا بعد دخوله فيما قبله ، إنّما يكون لمزيّة فيه ، ثمّ إنّ التّنبيه على الفضل إنّما يكون مع العطف ، ووجهه أنّه مع الوصف ، أو الإبدال يكون ذلك الخاصّ ، هو المراد من العامّ ، فليس في ذكره بعد أفراد العامّ تنبيه على فضله ، ألا ترى أنّ المجيء في قولنا : جاءني القوم العلماء ، وقولنا : جاءني القوم زيدون ، ثابت بحسب المتفاهم العرفيّ للخاصّ دون غيره ، فعليه ذكره بعده ممّا لا بدّ منه ، إذ لو لم يذكر لأفاد الكلام العموم الّذي ليس بمقصود ، وما كان كذلك لا يحتاج إلى نكتة ، فلا يكون ذكر الخاصّ بعد العامّ لنكتة بخلاف ذكره بعده على سبيل العطف ، حيث تكون النّكتة فيه ، هي التّنبيه على مزيّة الخاصّ.

(٢) تفسير لقوله : «تنزيلا للتّغاير».

(٣) أي الخاصّ ، لمّا امتاز عن سائر الأفراد بالأوصاف الشّريفة جعل ، كأنّه شيء مغاير للعامّ ومباين له.

(٤) لعلّ التّقييد بالشّريفة نظرا للمثال أو الغالب ، وإلّا فقد تكون الأوصاف خبيثة ، نحو : لعن الله الكافرين ، وأبا جهل.

(٥) أي ولذلك صحّ ذكره على سبيل العطف المقتضي للتّغاير.

(٦) والشّاهد في الآية كونها مشتملة على الإطناب بذكر الخاصّ بعد العامّ بطريق العطف ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٣٨.

٢٦٨

الوسطى من (١) الصّلوات ، أو الفضل (٢) من قولهم للأفضل الأوسط ، وهي صلاة العصر عند الأكثر (٣). [وإمّا بالتّكرير (٤) لنكتة] ليكون (٥) إطنابا لا تطويلا ، وتلك النّكتة [كتأكيد الإنذار

________________________________________

ليكون ذلك إشارة إلى فضل الصّلاة الوسطى من الصّلوات.

إنّ الله خصّ الصّلوات بالمحافظة عليها ، لأنّها أعظم الطّاعات ، فقال : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) أي داوموا على الصّلوات المكتوبات في مواقيتها بتمام أركانها ، ثمّ خصّ الوسطى تفخيما لشأنها ، وقد اختلفوا في تعيّنها على أقوال :

القول الأوّل : إنّها صلاة الظهر ، فإنّها وسط النّهار ، وقيل : إنّما سمّاها وسطى لأنّ قبلها صلاتين ، وبعدها صلاتين.

القول الثّاني : إنّها صلاة العصر ، وروى عن ابن عمرو بن عبّاس ، إنّ الصّلاة الوسطى هي صلاة العصر.

القول الثّالث : إنّها صلاة الفجر.

القول الرّابع : إنّها صلاة الجمعة ، يوم الجمعة والظّهر في سائر الأيّام ، وإليه ذهب أئمّة الزّيديّة.

القول الخامس : إنّها صلاة المغرب ، فإنّها وسط صلاتين تقصران في السّفر ، وهما العصر والعشاء.

القول السّادس : إنّها صلاة العشاء ، لأنّها وسط صلاتين ، لا تقصران وهما المغرب والصّبح.

وكيف كان فذكر المفرد بعد الجمع من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ تنبيها على فضل الخاصّ.

(١) كلمة من بمعنى بين ، أي المتوسّطة بين الصّلوات ، وهذا أحد الاحتمالين في معنى الوسطى في الآية.

(٢) هو الاحتمال الثّاني في معنى الوسطى ، فالوسطى بمعنى الفضلى.

(٣) وذلك لتوسّطها بين نهاريّتين وليليّتين ، أو بين نهاريّة وليليّة.

(٤) هذا هو الأمر الثّالث من الأمور التّسعة.

(٥) علّة لمحذوف ، أي إنّما قيّد المصنّف التّكرار بالنّكتة ليكون إطنابا ، فإنّه إن كان لغير

٢٦٩

في (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ)(١) (١)] فقوله :] كلّا [(٢) ردع عن الانهماك في الدّنيا ، وتنبيه ، (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) إنذار وتخويف ، أي سوف تعلمون الخطأ فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدّامكم من هول المحشر ، وفي تكريره (٣) تأكيد للرّدع والإنذار. [وفي ثمّ (٤) دلالة على أنّ الإنذار الثّاني أبلغ] من الأوّل تنزيلا (٥) لبعد المرتبة منزلة بعد الزّمان ، واستعمالا للفظ ، ثمّ في مجرّد التّدرّج في درج الارتقاء.

________________________________________

نكتة كان تطويلا ، وحيث إنّ التّكرار ظاهر في التّطويل قيّد بها بخلاف الإيضاح بعد الإبهام ، وذكر الخاصّ بعد العامّ ، فإنّ كلّا منهما لا يمكن أن يكون تطويلا للزوم اعتبار نكتة من النّكات فيهما ، ولهذا لم يقيّدهما بوجودهما.

(١) والشّاهد في الآية : كونها مشتملة على التّأكيد الحاصل بالتّكرار ، والنّكتة فيها هي تأكيد الإنذار والرّدع.

(٢) أي كلمة (كَلَّا) هنا مفيدة للرّدع والزّجر عن الانهماك ، أي التّوغّل والدّخول في تحصيل الدّنيا ، وللتّنبيه على الخطأ في الاشتغال بها عن الآخرة.

وبيان ذلك إنّ المخاطبين لمّا تكاثروا في الأموال وألهاهم ذلك عن عبادة الله حتّى زاروا المقابر ، أي ماتوا زجّرهم المولى الحقيقيّ عن الانهماك في تحصيل الأموال ، ونبّههم على أنّ اشتغالهم بتحصيلها ، وإعراضهم عن الآخرة خطأ منهم بقوله : (كَلَّا) وخّوفهم على ارتكاب ذلك الخطأ بقوله : (سَوْفَ تَعْلَمُونَ).

(٣) أي قوله : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ).

(٤) أي في الإتيان بلفظ «ثمّ» ، والعطف به دلالة على أنّ الإنذار الثّاني أبلغ من الأوّل وأشدّ ، ويمكن أن يكون قول المصنّف «وفي ثمّ دلالة ...» جوابا عمّا يقال : كيف يصحّ العطف في الآية مع أنّ العطف يستدعي كون المراد بالثّاني غير الأوّل.

وحاصل الجواب : إنّ الجملتين المعطوفتين مغايرتان معنى من حيث الشّدّة والضّعف ، فإنّ مضمون الثّاني أبلغ وأقوى من مضمون الأوّل ، وهذا المقدار يكفي في صحّة العطف.

(٥) الظّاهر إنّ قوله : «تنزيلا لبعد المرتبة ...» علّة لقوله : «وفي ثمّ دلالة» أي إنّما كان فيها دلالة لأجل التّنزيل والاستعمال المذكورين ، لأنّها إذا نزّل بعد المرتبة منزلة بعد الزّمان ،

__________________

(١) سورة التّكاثر : ٣ و ٤.

٢٧٠

[وإمّا بالإيغال] من أوغل في البلاد ، إذا أبعد فيها (١) ، واختلف (٢) في تفسيره [فقيل هو ختم البيت بما يفيد (٣) نكتة ويتمّ المعنى (٤) بدونها ، كزيادة المبالغة (٥)

________________________________________

واستعملت كلمة «ثمّ» فيه دلّت على أنّ ما بعدها أعلى وأبلغ من المذكور قبلها.

والتّحقيق في المقام : إنّ اصل «ثمّ» موضوعة لإفادة التّراخي والبعد الزّمانيّ ، ولكن قد تستعار للتّراخي والبعد الرّتبي المعنوي ، بمعنى أنّ المعطوف قد يكون مرتبة أعلى ممّا قبله فتستعمل فيه تنزيلا للتّفاوت في الرّتبة منزلة التّفاوت في الزّمان ، يعني يشبّه المتكلّم البعد الرّتبيّ بالبعد الحسّي الزّمانيّ بجامع مطلق البعد ، ثمّ يترك أركان الشّبه سوى اللّفظ الموضوع للمشبّه به ، وهو لفظ «ثمّ» ويستعمله في المشبّه على نحو الاستعارة التّصريحيّة ، فيكون لفظ «ثمّ» مستعملا في مجرّد التّدرّج في درج الارتقاء ، أي في البعد الرّتبيّ المجرّد من ملاحظة الزّمان والتّراخي فيه ، فمن ذلك يكون ناطقا ، بأنّ المعطوف به أعلى رتبة من المعطوف عليه ، وفي المقام البعد الرتّبيّ بين مضموني الجملتين المعطوفتين ، شبّه بالبعد الحسّي الزّماني ، ثمّ استعمل لفظ «ثمّ» في المشبّه ، فيشعر بأنّ مضمون الثّاني أعلى وأقوى من مضمون الأوّل.

(١) أي في البلاد ، أي قطع كثيرها ، وعلى هذا فتسمية المعنى الاصطلاحيّ إيغالا ، لأنّ المتكلّم قد تجاوز حدّ المعنى وبلغ زيادة عنه ، ويحتمل أن يكون مأخوذا من التّوغّل في الأرض إذا سافر فيها ، وعلى هذا فتكون تسمية المعنى الاصطلاحيّ إيغالا ، لكون المتكلّم أو الشّاعر توغّل في الفكر حتّى استخرج سجعة أو قافية تفيد معنى زائدا على أصل معنى الكلام ، وكيف كان فهذا هو الأمر الرّابع من التّسعة.

(٢) مبنيّ للمفعول ، أي وقع الاختلاف في تفسير الإيغال اصطلاحا.

(٣) أي سواء كان ذلك المفيد للنّكتة جملة أو مفردا ، وقوله ختم البيت صريح في أنّ مسمّاه هو المعنى المصدريّ لا اللّفظ المختوم به.

(٤) أي يتمّ أصل المعنى بدونها.

(٥) أي كزيادة المبالغة في التّشبيه ، وهي تحصل بتشبيه الشّيء بما هو في غاية الكمال في وجه الشّبه الّذي أريد مدح المشبّه بتحقّقه فيه.

٢٧١

في قولها] أي في قول الخنساء في مرثية أخيها صخر : [وإنّ صخرا لتأتمّ] أي تقتدي [الهداة به كأنّه (١) علم] أي جبل مرتفع [في رأسه نار (٢)] فقولها : كأنّه علم واف بالمقصود ، أعني التّشبيه بما يهتدى به ، إلّا أنّ في قولها : في رأسه نار ، زيادة مبالغة. [وتحقيق] أي وكتحقيق [التّشبيه (٣) في قوله (١) : كأنّ عيون الوحش (٤) حول خبائنا]

________________________________________

(١) أي كأنّ صخرا جبل مرتفع.

(٢) أي في رأس ذلك العلم ، أي الجبل نار ، والشّاهد في البيت كونه مختوما بما يفيد نكتة وهي زيادة المبالغة في التّشبيه ، لأنّ قولها «كأنّه علم» واف بالمقصود ، وهو تشبيه صخر بما هو معروف بالهداية ، أي العلم المرتفع ، فإنّه اشهر ما يهتدى به ، ولكن في قولها : «في رأسه نار «زيادة للمبالغة ، وحاصله : إنّ تشبيهها صخرا بالجبل المرتفع الّذي هو أظهر المحسوسات في الاهتداء به مبالغة في ظهوره في الاهتداء ، ثمّ زادت في المبالغة بوصفها العلم بكونه في رأسه نار ، فإنّ وصف العلم المهتدى به لوجود نار على رأسه أبلغ في ظهوره في الاهتداء ممّا ليس كذلك ، فتنجر المبالغة إلى المشبّه الممدوح بالاهتداء به ، وظهر ممّا قلناه إنّ الإضافة في قول المصنّف : «كزيادة المبالغة» حقيقيّة.

(٣) المراد به بيان التّساوي بين الطّرفين في وجه الشّبه ، وذلك بأن يذكر في الكلام ما يدلّ على أنّ المشبّه مساو للمشبّه به في وجه الشّبه ، والفرق بينه وبين المبالغة في التّشبيه ، إنّ المبالغة في التّشبيه كما تقدّم ترجع إلى الإتيان بشيء يفيد أنّ المشبّه به غاية في كمال وجه الشّبه الكائن فيه ، فينجرّ ذلك الكمال إلى المشبّه الممدوح بوجه المشبّه ، وأمّا تحقيق التّشبيه ، فيرجع إلى زيادة ما يحقّق التّساوي بين المشبّه والمشبّه به حتّى كأنّهما شيء واحد لظهور الوجه فيهما بتمامه ، من غير إشعار بكون المشبّه به غاية في وجه الشّبه.

(٤) الوحش : مطلق الحيوان الّذي لا يؤنس الإنسان ، والمراد به هنا الظّبي أو بقر الوحش ، «الخباء» بالخاء المعجمة والموحّدة ككتاب : الخيمة ، وما صنعه الشّارح من تفسيره بالخيام لا يصحّ ، فإنّه مفرد جمعه أخبية ، «الأرحل» جمع الرّحل ، وهو كفلس : ما يصحبه الإنسان في السّفر من الأثاث والمتاع ، «الجزع» بالجيم والزّاء والعين كفلس : الخرز اليمانيّ الّذي فيه سواد وبياض ، وهو عقيق فيه دوائر البياض والسّواد ، كما في بعض الشّروح ، والشّاهد في البيت : كونه مشتملا على الإيغال ، أي كونه مختوما بما يفيد نكتة وهي تحقيق التّشبيه.

__________________

(١) أي قول امرئ القيس.

٢٧٢

أي خيامنا. [وأرحلنا الجزع الّذي لم يثقّب (١)] الجزع بالفتح (٢) الخرز اليمانيّ الّذي فيه سواد وبياض ، وشبّه به (٣) عيون الوحش ، وأتى بقوله : لم يثقب ، تحقيقا للتّشبيه ، لأنّه إذا كان غير مثقوب كان أشبه بالعيون.

قال الأصمعيّ (٤) : الظّبي والبقرة إذا كانا حيّين فعيونهما كلّها سود (٥) ، فإذا ماتا بدا بياضها (٦) ، وإنّما شبّهها بالجزع ، وفيه سواد وبياض بعد ما موّتت (٧) ، والمراد كثرة الصّيد ، يعني ممّا (٨) أكلنا كثرت العيون عندنا ، وكذا في شرح ديوان امرئ القيس ، فعلى هذا التّفسير (٩) يختصّ الإيغال بالشّعر.

________________________________________

(١) بضمّ الياء وفتح الثّاء وتشديد القاف ، وكسر الموحّدة.

(٢) أي بفتح الجيم وسكون الزّاء ، وأمّا الجزع بفتح الجيم والزّاء ، فهو ضدّ الصّبر.

(٣) أي شبّه امرئ القيس عيون الوحش بعد موتها بالجزع حال كونه غير مثقوب ، لأنّ الجزع إذا كان غير مثقوب كان أشبه بالعيون.

وحاصل الكلام في البيت : إنّ تشبيه عيون الوحش بعد موتها في الجزع في اللّون والشّكل ظاهر ، لكنّ الجزع إذا كان مثقبا يخالف العيون في الشّكل مخالفة ما ، فلذا زاد قوله : «لم يثقّب» حتّى يتحقّق التّشابه في الشّكل بتمامه ، وبيّن المصنّف أنّ الطّرفين متساويان في الشّكل الّذي هو وجه الشّبه مساواة تامّة ، فتكون هذه الزّيادة لتحقيق التّشبيه ، وبيان التّساوي في وجه الشّبه ، وهو المطلوب.

(٤) المقصود من نقل قول الأصمعيّ هو الرّدّ على ما قيل : من أنّ المراد به قد طالت مسايرتهم في المفاوز حتّى ألفت الوحوض رحالهم وأخبيتهم ، كما في المطوّل.

(٥) سود جمع أسود.

(٦) أي ظهر بياض عيونهما.

(٧) أي بعدما صارت ميّتا.

(٨) متعلّق بما بعده ، أعني «كثرت».

(٩) أي قول المصنّف في تفسير الإيغال بأنّه ختم البيت بما يفيد نكتة يتمّ المعنى بدونها فيكون الإيغال مختصّا بالشّعر نظرا إلى تقييده بالبيت.

٢٧٣

[وقيل : لا يختصّ بالشّعر (١)] بل هو ختم الكلام (٢) بما يفيد نكتة يتمّ المعنى بدونها [ومثّل] لذلك (٣) في غير الشّعر [بقوله تعالى] : (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)(١) (٤). (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) فقوله وهم مهتدون مّما يتمّ المعنى بدونه ، لأنّ الرّسول مهتد لا محالة ، إلّا أنّ فيه زيادة حثّ على الاتّباع وترغيب في الرّسل (٥).

[وإمّا بالتّذييل (٦) ، وهو تعقيب الجملة بجملة أخرى تشتمل على معناها] أي

________________________________________

(١) الباء داخلة على المقصور عليه ، أي إنّ الإيغال ليس مقصورا على الشّعر ، بل يتعدّاها لغيره.

(٢) أي سواء كان شعرا أو نثرا.

(٣) أي للإيغال في النّثر.

(٤) تمام الآية :

(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) ،

والشّاهد في الآية : كونها مشتملة على الإيغال ، وهو قوله : (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) حيث أوتي به لزيادة حثّ على الاتّباع ، كما بيّن الشّارح.

(٥) أي في اتّباعهم.

(٦) وهو الأمر الخامس من الأمور التّسعة ، والتّذييل لغة : جعل الشّيء ذيلا للشّيء.

وفي الاصطلاح :

تعقيب الجملة بجملة أخرى تشتمل على معناها والمراد باشتمالها على معناها إفادتها له بفحواها ، وليس المراد إفادتها لنفس معنى الأولى بالمطابقة ، وإلّا لأصبح التّذييل تكريرا وحينئذ فلا يكون على هذا قوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ)(٢) تذييلا وذلك لعدم الاختلاف بين نسبتيّ الجملتين.

__________________

(١) سورة يس : ٢٠ و ٢٢.

(٢) سورة التّكاثر : ٣ و ٤.

٢٧٤

معنى الجملة الأولى [للتّأكيد (١)] ، فهو أعمّ من الإيغال (٢) ، من جهة أنّه يكون في ختم الكلام وغيره ، وأخصّ من جهة أنّ الإيغال قد يكون بغير الجملة ولغير التّأكيد.

[وهو] أي التّذييل [ضربان : ضرب لم يخرج (٣) ، مخرج المثل] بأن (٤) لم يستقلّ بإفادة المراد ،

________________________________________

(١) أي لقصد التّوكيد بتلك الجملة الثّانية عند اقتضاء المقام للتّوكيد والمراد به هنا التّوكيد بالمعنى اللّغوي أي التّقويّة.

(٢) أي عموما من وجه ، والحاصل إنّ النّسبة بين الإيغال والتّذييل ، هي العموم والخصوص فيجتمعان فيما يكون في ختم الكلام لنكتة التّأكيد بجملة ، كما يأتي في قوله تعالى : (جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ)(١) فهو إيغال من جهة أنّه ختم الكلام بما فيه من نكتة يتمّ المعنى بدونها ، وتذييل من جهة أنّه تعقيب جملة بأخرى تشتمل على معناها للتّأكيد ، وينفرد الإيغال فيما يكون بغير جملة لغير التّأكيد ، كما تقدّم في قوله : الجزع الّذي لم يثقّب ، وينفرد التّذييل فيما يكون في غير ختم الكلام للتّأكيد بجملة ، كقولك : مدحت زيدا ، أثنيت عليه بما فيه فأحسن إليّ ، ومدحت عمرا ، أثنيت عليه بما ليس فيه ، فأساء إليّ.

وقد أشار إلى مادّة الاجتماع بقوله «من جهة أنّه يكون في ختم الكلام وغيره» أي بخلاف الإيغال فإنّه لا يكون إلّا في ختم الكلام ، وإلى مادّة الافتراق من جانب التّذييل بقوله «وأخصّ من جهة أنّ الإيغال قد يكون بغير الجملة لغير التّأكيد» ، والأنسب أن يقول : وأخصّ من جهة أنّه لا يكون إلّا بالجملة وللتّأكيد ، بخلاف الإيغال فإنّه قد يكون بغير جملة كالمفرد ، وقد يكون لغير التّأكيد ، وإنّما كان هذا أنسب ، لأنّ الكلام في التّذييل لا في الإيغال.

(٣) أي لم يجر مجرى المثل ، وهو كلام تامّ دالّ على حكم كلّي نقل عن أصل استعماله لكلّ ما يشبه المعنى الأوّل حال الاستعمال الأوّل.

(٤) وعلم من هذا التّفسير أنّ المثل هو الّذي يستقلّ بنفسه في إفادة المعنى من غير نظر إلى شيء آخر.

__________________

(١) سورة سبأ : ١٧.

٢٧٥

بل يتوقّف (١) على ما قبله ، [نحو : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ)(١) (٢) على وجه (٣)] ، وهو أن يراد وهل نجازي ذلك الجزاء المخصوص (٤) ، إلّا الكفور فيتعلّق (٥) بما قبله ، وأمّا على الوجه الآخر (٦) ،

________________________________________

(١) وإنّما كان المتوقّف على ما قبله ليس جاريا مجرى المثل ، لأنّ المثل يوصف بالاستقلال كما عرفت.

(٢) وقبلها :

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) الآية ،

والشّاهد في الآية كونها مشتملة على الضّرب الأوّل من التّذييل ، وهو الّذي لم يخرج مخرج المثل ، وذلك لأنّ الجملة الثّانية مرتبطة بالأولى ، إذ المراد بالجزاء فيها هو الجزاء المخصوص وهو إرسال سيل العرم.

والحاصل إنّ قوله تعالى : (جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) مضمونه أنّ آل سبأ جزاهم الله بكفرهم بأن أرسل عليهم سيل العرم ، وبدّل جنتّيهم ، ومضمون قوله : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) أنّ ذلك العقاب المخصوص المعيّن المذكور فيما قبل هذه الآية لا يقع إلا على الكفور ، فكونه من هذا الضّرب على هذا الوجه ظاهر ، لأنّه على هذا الوجه ارتبط معنى (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) بما قبله فيكون من الضّرب الأوّل.

(٣) متعلّق بمحذوف ، أي إنّما يكون هذا المثال من هذا الضّرب على وجه.

(٤) أي وهو المذكور فيما قبل ، وهو إرسال سيل العرم عليهم ، وتبديل جنّيتهم.

(٥) أي فيرتبط قوله : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) بما قبله ، وهو قوله : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) وحينئذ فلا يجري مجرى المثل في الاستقلال.

(٦) أي بأن يكون المراد من الجزاء معناه العام ، أي مطلق العقاب والثّواب حيث يقال لكلّ مكافأة ومقابلة بفعل الإنسان ، كما في الحديث : النّاس مجزيّون بأعمالهم إن خيرا فخيرا ، وإن شرّا فشرّ.

__________________

(١) سورة سبأ : ١٧.

٢٧٦

وهو أن يراد وهل نعاقب (١) ، إلّا الكفور بناء على أنّ المجازاة هي المكافأة (٢) ، إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ فهو (٣) ، من الضّرب الثّاني (٤) ، [وضرب أخرج مخرج المثل] بأن يقصد بالجملة الثّانية حكم كلّي منفصل (٥) عمّا قبله ، جار مجرى الأمثال في الاستقلال وفشوّ (٦) الاستعمال ، [نحو : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)(١) (٧).

________________________________________

(١) وهل نعاقب بمطلق العقاب لا بعقاب مخصوص.

(٢) هذا بيان لأصل معنى المجازاة ، وإلّا فالمراد منها في الآية خصوص المكافأة بالعقوبة ، وأنّ أصل معناها وإن كان عامّا.

(٣) أي الوجه الآخر من الضّرب الثّاني ، أي القسم الثّاني من التّذييل لعدم توقّف المراد على ما قبله ، واستقلاله بإفادة المراد ، لأنّ المراد عندئذ بيان حكم كلّي ، وهو عدم معاقبة غير الكفور ، فيصحّ أن يكون مثلا.

(٤) أي الّذي أخرج مخرج المثل لعدم توقّف المراد حينئذ على ما قبله.

(٥) أي بأن تكون الجملة الثّانية غير مقيّدة بالجملة الأولى ، أي لم يكن مضمونها مقيّدا بمضمونها كما في الآية المتقدّمة حيث يكون مضمون الثّانية مقيّدا بمضمون الأولى بناء على إرادة الجزاء الخاص.

(٦) أي شيوع الاستعمال وكثرته ، وقيل إنّ المشترط في جريانه مجرى الأمثال هو الاستقلال ، وأمّا فشوّ الاستعمال فلا دليل على اشتراطه فيه ، فالأولى للشّارح حذفه.

(٧) والشّاهد في الآية أنّ الجملة الثّانية فيها من الضّرب الثّاني من التّذييل حيث إنّ معناها لا يتوقّف على معنى الجملة الأولى مع كونها متضمّنة له ، وهو زهوق الباطل واضمحلاله وذهابه ، وقد فشا استعمالها ، ثمّ المراد بالحقّ هو الإسلام ، والباطل هو الكفر ، فمعنى الآية : (جاءَ الْحَقُّ) ، أي الإسلام ، (وَزَهَقَ الْباطِلُ) أي زال الكفر.

فالحاصل إنّ الجملة الثّانية لا يتوقّف معناها على الجملة الأولى مع تضمّنها معنى الأولى وهو زهوق الباطل ومفهوم النّسبتين مختلف لأن الثّانية اسميّة مع زيادة تأكيد فيها فصدق عليها ضابط الضّرب الثّاني.

__________________

(١) سورة الإسراء : ٨١.

٢٧٧

وهو أيضا] أي التّذييل ينقسم قسمة أخرى ، وأتى بلفظة أيضا تنبيها (١) ، على أنّ هذا التّقسيم للتّذييل مطلقا لا للضّرب الثّاني منه (٢) ، [إمّا] أن يكون [لتأكيد منطوق (٣) ، كهذه الآية (٤)]. فإنّ زهوق الباطل منطوق في قوله : (وَزَهَقَ الْباطِلُ) (٥). [وإمّا لتأكيد مفهوم (٦) ، كقوله (٧) : ولست] ، على لفظ الخطاب

________________________________________

(١) أي الإتيان بلفظ أيضا تنبيه على أنّ هذا التّقسيم للتّذييل مطلقا لا للقسم الثّاني منه فقطّ ، ولو لا قوله : أيضا لتوهّم أنّ هذا التّقسيم للضّرب الثّاني كما توهّم الخلخالي حيث قال قوله : وهو أيضا ، أي الضّرب الثّاني ، وهذا الوهم نشأ له من كون الأمثلة الّتي مثّل بها المصنّف من القسم الثّاني.

(٢) من الضّرب الثّاني ، وإن كانت الأمثلة من الضّرب الثّاني.

(٣) أي لتأكيد منطوق الجملة الأولى ، والمراد بالمنطوق هنا المعنى الّذي نطق بمادّته ، والمراد بالمفهوم هو المعنى الّذي لم ينطق بمادّته وليس المراد بهما هنا ما اصطلح عليه الأصوليّون ، ولذا قال البعض : المراد بتأكيد المنطوق هنا أن تشترك ألفاظ الجملتين في مادّة واحدة مع اختلاف النّسبة فيهما ، بأن تكون إحداهما اسميّة ، والأخرى فعليّة كما في هذه الآية ، والمراد بتأكيد المفهوم هنا أن لا تشترك أطراف الجملتين في مادّة واحدة مع اتحاد صورة الجملتين في الاسميّة والفعليّة ، أوّلا ، وذلك بأن تفيد الجملة الأولى معنى ، ثمّ يعبّر عنه بجملة أخرى مخالفة للأولى في الألفاظ والمفهوم.

(٤) أي كالتّذييل في هذه الآية ، وهي قوله تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) فإنّ الموضوع في الجملتين واحد ، وهو الباطل ، والمحمول فيهما من مادّة واحدة ، وهو الزّهوق.

(٥) أي فإنّ زهوق منطوق ، أي معنى مطابق في قوله : (وَزَهَقَ الْباطِلُ) ، أو فقل نطق بمادّته فيه ، حيث إنّ الموضوع في الجملتين واحد ، وهو الباطل والمحمول فيهما من مادّة واحدة وهو الزّهوق.

(٦) أي مفهوم الجملة الأولى ، أعني المعنى الالتزامي للجملة الأولى.

(٧) أي كقول النّابغة الذّبياني من قصيدة طويلة يخاطب به النّعمان بن المنذر لست بمستبق أخا لا تلمه على شعث ، أي الرّجال المهذّب.

٢٧٨

[بمستبق (١) أخا لا تلمه] حال من (٢) أخا لعمومه ، أو من ضمير المخاطب (٣) في لست [على (٤) شعث] أي تفرّق وذميم (٥) خصال ، فهذا الكلام دلّ (٦) بمفهومه على نفي الكامل من الرّجال ، وقد أكّده بقوله : [أي الرّجال المهذّب] استفهام بمعنى الإنكار ، أي ليس في الرّجال منقّح الفعال (٧) ، مرضيّ الخصال.

________________________________________

(١) الباء زائدة ، وكذلك السّين والتّاء ، وكان في الأصل لست مبق لك مودة أخ ، تلمه : مضارع من اللّم ، بمعنى الجمع والإصلاح الشّعث بمعنى التّفرق والمراد به هنا العيب ، والمعنى لست بمبق أيها النّعمان محبّة مصاحب لا تضمّه إليك مع عيبه ، بل تبعده عنك لعدم رضاك بعيوبه وصفاته الذّميمة ، والشّاهد في قوله : «أي الرّجال المهذّب» حيث أوتي به تأكيدا لما يستفاد من الأوّل التزاما ، أي الكامل من الرّجال.

(٢) قوله : «لا تلمه» ، حال من «أخاه» لعمومه ، أي أخا لوقوعه في سياق النّفي فيسوغ منه مجيء الحال إن كان نكرة. والمعنى : لست بمبق مودّة أخ ، حال كونه غير مضموم إليك مع عيبه.

(٣) فيكون المعنى : لست بمبق محبّة أخ ، حال كونك غير ضام له إليك مع عيبه.

(٤) أي على بمعنى مع.

(٥) عطف تفسير على قوله : «تفرّق» وإضافة ذميم إلى خصال من قبيل إضافة الصّفة إلى الموصوف ، أي الخصال الذّميمة ، وتوضيح ذلك أنّ الشّعث في الأصل بمعنى انتشار الشّعر ، وتغيّره لقلّة تعهّده بالتّسريح والدّهن فتكثر أوساخه ، ثمّ استعمل في لازمه ، وهو الأوساخ الحسّيّة بعلاقة المجاورة ، ثمّ استعير اللّفظ المجازي للألفاظ المعنويّة ، وهي الخصال الذّميمة بجامع القبح فهو استعارة منسبكة عن المجاز المرسل.

(٦) لأنّ معنى البيت ، أنّك إذا لم تضم أخا إليك في حال عيبه ، لم يبق لك أخ في الدّنيا ، ولا يعاشرك أحد من النّاس ، لأنّه ليس في الرّجال أحد مهذّب ، منقّح الفعال ، مرضيّ الخصال ، ولا شكّ أنّ شطر الأوّل يدلّ بحسب ما يفهم منه على نفي الكامل من الرّجال ، فقوله بعد ذلك ، أي الرّجال المهذّب تأكيدا لذلك المفهوم ، لأنّه في معنى قولك ليس في الرّجال مهذّب.

(٧) الفعال بالفتح يستعمل في الأفعال الحميدة ، وبالكسر في الأفعال القبيحة.

٢٧٩

[وإمّا بالتّكميل (١) ويسمّى الاحتراس أيضا (٢)] ، لأنّ فيه (٣) ، التّوقّي والاحتراز عن توهّم خلاف المقصود (٤) ، [وهو (٥) ، أن يؤتى في كلام يوهم (٦) خلاف المقصود ، بما (٧) ، يدفعه (٨)] ، أي يدفع إيهام خلاف المقصود ، وذلك الدّافع قد يكون في وسط الكلام (٩) ، وقد يكون في آخر (١٠) الكلام.

________________________________________

(١) وهذا هو الأمر السّادس من الأمور التّسعة ، والمراد من التّكميل هو تكميل معنى الكلام بدفع الإيهام عنه.

(٢) أي كما يسمّى تكميلا ، أي يسمّى هذا النّوع من الإطناب زيادة على تسميته بالتّكميل ـ الاحتراس ، ووجه تسميته بالتّكميل ، فلكونه مكملا للمعنى بدفع الإيهام عنه ، وأمّا وجه تسميته بالاحتراس ، لكونه حفظا للمعنى ، ووقاية له من توهّم خلاف المقصود ، فالاحتراس من الحرس ، وهو الحفظ كما قال الشّارح.

(٣) أي في هذا النّوع من الإطناب التّوقّي ـ التّحفّظ ، والاحتراز عن توهّم خلاف المقصود فقوله : «لأنّ» علّة لتسمية هذا النّوع من الإطناب بالاحتراس ، وعطف الاحتراز على التّوقّي من قبيل عطف لازم على ملزوم.

(٤) إذ به يحصل تحفّظ الكلام عن نقصان الإيهام.

(٥) أي التّكميل.

(٦) قوله : «يوهم» صفة للكلام.

(٧) متعلّق بقوله أن يؤتى.

(٨) سواء كان ذلك القول مفردا أو جملة ، وسواء كان للجملة محلّ من الإعراب أو لا ، فالمراد بما الموصولة القول ، أي بقول يدفعه.

فإن قلت : التّذييل أيضا لدفع التوهّم ، لأنّه للتّأكيد ، والتّأكيد لدفع التوهّم ، فما الفرق بينهما؟

قلت : الفرق بينهما أنّ التّذييل مختصّ بالجملة ، وبالآخر ولدفع التوهّم في النّسبة ، والتّكميل لا يختصّ بشيء منها.

(٩) أي الدّافع قد يكون في وسط الكلام ، أي بين الفعل والفاعل.

(١٠) أي الدّافع قد يكون في آخر الكلام ، وقد يكون أيضا في أوّله ، وعلى جميع التّقادير

٢٨٠